الباحث القرآني
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتُلِفَ في وقْتِ وُجُوبِ الزَّكاةِ فِيما تُنْبِتُهُ الأرْضُ مِن ثَمَرٍ وحَبٍّ، فَقالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ: تَجِبُ في الحَبِّ إذا اشْتَدَّ، وفي الثَّمَرِ إذا بَدا صَلاحُهُ، فَتَعَلَّقَ الوُجُوبُ عِنْدَ طِيبِ التَّمْرِ، ووُجُوبُ الإخْراجِ بَعْدَ الجِذاذِ.
وَفائِدَةُ الخِلافِ أنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ في الثَّمَرِ والحَبِّ قَبْلَ الوُجُوبِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وإنْ تَصَرَّفَ في ذَلِكَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكاةِ لَمْ تُسْقَطِ الزَّكاةُ عَنْهُ.
وَمِن فَوائِدِهِ أيْضًا: أنَّهُ إذا ماتَ بَعْدَ وقْتِ الوُجُوبِ زُكِّيَتْ عَلى مِلْكِهِ، وإنْ ماتَ قَبْلَ الوُجُوبِ زُكِّيَتْ عَلى مِلْكِ الوَرَثَةِ، وقالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: واخْتَلَفَ العُلَماءُ في وقْتِ الوُجُوبِ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ وقْتُ الجِذاذِ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ حَصادِهِ﴾ .
الثّانِي: يَوْمَ الطِّيبِ؛ لِأنَّ ما قَبْلَ الطِّيبِ يَكُونُ عَلَفًا، لا قُوتًا ولا طَعامًا، فَإذا طابَ وحانَ الأكْلُ الَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ، وجَبَ الحَقُّ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ، إذْ بِتَمامِ النِّعْمَةِ يَجِبُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، ويَكُونُ الإيتاءُ وقْتَ الحَصادِ لِما قَدْ وجَبَ يَوْمَ الطِّيبِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ تَمامِ الخَرْصِ؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الواجِبُ فِيهِ مِنَ الزَّكاةِ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِها، كَمَجِيءِ السّاعِي في الغَنَمِ، وبِهِ قالَ المُغِيرَةُ، والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لِنَصِّ التَّنْزِيلِ، والمَشْهُورِ في المَذْهَبِ الثّانِي، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ. اهـ مِنهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ مالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: بِأنَّ كُلَّ ما أكَلَهُ المالِكُ أوْ تَصَدَّقَ بِهِ يَحْسَبُ عَلَيْهِ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ يُخالِفُونَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذَلِكَ، واحْتَجُّوا لِأنَّ ما يَأْكُلُهُ لا يُحْسَبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ . وبِالحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ: أنَّ عَلى الخارِصِ أنْ يَدَعَ الثُّلُثَ أوِ الرُّبْعَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ حَصادِهِ﴾، قَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ بِفَتْحِ الحاءِ، والباقُونَ بِكَسْرِها، وهُما لُغَتانِ مَشْهُورَتانِ (p-٥٢٠)كالصَّرّامِ والصِّرّامِ، والجَذاذِ والجِذاذِ، والقَطافِ والقِطافِ.
فائِدَةٌ: يَنْبَغِي لِصاحِبِ الحائِطِ إذا أرادَ الجِذاذَ ألّا يَمْنَعَ المَساكِينَ مِنَ الدُّخُولِ، وأنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى في ذَمِّ أصْحابِ الجَنَّةِ المَذْكُورَةِ في سُورَةِ القَلَمِ: ﴿إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ﴾ الآياتِ [ \ ١٧ ]، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٤٥] . هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ صَرِيحَةٌ في أنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ مِنَ المَطْعُوماتِ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةُ المَذْكُورَةُ فِيها، الَّتِي هي: المَيْتَةُ، والدَّمُ، ولَحْمُ الخِنْزِيرِ، وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، ولَكِنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في بَعْضِ المَواضِعِ تَحْرِيمَ غَيْرِ المَذْكُوراتِ، كَتَصْرِيحِهِ بِتَحْرِيمِ الخَمْرِ في سُورَةِ المائِدَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأنْصابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ .
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ لا يَحْرُمُ مَطْعُومٌ إلّا هَذِهِ الأرْبَعَةُ المَذْكُورَةُ، وهو قَوْلٌ يُرْوى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وعائِشَةَ، قالَ القُرْطُبِيُّ: ويُرْوى عَنْهم أيْضًا خِلافُهُ، وقالَ البُخارِيُّ في ”صَحِيحِهِ“: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، قالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِجابِرِ بْنِ زَيْدٍ: «يَزْعُمُونَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ ”نَهى عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ“، فَقالَ: " قَدْ كانَ يَقُولُ ذَلِكَ الحُكْمَ ابْنُ عَمْرٍو الغِفارِيُّ عِنْدَنا بِالبَصْرَةِ، ولَكِنْ أبى ذَلِكَ البَحْرُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَرَأ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ .» اهـ. وقالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَندادَ مِنَ المالِكِيَّةِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَحْلِيلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الحَيَوانِ وغَيْرِهِ، إلّا ما اسْتُثْنِيَ في الآيَةِ مِنَ المَيْتَةِ، والدَّمِ، ولَحْمِ الخِنْزِيرِ.
وَلِهَذا قُلْنا: إنَّ لُحُومَ السِّباعِ وسائِرِ الحَيَوانِ ما سِوى الإنْسانِ، والخِنْزِيرِ مُباحَةٌ.
وَقالَ القُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ إباحَةُ أكْلِ لُحُومِ السِّباعِ، والحُمُرِ، والبِغالِ، وذَكَرَ حَدِيثَ البُخارِيِّ الَّذِي قَدَّمْنا آنِفًا.
ثُمَّ قالَ: ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ لُحُومِ السِّباعِ، فَقالَ: لا بَأْسَ بِها، فَقِيلَ لَهُ حَدِيثُ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ، فَقالَ: لا نَدَعُ كِتابَ رَبِّنا لِحَدِيثِ أعْرابِيٍّ يَبُولُ عَلى ساقَيْهِ.
وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ لَحْمِ الفِيلِ، والأسَدِ، فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ.
وَقالَ القاسِمُ: كانَتْ عائِشَةُ تَقُولُ - لَمّا سَمِعَتِ النّاسَ يَقُولُونَ: حُرِّمَ كُلُّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ - ذَلِكَ حَلالٌ، وتَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ﴾ الآيَةَ.
(p-٥٢١)قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: اعْلَمْ أنّا نُرِيدُ في هَذا المَبْحَثِ أنْ نُبَيِّنَ حُجَّةَ مَن قالَ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ لُحُومِ السِّباعِ، والحَمِيرِ، ونَحْوِها، وحُجَّةَ مَن قالَ بِمَنعِها، ثُمَّ نَذْكُرَ الرّاجِحَ بِدَلِيلِهِ.
واعْلَمْ أوَّلًا: أنَّ دَعْوى أنَّهُ لا يَحْرُمُ مَطْعُومٌ غَيْرُ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ باطِلَةٌ، بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ؛ لِإجْماعِ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ؛ ودَلالَةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ عَلى تَحْرِيمِ الخَمْرِ، فَهو دَلِيلٌ قاطِعٌ عَلى تَحْرِيمِ غَيْرِ الأرْبَعَةِ.
وَمَن زَعَمَ أنَّ الخَمْرَ حَلالٌ لِهَذِهِ الآيَةِ، فَهو كافِرٌ بِلا نِزاعٍ بَيْنَ العُلَماءِ، وإذا عَرَفْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى عَدَمِ تَحْرِيمِ ما ذُكِرَ، قالُوا: إنَّ اللَّهَ حَصَرَ المُحَرَّماتِ فِيها في الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، وحَصَرَها أيْضًا في النَّحْلِ فِيها في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [البقرة: ١٧٣]؛ لِأنَّ إنَّما أداةُ حَصْرٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ، والنَّحْلُ بَعْدَ الأنْعامِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ في النَّحْلِ: ﴿وَعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ الآيَةَ [النحل: ١١٨]، والمَقْصُوصُ المُحالُ عَلَيْهِ هو المَذْكُورُ في الأنْعامِ، في قَوْلِهِ: ﴿وَعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٤٦]؛ ولِأنَّهُ تَعالى قالَ في الأنْعامِ: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٤٨]، ثُمَّ صَرَّحَ في النَّحْلِ بِأنَّهم قالُوا ذَلِكَ بِالفِعْلِ، في قَوْلِهِ: ﴿وَقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ [النحل: ١٣٥]؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ النَّحْلَ بَعْدَ الأنْعامِ، وحَصَرَ التَّحْرِيمَ أيْضًا في الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾، فَقالُوا: هَذا الحَصْرُ السَّماوِيُّ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ المَلَكُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ في مَكَّةَ في الأنْعامِ، والنَّحْلِ، وفي المَدِينَةِ عِنْدَ تَشْرِيعِ الأحْكامِ في البَقَرَةِ لا يُمْكِنُنا مُعارَضَتُهُ، ولا إخْراجُ شَيْءٍ مِنهُ إلّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيِّ المَتْنِ، مُتَواتِرٍ كَتَواتُرِ القُرْآنِ العَظِيمِ.
فالخَمْرُ مَثَلًا دَلَّ القُرْآنُ عَلى أنَّها مُحَرَّمَةٌ فَحَرَّمْناها؛ لِأنَّ دَلِيلَها قَطْعِيٌّ، أمّا غَيْرُها كالسِّباعِ، والحُمُرِ، والبِغالِ: فَأدِلَّةُ تَحْرِيمِها أخْبارُ آحادٍ يُقَدَّمُ عَلَيْها القاطِعُ، وهى الآياتُ المَذْكُورَةُ آنِفًا.
* * *
* تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أنَّ ما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ مِن أنَّ زِيادَةَ تَحْرِيمِ السِّباعِ والحُمُرِ مَثَلًا بِالسُّنَّةِ عَلى (p-٥٢٢)الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ في الآياتِ، كَزِيادَةِ التَّغْرِيبِ بِالسُّنَّةِ عَلى جَلْدِ الزّانِي مِائَةً الثّابِتِ بِالقُرْآنِ، أوْ زِيادَةِ الحُكْمِ بِالشّاهِدِ واليَمِينِ في الأمْوالِ الثّابِتِ بِالسُّنَّةِ عَلى الشّاهِدَيْنِ، أوِ الشّاهِدِ والمَرْأتَيْنِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٨٢]، غَيْرُ ظاهِرٍ عِنْدِي؛ لِوُضُوحِ الفَرْقِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ؛ لِأنَّ زِيادَةَ التَّغْرِيبِ والحُكْمِ بِالشّاهِدِ واليَمِينِ عَلى آيَةِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما﴾ الآيَةَ [النور: ٢]، في الأوَّلِ، وآيَةِ: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ الآيَةَ، في الثّانِي زِيادَةُ شَيْءٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ القُرْآنُ بِنَفْيٍ ولا إثْباتٍ، ومِثْلُ هَذِهِ الزِّيادَةِ لا مانِعَ مِنهُ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَماءِ؛ لِأنَّ الزِّيادَةَ عَلى النَّصِّ لَيْسَتْ نَسْخًا لَهُ عِنْدَ الجُمْهُورِ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَبِناءً عَلى ذَلِكَ مَنَعَ التَّغْرِيبَ والحُكْمَ بِالشّاهِدِ واليَمِينِ؛ لِأنَّ الزِّيادَةَ عِنْدَهُ نَسْخٌ، والقُرْآنُ لا يُنْسَخُ بِأخْبارِ الآحادِ؛ لِأنَّهُ قَطْعِيُّ المَتْنِ ولَيْسَتْ كَذَلِكَ، أمّا زِيادَةُ مُحَرَّمٍ آخَرَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ﴾ الآيَةَ، فَلَيْسَتْ زِيادَةَ شَيْءٍ سَكَتَ عَنْهُ القُرْآنُ كالأوَّلِ، وإنَّما هي زِيادَةُ شَيْءٍ نَفاهُ القُرْآنُ؛ لِدَلالَةِ الحَصْرِ القُرْآنِيِّ عَلى نَفْيِ التَّحْرِيمِ عَنْ غَيْرِ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، وبَيْنَ الأمْرَيْنِ فَرْقٌ واضِحٌ، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ مالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ مِمَّنْ يَقُولُ: بِأنَّ الزِّيادَةَ عَلى النَّصِّ نَسْخٌ، اللَّهُمَّ إلّا إذا كانَتِ الزِّيادَةُ أثْبَتَتْ ما كانَ مَنفِيًّا بِالنَّصِّ قَبْلَها، فَكَوْنُها إذَنْ ناسِخَةً واضِحٌ، وهُناكَ نَظَرٌ آخَرُ، قالَ بِهِ بَعْضُ العُلَماءِ: وهو أنَّ إباحَةَ غَيْرِ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ مِنَ الإباحَةِ العَقْلِيَّةِ المَعْرُوفَةِ عِنْدَ أهْلِ الأُصُولِ بِالبَراءَةِ الأصْلِيَّةِ، وهي اسْتِصْحابُ العَدَمِ الأصْلِيِّ؛ لِأنَّ الأصْلَ عَدَمُ تَحْرِيمِ شَيْءٍ إلّا بِدَلِيلٍ، كَما قالَهُ جَمْعٌ مِن أهْلِ الأُصُولِ.
وَإذا كانَتْ إباحَتُهُ عَقْلِيَّةً: فَرَفْعُها لَيْسَ بِنَسْخٍ حَتّى يُشْتَرَطَ في ناسِخِها التَّواتُرُ، وعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ في ”تَفْسِيرِهِ“ هَذا القَوْلَ بِعَدَمِ النَّسْخِ لِلْأكْثَرِينَ مِنَ المُتَأخِّرِينَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وكَوْنُهُ نَسْخًا أظْهَرُ عِنْدِي؛ لِأنَّ الحَصْرَ في الآيَةِ يُفْهَمُ مِنهُ إباحَةُ ما سِوى الأرْبَعَةِ شَرْعًا، فَتَكُونُ إباحَةً شَرْعِيَّةً؛ لِدَلالَةِ القُرْآنِ عَلَيْها، ورَفْعُ الإباحَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَسْخٌ بِلا خِلافٍ، وأشارَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ إلى أنَّ الزِّيادَةَ الَّتِي لا تُناقِضُ الحُكْمَ الأوَّلَ لَيْسَتْ نَسْخًا بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
وَلَيْسَ نَسْخًا كُلُّ ما أفادا فِيما رَسا بِالنَّصِّ الِازْدِيادا
وَهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ، ووَجَّهُوهُ بِعَدَمِ مُنافاةِ الزِّيادَةِ لِلْمَزِيدِ، وما لا يُنافِي لا يَكُونُ (p-٥٢٣)ناسِخًا، وهو ظاهِرٌ.
واعْلَمْ أنَّ مالِكَ بْنَ أنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوايَةُ في لُحُومِ السِّباعِ، فَرُوِيَ عَنْهُ أنَّها حَرامٌ، وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ في ”المُوَطَّأِ“؛ لِأنَّهُ تَرْجَمَ فِيهِ بِتَحْرِيمِ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، ثُمَّ ساقَ حَدِيثَ أبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإسْنادِهِ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ: «أنَّهُ نَهى عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ»، ثُمَّ ساقَ بِإسْنادِهِ حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أكْلُ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ حَرامٌ»، ثُمَّ قالَ: وهو الأمْرُ عِنْدَنا، وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ تَحْرِيمُها، وجَزَمَ القُرْطُبِيُّ بِأنَّ هَذا هو الصَّحِيحُ مِن مَذْهَبِهِ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا أنَّها مَكْرُوهَةٌ، وهو ظاهِرُ ”المُدَوَّنَةِ“، وهو المَشْهُورُ عِنْدَ أهْلِ مَذْهَبِهِ، ودَلِيلُ هَذا القَوْلِ هو الآياتُ الَّتِي ذَكَرْنا، ومِن جُمْلَتِها الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها.
وَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ، وعائِشَةَ مِن إباحَتِها، وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ رُجْحانُهُ بِالدَّلِيلِ هو ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ: مِن أنَّ كُلَّ ما ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِطَرِيقٍ صَحِيحَةٍ مِن كِتابٍ أوْ سُّنَّةٍ فَهو حَرامٌ، ويُزادُ عَلى الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ في الآياتِ، ولا يَكُونُ في ذَلِكَ أيُّ مُناقَضَةٍ لِلْقُرْآنِ؛ لِأنَّ المُحَرَّماتِ المَزِيدَةَ عَلَيْها حُرِّمَتْ بَعْدَها.
وَقَدْ قَرَّرَ العُلَماءُ: أنَّهُ لا تَناقُضَ يَثْبُتُ بَيْنَ القَضِيَّتَيْنِ إذا اخْتَلَفَ زَمَنُهُما؛ لِاحْتِمالِ صِدْقِ كُلٍّ مِنهُما في وقْتِها، وقَدِ اشْتَرَطَ عامَّةُ النُّظّارِ في التَّناقُضِ اتِّحادَ الزَّمانِ؛ لِأنَّهُ إنِ اخْتَلَفَ جازَ صِدْقُ كُلٍّ مِنهُما في وقْتِها، كَما لَوْ قُلْتَ: لَمْ يُسْتَقْبَلْ بَيْتُ المَقْدِسِ، قَدِ اسْتُقْبِلَ بَيْتُ المَقْدِسِ، وعَنَيْتَ بِالأُولى ما بَعْدَ النَّسْخِ، وبِالثّانِيَةِ ما قَبْلَهُ، فَكِلْتاهُما تَكُونُ صادِقَةً، وقَدْ أشَرْتُ في أُرْجُوزَتِي في فَنِّ المَنطِقِ إلى أنَّهُ: يُشْتَرَطُ في تَناقُضِ القَضِيَّتَيْنِ اتِّحادُهُما فِيما سِوى الكَيْفِ، أعْنِي الإيجابَ والسَّلْبَ، مِن زَمانٍ، ومَكانٍ، وشَرْطٍ، وإضافَةٍ، وقُوَّةٍ، وفِعْلٍ، وتَحْصِيلٍ، وعُدُولٍ، ومَوْضُوعٍ، ومَحْمُولٍ، وجُزْءٍ، وكُلٍّ، بِقَوْلِي: [ الرَّجَزُ ]
والِاتِّحادُ لازِمٌ بَيْنَهُما فِيما سِوى الكَيْفِ كَشَرْطٍ عُلِما والجُزْءِ والكُلِّ مَعَ المَكانِ والفِعْلِ والقُوَّةِ والزَّمانِ إضافَةُ تَحْصِيلٍ أوْ عُدُولِ ووَحْدَةِ المَوْضُوعِ والمَحْمُولِ
فَوَقْتُ نُزُولِ الآياتِ المَذْكُورَةِ لَمْ يَكُنْ حَرامًا غَيْرَ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، فَحَصْرُها صادِقٌ قَبْلَ تَحْرِيمِ غَيْرِها بِلا شَكٍّ، فَإذا طَرَأ تَحْرِيمُ شَيْءٍ آخَرَ بِأمْرٍ جَدِيدٍ، فَذَلِكَ لا يُنافِي الحَصْرَ (p-٥٢٤)الأوَّلَ لِتَجَدُّدِهِ بَعْدَهُ، وهَذا هو التَّحْقِيقُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وبِهِ يَتَّضِحُ أنَّ الحَقَّ جَوازُ نَسْخِ المُتَواتِرِ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الثّابِتِ تَأخُّرُها عَنْهُ، وإنْ مَنَعَهُ أكْثَرُ أهْلِ الأُصُولِ.
وَإذا عَرَفْتَ ذَلِكَ: فَسَنُفَصِّلُ لَكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى المُحَرَّماتِ الَّتِي حُرِّمَتْ بَعْدَ هَذا، وأقْوالَ العُلَماءِ فِيها.
فَمِن ذَلِكَ كُلُّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، فالتَّحْقِيقُ تَحْرِيمُهُ لِما قَدَّمْنا مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، وأبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ مِنَ النَّهْيِ عَنْها، وتَحْرِيمِها، أمّا حَدِيثُ أبِي ثَعْلَبَةَ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وأمّا حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِلَفْظِ: «كُلُّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، فَأكْلُهُ حَرامٌ» .
والأحادِيثُ في البابِ كَثِيرَةٌ، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ التَّحْقِيقَ: هو تَحْرِيمُ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ أكْلَ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ مَنهِيٌّ عَنْهُ، ولا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَن قالَ مِنَ المالِكِيَّةِ وغَيْرِهِمْ: أنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عَنْهُ ﷺ لِما ثَبَتَ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ - ﷺ: «نَهى عَنْ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، وذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» . اهـ.
فَقَرَنَ في الصَّحِيحِ بِما صَرَّحَ بِأنَّهُ حَرامٌ مَعَ أنَّ كُلًّا مِنهُما ذُو عَداءٍ وافْتِراسٍ، فَدَلَّ كُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ مَنهِيٌّ عَنْهُ.
والأصْلُ في النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وبِتَحْرِيمِ ذِي النّابِ مِنَ السِّباعِ، وذِي المِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ، قالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ مِنهُمُ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ وداوُدُ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ الصَّحِيحُ عَنْ مالِكٍ في السِّباعِ، وأنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِ الكَراهَةُ، وعَنْهُ قَوْلٌ بِالجَوازِ وهو أضْعَفُها، والحَقُّ التَّحْرِيمُ لِما ذَكَرْنا.
وَمِن ذَلِكَ الحُمُرُ الأهْلِيَّةُ، فالتَّحْقِيقُ أيْضًا أنَّها حَرامٌ، وتَحْرِيمُها لا يَنْبَغِي أنْ يَشُكَّ فِيهِ مُنْصِفٌ؛ لِكَثْرَةِ الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الوارِدَةِ بِتَحْرِيمِها، وقَدْ رَوى البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ تَحْرِيمَها مِن حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، والبَراءِ بْنِ عازِبٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أوْفى، وأنَسٍ، وأبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وأحادِيثُهم دالَّةٌ دَلالَةً صَرِيحَةً عَلى التَّحْرِيمِ، فَلَفْظُ حَدِيثِ أبِي ثَعْلَبَةَ عِنْدَ البُخارِيِّ، ومُسْلِمٍ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لُحُومَ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ»، وهَذا صَرِيحٌ صَراحَةً (p-٥٢٥)تامَّةً في التَّحْرِيمِ، ولَفْظُ حَدِيثِ أنَسٍ عِنْدَهُما أيْضًا: «إنِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يَنْهَيانِكم عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ فَإنَّها رِجْسٌ»، وفي رِوايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «فَإنَّها رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ»، وفي رِوايَةٍ لَهُ أيْضًا: ”فَإنَّها رِجْسٌ“ أوْ ”نَجَسٌ“ .
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: حَدِيثُ أنَسٍ هَذا المُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأنَّ لُحُومَ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ رِجْسٌ، صَرِيحٌ في تَحْرِيمِ أكْلِها، ونَجاسَةِ لَحْمِها، وأنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِها لَيْسَتْ لِأنَّها لَمْ يُخْرَجْ خُمُسُها، ولا أنَّها حَمُولَةٌ كَما زَعَمَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَلا تُعارِضُ هَذِهِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ المُتَّفَقُ عَلَيْها بِما رَواهُ أبُو داوُدَ مِن حَدِيثِ غالِبِ بْنِ أبْجَرَ المُزَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أصابَتْنا السَّنَةُ، ولَمْ يَكُنْ في مالِي ما أُطْعِمُ أهْلِي إلّا سِمانُ حُمُرٍ، وإنَّكَ حَرَّمْتَ الحُمُرَ الأهْلِيَّةَ، فَقالَ: أطْعِمْ أهْلَكَ مِن سَمِينِ حُمُرِكَ، فَإنَّما حَرَّمْتُها مِن أجْلِ جَوّالِ القَرْيَةِ» . اهـ.
والجَوّالُ: جُمَعُ جالَّةٍ، وهي الَّتِي تَأْكُلُ الجِلَّةَ، وهي في الأصْلِ البَعْرُ، والمُرادُ بِهِ هُنا أكْلُ النَّجاساتِ كالعَذِرَةِ.
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: اتَّفَقَ الحُفّاظُ عَلى تَضْعِيفِ هَذا الحَدِيثِ.
قالَ الخَطّابِيُّ، والبَيْهَقِيُّ: هو حَدِيثٌ يُخْتَلَفُ في إسْنادِهِ، يَعْنُونَ مُضْطَرِبًا، وما كانَ كَذَلِكَ لا تُعارَضُ بِهِ الأحادِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْها.
وَأمّا البِغالُ فَلا يَجُوزُ أكْلُها أيْضًا؛ لِما رَواهُ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ جابِرٍ، قالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ، لُحُومَ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ، ولُحُومَ البِغالِ، وكُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، وكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ»، أصْلُ حَدِيثِ جابِرٍ هَذا في ”الصَّحِيحَيْنِ“ كَما تَقَدَّمَ، وهو بِهَذا اللَّفْظِ، بِسَنَدٍ لا بَأْسَ بِهِ. قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ والشَّوْكانِيُّ.
وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ ”في تَفْسِيرِهِ“: ورَوى الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ بِإسْنادَيْنِ كُلٌّ مِنهُما عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ جابِرٍ قالَ: «ذَبَحْنا يَوْمَ خَيْبَرَ الخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ، فَنَهانا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ البِغالِ والحُمُرِ، ولَمْ يَنْهَنا عَنِ الخَيْلِ»، وهو دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى تَحْرِيمِ البِغالِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّها مُتَوَلَّدَةٌ عَنِ الحَمِيرِ وهي حَرامٌ قَطْعًا؛ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ بِتَحْرِيمِها.
* * *
وَأمّا الخَيْلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ في جَوازِ أكْلِها العُلَماءُ:
(p-٥٢٦)فَمَنَعَها مالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحَدِ القَوْلَيْنِ، وعَنْهُ أنَّها مَكْرُوهَةٌ، وكُلٌّ مِنَ القَوْلَيْنِ صَحَّحَهُ بَعْضُ المالِكِيَّةِ، والتَّحْرِيمُ أشْهَرُ عِنْدَهم.
وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أكْرَهُ لَحْمَ الخَيْلِ، وحَمَلَهُ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ عَلى التَّنْزِيهِ، وقالَ: لَمْ يُطْلِقْ أبُو حَنِيفَةَ فِيها التَّحْرِيمَ، ولَيْسَتْ عِنْدَهُ كالحِمارِ الأهْلِيِّ.
وَصَحَّحَ عَنْهُ صاحِبُ ”المُحِيطِ“، وصاحِبُ ”الهِدايَةِ“، وصاحِبُ ”الذَّخِيرَةِ“ التَّحْرِيمَ، وهو قَوْلُ أكْثَرِ الحَنَفِيَّةِ.
وَمِمَّنْ رَوَيْتُ عَنْهُ كَراهَةَ لُحُومِ الخَيْلِ: الأوْزاعِيُّ، وأبُو عُبَيْدٍ، وخالِدُ بْنُ الوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابْنُ عَبّاسٍ، والحَكَمُ.
وَمَذْهَبُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ - رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى - جَوازُ أكْلِ الخَيْلِ، وبِهِ قالَ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وفَضالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ، وأسْماءُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ، وسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وعَلْقَمَةُ، والأسْودُ، وعَطاءٌ، وشُرَيْحٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ، وحَمّادُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ، وإسْحاقُ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وداوُدُ، وغَيْرُهم.
كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ، في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“، وسَنُبَيِّنُ - إنْ شاءَ اللَّهُ - حُجَجَ الجَمِيعِ، وما يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ.
اعْلَمْ أنَّ مَن مَنَعَ أكْلَ لَحْمِ الخَيْلِ احْتَجَّ بِآيَةٍ وحَدِيثٍ:
أمّا الآيَةُ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وزِينَةً﴾ الآيَةَ [النحل: ٨]، فَقالَ: قَدْ قالَ تَعالى: ﴿والأنْعامَ خَلَقَها لَكم فِيها دِفْءٌ ومَنافِعُ ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ [النحل: ٥]، فَهَذِهِ لِلْأكْلِ، وقالَ: ﴿والخَيْلَ والبِغالَ والحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها﴾، فَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ لا لِلْأكْلِ، وهَذا تَفْصِيلُ مَن خَلَقَها وامْتَنَّ بِها، وأكَّدَ ذَلِكَ بِأُمُورٍ:
أحَدُها: أنَّ اللّامَ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ خَلَقَها لَكم لِعِلَّةِ الرُّكُوبِ والزِّينَةِ، لِأنَّ العِلَّةَ المَنصُوصَةَ تُفِيدُ الحَصْرَ، فَإباحَةُ أكْلِها تَقْتَضِي خِلافَ ظاهِرِ الآيَةِ.
ثانِيها: عَطَفَ البِغالَ والحَمِيرَ عَلَيْها، فَدَلَّ عَلى اشْتِراكِها مَعَهُما في حُكْمِ التَّحْرِيمِ.
ثالِثُها: أنَّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ سِيقَتْ لِلِامْتِنانِ، وسُورَةُ النَّحْلِ تُسَمّى سُورَةَ الِامْتِنانِ.
(p-٥٢٧)والحَكِيمُ لا يَمْتَنُّ بِأدْنى النِّعَمِ، ويَتْرُكُ أعْلاها، لا سِيَّما وقَدْ وقَعَ الِامْتِنانُ بِالأكْلِ في المَذْكُوراتِ قَبْلَها.
رابِعُها: لَوْ أُبِيحَ أكْلُها لَفاتَتِ المَنفَعَةُ بِها فِيما وقَعَ بِهِ الِامْتِنانُ مِنَ الرُّكُوبِ والزِّينَةِ.
وَأمّا الحَدِيثُ: فَهو ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، عَنْ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أكْلِ لُحُومِ الخَيْلِ والبِغالِ والحَمِيرِ» .
وَرَدَّ الجُمْهُورُ الِاسْتِدْلالَ بِالآيَةِ الكَرِيمَةِ، بِأنَّ آيَةَ النَّحْلِ نَزَلَتْ في مَكَّةَ اتِّفاقًا، والإذْنُ في أكْلِ الخَيْلِ يَوْمَ خَيْبَرَ كانَ بَعْدَ الهِجْرَةِ مِن مَكَّةَ بِأكْثَرَ مِن سِتِّ سِنِينَ، فَلَوْ فَهِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَنعَ مِنَ الآيَةِ لَما أذِنَ في الأكْلِ، وأيْضًا آيَةُ النَّحْلِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً في مَنعِ أكْلِ الخَيْلِ، بَلْ فُهِمَ مِنَ التَّعْلِيلِ، وحَدِيثِ جابِرٍ، وحَدِيثِ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ المُتَّفَقِ عَلَيْهِما، كِلاهُما صَرِيحٌ في جَوازِ أكْلِ الخَيْلِ، والمَنطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلى المَفْهُومِ كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ.
وَأيْضًا فالآيَةُ عَلى تَسْلِيمِ صِحَّةِ دَلالَتِها المَذْكُورَةِ، فَهي إنَّما تَدُلُّ عَلى تَرْكِ الأكْلِ، والتَّرْكُ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ لِلتَّحْرِيمِ أوْ لِلتَّنْزِيهِ، أوْ خِلافِ الأوْلى، وإذا لَمْ يَتَعَيَّنْ واحِدٌ مِنها بَقِيَ التَّمَسُّكُ بِالأدِلَّةِ المُصَرِّحَةِ بِالجَوازِ.
وَأيْضًا فَلَوْ سَلَّمْنا أنَّ اللّامَ لِلتَّعْلِيلِ، لَمْ نُسَلِّمْ إفادَةَ الحَصْرِ في الرُّكُوبِ والزِّينَةِ. فَإنَّهُ يَنْتَفِعُ بِالخَيْلِ في غَيْرِهِما، وفي غَيْرِ الأكْلِ اتِّفاقًا، وإنَّما ذَكَرَ الرُّكُوبَ والزِّينَةَ؛ لِكَوْنِهِما أغْلَبَ ما تُطْلَبُ لَهُ الخَيْلُ.
وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ البَقَرَةِ المَذْكُورُ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ حِينَ خاطَبَتْ راكِبَها فَقالَتْ: ”إنّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذا، إنّا خُلِقْنا لِلْحَرْثِ“، فَإنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أصْرَحَ في الحَصْرِ، لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إلّا الأغْلَبُ، وإلّا فَهي تُؤْكَلُ ويُنْتَفَعُ بِها في أشْياءَ غَيْرِ الحَرْثِ اتِّفاقًا.
وَأيْضًا فَلَوْ سُلِّمَ الِاسْتِدْلالُ المَذْكُورُ لَلَزِمَ مَنعُ حَمْلِ الأثْقالِ عَلى الخَيْلِ والبِغالِ والحَمِيرِ لِلْحَصْرِ المَزْعُومِ في الرُّكُوبِ والزِّينَةِ، ولا قائِلَ بِذَلِكَ.
وَأمّا الِاسْتِدْلالُ بِعَطْفِ الحَمِيرِ والبِغالِ عَلَيْها، فَهو اسْتِدْلالٌ بِدَلالَةِ الِاقْتِرانِ، وقَدْ ضَعَّفَها أكْثَرُ العُلَماءِ مِن أهْلِ الأُصُولِ، كَما أشارَ لَهُ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
أمّا قِرانُ اللَّفْظِ في المَشْهُورِ فَلا يُساوِي في سِوى المَذْكُورِ
(p-٥٢٨)وَأمّا الِاسْتِدْلالُ بِأنَّ الآيَةَ الكَرِيمَةَ سِيقَتْ لِلِامْتِنانِ: فَيُجابُ عَنْهُ بِأنَّهُ قَصَدَ بِهِ ما كانَ الِانْتِفاعُ بِهِ أغْلَبَ عِنْدَ العَرَبِ، فَخُوطِبُوا بِما عَرَفُوا وألِفُوا، ولَمْ يَكُونُوا يَأْلَفُونَ أكْلَ الخَيْلِ لِعِزَّتِها في بِلادِهِمْ، وشَدَّةِ الحاجَةِ إلَيْها في القِتالِ، بِخِلافِ الأنْعامِ: فَأكْثَرُ انْتِفاعِهِمْ بِها كانَ لِحَمْلِ الأثْقالِ، ولِلْأكْلِ؛ فاقْتُصِرَ في كُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ عَلى الِامْتِنانِ بِأغْلَبِ ما يُنْتَفَعُ بِهِ فِيهِ.
فَلَوْ لَزِمَ مِن ذَلِكَ الحَصْرُ في هَذا الشِّقِّ لَلَزِمَ مِثْلُهُ في الشِّقِّ الآخَرِ كَما قَدَّمْنا.
وَأمّا الِاسْتِدْلالُ بِأنَّ الإذْنَ في أكْلِها، سَبَبٌ لِفَنائِها وانْقِراضِها:
فَيُجابُ عَنْهُ: بِأنَّهُ أذِنَ في أكْلِ الأنْعامِ ولَمْ تَنْقَرِضْ، ولَوْ كانَ الخَوْفُ عَنْ ذَلِكَ عِلَّةً لِمَنعٍ في الأنْعامِ لِئَلّا تَنْقَرِضَ، فَيَتَعَطَّلُ الِانْتِفاعُ بِها في غَيْرِ الأكْلِ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَأمّا الِاسْتِدْلالُ بِحَدِيثِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهو مَرْدُودٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ ضَعَّفَهُ عُلَماءُ الحَدِيثِ، فَقَدْ قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ في بابِ ”لُحُومِ الخَيْلِ“ ما نَصُّهُ: " وقَدْ ضَعَّفَ حَدِيثَ خالِدٍ أحْمَدُ، والبُخارِيُّ، ومُوسى بْنُ هارُونَ، والدّارَقُطْنِيُّ، والخَطّابِيُّ، وابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وعَبْدُ الحَقِّ، وآخَرُونَ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: واتَّفَقَ العُلَماءُ مِن أئِمَّةِ الحَدِيثِ وغَيْرِهِمْ، عَلى أنَّ حَدِيثَ خالِدٍ المَذْكُورَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وذَكَرَ أسانِيدَ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ، وحَدِيثُ خالِدٍ المَذْكُورُ مَعَ أنَّهُ مُضْطَرِبٌ، في إسْنادِهِ صالِحُ بْنُ يَحْيى بْنِ المِقْدامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، ضَعَّفَهُ غَيْرُ واحِدٍ، وقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“: لَيِّنٌ، وفِيهِ أيْضًا: والِدُهُ يَحْيى المَذْكُورُ، الَّذِي هو شَيْخُهُ في هَذا الحَدِيثِ، قالَ فِيهِ في ”التَّقْرِيبِ“: مَسْتُورٌ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنّا لَوْ سَلَّمْنا عَدَمَ ضَعْفِ حَدِيثِ خالِدٍ، فَإنَّهُ مُعارَضٌ بِما هو أقْوى مِنهُ، كَحَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: «نَهى النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ، ورَخَّصَ في لُحُومِ الخَيْلِ»، وفي لَفْظٍ في ”الصَّحِيحِ“: ”وَأذِنَ في لُحُومِ الخَيْلِ“، وكَحَدِيثِ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ: «نَحَرْنا فَرَسًا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأكَلْناهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِما.
وَلا شَكَّ في أنَّهُما أقْوى مِن حَدِيثِ خالِدٍ، وبِهَذا كُلِّهِ تَعْلَمُ أنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلَ الصَّرِيحَ رُجْحانُهُ إباحَةُ أكْلِ لَحْمِ الخَيْلِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، ولا يَخْفى أنَّ الخُرُوجَ مِنَ الخِلافِ أحْوَطُ، كَما قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: [ الرَّجَزُ ]
(p-٥٢٩)وَإنَّ الأوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِن خِلافِهِمْ ولَوْ ضَعِيفًا فاسْتَبِنْ
وَمِن ذَلِكَ الكَلْبُ: فَإنَّ أكْلَهُ حَرامٌ عِنْدَ عامَّةِ العُلَماءِ، وعَنْ مالِكٍ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا بِالكَراهَةِ.
وَلِتَحْرِيمِهِ أدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، مِنها: ما تَقَدَّمَ في ذِي النّابِ مِنَ السِّباعِ؛ لِأنَّ الكَلْبَ سَبُعٌ ذُو نابٍ، ومِنها أنَّهُ لَوْ جازَ أكْلُهُ لَجازَ بَيْعُهُ، وقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِهِ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ مِن حَدِيثِ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ، مَقْرُونًا بِحُلْوانِ الكاهِنِ، ومَهْرِ البَغِيِّ، وأخْرَجَهُ البُخارِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي جُحَيْفَةَ، وأخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَفْظِ: «ثَمَنُ الكَلْبِ خَبِيثٌ»، الحَدِيثَ، وذَلِكَ نَصٌّ في التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ١٥٧] .
فَإنْ قِيلَ: ما كَلُّ خَبِيثٍ يُحَرَّمُ؛ لِما ورَدَ في الثُّومِ أنَّهُ خَبِيثٌ، وفي كَسْبِ الحَجّامِ أنَّهُ خَبِيثٌ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ واحِدٌ مِنهُما.
فالجَوابُ: أنَّ ما ثَبَتَ بِنَصٍّ أنَّهُ خَبِيثٌ كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى تَحْرِيمِهِ، وما أخْرَجَهُ دَلِيلٌ يُخْرِجُ، ويَبْقى النَّصُّ حُجَّةً فِيما لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلى إخْراجِهِ، كَما هو الحُكْمُ في جُلِّ عُمُوماتِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، يَخْرُجُ مِنها بَعْضُ الأفْرادِ بِمُخَصِّصٍ، وتَبْقى حُجَّةً في الباقِي، وهَذا مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وإلَيْهِ أشارَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
وَهْوَ حُجَّةٌ لَدى الأكْثَرِ إنْ مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيِّنًا يَبِنْ
فَإنْ قِيلَ: تَحْرِيمُ الخَبائِثِ لِعِلَّةِ الخُبْثِ، وإذا وُجِدَ خَبِيثٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كانَ ذَلِكَ نَقْضًا في العِلَّةِ لا تَخْصِيصًا لَها.
فالجَوابُ: أنَّ أكْثَرَ العُلَماءِ عَلى أنَّ النَّقْضَ تَخْصِيصٌ لِلْعِلَّةِ، لا إبْطالٌ لَها، قالَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“: [ الرَّجَزُ ]
مِنها وُجُودُ الوَصْفِ دُونَ الحُكْمِ سَمّاهُ بِالنَّقْضِ وُعاةُ العِلْمِ والأكْثَرُونَ عِنْدَهم لا يَقْدَحُ بَلْ هو تَخْصِيصٌ وذا مُصَحَّحُ
إلَخْ. . . . كَما حَرَّرْناهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
وَمِنَ الأدِلَّةِ عَلى تَحْرِيمِ الكَلْبِ: ما ثَبَتَ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ مِنَ الأحادِيثِ الصَّرِيحَةِ في تَحْرِيمِ اقْتِنائِهِ، وأنَّ اقْتِناءَهُ يَنْقُصُ أجْرَ مُقْتَنِيهِ كُلَّ يَوْمٍ، فَلَوْ كانَ أكْلُهُ مُباحًا، لَكانَ اقْتِناؤُهُ (p-٥٣٠)مُباحًا.
وَإنَّما رَخَّصَ ﷺ في كَلْبِ الصَّيْدِ، والزَّرْعِ، والماشِيَةِ؛ لِلضَّرُورَةِ، فَمِن ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إلّا كَلْبَ صَيْدٍ، أوْ زَرْعٍ، أوْ ماشِيَةٍ انْتَقَصَ مِن أجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيراطٌ»، ومِنهُ أيْضًا ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في ”صَحِيحَيْهِما“ مِن حَدِيثِ سُفْيانَ بْنِ أبِي زُهَيْرٍ الشَّنائِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنِ اقْتَنى كَلْبًا لا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا، ولا ضَرْعًا نَقَصَ مِن عَمِلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيراطٌ»، ورَواهُ البُخارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِثَلاثِ طُرُقٍ بِلَفْظِ: «نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِن عَمَلِهِ قِيراطانِ»، وأخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِن طُرُقٍ في بَعْضِها قِيراطٌ، وفي بَعْضِها قِيراطانِ.
والأحادِيثُ في البابِ كَثِيرَةٌ، وهَذا أوْضَحُ دَلِيلٍ عَلى أنَّ الكَلْبَ لا يَجُوزُ أكْلُهُ، إذْ لَوْ جازَ أكْلُهُ لَجازَ اقْتِناؤُهُ لِلْأكْلِ، وهو ظاهِرٌ، ومِن ذَلِكَ ما ثَبَتَ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ مِن حَدِيثِ جابِرٍ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغَفَّلِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: مِن أنَّهُ ﷺ أمَرَ بِقَتْلِ الكِلابِ، ولَوْ كانَتْ مُباحَةَ الأكْلِ لَما أمَرَ بِقَتْلِها، ولَمْ يُرَخِّصْ ﷺ فِيها إلّا لِضَرُورَةِ الصَّيْدِ، أوِ الزَّرْعِ، أوِ الماشِيَةِ.
وَإذا عَرَفْتَ أنَّ في كَلْبِ الصَّيْدِ، وما ذُكِرَ مَعَهُ، بَعْضَ المَنافِعِ المُباحَةِ، كالِانْتِفاعِ بِصَيْدِهِ، أوْ حِراسَتِهِ الماشِيَةَ، أوِ الزَّرْعِ، فاعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في بَيْعِهِ.
فَمِنهم مَن قالَ: بَيْعُهُ تابِعٌ لِلَحْمِهِ، ولَحْمُهُ حَرامٌ؛ فَبَيْعُهُ حَرامٌ، وهَذا هو أظْهَرُ الأقْوالِ دَلِيلًا؛ لِما قَدَّمْنا مِن أنَّ ثَمَنَ الكَلْبِ خَبِيثٌ، وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنْهُ، مَقْرُونًا بِحُلْوانِ الكاهِنِ، ومَهْرِ البَغِيِّ، وهو نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ في مَنعِ بَيْعِهِ.
وَيُؤَيِّدُهُ ما رَواهُ أبُو داوُدَ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - مَرْفُوعًا، قالَ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ ”، وقالَ:“ إنْ جاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الكَلْبِ، فامْلَأْ كَفَّهُ تُرابًا» .
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“، وابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“: إسْنادُهُ صَحِيحٌ، ورَوى أبُو داوُدَ أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لا يَحِلُّ ثَمَنُ الكَلْبِ، ولا حُلْوانُ الكاهِنِ، ولا مَهْرُ البَغِيِّ»، قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“: إسْنادُهُ حَسَنٌ، وقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: إسْنادُهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(p-٥٣١)وَإذا حَقَّقْتَ ذَلِكَ، فاعْلَمْ أنَّ القَوْلَ بِمَنعِ بَيْعِ الكَلْبِ الَّذِي ذَكَرْنا أنَّهُ هو الحَقُّ، عامٌّ في المَأْذُونِ في اتِّخاذِهِ وغَيْرِهِ؛ لِعُمُومِ الأدِلَّةِ، ومِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ: أبُو هُرَيْرَةَ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، ورَبِيعَةُ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وداوُدُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وغَيْرُهم، وهو المَشْهُورُ الصَّحِيحُ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ، خِلافًا لِما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ في ”المُفْهِمِ“: مِن أنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِهِ الكَراهَةُ، ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ أيْضًا جَوازُ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ ونَحْوِهِ، دُونَ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنُ في اتِّخاذِهِ، وهو قَوْلُ سَحْنُونٍ؛ لِأنَّهُ قالَ: أبِيعُ كَلْبَ الصَّيْدِ وأحُجُّ بِثَمَنِهِ.
وَأجازَ بَيْعَهُ أبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا إنْ كانَتْ فِيهِ مَنفَعَةٌ مِن صَيْدٍ، أوْ حِراسَةٍ لِماشِيَةٍ مَثَلًا، وحَكى نَحْوَهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ جابِرٍ، وعَطاءٍ، والنَّخَعِيِّ، قالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَإنْ قُتِلَ الكَلْبُ الماذُونُ فِيهِ كَكَلْبِ الصَّيْدِ، فَفِيهِ القِيمَةُ عِنْدَ مالِكٍ، ولا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ أحْمَدَ، والشّافِعِيِّ، وأوْجَبَها فِيهِ أبُو حَنِيفَةَ مُطْلَقًا إنْ كانَتْ فِيهِ مَنفَعَةٌ.
وَحُجَّةُ مَن قالَ: لا قِيمَةَ فِيهِ، أنَّ القِيمَةَ ثَمَنٌ، والنَّصُّ الصَّحِيحُ نَهى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وجاءَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّ طالِبَهُ تُمْلَأُ كَفُّهُ تُرابًا، وذَلِكَ أبْلَغُ عِبارَةٍ في المَنعِ مِنهُ.
واحْتَجَّ مَن أوْجَبَها بِأنَّهُ فَوَّتَ مَنفَعَةً جائِزَةً فَعَلَيْهِ غُرْمُها.
واحْتَجَّ مَن أجازَ بَيْعَ الكَلْبِ، وألْزَمَ قِيمَتَهُ إنْ قُتِلَ، بِما رُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - ﷺ: «نَهى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ إلّا كَلْبَ صَيْدٍ»، وعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّهُ غَرَّمَ رَجُلًا عَنْ كَلْبٍ قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ: أنَّهُ قَضى في كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وقَضى في كَلْبِ ماشِيَةٍ بِكَبْشٍ.
واحْتَجُّوا أيْضًا بِأنَّ الكَلْبَ المَأْذُونَ فِيهِ تَجُوزُ الوَصِيَّةُ بِهِ، والِانْتِفاعُ بِهِ، فَأشْبَهَ الحِمارَ.
وَأجابَ الجُمْهُورُ بِأنَّ الأحادِيثَ والآثارَ المَرْوِيَّةَ في جَوازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ ولُزُومِ قِيمَتِهِ كُلُّها ضَعِيفَةٌ.
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ ما نَصُّهُ: ”وَأمّا الجَوابُ عَمّا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الأحادِيثِ والآثارِ فَكُلُّها ضَعِيفَةٌ بِاتِّفاقِ المُحَدِّثِينَ“، وهَكَذا أوْضَحَ التِّرْمِذِيُّ، والدّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ ضَعْفَها، والِاحْتِجاجُ بِجَوازِ الوَصِيَّةِ بِهِ وشَبَهِهِ بِالحِمارِ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، المُصَرِّحَةِ بِعَدَمِ حِلْيَةِ ثَمَنِهِ، وما ذَكَرَهُ ابْنُ عاصِمٍ المالِكِيُّ في ”تُحْفَتِهِ“ مِن قَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
واتَّفَقُوا أنَّ كِلابَ البادِيَهْ يَجُوزُ بَيْعُها كَكَلْبِ الماشِيَهْ
(p-٥٣٢)فَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عُلَماءُ المالِكِيَّةِ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ قَوْلُ سَحْنُونٍ.
واعْلَمْ أنَّ ما رُوِيَ عَنْ جابِرٍ، وابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِمّا يَدُلُّ عَلى جَوازِ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ كُلُّهُ ضَعِيفٌ، كَما بَيَّنَ تَضْعِيفَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ في بابِ ”ثَمَنِ الكَلْبِ“ .
قالَ القُرْطُبِيُّ: وقَدْ زَعَمَ ناسٌ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ في العَرَبِ مَن يَأْكُلُ لَحْمَ الكَلْبِ إلّا قَوْمٌ مِن فَقْعَسَ.
* * *
وَمِن ذَلِكَ القِرْدُ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ أكْلُهُ، قالَ القُرْطُبِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“: قالَ أبُو عُمَرَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ البَرِّ: أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أكْلُ القِرْدِ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ أكْلِهِ، ولا يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لِأنَّهُ لا مَنفَعَةَ فِيهِ.
قالَ: وما عَلِمْتُ أحَدًا رَخَّصَ في أكْلِهِ إلّا ما ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أيُّوبَ: سُئِلَ مُجاهِدٌ عَنْ أكْلِ القِرْدِ، فَقالَ: لَيْسَ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، قُلْتُ: ذَكَرَ ابْنُ المُنْذِرِ أنَّهُ قالَ: رُوِّينا عَنْ عَطاءٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ القِرْدِ يُقْتَلُ في الحَرَمِ، قالَ: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ، قالَ: فَعَلى مَذْهَبِ عَطاءٍ يَجُوزُ أكْلُ لَحْمِهِ؛ لِأنَّ الجَزاءَ لا يَجِبُ عَلى مَن قَتَلَ غَيْرَ الصَّيْدِ، وفي ”بَحْرِ المَذْهَبِ“ لِلرُّويانِيِّ عَلى مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ.
وَقالَ الشّافِعِيُّ: يَجُوزُ بَيْعُ القِرْدِ؛ لِأنَّهُ يُعَلَّمُ ويُنْتَفَعُ بِهِ لِحِفْظِ المَتاعِ. اهـ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: القِرْدُ حَرامٌ عِنْدِنا، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، ومَكْحُولٌ، والحَسَنُ، وابْنُ حَبِيبٍ المالِكِيُّ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: وقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: لا أعْلَمُ بَيْنَ عُلَماءِ المُسْلِمِينَ خِلافًا أنَّ القِرْدَ لا يُؤْكَلُ، ولا يَجُوزُ بَيْعُهُ، ورُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ: «نَهى عَنْ لَحْمِ القِرْدِ»، ولِأنَّهُ سَبُعٌ، فَيَدْخُلُ في عُمُومِ الخَبَرِ، ولِأنَّهُ مَسْخٌ أيْضًا فَيَكُونُ مِنَ الخَبائِثِ المُحَرَّمَةِ.
وَقَدْ قَدَّمْنا جَزْمَ ابْنِ حَبِيبٍ، وابْنِ عَبْدِ البَرِّ مِنَ المالِكِيَّةِ: بِأنَّهُ حَرامٌ، وقالَ الباجِيُّ: الأظْهَرُ عِنْدِي مِن مَذْهَبِ مالِكٍ وأصْحابِهِ: أنَّهُ لَيْسَ بِحَرامٍ.
وَمِن ذَلِكَ الفِيلُ: فالظّاهِرُ فِيهِ أنَّهُ مِن ذَواتِ النّابِ مِنَ السِّباعِ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ التَّحْقِيقَ فِيها التَّحْرِيمُ؛ لِثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ.
وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنَ المالِكِيَّةِ: ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، والقُرْطُبِيُّ.
(p-٥٣٣)وَقالَ بَعْضُ المالِكِيَّةِ كَراهَتُهُ أخَفُّ مِن كَراهَةِ السَّبُعِ، وأباحَهُ أشْهَبُ، وعَنْ مالِكٍ في ”المُدَوَّنَةِ“: كَراهَةُ الِانْتِفاعِ بِالعاجِ، وهو سِنُّ الفِيلِ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: والفِيلُ مُحَرَّمٌ، قالَ أحْمَدُ: لَيْسَ هو مِن أطْعِمَةِ المُسْلِمِينَ، وقالَ الحَسَنُ: هو مَسْخٌ، وكَرِهَهُ أبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، ورَخَّصَ في أكْلِهِ الشَّعْبِيُّ، ولَنا نَهْيُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، وهو مِن أعْظَمِها نابًا؛ ولِأنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ فَيَدْخُلُ في عُمُومِ الآيَةِ المُحَرِّمَةِ لِلْخَبائِثِ. اهـ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: الفِيلُ حَرامٌ عِنْدِنا، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، والكُوفِيِّينَ، والحَسَنِ، وأباحَهُ الشَّعْبِيُّ، وابْنُ شِهابٍ، ومالِكٌ في رِوايَةٍ.
وَحُجَّةُ الأوَّلِينَ أنَّهُ ذُو نابٍ. اهـ.
وَمِن ذَلِكَ الهِرُّ، والثَّعْلَبُ، والدُّبُّ: فَهي عِنْدَ مالِكٍ مِن ذَواتِ النّابِ مِنَ السِّباعِ، وعَنْهُ رِوايَةٌ أُخْرى أنَّها مَكْرُوهَةٌ كَراهَةَ تَنْزِيهٍ، ولا تَحْرِيمَ فِيها قَوْلًا واحِدًا، والهِرُّ الأهْلِيُّ والوَحْشِيُّ عِنْدَهُ سَواءٌ.
وَفَرَّقَ بَيْنَهُما غَيْرُهُ مِنَ الأئِمَّةِ كالشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وأبِي حَنِيفَةَ: فَمَنَعُوا الأهْلِيَّ.
قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: فَأمّا الأهْلِيُّ فَمُحَرَّمٌ في قَوْلِ إمامِنا ومالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ: أنَّهُ «نَهى عَنْ أكْلِ الهِرِّ»، وقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ أيْضًا: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ في الثَّعْلَبِ، فَأكْثَرُ الرِّواياتِ عَنْ أحْمَدَ تَحْرِيمُهُ، وهَذا قَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ، ومالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ؛ لِأنَّهُ سَبُعٌ؛ فَيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّهْيِ، ونُقِلَ عَنْ أحْمَدَ إباحَتُهُ، واخْتارَهُ الشَّرِيفُ أبُو جَعْفَرٍ، ورَخَّصَ فِيهِ عَطاءٌ، وطاوُسٌ، وقَتادَةُ، واللَّيْثُ، وسُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، والشّافِعِيُّ؛ لِأنَّهُ يُفْدى في الإحْرامِ والحَرَمِ، إلى أنْ قالَ: واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنْ أحْمَدَ في سِنَّوْرِ البَرِّ، والقَوْلُ فِيهِ كالقَوْلِ في الثَّعْلَبِ.
وَحَكى النَّوَوِيُّ اتِّفاقَ الشّافِعِيَّةِ عَلى إباحَةِ الثَّعْلَبِ، وقالَ صاحِبُ ”المُهَذَّبِ“: وفي سِنَّوْرِ الوَحْشِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لا يَحِلُّ؛ لِأنَّهُ يُصْطادُ بِنابِهِ فَلَمْ يَحِلَّ، كالأسَدِ والفَهْدِ.
والثّانِي: يَحِلُّ؛ لِأنَّهُ حَيَوانٌ يَتَنَوَّعُ إلى حَيَوانٍ وحْشِيٍّ وأهْلِيٍّ، فَيَحْرُمُ الأهْلِيُّ مِنهُ، (p-٥٣٤)وَيَحِلُّ الوَحْشِيُّ كالحِمارِ.
وَأمّا الدُّبُّ: فَهو سَبُعٌ ذُو نابٍ عِنْدَ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ، وأصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ، وقالَ أحْمَدُ: إنْ كانَ الدُّبُّ ذا نابٍ مُنِعَ أكْلُهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذا نابٍ فَلا بَأْسَ بِأكْلِهِ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في جَوازِ أكْلِ الضَّبُعِ: وهو عِنْدَ مالِكٍ كالثَّعْلَبِ، وقَدْ قَدَّمْنا عَنْهُ أنَّهُ سَبُعٌ في رِوايَةٍ، وفي أُخْرى أنَّهُ مَكْرُوهٌ، ولا قَوْلَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ، والأحادِيثُ الَّتِي قَدَّمْناها في سُورَةِ ”المائِدَةِ“ بِأنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ تَدُلُّ عَلى إباحَةِ أكْلِها، ورُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ: أنَّهُ كانَ يَأْكُلُ الضِّباعَ، قالَهُ القُرْطُبِيُّ، ورَخَّصَ في أكْلِها الشّافِعِيُّ وغَيْرُهُ، وقالَ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“: قالَ الشّافِعِيُّ: وما يُباعُ لَحْمُ الضِّباعِ بِمَكَّةَ إلّا بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةَ.
وَحُجَّةُ مالِكٍ في مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ: أنَّ الضَّبُعَ مِن جُمْلَةِ السِّباعِ؛ فَيَدْخُلُ في عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، ولَمْ يَخُصَّ سَبُعًا مِنها عَنْ سَبُعٍ، قالَ القُرْطُبِيُّ: ولَيْسَ حَدِيثُ الضَّبُعِ الَّذِي خَرَّجَهُ النَّسائِيُّ في إباحَةِ أكْلِها مِمّا يُعارَضُ بِهِ حَدِيثُ النَّهْيِ؛ لِأنَّهُ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي عَمّارٍ، ولَيْسَ مَشْهُورًا بِنَقْلِ العِلْمِ، ولا مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ إذا خالَفَهُ مَن هو أثْبَتُ مِنهُ، قالَ أبُو عُمَرَ: وقَدْ رُوِيَ النَّهْيُ عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ مِن طُرُقٍ مُتَواتِرَةٍ، رَوى ذَلِكَ جَماعَةٌ مِنَ الأئِمَّةِ الثِّقاتِ الأثْباتِ، ومُحالٌ أنْ يُعارِضُوا بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ أبِي عَمّارٍ. اهـ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: لِلْمُخالِفِ أنْ يَقُولَ أحادِيثُ النَّهْيِ عامَّةٌ في كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، ودَلِيلُ إباحَةِ الضَّبُعِ خاصٌّ، ولا يَتَعارَضُ عامٌّ وخاصٌّ؛ لِأنَّ الخاصَّ يَقْضِي عَلى العامِ، فَيُخَصَّصُ عُمُومُهُ بِهِ كَما هو مُقَرَّرٌ في الأُصُولِ.
وَمِن ذَلِكَ القُنْفُذُ: فَقَدْ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ بِتَحْرِيمِهِ، وهو مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وأجازَ أكْلَهُ الجُمْهُورُ، مِنهم مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، واللَّيْثُ، وأبُو ثَوْرٍ، وغَيْرُهم.
واحْتَجَّ مَن مَنَعَهُ بِما رَواهُ أبُو داوُدَ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قالَ: «ذُكِرَ القُنْفُذُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: ”هو خَبِيثٌ مِنَ الخَبائِثِ»“ .
واحْتَجَّ مَن أباحَهُ، وهُمُ الجُمْهُورُ، بِأنَّ الحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ، ولا تَحْرِيمَ إلّا بِدَلِيلٍ. قالَ البَيْهَقِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرى، بَعْدَ أنْ ساقَ حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةِ المَذْكُورَ في خَبَثِ القُنْفُذِ: هَذا حَدِيثٌ لَمْ يُرْوَ إلّا بِهَذا الإسْنادِ، وهو إسْنادٌ فِيهِ ضَعْفٌ.
وَمِمَّنْ كَرِهَ أكْلَ القُنْفُذِ: أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ. قالَهُ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ.
* * *
(p-٥٣٥)وَمِن ذَلِكَ حَشَراتُ الأرْضِ: كالفَأْرَةِ، والحَيّاتِ، والأفاعِي، والعَقارِبِ، والخُنْفُساءِ، والعَظايَةِ، والضَّفادِعِ، والجِرْذانِ، والوَزَغِ، والصَّراصِيرِ، والعَناكِبِ، وِسامِّ أبْرَصَ، والجِعْلانِ، وبَناتِ ورْدانِ، والدِّيدانِ، وحِمارِ قَبّانَ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
فَجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى تَحْرِيمِ أكْلِ هَذِهِ الأشْياءِ؛ لِأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ .
وَمِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ: الشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأحْمَدُ، وابْنُ شِهابٍ، وعُرْوَةُ، وغَيْرُهم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى.
وَرَخَّصَ في أكْلِ ذَلِكَ: مالِكٌ، واشْتَرَطَ في جَوازِ أكْلِ الحَيّاتِ أنْ يُؤْمَنَ سُمُّها.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ التَّرْخِيصُ في أكْلِ الحَشَراتِ: الأوْزاعِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى، واحْتَجُّوا بِما رَواهُ أبُو داوُدَ، والبَيْهَقِيُّ، مِن حَدِيثِ مِلْقامِ بْنِ تَلِبٍّ، عَنْ أبِيهِ تَلِبِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ التَّمِيمِيِّ العَنْبَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: صَحِبْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَلَمْ أسْمَعْ لِحَشَرَةِ الأرْضِ تَحْرِيمًا.
واحْتَجُّوا أيْضًا بِأنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أشْياءَ، وأباحَ أشْياءَ، فَما حَرَّمَ فَهو حَرامٌ، وما أباحَ فَهو مُباحٌ، وما سَكَتَ عَنْهُ فَهو عَفْوٌ.
وَقالَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في الفَأْرَةِ: ما هي بِحَرامٍ، وقَرَأتْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ الآيَةَ.
وَيُجابُ عَنْ هَذا بِأنَّ مِلْقامَ بْنَ تَلِبٍّ مَسْتُورٌ لا يُعْرَفُ حالُهُ، وبِأنَّ قَوْلَ أبِيهِ تَلِبِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ أسْمَعْ لِحَشَرَةِ الأرْضِ تَحْرِيمًا لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ تَحْرِيمِها، كَما قالَهُ الخَطّابِيُّ، والبَيْهَقِيُّ؛ لِأنَّ عَدَمَ سَماعِ صَحابِيٍّ لِشَيْءٍ لا يَقْتَضِي انْتِفاءَهُ كَما هو مَعْلُومٌ، وبِأنَّهُ تَعالى لَمْ يَسْكُتْ عَنْ هَذا؛ لِأنَّهُ حَرَّمَ الخَبائِثَ، وهَذِهِ خَبائِثُ، لا يَكادُ طَبْعٌ سَلِيمٌ يَسْتَسِيغُها، فَضْلًا عَنْ أنَّ يَسْتَطِيبَها، والَّذِينَ يَأْكُلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الحَشَراتِ مِنَ العَرَبِ، إنَّما يَدْعُوهم لِذَلِكَ شِدَّةُ الجُوعِ، كَما قالَ أحَدُ شُعَرائِهِمْ: [ الطَّوِيلُ ]
؎أكَلْنا الرُّبى يا أُمَّ عَمْرٍو ومَن يَكُنْ غَرِيبًا لَدَيْكم يَأْكُلُ الحَشَراتِ
والرُّبى جُمَعُ رُبْيَةَ، وهي الفَأْرَةُ، قالَهُ القُرْطُبِيُّ، وفي ”اللِّسانِ“ أنَّها دُوَيْبَّةٌ بَيْنَ الفَأْرَةِ وأُمِّ حُبَيْنٍ، ولِتِلْكَ الحاجَةِ الشَّدِيدَةِ لَمّا سُئِلَ بَعْضُ العَرَبِ عَمّا يَأْكُلُونَ، قالَ: كُلُّ ما دَبَّ (p-٥٣٦)وَدَرَجَ، إلّا أُمَّ حُبَيْنٍ، فَقالَ: لِتَهْنِ أمَّ حُبَيْنٍ العافِيَةُ.
وَقَدْ ثَبَتَ في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أباحَ قَتْلَ الفَأْرَةِ، وما ذُكِرَ مَعَها مِنَ الفَواسِقِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى عَدَمِ إباحَتِها.
واعْلَمْ أنَّ ما ذَكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، كالشّافِعِيِّ، مِن أنَّ كُلَّ ما يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ مِنَ العَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ القُرْآنُ عَلَيْهِمْ في غَيْرِ حالِ ضَرُورَةِ الجُوعِ حَرامٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ الآيَةَ، اسْتِدْلالٌ ظاهِرٌ، لا وجْهَ لِما رَدَّهُ بِهِ أهْلُ الظّاهِرِ مِن أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ لا يُمْكِنُ أنْ يُناطَ بِهِ حُكْمٌ؛ لِأنَّهُ لا يَنْضَبِطُ؛ لِأنَّ مَعْنى الخُبْثِ مَعْرُوفٌ عِنْدَهم، فَما اتَّصَفَ بِهِ فَهو حَرامٌ، لِلْآيَةِ.
وَلا يَقْدَحُ في ذَلِكَ النَّصُّ عَلى إباحَةِ بَعْضِ المُسْتَخْبَثاتِ، كالثُّومِ؛ لِأنَّ ما أخْرَجَهُ الدَّلِيلُ يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ النَّصِّ، ويَبْقى حُجَّةً فِيما لَمْ يُخْرِجْهُ دَلِيلٌ، كَما قَدَّمْنا.
وَيَدْخُلُ فِيهِ أيْضًا كُلُّ ما نَصَّ الشَّرْعُ عَلى أنَّهُ خَبِيثٌ، إلّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلى إباحَتِهِ، مَعَ إطْلاقِ اسْمِ الخُبْثِ عَلَيْهِ.
واسْتَثْنى بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن حَشَراتِ الأرْضِ الوَزَغَ، فَقَدِ ادَّعى بَعْضُهُمُ الإجْماعَ عَلى تَحْرِيمِهِ، كَما ذَكَرَهُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ عَنِ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ويَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أُمِّ شَرِيكٍ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ: أنَّهُ ﷺ أمَرَ بِقَتْلِ الأوْزاغِ، وكَذَلِكَ رَوى الشَّيْخانِ أيْضًا عَنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْصُولًا عِنْدَ مُسْلِمٍ، ومُحْتَمَلًا لِلْإرْسالِ عِنْدَ البُخارِيِّ، فَإنَّ قَوْلَهُ: وزَعَمَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ أنَّهُ أمَرَ بِقَتْلِهِ، مُحْتَمِلٌ لِأنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ عائِشَةَ، ومُحْتَمِلٌ لِأنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ عُرْوَةَ؛ وعَلَيْهِما فالحَدِيثُ مُتَّصِلٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ الزُّهْرِيِّ؛ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا، واخْتارَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“، وقالَ: كَأنَّ الزُّهْرِيَّ وصَلَهُ لِمَعْمَرٍ، وأرْسَلَهُ لِيُونُسَ. اهـ، ومِن طَرِيقِ يُونُسَ رَواهُ البُخارِيُّ، ومِن طَرِيقِ مَعْمَرٍ رَواهُ مُسْلِمٌ، ورَوى مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: التَّرْغِيبُ في قَتْلِ الوَزَغِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِهِ.
* * *
واخْتَلَفَ العُلَماءُ أيْضًا في ابْنِ آوى، وابْنِ عُرْسٍ، فَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ بِتَحْرِيمِ أكْلِهِما، وهو مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ، وأبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى - قالَ في ”المُغْنِي“: سُئِلَ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ آوى، وابْنِ عُرْسٍ، فَقالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَنْهَشُ بِأنْيابِهِ مِنَ السِّباعِ، وبِهَذا قالَ (p-٥٣٧)أبُو حَنِيفَةَ، وأصْحابُهُ. اهـ.
وَمَذْهَبُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الفَرْقُ بَيْنَهُما، فابْنُ عُرْسٍ حَلالٌ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ بِلا خِلافٍ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ لَهُ نابٌ قَوِيٌّ، فَهو كالضَّبِّ، واخْتَلَفَ الشّافِعِيَّةُ في ابْنِ آوى.
فَقالَ بَعْضُهم: يَحِلُّ أكْلُهُ؛ لِأنَّهُ لا يَتَقَوّى بِنابِهِ فَهو كالأرْنَبِ.
والثّانِي: لا يَحِلُّ؛ لِأنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ كَرِيهُ الرّائِحَةِ، ولِأنَّهُ مِن جِنْسِ الكِلابِ، قالَهُ النَّوَوِيُّ، والظّاهِرُ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ كَراهَتُهُما.
وَأمّا الوَبَرُ، واليَرْبُوعُ، فَأكْلُهُما جائِزٌ عِنْدَ مالِكٍ وأصْحابِهِ، وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وعَلَيْهِ عامَّةُ أصْحابِهِ، إلّا أنَّ في الوَبَرِ وجْهًا عِنْدَهم بِالتَّحْرِيمِ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ عُمَرَ أوْجَبَ في اليَرْبُوعِ جَفْرَةً، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ صَيْدٌ، ومَشْهُورُ مَذْهَبِ الإمامِ أحْمَدَ أيْضًا جَوازُ أكْلِ اليَرْبُوعِ، والوَبَرِ.
وَمِمَّنْ قالَ بِإباحَةِ الوَبَرِ: عَطاءٌ، وطاوُسٌ، ومُجاهِدٌ، وعَمْرُو بْنُ دِينارٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو يُوسُفَ.
وَمِمَّنْ قالَ بِإباحَةِ اليَرْبُوعِ أيْضًا: عُرْوَةُ، وعَطاءٌ الخُراسانِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، كَما نَقَلَهُ عَنْهم صاحِبُ ”المُغْنِي“ .
وَقالَ القاضِي مِنَ الحَنابِلَةِ بِتَحْرِيمِ الوَبَرِ، قالَ في ”المُغْنِي“: وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ، إلّا أبا يُوسُفَ، وقالَ أيْضًا: إنَّ أبا حَنِيفَةَ قالَ في اليَرْبُوعِ أيْضًا: هو حَرامٌ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أحْمَدَ أيْضًا، وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ، والحَكَمِ، وحَمّادٍ؛ لِأنَّهُ يُشْبِهُ الفَأْرَ، ونَقَلَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ عَنْ صاحِبِ ”البَيانِ“ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ تَحْرِيمَ الوَبَرِ، واليَرْبُوعِ، والضَّبِّ، والقُنْفُذِ، وابْنِ عُرْسٍ.
وَمِمَّنْ قالَ بِإباحَةِ الخُلْدِ والضُّرْبُوبِ: مالِكٌ وأصْحابُهُ.
وَأمّا الأرْنَبُ: فالتَّحْقِيقُ أنَّ أكْلَها مُباحٌ؛ لِما ثَبَتَ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ - ﷺ: ”أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِن أرْنَبٍ فَقَبِلَهُ“، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ ”فَأكَلَ مِنهُ“، وقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: أكَلَ الأرْنَبَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، ورَخَّصَ فِيها أبُو سَعِيدٍ، وعَطاءٌ، وابْنُ المُسَيَّبِ، واللَّيْثُ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا قائِلًا بِتَحْرِيمِها، إلّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ. اهـ.
(p-٥٣٨)وَأمّا الضَّبُّ: فالتَّحْقِيقُ أيْضًا جَوازُ أكْلِهِ؛ لِما ثَبَتَ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّهُ ﷺ قالَ: «كُلُوا أوْ أطْعِمُوا فَإنَّهُ حَلالٌ»، وقالَ: «لا بَأْسَ بِهِ، ولَكِنَّهُ لَيْسَ مِن طَعامِي»، يَعْنِي الضَّبَّ، ولِما ثَبَتَ أيْضًا في ”الصَّحِيحَيْنِ“ مِن حَدِيثِ خالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّهُ أكَلَ ضَبًّا في بَيْتِ مَيْمُونَةَ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَنْظُرُ إلَيْهِ»، وقَدْ قَدَّمْنا قَوْلَ صاحِبِ ”البَيانِ“ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ بِتَحْرِيمِ الضَّبِّ.
وَنُقِلَ في ”المُغْنِي“ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أيْضًا، والثَّوْرِيِّ تَحْرِيمَ الضَّبِّ، ونُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ النَّهْيُ عَنْهُ، ولَمْ نَعْلَمْ لِتَحْرِيمِهِ مُسْتَنَدًا، إلّا ما رَواهُ مُسْلِمٌ في ”الصَّحِيحِ“ مِن حَدِيثِ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - ﷺ: «أُتِيَ بِضَبٍّ، فَأبى أنْ يَأْكُلَهُ» قالَ: «إنِّي لا أدْرِي لَعَلَّهُ مِنَ القُرُونِ الأُولى الَّتِي مُسِخَتْ»، وأخْرَجَ مُسْلِمٌ نَحْوَهُ أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا، فَكَأنَّهُ في هَذا الحَدِيثِ عَلَّلَ الِامْتِناعَ مِنهُ بِاحْتِمالِ المَسْخِ، أوْ لِأنَّهُ يُنْهَشُ، فَأشْبَهَ ابْنَ عُرْسٍ، ولَكِنَّ هَذا لا يُعارِضُ الأدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي قَدَّمْناها بِإباحَةِ أكْلِهِ، وكانَ بَعْضُ العَرَبِ يَزْعُمُونَ أنَّ الضَّبَّ مِنَ الأُمَمِ الَّتِي مُسِخَتْ، كَما يَدُلُّ لَهُ قَوْلُ الرّاجِزِ: [ الرَّجَزُ ]
؎قالَتْ وكُنْتُ رَجُلًا فَطِينا هَذا لَعَمْرُ اللَّهِ إسْرائِينا
فَإنَّ هَذِهِ المَرْأةَ العَرَبِيَّةَ أقْسَمَتْ عَلى أنَّ الضَّبَّ إسْرائِيلِيٌّ مُسِخَ.
* * *
وَأمّا الجَرادُ: فَلا خِلافَ بَيْنِ العُلَماءِ في جَوازِ أكْلِهِ، وقَدْ ثَبَتَ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أوْفى، أنَّهُ قالَ: «غَزْونا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَبْعَ غَزَواتٍ نَأْكُلُ الجَرادَ» . اهـ.
وَمَيْتَةُ الجَرادِ مِن غَيْرِ ذَكاةٍ حَلّالٌ عِنْدَ جَماهِيرِ العُلَماءِ؛ لِحَدِيثِ «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ» الحَدِيثَ.
وَخالَفَ مالِكٌ الجُمْهُورَ، فاشْتَرَطَ في جَوازِ أكْلِهِ ذَكاتَهُ، وذَكاتُهُ عِنْدَهُ ما يَمُوتُ بِهِ بِقَصْدِ الذَّكاةِ، وهو مَعْنى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إسْحاقَ المالِكِيِّ في ”مُخْتَصَرِهِ“: وافْتَقَرَ نَحْوُ الجَرادِ لَها بِما يَمُوتُ بِهِ، ولَوْ لَمْ يُعَجَّلْ كَقَطْعِ جَناحٍ.
واحْتَجَّ لَهُ المالِكِيَّةُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المَذْكُورِ: «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ»، الحَدِيثَ؛ لِأنَّ طُرُقَهُ لا تَخْلُو مِن ضَعْفٍ في الإسْنادِ، أوْ وقْفٍ، والأصْلُ الِاحْتِياجُ إلى الذَّكاةِ؛ لِعُمُومِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣]، وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ سُورَةِ المائِدَةِ ما نَصُّهُ: " وقَدْ قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشّافِعِيُّ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ (p-٥٣٩)أسْلَمَ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: «أُحِلَّ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ، فَأمّا المَيْتَتانِ: فالسَّمَكُ والجَرادُ، وأمّا الدَّمانِ: فالكَبِدُ والطُّحالُ»، وكَذا رَواهُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وابْنُ ماجَهْ، والدّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، وهو ضَعِيفٌ.
قالَ الحافِظُ البَيْهَقِيُّ: ورَواهُ إسْماعِيلُ بْنُ أبِي إدْرِيسَ عَنْ أُسامَةَ، وعَبْدِ اللَّهِ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، قُلْتُ: وثَلاثَتُهم كُلُّهم ضُعَفاءُ، ولَكِنَّ بَعْضَهم أصْلَحُ مِن بَعْضٍ، وقَدْ رَواهُ سُلَيْمانُ بْنُ بِلالٍ أحَدُ الأثْباتِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَوَقَفَهُ بَعْضُهم عَلَيْهِ. قالَ الحافِظُ أبُو زُرْعَةَ الرّازِيُّ: وهو أصَحُّ. اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وهو دَلِيلٌ لِما قالَهُ المالِكِيَّةُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: لَكِنْ لِلْمُخالِفِ أنْ يَقُولَ: إنَّ الرِّوايَةَ المَوْقُوفَةَ عَلى ابْنِ عُمَرَ مِن طَرِيقِ سُلَيْمانَ بْنِ بِلالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْهُ صَحِيحَةٌ، ولَها حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لِأنَّ قَوْلَ الصَّحابِيِّ: أُحِلَّ لَنا، أوْ حُرِّمَ عَلَيْنا، لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لِأنَّهُ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهم لا يَحِلُّ لَهم، ولا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ، إلّا النَّبِيُّ ﷺ كَما تَقَرَّرَ في عُلُومِ الحَدِيثِ، وأشارَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ إلى أنَّ الرِّوايَةَ الصَّحِيحَةَ المَوْقُوفَةَ عَلى ابْنِ عُمَرَ لَها حُكْمُ الرَّفْعِ، كَما ذَكَرْنا وهو واضِحٌ، وهو دَلِيلٌ لا لَبْسَ فِيهِ عَلى إباحَةِ مَيْتَةِ الجَرادِ مِن غَيْرِ ذَكاةٍ.
والمالِكِيَّةُ قالُوا: لَمْ يَصِحَّ الحَدِيثُ مَرْفُوعًا، ومَيْتَةُ الجَرادِ داخِلَةٌ في عُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٣]، وافْتِقارُ الجَرادِ إلى الذَّكاةِ بِما يَمُوتُ بِهِ، كَقَطْعِ رَأْسِهِ بِنِيَّةِ الذَّكاةِ، أوْ صَلْقِهِ، أوْ قَلْيِهِ.
كَذَلِكَ رِوايَةٌ أيْضًا عَنِ الإمامِ أحْمَدَ، نَقَلَها عَنْهُ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ مُسْلِمٍ“ و ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *
وَأمّا الطَّيْرُ: فَجَمِيعُ أنْواعِهِ مُباحَةُ الأكْلِ إلّا أشْياءَ مِنها، اخْتَلَفَ فِيها العُلَماءُ.
فَمِن ذَلِكَ كُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ يَتَقَوّى بِهِ ويَصْطادُ: كالصَّقْرِ، والشّاهِينِ، والبازِي، والعُقابِ، والباشِقِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
وَجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ كَما قَدَّمْنا، ودَلِيلُهم ثُبُوتُ النَّهْيِ عَنْهُ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“، وغَيْرِهِ، وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وأبِي حَنِيفَةَ.
وَمَذْهَبُ مالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إباحَةُ أكْلِ ذِي المِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: (p-٥٤٠)﴿قُلْ لا أجِدُ﴾ الآيَةَ؛ ولِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ في التَّحْرِيمِ.
وَمِمَّنْ قالَ كَقَوْلِ مالِكٍ: اللَّيْثُ، والأوْزاعِيُّ، ويَحْيى بْنُ سَعِيدٍ، وقالَ مالِكٌ: لَمْ أرَ أحَدًا مِن أهْلِ العِلْمِ يَكْرَهُ سِباعَ الطَّيْرِ، وقالَ ابْنُ القاسِمِ: لَمْ يَكْرَهْ مالِكٌ أكْلَ شَيْءٍ مِنَ الطَّيْرِ كُلِّهِ؛ الرَّخَمِ، والعِقْبانِ، والنُّسُورِ، والحِدَأةِ، والغِرْبانِ، وجَمِيعِ سِباعِ الطَّيْرِ، وغَيْرِ سِباعِها، ما أكَلَ الجِيَفَ مِنها، وما لَمْ يَأْكُلْها.
وَلا بَأْسَ بِأكْلِ الهُدْهُدِ، والخُطّافِ، ورُوِيَ عَلى كَراهَةِ أكْلِ الخُطّافِ ابْنُ رُشْدٍ؛ لِقِلَّةِ لَحْمِها مَعَ تَحَرُّمِها بِمَن عَشَّشَتْ عِنْدَهُ، انْتَهى مِن ”المَوّاقِ“ في شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ في ”مُخْتَصَرِهِ“ وطَيْرٌ، ولَوْ جَلّالَةٌ.
وَمِن ذَلِكَ الحِدَأةُ، والغُرابُ الأبْقَعُ لِما تَقَدَّمَ مِن أنَّهُما مِنَ الفَواسِقِ الَّتِي يَحِلُّ قَتْلُها في الحِلِّ والحَرَمِ؛ وإباحَةُ قَتْلِها دَلِيلٌ عَلى مَنعِ أكْلِها، وهو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ خِلافًا لِمالِكٍ، ومَن وافَقَهُ، كَما ذَكَرْنا آنِفًا.
وَقالَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «إنِّي لَأعْجَبُ مِمَّنْ يَأْكُلُ الغُرابَ، وقَدْ أذِنَ ﷺ في قَتْلِهِ»، وقالَ صاحِبُ ”المُهَذَّبِ“، بَعْدَ أنْ ذَكَرَ تَحْرِيمَ أكْلِ الغُرابِ الأبْقَعِ: ويَحْرُمُ الغُرابُ الأسْوَدُ الكَبِيرُ؛ لِأنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ يَأْكُلُ الجِيَفَ فَهو كالأبْقَعِ.
وَفِي الغُدافِ، وغُرابِ الزَّرْعِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لا يَحِلُّ؛ لِلْخَبَرِ.
والثّانِي: يَحِلُّ؛ لِأنَّهُ مُسْتَطابٌ يَلْقُطُ الحَبَّ، فَهو كالحَمامِ، والدَّجاجِ، وقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ ويَحْرُمُ مِنها ما يَأْكُلُ الجِيَفَ، كالنُّسُورِ، والرَّخَمِ، وغُرابِ البَيْنِ وهو أكْبَرُ الغِرْبانِ، والأبْقَعِ. قالَ عُرْوَةُ: «وَمَن يَأْكُلُ الغُرابَ، وقَدْ سَمّاهُ النَّبِيُّ ﷺ فاسِقًا ؟ واللَّهِ ما هو مِنَ الطَّيِّباتِ» . اهـ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الظّاهِرُ المُتَبادَرُ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ أذِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في قَتْلِهِ بِغَيْرِ الذَّكاةِ الشَّرْعِيَّةِ أنَّهُ مُحَرَّمُ الأكْلِ؛ إذْ لَوْ كانَ الِانْتِفاعُ بِأكْلِهِ جائِزًا لَما أذِنَ ﷺ في إتْلافِهِ كَما هو واضِحٌ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ: الغُرابُ الأبْقَعُ حَرامٌ بِلا خِلافٍ؛ لِلْأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ، والأسْوَدُ الكَبِيرُ فِيهِ طَرِيقانِ:
(p-٥٤١)إحْداهُما: أنَّهُ حَرامٌ.
والأُخْرى: أنَّ فِيهِ وجْهَيْنِ، أصَحُّهُما التَّحْرِيمُ.
وَغُرابُ الزَّرْعِ: فِيهِ وجْهانِ مَشْهُورانِ: أصَحُّهُما أنَّهُ حَلالٌ، وهو الزّاغُ، وهو أسْوَدُ صَغِيرٌ، وقَدْ يَكُونُ مُحْمَرَّ المِنقارِ والرِّجْلَيْنِ. اهـ، مِنهُ بِالمَعْنى في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ .
وَمِن ذَلِكَ الصَّرَدُ، والهُدْهُدُ، والخُطّافُ، والخُفّاشُ وهو الوَطْواطُ.
وَمَذْهَبُ الشّافِعِيِّ: تَحْرِيمُ أكْلِ الهُدْهُدِ والخُطّافِ.
قالَ صاحِبُ ”المُهَذَّبِ“: ويَحْرُمُ أكْلُ الهُدْهُدِ والخُطّافِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنْ قَتْلِهِما، وقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ: أمّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الهُدْهُدِ، فَرَواهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنْ قَتْلِ أرْبَعٍ مِنَ الدَّوابِّ:“ النَّمْلَةِ، والنَّحْلَةِ، والهُدْهُدِ، والصَّرَدِ» "، رَواهُ أبُو داوُدَ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَلى شَرْطِ البُخارِيِّ، ومُسْلِمٍ ذَكَرَهُ في آخِرِ كِتابِهِ، ورَواهُ ابْنُ ماجَهْ في كِتابِ الصَّيْدِ بِإسْنادٍ عَلى شَرْطِ البُخارِيِّ، وأمّا النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الخُطّافِ فَهو ضَعِيفٌ ومُرْسَلٌ، رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادِهِ عَنْ أبِي الحُوَيْرِثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعاوِيَةَ، وهو مِن تابِعِيِّ التّابِعِينَ، أوْ مِنَ التّابِعِينَ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ: «أنَّهُ نَهى عَنْ قَتْلِ الخَطاطِيفِ»، ثُمَّ قالَ: قالَ البَيْهَقِيُّ: هَذا مُنْقَطِعٌ، قالَ: ورَوى حَمْزَةُ النَّصِيبِيُّ فِيهِ حَدِيثًا مُسْنَدًا إلّا أنَّهُ كانَ يُرْمى بِالوَضْعِ. اهـ
وَمِمّا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ: تَعْلَمُ أنَّ الصَّرَدَ، والهُدْهُدَ لا يَجُوزُ أكْلُهُما في مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ؛ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهِما، وقالَ النَّوَوِيُّ أيْضًا: وصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، أنَّهُ قالَ: " لا تَقْتُلُوا الضَّفادِعَ؛ فَإنَّ نَقِيقَها تَسْبِيحٌ، ولا تَقْتُلُوا الخُفّاشَ؛ فَإنَّهُ لَمّا خُرِّبَ بَيْتُ المَقْدِسِ قالَ: يا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلى البَحْرِ حَتّى أُغْرِقَهم، قالَ البَيْهَقِيُّ: إسْنادُهُ صَحِيحٌ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: والظّاهِرُ في مِثْلِ هَذا الَّذِي صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِنَ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الخُفّاشِ، والضُّفْدَعِ أنَّهُ في حُكْمِ المَرْفُوعِ؛ لِأنَّهُ لا مَجالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ؛ لِأنَّ عِلْمَ تَسْبِيحِ الضُّفْدَعِ، وما قالَهُ الخُفّاشُ لا يَكُونُ بِالرَّأْيِ، وعَلَيْهِ فَهو يَدُلُّ عَلى مَنعِ أكْلِ الخُفّاشِ والضُّفْدَعِ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: ويَحْرُمُ الخُطّافُ، والخُشّافُ، أوِ الخُفّاشُ وهو الوَطْواطُ، وقالَ الشّاعِرُ: [ الكامِلُ ](p-٥٤٢)
؎مِثْلُ النَّهارِ يَزِيدُ أبْصارَ الوَرْي نُورًا ويُعْمِي أعْيُنَ الخُفّاشِ
قالَ أحْمَدُ: ومَن يَأْكُلُ الخُشّافَ ؟، وسُئِلَ عَنِ الخُطّافِ، فَقالَ: لا أدْرِي، وقالَ النَّخَعِيُّ: أكْلُ الطَّيْرِ حَلالٌ إلّا الخُفّاشَ، وإنَّما حُرِّمَتْ هَذِهِ لِأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ لا تَأْكُلُها العَرَبُ. اهـ، مِن ”المُغْنِي“ . والخُشّافُ هو الخُفّاشُ، وقَدْ قَدَّمْنا عَنْ مالِكٍ وأصْحابِهِ جَوازَ أكْلِ جَمِيعِ أنْواعِ الطَّيْرِ، واسْتَثْنى بَعْضُهم مِن ذَلِكَ الوَطْواطَ.
وَفِي البَبَّغا، والطّاوُسِ وجْهانِ لِلشّافِعِيَّةِ: قالَ البَغَوِيِّ وغَيْرُهُ: وأصَحُّهُما التَّحْرِيمُ.
وَفِي العَنْدَلِيبِ، والحُمْرَةِ لَهم أيْضًا وجْهانِ: والصَّحِيحُ إباحَتُهُما، وقالَ أبُو عاصِمٍ العَبّادِيُّ: يَحْرُمُ مُلاعِبُ ظِلِّهِ، وهو طائِرٌ يَسْبَحُ في الجَوِّ مِرارًا كَأنَّهُ يَنْصَبُّ عَلى طائِرٍ، وقالَ أبُو عاصِمٍ أيْضًا: والبُومُ حَرامٌ كالرَّخَمِ، قالَ: والضُّوَعُ، بِضَمِّ الضّادِ المُعْجَمَةِ وفَتْحِ الواوِ وبِالعَيْنِ المُهْمَلَةِ، حَرامٌ عَلى أصَحِّ القَوْلَيْنِ، قالَ الرّافِعِيُّ: هَذا يَقْتَضِي أنَّ الضُّوَعَ غَيْرُ البُومِ، قالَ: لَكِنْ في ”صِحاحِ الجَوْهَرِيِّ“ أنَّ الضُّوَعَ طائِرٌ مِن طَيْرِ اللَّيْلِ مِن جِنْسِ الهامِّ، وقالَ المُفَضَّلُ: هو ذَكَرُ البُومِ، قالَ الرّافِعِيُّ: فَعَلى هَذا إنْ كانَ في الضُّوَعِ قَوْلٌ لَزِمَ إجْراؤُهُ في البُومِ؛ لِأنَّ الذَّكَرَ والأُنْثى مِنَ الجِنْسِ الواحِدِ لا يَفْتَرِقانِ، قالَهُ النَّوَوِيُّ: ثُمَّ قالَ: قُلْتُ: الأشْهَرُ أنَّ الضُّوَعَ مِن جِنْسِ الهامِّ؛ فَلا يَلْزَمُ اشْتِراكُهُما في الحُكْمِ.
وَأمّا حَشَراتُ الطَّيْرِ، كالنَّحْلِ، والزَّنابِيرِ، والذُّبابِ، والبَعُوضِ، ونَحْوِ ذَلِكَ: فَأكْلُها حَرامٌ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وأكْثَرِ العُلَماءِ؛ لِأنَّها مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ .
وَمِن ذَلِكَ الجَلّالَةُ: وهي الَّتِي تَأْكُلُ النَّجِسَ، وأصْلُها الَّتِي تَلْتَقِطُ الجِلَّةَ بِتَثْلِيثِ الجِيمِ: وهي البَعْرُ، والمُرادُ بِها عِنْدَ العُلَماءِ: الَّتِي تَأْكُلُ النَّجاساتِ مِنَ الطَّيْرِ والدَّوابِّ.
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الإمامِ مالِكٍ: جَوازُ أكْلِ لَحْمِ الجَلّالَةِ مُطْلَقًا، أمّا لَبَنُها وبَوْلُها فَنَجِسانِ في مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ، ما دامَ النَّجِسُ باقِيًا في جَوْفِها، ويَطْهُرُ لَبَنُها وبَوْلُها عِنْدَهُ إنْ أمْسَكَتْ عَنْ أكْلِ النَّجِسِ، وعُلِفَتْ عَلَفًا طاهِرًا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ فِيها عَدَمُ بَقاءِ شَيْءٍ في جَوْفِها مِنَ الفَضَلاتِ النَّجِسَةِ، وكَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ لَحْمَ الجَلّالَةِ ولَبَنَها، وحُجَّتُهم حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنْ ألْبانِ الجَلّالَةِ»، قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ صَحِيحٌ، رَواهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ بِأسانِيدَ صَحِيحَةٍ، قالَ التِّرْمِذِيُّ: هو حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. اهـ.
(p-٥٤٣)وَقالَ النَّوَوِيُّ في حَدِّ الجَلّالَةِ: والصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّهُ لا اعْتِبارَ بِالكَثْرَةِ، وإنَّما الِاعْتِبارُ بِالرّائِحَةِ والنَّتْنِ، فَإنْ وُجِدَ في عَرَقِها وغَيْرِهِ رِيحُ النَّجاسَةِ فَجَلّالَةٌ، وإلّا فَلا. وأكْلُ لَحْمِ الجَلّالَةِ وشُرْبُ لَبَنِها مَكْرُوهٌ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ، والصَّحِيحُ عِنْدَهم أنَّها كَراهَةُ تَنْزِيهٍ، وقِيلَ: كَراهَةُ تَحْرِيمٍ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: قالَ أحْمَدُ: أكْرَهُ لُحُومَ الجَلّالَةِ وألْبانَها، قالَ القاضِي في المُجَرَّدِ: هي الَّتِي تَأْكُلُ القَذَرَ، فَإذا كانَ أكْثَرُ عَلَفِها النَّجاسَةَ حُرِّمَ لَحْمُها ولَبَنُها.
وَفِي بَيْضِها رِوايَتانِ: وإنْ كانَ أكْثَرُ عَلَفِها الطّاهِرَ لَمْ يَحْرُمْ أكْلُها ولا لَبَنُها، وتَحْدِيدُ الجَلّالَةِ يَكُونُ أكْثَرُ عَلَفِها النَّجاسَةَ لَمْ نَسْمَعْهُ عَنْ أحْمَدَ، ولا هو ظاهِرُ كَلامِهِ، لَكِنْ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ بِما يَكُونُ كَثِيرًا في مَأْكُولِها ويُعْفى عَنِ اليَسِيرِ، وقالَ اللَّيْثُ: إنَّما كانُوا يَكْرَهُونَ الجَلّالَةَ الَّتِي لا طَعامَ لَها إلّا الرَّجِيعَ وما أشْبَهَهُ، وقالَ ابْنُ أبِي مُوسى في الجَلّالَةِ رِوايَتانِ:
إحْداهُما: أنَّها مُحَرَّمَةٌ.
والثّانِيَةُ: أنَّها مَكْرُوهَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وكَرِهَ أبُو حَنِيفَةَ لُحُومَها، والعَمَلُ عَلَيْها حَتّى تُحْبَسَ، ورَخَّصَ الحَسَنُ في لُحُومِها وألْبانِها؛ لِأنَّ الحَيَواناتِ لا تَتَنَجَّسُ بِأكْلِ النَّجاساتِ؛ بِدَلِيلِ أنَّ شارِبَ الخَمْرِ لا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِ أعْضائِهِ، والكافِرُ الَّذِي يَأْكُلُ الخِنْزِيرَ والمُحَرَّماتِ لا يَكُونُ ظاهِرُهُ نَجِسًا، ولَوْ نَجِسَ لَما طَهُرَ بِالإسْلامِ، ولا الِاغْتِسالِ، ولَوْ نَجِسَتِ الجَلّالَةُ لَما طَهُرَتْ بِالحَبْسِ. اهـ.
والظّاهِرُ كَراهَةُ رُكُوبِ الجَلّالَةِ، وهو مَكْرُوهٌ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وعُمَرَ، وابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا كَراهَةُ رُكُوبِ الجَلّالَةِ، أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ.
والسَّخْلَةُ المُرَبّاةُ بِلَبَنِ الكَلْبَةِ حُكْمُها حُكْمُ الجَلّالَةِ فِيما يَظْهَرُ، فَيَجْرِي فِيها ما جَرى فِيها، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَمِن ذَلِكَ الزُّرُوعُ والثِّمارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجاساتِ، أوْ سُمِّدَتْ بِها، فَأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّها طاهِرَةٌ، وأنَّ ذَلِكَ لا يُنَجِّسُها، ومِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأصْحابُهُما، خِلافًا لِلْإمامِ أحْمَدَ، وقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: وتَحْرُمُ الزُّرُوعُ والثِّمارُ الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجاساتِ، أوْ سُمِّدَتْ بِها، وقالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُحْتَمَلُ أنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ ولا يَحْرُمَ، ولا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِها؛ لِأنَّ النَّجاسَةَ تَسْتَحِيلُ في باطِنِها فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحالَةِ، كالدَّمِ يَسْتَحِيلُ في أعْضاءِ (p-٥٤٤)الحَيَوانِ لَحْمًا، ويَصِيرُ لَبَنًا، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ الفُقَهاءِ، مِنهم أبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وكانَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ يَدْمُلُ أرْضَهُ بِالعَرَّةِ ويَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرٍّ، والعَرَّةُ: عَذِرَةُ النّاسِ، ولَنا ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كُنّا نُكْرِي أراضِيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ونَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ ألّا يَدْمُلُوها بِعَذِرَةِ النّاسِ، ولِأنَّها تَتَغَذّى بِالنَّجاساتِ، وتَتَرَقّى فِيها أجْزاؤُها، والِاسْتِحالَةُ لا تُطَهِّرُ، فَعَلى هَذا تُطَهَّرُ إذا سُقِيَتِ الطّاهِراتِ، كالجَلّالَةِ إذا حُبِسَتْ وأُطْعِمَتِ الطّاهِراتِ. اهـ، مِنَ المُغْنِي بِلَفْظِهِ.
{"ayah":"قُل لَّاۤ أَجِدُ فِی مَاۤ أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمࣲ یَطۡعَمُهُۥۤ إِلَّاۤ أَن یَكُونَ مَیۡتَةً أَوۡ دَمࣰا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِیرࣲ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَیۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغࣲ وَلَا عَادࣲ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق