الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ الآيَةَ، أشارَ في مَواضِعَ أُخَرَ إلى أنَّ نَفْيَ الإدْراكِ المَذْكُورِ هُنا لا يَقْتَضِي نَفْيَ مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ، • كَقَوْلِهِ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦]، والحُسْنى الجَنَّةُ، والزِّيادَةُ النَّظَرُ إلى وجْهِ اللَّهِ الكَرِيمِ، • وقَوْلِهِ: ﴿كَلّا إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]، يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ المُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ، وهو كَذَلِكَ. ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ الآيَةَ. هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُوهِمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُرى بِالأبْصارِ، وقَدْ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُرى بِالأبْصارِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣]، وكَقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦]، فالحُسْنى: الجَنَّةُ، والزِّيادَةُ: النَّظَرُ إلى وجْهِ اللَّهِ الكَرِيمِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَهم ما يَشاءُونَ فِيها ولَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ [ق: ٣٥]، عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ، وكَقَوْلِهِ تَعالى في الكُفّارِ: ﴿كَلّا إنَّهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ (p-٢٨٠)[المطففين: ١٥]، يُفْهَمُ مِن دَلِيلِ خِطابِهِ أنَّ المُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْ رَبِّهِمْ. والجَوابُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ أيْ في الدُّنْيا فَلا يُنافِي الرُّؤْيَةَ في الآخِرَةِ. الثّانِي: أنَّهُ عامٌّ مَخْصُوصٌ بِرُؤْيَةِ المُؤْمِنِينَ لَهُ في الآخِرَةِ، وهَذا قَرِيبٌ في المَعْنى مِنَ الأوَّلِ. الثّالِثُ: وهو الحَقُّ، أنَّ المَنفِيَّ في هَذِهِ الآيَةِ الإدْراكُ المُشْعِرُ بِالإحاطَةِ بِالكُنْهِ، أمّا مُطْلَقُ الرُّؤْيَةِ فَلا تَدُلُّ الآيَةُ عَلى نَفْيِهِ بَلْ هو ثابِتٌ بِهَذِهِ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ والأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ واتِّفاقِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ عَلى ذَلِكَ. وَحاصِلٌ هَذا الجَوابِ: أنَّ الإدْراكَ أخَصُّ مِن مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ لِأنَّ الإدْراكَ المُرادُ بِهِ الإحاطَةُ، والعَرَبُ تَقُولُ: رَأيْتُ الشَّيْءَ وما أدْرَكْتُهُ، فَمَعْنى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ لا تُحِيطُ بِهِ، كَما أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُهُ الخَلْقُ ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. وَقَدِ اتَّفَقَ العُقَلاءُ عَلى أنَّ نَفْيَ الأخَصِّ لا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الأعَمِّ، فانْتِفاءُ الإدْراكِ لا يَلْزَمُ مِنهُ انْتِفاءُ مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ، مَعَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُدْرِكُ كُنْهَهُ عَلى الحَقِيقَةِ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ. والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا الوَجْهِ ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ مِن حَدِيثِ أبِي مُوسى مَرْفُوعًا: «حِجابُهُ النُّورُ أوِ النّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ» . فالحَدِيثُ صَرِيحٌ في عَدَمِ الرُّؤْيَةِ في الدُّنْيا، ويُفْهَمُ مِنهُ عَدَمُ إمْكانِ الإحاطَةِ مُطْلَقًا. والحاصِلُ: أنَّ رُؤْيَتَهُ تَعالى بِالأبْصارِ جائِزَةٌ عَقْلًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ لِأنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَجُوزُ أنْ يُرى عَقْلًا، ويَدُلَّ لِجَوازِها عَقْلًا قَوْلُ مُوسى: ﴿رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]، لِأنَّهُ لا يَجْهَلُ الجائِزَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى عَقْلًا. وَأمّا في الشَّرْعِ فَهي جائِزَةٌ وواقِعَةٌ في الآخِرَةِ مُمْتَنِعَةٌ في الدُّنْيا ومِن أصْرَحِ الأدِلَّةِ في ذَلِكَ ما رَواهُ مُسْلِمٌ وابْنُ خُزَيْمَةَ مَرْفُوعًا: «إنَّكم لَنْ تَرَوْا رَبَّكم حَتّى تَمُوتُوا» والأحادِيثُ بِرُؤْيَةِ المُؤْمِنِينَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ مُتَواتِرَةٌ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب