الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهم ولا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ وآتُوهم ما أنْفَقُوا ولا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ واسْألُوا ما أنْفَقْتُمْ ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا ذَلِكم حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكم واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .
فِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِهِنَّ﴾، نَصَّ عَلى امْتِحانِ المُؤْمِناتِ المُهاجِراتِ، وكانَ ﷺ يَمْتَحِنُهُنَّ ما خَرَجَتْ كُرْهًا لِزَوْجٍ، أوْ فِرارًا لِسَبَبٍ ونَحْوَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وغَيْرُهُ.
وَقِيلَ: كانَ امْتِحانُهُنَّ بِالبَيْعَةِ الآتِيَةِ: ﴿لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ﴾ [الممتحنة: ١٢] الآيَةَ، ومَفْهُومُهُ أنَّ الرِّجالَ المُهاجِرِينَ لا يُمْتَحَنُونَ.
وَفِعْلًا لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَمْتَحِنُ مَن هاجَرَ إلَيْهِ والسَّبَبُ في امْتِحانِهِنَّ دُونَ الرِّجالِ، هو ما أشارَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ﴾، كَأنَّ الهِجْرَةَ وحْدَها لا تَكْفِي في حَقِّهِنَّ بِخِلافِ الرِّجالِ، فَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهم بِصِدْقِ إيمانِهِمْ بِالهِجْرَةِ في قَوْلِهِ ﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا ويَنْصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ﴾ [الحشر: ٨]، وذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ إذا خَرَجَ مُهاجِرًا يَعْلَمُ أنَّ عَلَيْهِ تَبِعَةَ الجِهادِ والنُّصْرَةِ فَلا يُهاجِرُ إلّا وهو صادِقُ الإيمانِ فَلا يَحْتاجُ إلى امْتِحانٍ، ولا يَرُدُّ عَلَيْهِ مُهاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ؛ لِأنَّهُ أمْرٌ جانِبِيٌّ، ولا يَمْنَعُ مِنَ المُهِمَّةِ الأساسِيَّةِ لِلْهِجْرَةِ المُنَوِّهِ عَنْهُ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا في سَبِيلِي﴾ [الممتحنة: ١] الآيَةَ، بِخِلافِ النِّساءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جِهادٌ ولا يَلْزَمُهُنَّ بِالهِجْرَةِ أيَّةُ تَبَعِيَّةٍ، فَأيُّ سَبَبٍ يُواجِهُهُنَّ في حَياتِهِنَّ سَواءٌ كانَ بِسَبَبِ الزَّوْجِ أوْ غَيْرِهِ، فَإنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ بِاسْمِ الهِجْرَةِ فَكانَ ذَلِكَ مُوجِبًا (p-٩٨)لِلتَّوَثُّقِ مِن هِجْرَتِهِنَّ بِامْتِحانِهِنَّ لِيُعْلَمَ إيمانُهُنَّ، ويُرَشِّحُ لِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِهِنَّ﴾، وفي حَقِّ الرِّجالِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ﴾ [الحشر: ٨]، وكَذَلِكَ مِن جانِبٍ آخَرَ، وهو أنَّ هِجْرَةَ المُؤْمِناتِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْها حَقٌّ مَعَ طَرَفٍ آخَرَ، وهو الزَّوْجُ فَيَفْسَخُ نِكاحَها مِنهُ، ويُعَوَّضُ هو عَمّا أنْفَقَ عَلَيْها، وإسْقاطُ حَقِّهِ في النِّكاحِ وإيجابُ حَقِّهِ في العِوَضِ قَضايا حُقُوقِيَّةٌ، تَتَطَلَّبُ إثْباتًا بِخِلافِ هِجْرَةِ الرِّجالِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ﴾، مَعْلُومٌ أنَّ المُؤْمِناتِ المُهاجِراتِ بَعْدَ الِامْتِحانِ والعِلْمِ بِأنَّهُنَّ مُؤْمِناتٌ لا يَنْبَغِي إرْجاعُهُنَّ إلى الكُفّارِ؛ لِأنَّهم يُؤْذُونَهُنَّ إنْ رَجَعْنَ إلَيْهِمْ، فَلِأيِّ شَيْءٍ يَأْتِي النَّصُّ عَلَيْهِ ؟
قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخَصِّصَةٌ لِما جاءَ في مُعاهَدَةِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، والَّتِي كانَ فِيها مَن جاءَ مِنَ الكُفّارِ مُسْلِمًا إلى المُسْلِمِينَ رَدُّوهُ عَلى المُشْرِكِينَ، ومَن جاءَ مِنَ المُسْلِمِينَ كافِرًا لِلْمُشْرِكِينَ لا يَرُدُّونَهُ عَلى المُسْلِمِينَ فَأُخْرِجَتِ النِّساءُ مِنَ المُعاهَدَةِ وأبْقَتِ الرِّجالَ مِن بابِ تَخْصِيصِ العُمُومِ، وتَخْصِيصُ السُّنَةِ بِالقُرْآنِ، وتَخْصِيصُ القُرْآنِ بِالسُّنَةِ مَعْلُومٌ، وقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - في مُذَكِّرَةِ الأُصُولِ، وذَكَرَ القاعِدَةَ مِن مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
؎وَخُصِّصَ الكِتابُ والحَدِيثُ بِهِ أوْ بِالحَدِيثِ مُطْلَقًا فَلْتَنْتَبِهْ
وَمِمّا ذَكَرَهُ لِأمْثِلَةِ تَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالكِتابِ قَوْلُهُ ﷺ: «”ما أُبِينَ مِن حَيٍّ فَهو مَيِّتٌ“،» أيْ: مُحَرَّمٌ، جاءَ تَخْصِيصُ هَذا العُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمِن أصْوافِها وأوْبارِها﴾ [النحل: ٨٠] أيْ: لَيْسَ مُحَرَّمًا.
وَمِن أمْثِلَةِ تَخْصِيصِ الكِتابِ بِالسُّنَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ﴾ [المائدة: ٣] جاءَ تَخْصِيصُ هَذا العُمُومِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «”أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ، ودَمانِ، أمّا المَيْتَتانِ: فالجَرادُ والحُوتُ»“ الحَدِيثَ قالَ القُرْطُبِيُّ: جاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الحارِثِ الأسْلَمِيَّةُ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ الكِتابِ والنَّبِيُّ ﷺ بِالحُدَيْبِيَةِ بَعْدُ، فَأقْبَلَ زَوْجُها وكانَ كافِرًا، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأتِي فَإنَّكَ شَرَطْتَ ذَلِكَ، وهَذِهِ طِينَةُ الكِتابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: إنَّها لَيْسَتْ مُخَصِّصَةً لِلْمُعاهَدَةِ؛ لِأنَّ النِّساءَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِيها ابْتِداءً، وإنَّما كانَتْ في حَقِّ الرِّجالِ فَقَطْ.
(p-٩٩)وَذَكَرَ القُرْطُبِيُّ، وابْنُ كَثِيرٍ أنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنَ أبِي مُعَيْطٍ جاءَتْ فارَّةً مِن زَوْجِها عَمْرِو بْنِ العاصِ ومَعَها أخَواها عُمارَةُ والوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أخَوَيْها وحَبَسَها، فَقالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: رُدَّها عَلَيْنا لِلشَّرْطِ، فَقالَ ﷺ: «”كانَ الشَّرْطُ في الرِّجالِ لا في النِّساءِ»“، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، والَّذِي يَظْهَرُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنَّها مُخَصِّصَةٌ لِمُعاهَدَةِ الهُدْنَةِ، وهي مِن أحْسَنِ الأمْثِلَةِ لِتَخْصِيصِ السُّنَةِ بِالقُرْآنِ، كَما قالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَقَدْ رُوِيَ أنَّها مُخَصِّصَةٌ عَنْ عُرْوَةَ، والضَّحّاكِ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، والزُّهْرِيِّ، ومُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ والسُّدِّيِّ.
وَيَدُلُّ عَلى أنَّها مُخَصِّصَةٌ أمْرانِ مَذْكُورانِ في الآيَةِ:
الأوَّلُ مِنهُما: أنَّها أحْدَثَتْ حُكْمًا جَدِيدًا في حَقِّهِنَّ وهو عَدَمُ الحِلِّيَةِ بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ أزْواجِهِنَّ، فَلا مَحَلَّ لِإرْجاعِهِنَّ، ولا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ مُعاهَدَةِ الهُدْنَةِ مَعَ هَذا الحُكْمِ فَخَرَجْنَ مِنها وبَقِيَ الرِّجالُ.
والثّانِي مِنهُما: أنَّها جَعَلَتْ لِلْأزْواجِ حَقَّ المُعاوَضَةِ عَلى ما أنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ، ولَوْ لَمْ يَكُنَّ داخِلاتٍ أوَّلًا لَما كانَ طَلَبُ المُعاوَضَةِ مُلْزِمًا، ولَكِنَّهُ صارَ مُلْزِمًا، ومُوجِبُ إلْزامِهِ أنَّهم كانُوا يَمْلِكُونَ مَنعَهُنَّ مِنَ الخُرُوجِ بِمُقْتَضى المُعاهَدَةِ المَذْكُورَةِ، فَإذا خَرَجْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الأزْواجِ كُنَّ كَمَن نَقَضَ العَهْدَ فَلَزِمَهُنَّ العِوَضُ المَذْكُورُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهم ولا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾، فِيها تَحْرِيمُ المُؤْمِناتِ عَلى الكافِرِينَ، والظّاهِرُ أنَّ التَّحْرِيمَ بِالهِجْرَةِ لا بِالإسْلامِ قَبْلَها، واتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ إذا أسْلَمَ وهاجَرَ أحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَقِيَتِ العِصْمَةُ إلى نِهايَةِ العُدَّةِ، فَإنْ هاجَرَ الطَّرَفُ الآخَرُ فِيها، فَهُما عَلى نِكاحِهِما الأوَّلِ.
وَهُنا مَبْحَثُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعَ زَوْجِها أبِي العاصِ بْنِ الرَّبِيعِ.
وَقَدْ كَثُرَ الخِلافُ في أمْرِ رَدِّها إلَيْهِ هَلْ كانَ بِالعَقْدِ الأوَّلِ، أوْ جَدَّدَ لَها ﷺ عَقْدًا جَدِيدًا، ومِن أسْبابِ كَثْرَةِ الخِلافِ الرَّبْطُ بَيْنَ تارِيخِ إسْلامِها وتارِيخِ إسْلامِهِ، وبَيْنَهُما سِتُّ سَنَواتٍ وهَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ لَمْ يَقَعْ تَحْرِيمٌ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وكافِرٍ، ونُزُولُها بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ وإسْلامُها كانَ سَنَةَ ثَمانٍ، فَيُحْمَلُ عَلى عَدَمِ انْقِضاءِ عِدَّتِها، وهَذا يُوافِقُ عَلى ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ، ونَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلًا، وهو أنَّ المُسْلِمَةَ كانَتْ بِالخِيارِ إنْ شاءَتْ فَسَخَتْ نِكاحَها (p-١٠٠)وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها، وإنْ شاءَتِ انْتَظَرَتْ. ا هـ.
وَهَذا القَوْلُ لَهُ وجْهٌ؛ لِأنَّهُ بِإسْلامِها لَمْ يَكُنْ كُفْأً لَها وإذا انْتَفَتِ الكَفاءَةُ أُعْطِيَتِ الزَّوْجَةُ الخِيارَ، كَقِصَّةِ بَرِيرَةَ لَمّا عُتِقَتْ وكانَ زَوْجُها مَمْلُوكًا، ولا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهم ولا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ لِأنَّ ذَلِكَ في حالَةِ كُفْرِ الزَّوْجِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ﴾، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَآتُوهم ما أنْفَقُوا﴾، يَدُلُّ عَلى أنَّ الفُرْقَةَ إذا جاءَتْ بِسَبَبٍ مِن جِهَةِ الزَّوْجَةِ أنَّ عَلَيْها رَدَّ ما أنْفَقَ الزَّوْجُ عَلَيْها، وكَوْنُهُ الصَّداقَ أوْ أكْثَرَ قَدْ بَحَثَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - في مَبْحَثِ الخُلْعِ في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ .
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ﴾، أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِفَكِّ عِصْمَةِ زَوْجاتِهِمِ الكَوافِرِ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ يَوْمَئِذٍ زَوْجَتَيْنِ، وطَلَّقَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ زَوْجَتَهُ أرْوى بِنْتَ رَبِيعَةَ، وعِصَمُ الكَوافِرِ عامٌّ في كُلِّ كافِرَةٍ، فَيَشْمَلُ الكِتابِيّاتِ لِكُفْرِهِنَّ بِاعْتِقادِ الوَلَدِ لِلَّهِ، كَما حَقَّقَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - ولَكِنَّ هَذا العُمُومَ قَدْ خُصِّصَ بِإباحَةِ الكِتابِيّاتِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [المائدة: ٥] أيْ: الحَرائِرُ، وبَقِيَتِ الحُرْمَةُ بَيْنَ المُسْلِمِ والمُشْرِكَةِ بِالعَقْدِ عَلى التَّأْبِيدِ.
وَمَفْهُومُ العِصْمَةِ لا يَمْنَعُ الإمْساكَ بِمِلْكِ اليَمِينِ، فَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ الِاسْتِمْتاعُ بِالمُشْرِكَةِ بِمِلْكِ اليَمِينِ، وعَلَيْهِ تَكُونُ حُرْمَةُ المُسْلِمَةِ عَلى الكافِرِ مُطْلَقًا مُشْرِكًا كانَ أوْ كِتابِيًّا عَلى التَّأْبِيدِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ﴾، أيْ: في الحاضِرِ، ﴿وَلا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾، أيْ: في المُسْتَقْبَلِ، وقَدْ فَصَّلَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - مَسْألَةَ المُحَرَّماتِ مِنَ النِّكاحِ فِيما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ﴾ الآيَةَ [النساء: ٢٥] .
* تَنْبِيهٌ
هُنا سُؤالٌ، وهو: إذا كانَ الكُفْرُ هو سَبَبَ فَكِّ عِصْمَةِ الكافِرَةِ مِنَ المُسْلِمِ، وتَحْرِيمِ المُسْلِمَةِ عَلى الكافِرِ فَلِماذا حَلَّتِ الكافِرَةُ مِن أهْلِ الكِتابِ لِلْمُسْلِمِ، ولَمْ تَحِلَّ المُسْلِمَةُ لِلْكافِرِ مِن أهْلِ الكِتابِ ؟ والجَوابُ مِن جانِبَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الإسْلامَ يَعْلُو ولا يُعْلى عَلَيْهِ والقَوامَةُ في الزَّواجِ لِلزَّوْجِ قَطْعًا لِجانِبِ الرُّجُولَةِ، وإنْ تَعادَلا في الحِلِّيَةِ بِالعَقْدِ؛ لِأنَّ التَّعادُلَ لا يُلْغِي الفَوارِقَ كَما في مِلْكِ اليَمِينِ، (p-١٠١)فَإذا امْتَلَكَ رَجُلٌ امْرَأةً حَلَّ لَهُ أنْ يَسْتَمْتِعَ مِنها بِمِلْكِ اليَمِينِ، والمَرْأةُ إذا امْتَلَكَتْ عَبْدًا لا يَحِلُّ لَها أنْ تَسْتَمْتِعَ مِنهُ بِمِلْكِ اليَمِينِ، ولِقَوامَةِ الرَّجُلِ عَلى المَرْأةِ وعَلى أوْلادِها وهو كافِرٌ لا يَسْلَمُ لَها دِينُها، ولا لِأوْلادِها.
والجانِبُ الثّانِي: شُمُولُ الإسْلامِ وقُصُورُ غَيْرِهِ، ويَنْبَنِي عَلَيْهِ أمْرٌ اجْتِماعِيٌّ لَهُ مَساسٌ بِكِيانِ الأُسْرَةِ وحُسْنِ العِشْرَةِ، وذَلِكَ أنَّ المُسْلِمَ إذا تَزَوَّجَ كِتابِيَّةً، فَهو يُؤْمِنُ بِكِتابِها وبِرَسُولِها، فَسَيَكُونُ مَعَها عَلى مَبْدَأِ مَن يَحْتَرِمُ دِينَها لِإيمانِهِ بِهِ في الجُمْلَةِ، فَسَيَكُونُ هُناكَ مَجالٌ لِلتَّفاهُمِ، وقَدْ يَحْصُلُ التَّوَصُّلُ إلى إسْلامِها بِمُوجِبِ كِتابِها، أمّا الكِتابِيُّ إذا تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً، فَهو لا يُؤْمِنُ بِدِينِها، فَلا تَجِدُ مِنهُ احْتِرامًا لِمَبْدَئِها ودِينِها، ولا مَجالَ لِلْمُفاهَمَةِ مَعَهُ في أمْرٍ لا يُؤْمِنُ بِهِ كُلِّيَّةً، وبِالتّالِي فَلا مَجالَ لِلتَّفاهُمِ ولا لِلْوِئامِ، وإذًا فَلا جَدْوى مِن هَذا الزَّواجِ بِالكُلِّيَّةِ، فَمَنَعَ مِنهُ ابْتِداءً.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، يَعْنِي صَداقَهُنَّ.
وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أنَّ النِّكاحَ بِدُونِ الأُجُورِ فِيهِ جُناحٌ، وقَدْ جاءَ النَّصُّ بِهَذا المَفْهُومِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وامْرَأةً مُؤْمِنَةً إنْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إنْ أرادَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: ٥٠]، فَهِبَةُ المَرْأةِ نَفْسَها بِدُونِ صَداقٍ خاصٌّ بِهِ ﷺ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿خالِصَةً لَكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾، لا يُحِلُّهُ لِغَيْرِهِ ﷺ وقَوْلُهُ: ﴿إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، ظاهِرٌ في أنَّ النِّكاحَ لا يَصِحُّ إلّا بِإتْيانِ الأُجُورِ.
وَقَدْ جاءَ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ العَقْدِ بِدُونِ إتْيانِ الصَّداقِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا جُناحَ عَلَيْكم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٣٦] .
وَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهاءُ حُكْمَ المُفَوَّضَةِ، أنَّهُ إنْ دَخَلَ بِها فَلَهُ صَداقُ المِثْلِ، ويَدُلُّ لِإطْلاقِ الأُجُورِ عَلى الصَّداقِ قَوْلُهُ تَعالى في نِكاحِ الإماءِ لِمَن لَمْ يَسْتَطِعْ طَوْلًا لِلْحَرائِرِ: ﴿فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ﴾، إلى قَوْلِهِ ﴿فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: ٢٥] وفي نِكاحِ أهْلِ الكِتابِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكم إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٥]، وقَوْلُهُ تَعالى (p-١٠٢)لِلرَّسُولِ ﷺ: ﴿إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٠]، وبِهَذا كُلِّهِ يُرَدُّ عَلى مَنِ اسْتَدَلَّ بِلَفْظِ الأُجُورِ عَلى نِكاحِ المُتْعَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: ٢٤] وتَقَدَّمَ مَبْحَثُ المُتْعَةِ مُوجَزًا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ .
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا جَاۤءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرَ ٰتࣲ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَـٰتࣲ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلࣱّ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ یَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّاۤ أَنفَقُوا۟ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُوا۟ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡیَسۡـَٔلُوا۟ مَاۤ أَنفَقُوا۟ۚ ذَ ٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ یَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق