الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ .
اللِينَةُ هُنا، قِيلَ: اسْمٌ عامٌّ لِلنَّخْلِ، وهَذا اخْتِيارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقِيلَ: نَوْعٌ خاصٌّ مِنهُ، وهو ما عَدا البَرْنِيَّ والعَجْوَةَ فَقَطْ.
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أهْلِ البَصْرَةِ يَقُولُ: اللِّينَةُ مِنَ اللَّوْنِ، وقالَ: وإنَّما سُمِّيَتْ لِينَةً؛ لِأنَّها فِعْلَةٌ مِن فَعَلَ وهو اللَّوْنُ، وهو ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ، ولَكِنْ لَمّا انْكَسَرَ ما قَبْلَها انْقَلَبَتْ إلى ياءٍ إلَخْ، وهَذا الأخِيرُ قَرِيبٌ مِمّا عَلَيْهِ أهْلُ المَدِينَةِ اليَوْمَ، حَيْثُ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ: لُونَةٍ عَلى ما لا يَعْرِفُونَ لَهُ اسْمًا خاصًّا، ولَعَلَّ كَلِمَةَ لُونَةٍ مُحَرَّفَةٌ عَنْ كَلِمَةِ لِينَةٍ، ويُوجَدُ عِنْدَ أهْلِ المَدِينَةِ مِن أنْواعِ النَّخِيلِ ما يَقْرُبُ مِن سَبْعِينَ نَوْعًا.
وَقِيلَ: إنَّ اللِينَةَ كُلُّ شَجَرَةٍ لِلُيُونَتِها بِالحَياةِ.
وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في تَقْطِيعِ وتَحْرِيقِ بَعْضِ النَّخِيلِ لِبَنِي النَّضِيرِ عِنْدَ حِصارِهِمْ وقَطَعَ مِنَ البُسْتانِ المَعْرُوفِ بِالبُوَيْرَةِ، كَما رَوى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ صاحِبَيِ الصَّحِيحَيْنِ، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وقَطَعَ، وهي البُوَيْرَةُ فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ» .
وَقالَ حَسّانٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
؎وَهانَ عَلى سَراةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
والبُوَيْرَةُ مَعْرُوفَةٌ اليَوْمَ، وهي بُسْتانٌ يَقَعُ في الجَنُوبِ الغَرْبِيِّ مِن مَسْجِدِ قُباءٍ.
(p-٢٩)وَقِيلَ في سَبَبِ نُزُولِها: إنَّ اليَهُودَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ إنَّكَ تَنْهى عَنِ الفَسادِ، فَما بالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الأشْجارِ ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ.
وَقِيلَ: إنَّ المُسْلِمِينَ نَهى بَعْضُهم بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ، وقالُوا: إنَّما هو مَغانِمُ المُسْلِمِينَ فَنَزَلَ القُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَن نَهى عَنْ قَطْعِهِ، وتَحْلِيلِ مَن قَطَعَ مِنَ الإثْمِ، وأنَّ قَطْعَ ما قُطِعَ وتَرْكَ ما تُرِكَ: ﴿فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ .
وَعَلى هَذِهِ الأقْوالِ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ وغَيْرُهُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ: الإذْنُ القَدَرِيُّ والمَشِيئَةُ الإلَهِيَّةُ، أيْ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما أصابَكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٦٦]، وقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ﴾ [آل عمران: ١٥٢] .
والَّذِي يَظْهَرُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - أنَّ الإذْنَ المَذْكُورَ في الآيَةِ هو إذْنٌ شَرْعِيٌّ، وهو ما يُؤْخَذُ مِن عُمُومِ الإذْنِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنَّهم ظُلِمُوا وإنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩]؛ لِأنَّ الإذْنَ بِالقِتالِ إذْنٌ بِكُلِّ ما يَتَطَلَّبُهُ بِناءً عَلى قاعِدَةِ: الأمْرُ بِالشَّيْءِ أمْرٌ بِهِ وبِما لا يَتِمُّ إلّا بِهِ.
والحِصارُ نَوْعٌ مِنَ القِتالِ، ولَعَلَّ مِن مَصْلَحَةِ الحِصارِ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ لِتَمامِ الرُّؤْيَةِ، أوْ لِإحْكامِ الحِصارِ، أوْ لِإذْلالِ وإرْهابِ العَدُوِّ في حِصارِهِ وإشْعارِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ حِمايَةِ أمْوالِهِ، ومُمْتَلَكاتِهِ، وقَدْ يَكُونُ فِيهِ إثارَةٌ لَهُ؛ لِيَنْدَفِعَ في حَمِيَّةٍ لِلدِّفاعِ عَنْ مُمْتَلَكاتِهِ وأمْوالِهِ، فَيَنْكَشِفَ عَنْ حُصُونِهِ ويَسْهُلَ القَضاءُ عَلَيْهِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأغْراضِ الحَرْبِيَّةِ، والَّتِي أشارَ اللَّهُ تَعالى إلَيْها في قَوْلِهِ: ﴿وَلِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ﴾ أيْ: بِعَجْزِهِمْ وإذْلالِهِمْ وحَسْرَتِهِمْ، وهم يَرَوْنَ نَخِيلَهم يُقْطَعُ، ويُحْرَقُ فَلا يَمْلِكُونَ لَهُ دَفْعًا.
وَعَلى كُلٍّ فالَّذِي أذِنَ بِالقِتالِ وهو سَفْكُ الدِّماءِ، وإزْهاقُ الأنْفُسِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن سَبْيٍ وغَنائِمَ لا يَمْنَعُ في مِثْلِ قَطْعِ النَّخِيلِ إنْ لَزِمَ الأمْرُ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ ما أذِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَبِإذْنِ اللَّهِ أذِنَ.
وَبِهَذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إذا حاصَرَ المُسْلِمُونَ عَدُوًّا، ورَأوْا أنَّ مِن مَصْلَحَتِهِمْ أوْ مِن مَذَلَّةِ العَدُوِّ إتْلافَ مُنْشَآتِهِ وأمْوالِهِ، فَلا مانِعَ مِن ذَلِكَ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَغايَةُ ما فِيهِ، أنَّهُ إتْلافُ بَعْضِ المالِ لِلتَّغَلُّبِ عَلى العَدُوِّ وأخْذِ جَمِيعِ مالِهِ، وهَذا لَهُ (p-٣٠)نَظِيرٌ في الشَّرْعِ، كَعَمَلِ الخِضْرِ في سَفِينَةِ المَساكِينَ لَمّا خَرَقَها، أيْ أعابَها بِإتْلافِ بَعْضِها؛ لِيَسْتَخْلِصَها مِنِ اغْتِصابِ المَلِكِ إيّاها، وقالَ: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢] .
وَقَدْ جاءَ اعْتِراضُ المُشْرِكِينَ عَلى المُسْلِمِينَ في قِتالِهِمْ في الأشْهُرِ الحُرُمِ، كَما اعْتَرَضَ اليَهُودُ عَلى المُسْلِمِينَ في قَطْعِ النَّخِيلِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾ [البقرة: ٢١٧] .
فَقَدْ تَعاظَمَ المُشْرِكُونَ قَتْلَ المُسْلِمِينَ لِبَعْضِ المُشْرِكِينَ في وقْعَةِ نَخْلَةٍ، ولَمْ يَتَحَقَّقُوا دُخُولَ الشَّهْرِ الحَرامِ، واتَّهَمُوهم بِاعْتِداءٍ عَلى حُرْمَةِ الأشْهُرِ الحُرُمِ، فَأجابَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِمُوجِبِ ما قالُوا بِأنَّ القِتالَ في الشَّهْرِ الحَرامِ كَبِيرٌ، ولَكِنْ ما ارْتَكَبَهُ المُشْرِكُونَ مِن صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٍ بِاللَّهِ، وصَدٍّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجِ أهْلِهِ مِنهُ وهُمُ المُسْلِمُونَ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، والفِتْنَةُ عَنِ الدِّينِ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ، أيْ: الَّذِي اسْتَنْكَرُوهُ مِنَ المُسْلِمِينَ.
وَهَكَذا هُنا لَئِنْ تَعاظَمَ اليَهُودُ عَلى المُسْلِمِينَ قَطْعَ بَعْضِ النَّخِيلِ، وعابُوا عَلى المُسْلِمِينَ إيقاعَ الفَسادِ بِإتْلافِ بَعْضِ المالِ فَكَيْفَ بِهِمْ بِغَدْرِهِمْ وخِيانَتِهِمْ نَقْضِهِمِ العُهُودَ، وتَمالُئِهِمْ عَلى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ وقَدْ سَجَّلَ هَذا المَعْنى كَعْبُ بْنُ مالِكٍ يَذْكُرُ إجْلاءَ بَنِي النَّضِيرِ، وقَتْلَ ابْنِ الأشْرَفِ:
؎لَقَدْ خَزِيَتْ بِغَدْرَتِها الحُبُورُ ∗∗∗ كَذاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ
؎وَذَلِكَ أنَّهم كَفَرُوا بِرَبٍّ ∗∗∗ عَظِيمٍ أمْرُهُ أمْرٌ كَبِيرٌ
؎وَقَدْ أُوتُوا مَعًا فَهْمًا وعِلْمًا ∗∗∗ وجاءَهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذِيرُ
إلى أنْ قالَ:
؎فَلَمّا أُشْرِبُوا غَدْرًا وكُفْرًا ∗∗∗ وحادَ بِهِمْ عَنِ الحَقِّ النُّفُورُ
؎أرى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأْيِ صِدْقٍ ∗∗∗ وكانَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا يَجُورُ
؎فَأيَّدَهُ وسَلَّطَهُ عَلَيْهِمُ ∗∗∗ وكانَ نَصِيرَهُ نِعْمَ النَّصِيرُ
فَقَدْ أشارَ إلى أنَّ خِزْيَ بَنِي النَّضِيرِ بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ وكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَكانَ الإذْنُ في قَطْعِ النَّخِيلِ هو إذْنٌ شَرْعِيٌّ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ عَنْهُ هو عَمَلٌ تَشْرِيعِيٌّ إذا ما دَعَتِ الحاجَةُ، لِمِثْلِ ما دَعَتِ الحاجَّةُ هَنا إلَيْهِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّینَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَاۤىِٕمَةً عَلَىٰۤ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِیُخۡزِیَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











