الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ مِن دِيارِهِمْ﴾ . أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ أنَّها في بَنِي النَّضِيرِ، إلّا قَوْلًا لِلْحَسَنِ أنَّها في بَنِي قُرَيْظَةَ، ورُدَّ هَذا القَوْلُ بِأنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَخْرُجُوا، ولَمْ يُجْلَوْا ولَكِنْ قُتِلُوا. وَقَدْ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِسُورَةِ ”بَنِي النَّضِيرِ“، حَكاهُ القُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبّاسٍ: سُورَةُ ”الحَشْرِ“ قالَ: قُلْ سُورَةُ ”النَّضِيرِ“، وهم رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ مِن ذُرِّيَّةِ هارُونَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - نَزَلُوا المَدِينَةَ في فِتَنِ بَنِي إسْرائِيلَ انْتِظارًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ . واتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ بَنِي النَّضِيرِ كانُوا قَدْ صالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى أنْ لا يَكُونُوا عَلَيْهِ ولا لَهُ، فَلَمّا ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ قالُوا: هو النَّبِيُّ الَّذِي نَعْتُهُ في التَّوْراةِ، لا تُرَدُّ لَهُ رايَةٌ، فَلَمّا هُزِمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ارْتابُوا ونَكَثُوا، فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ في أرْبَعِينَ راكِبًا إلى مَكَّةَ، فَحالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الكَعْبَةِ، فَأخْبَرَ جِبْرِيلُ الرَّسُولَ - ﷺ بِذَلِكَ - فَأمَرَ (p-١٣)بِقَتْلِ كَعْبٍ، فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ غِيلَةً، وكانَ أخاهُ مِنَ الرَّضاعَةِ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدِ اطَّلَعَ مِنهم عَلى خِيانَةٍ حِينَ أتاهم في دِيَةِ المُسْلِمَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُما عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ مُنْصَرَفَهُ مِن بِئْرِ مَعُونَةَ، فَهَمُّوا بِطَرْحِ الحَجَرِ عَلَيْهِ ﷺ فَعَصَمَهُ اللَّهُ تَعالى. وَلَمّا قُتِلَ كَعْبٌ أمَرَ ﷺ بِالمَسِيرَةِ إلَيْهِمْ، وطالَبَهم بِالخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ، فاسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أيّامٍ؛ لِيَتَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ، ولَكِنْ أرْسَلَ إلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ سِرًّا: لا تَخْرُجُوا مِنَ الحِصْنِ، ووَعَدَهم بِنَصْرِهِمْ بِألْفَيْ مُقاتِلٍ مِن قَوْمِهِ، ومُساعَدَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وحُلَفائِهِمْ مِن غَطَفانَ، أوِ الخُرُوجِ مَعَهم، فَدَرَّبُوا أنْفُسَهم، وامْتَنَعُوا بِالتَّحْصِيناتِ الدّاخِلِيَّةِ، فَحاصَرَهم ﷺ إحْدى وعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَقِيلَ: أجْمَعُوا عَلى الغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا لَهُ: اخْرُجْ في ثَلاثِينَ مِن أصْحابِكِ، ويَخْرُجُ إلَيْكَ ثَلاثُونَ مِنّا؛ لِيَسْمَعُوا مِنكَ، فَإنْ صَدَّقُوا آمَنّا كُلُّنا فَفَعَلَ، فَقالُوا: كَيْفَ نَفْهَمُ ونَحْنُ سِتُّونَ ؟ اخْرُجْ في ثَلاثَةٍ، ويَخْرُجُ إلَيْكَ ثَلاثَةٌ مِن عُلَمائِنا فَفَعَلُوا فاشْتَمَلُوا عَلى الخَناجِرِ، وأرادُوا الفَتْكَ فَأرْسَلَتِ امْرَأةٌ مِنهم ناصِحَةٌ إلى أخِيها، وكانَ مُسْلِمًا فَأخْبَرَتْهُ بِما أرادُوا، فَأسْرَعَ إلى الرَّسُولِ ﷺ، فَسارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أنْ يَصِلَ ﷺ إلَيْهِمْ، فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ غَدا عَلَيْهِمْ بِالكَتائِبِ فَحاصَرَهم إحْدى وعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَذَفَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وآيَسُوا مِن نَصْرِ المُنافِقِينَ الَّذِي وعَدَهم بِهِ ابْنُ أُبَيٍّ، فَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَأبى عَلَيْهِمْ ﷺ إلّا الجَلاءَ، عَلى أنْ يَحْمِلَ كُلُّ أهْلِ ثَلاثَةِ أبْياتٍ عَلى بَعِيرٍ ما شاءُوا مِنَ المَتاعِ إلّا الحَلْقَةَ، فَكانُوا يَحْمِلُونَ كُلَّ ما اسْتَطاعُوا ولَوْ أبْوابَ المَنازِلِ، يُخَرِّبُونَ بُيُوتَهم ويَحْمِلُونَ ما اسْتَطاعُوا مَعَهم. وَقَدْ أوْرَدْنا مُجْمَلَ هَذِهِ القِصَّةِ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأنَّ عَلَيْها تَدُورُ مَعانِي هَذِهِ السُّورَةِ كُلُّها، وكَما قالَ الإمامُ أبُو العَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رِسالَةِ أُصُولِ التَّفْسِيرِ: إنَّ مَعْرِفَةَ السَّبَبِ تُعِينُ عَلى مَعْرِفَةِ التَّفْسِيرِ، ولِيَعْلَمَ المُسْلِمُونَ مَدى ما جُبِلَ عَلَيْهِ اليَهُودُ مِن غَدْرٍ، وما سَلَكُوا مِن أسالِيبِ المُراوَغَةِ فَما أشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالبارِحَةِ. والَّذِي مِن مَنهَجِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأضْواءِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ مِن دِيارِهِمْ﴾، حَيْثُ أسْنَدَ إخْراجَهم إلى اللَّهِ تَعالى مَعَ وُجُودِ حِصارِ المُسْلِمِينَ إيّاهم. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا﴾ (p-١٤)[الأحزاب: ٢٥]، قالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - عِنْدَها: ذَكَرَ جَلَّ وعَلا أنَّهُ ﴿قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا﴾ الآيَةَ، ولَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ الَّذِي رَدَّهم بِهِ، ولَكِنَّهُ جَلَّ وعَلا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ [الأحزاب: ٩] ا هـ. وَهُنا أيْضًا في هَذِهِ الآيَةِ أسْنَدَ إخْراجَهم إلَيْهِ تَعالى مَعَ حِصارِ المُسْلِمِينَ إيّاهم، وقَدْ بَيَّنَ تَعالى السَّبَبَ الحَقِيقِيَّ لِإخْراجِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾، وهَذا مِن أهَمِّ أسْبابِ إخْراجِهِمْ؛ لِأنَّهم في مَوْقِفِ القُوَّةِ وراءَ الحُصُونِ، لَمْ يَتَوَقَّعِ المُؤْمِنُونَ خُرُوجَهم، وظَنُّوا هم أنَّهم مانِعَتُهم حُصُونُهم مِنَ اللَّهِ، فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَدْ كانَ هَذا الإخْراجُ مِنَ اللَّهِ إيّاهم بِوَعْدٍ سابِقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما هم في شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٣٧] . وَبِهَذا الإخْراجِ تَحَقَّقَ كِفايَةُ اللَّهِ لِرَسُولِهِ ﷺ مِنهم، فَقَدْ كَفاهُ إيّاهم بِإخْراجِهِمْ مِن دِيارِهِمْ، فَكانَ إخْراجُهم حَقًّا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وبِوَعْدٍ مُسْبَقٍ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ ﷺ . وَقَدْ أكَّدَ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى مُخاطِبًا لِلْمُسْلِمِينَ في خُصُوصِهِمْ: ﴿فَما أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ ولا رِكابٍ ولَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَن يَشاءُ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: ٦] وتَسْلِيطُ الرَّسُولِ ﷺ هو بِما بَيَّنَ ﷺ في قَوْلِهِ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» وهو ما يَتَمَشّى مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الأحزاب: ٢٦] . وَجُمْلَةُ هَذا السِّياقِ هُنا يَتَّفِقُ مَعَ السِّياقِ في سُورَةِ الأحْزابِ عَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ سَواءً بِسَواءٍ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهم مِن أهْلِ الكِتابِ مِن صَياصِيهِمْ وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ ﴿وَأوْرَثَكم أرْضَهم ودِيارَهم وأمْوالَهُمْ﴾ [الأحزاب: ٢٦ - ٢٧]، وعَلَيْهِ ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ إسْنادِ إخْراجِهِمْ لِلَّهِ تَعالى، ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ كَما أنَّهُ هو تَعالى الَّذِي رَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا، بِما أرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّياحِ، والجُنُودِ، وهو الَّذِي كَفى المُؤْمِنِينَ القِتالَ، وهو تَعالى الَّذِي أنْزَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِن صَياصِيهِمْ، ووَرَّثَ المُؤْمِنِينَ دِيارَهم وأمْوالَهم، وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا. وَرَشَّحَ لِهَذا كُلِّهِ التَّذْيِيلُ في آخِرِ الآيَةِ، يَطْلُبُ الِاعْتِبارَ والِاتِّعاظَ بِما فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ: (p-١٥)﴿يا أُولِي الأبْصارِ﴾ [الحشر: ٢]، أيْ: بِإخْراجِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن حُصُونِهِمْ، ودِيارِهِمْ ومَواطِنِ قُوَّتِهِمْ، ما ظَنَنْتُمْ أنْ يَخْرُجُوا؛ لِضَعْفِ اقْتِدارِكم، ﴿وَظَنُّوا أنَّهم مانِعَتُهم حُصُونُهُمْ﴾ لِقُوَّتِها ومَنَعَتِها، ولَكِنْ أتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا البَقاءَ، وكانَتْ حَقِيقَةُ إخْراجِهِمْ مِن دِيارِهِمْ هي مِنَ اللَّهِ تَعالى. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِأوَّلِ الحَشْرِ﴾ . اخْتُلِفَ في مَعْنى الحَشْرِ في هَذِهِ الآيَةِ، وبِناءً عَلَيْهِ اخْتُلِفَ في مَعْنى الأوَّلِ. فَقِيلَ: المُرادُ بِالحَشْرِ أرْضُ المَحْشَرِ، وهي الشّامُ. وَقِيلَ المُرادُ بِالحَشْرِ: الجَمْعُ. واسْتَدَلَّ القائِلُونَ بِالأوَّلِ بِآثارٍ مِنها: ما رَواهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: مَن شَكَّ في أنَّ أرْضَ المَحْشَرِ هاهُنا يَعْنِي الشّامَ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ مِن دِيارِهِمْ لِأوَّلِ الحَشْرِ﴾، وما رَواهُ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ عَنْ عِكْرِمَةَ أيْضًا، والزُّهْرِيِّ، وساقَ «قَوْلَهَ ﷺ أنَّهُ قالَ لِبَنِيِ النَّضِيرِ: ”اخْرُجُوا“، قالُوا: إلى أيْنَ ؟ قالَ: ”إلى أرْضِ المَحْشَرِ»“، وعَلى هَذا تَكُونُ الأوَّلِيَّةُ هُنا مَكانِيَّةً، أيْ: لِأوَّلِ مَكانٍ مِن أرْضِ المَحْشَرِ، وهي أرْضُ الشّامِ، وأوائِلُهُ خَيْبَرُ وأذْرِعاتٌ. وَقِيلَ: إنَّ الحَشْرَ عَلى مَعْناهُ اللُّغَوِيِّ وهو الجَمْعُ، قالَ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ المُحِيطِ: الحَشْرُ الجَمْعُ لِلتَّوَجُّهِ إلى ناحِيَةٍ ما، ومِن هَذا المَعْنى قِيلَ: الحَشْرُ هو حَشْدُ الرَّسُولِ ﷺ الكَتائِبَ؛ لِقِتالِهِمْ، وهو أوَّلُ حَشْرٍ مِنهُ لَهم وأوَّلُ قِتالٍ قاتَلَهم، وعَلَيْهِ فَتَكُونُ الأوَّلِيَّةُ زَمانِيَّةً وتَقْتَضِي حَشْرًا بَعْدَهُ، فَقِيلَ: هو حَشْرُ عُمَرَ إيّاهم بِخَيْبَرَ، وقِيلَ: نارٌ تَسُوقُ النّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وهو حَدِيثٌ في الصَّحِيحِ، وقِيلَ: البَعْثُ. إلّا أنَّ هَذِهِ المَعانِيَ أعَمُّ مِن مَحَلِّ الخِلافِ؛ لِأنَّ النّارَ المَذْكُورَةَ، والبَعْثَ لَيْسَتا خاصَّتَيْنِ بِاليَهُودِ، ولا بِبَنِي النَّضِيرِ خاصَّةً، ومِمّا أشارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الِاسْتِدْلالَ عَلى أحَدِ المَعانِي بِكَوْنِهِ هو الغالِبَ في القُرْآنِ، ومَثَّلَ لَهُ في المُقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١]، فَقَدْ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: بِأنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الغَلَبَةِ: الغَلَبَةُ بِالحُجَّةِ والبَيانِ، والغالِبُ في القُرْآنِ اسْتِعْمالُ الغَلَبَةِ بِالسَّيْفِ والسِّنانِ، وذَلِكَ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى دُخُولِ تِلْكَ الغَلَبَةِ في الآيَةِ؛ لِأنَّ خَيْرَ ما يُبَيَّنُ بِهِ القُرْآنُ القُرْآنُ. (p-١٦)وَهُنا في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّ غَلَبَةَ اسْتِعْمالِ القُرْآنِ بَلْ عُمُومَ اسْتِعْمالِهِ في الحَشْرِ إنَّما هو لِلْجَمْعِ، ثُمَّ بَيَّنَ المُرادَ بِالحَشْرِ لِأيِّ شَيْءٍ مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والطَّيْرِ﴾ [النمل: ١٧]، وقَوْلُهُ: ﴿وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ [الأنعام: ١١١]، وقَوْلُهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ داوُدَ: ﴿والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أوّابٌ﴾ [ص: ١٩]، وقَوْلُهُ تَعالى عَنْ فِرْعَوْنَ: ﴿قالَ مَوْعِدُكم يَوْمُ الزِّينَةِ وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٩]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا أرْجِهْ وأخاهُ وأرْسِلْ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ [الأعراف: ١١١]، وقَوْلُهُ: ﴿فَحَشَرَ فَنادى﴾ [النازعات: ٢٣]، فَكُلُّها بِمَعْنى الجَمْعِ. وَإذا اسْتُعْمِلَ بِمَعْنى يَوْمِ القِيامَةِ فَإنَّهُ يَأْتِي مَقْرُونًا بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وهو جَمِيعُ اسْتِعْمالاتِ القُرْآنِ لِهَذا، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَتَرى الأرْضَ بارِزَةً وحَشَرْناهُمْ﴾ [الكهف: ٤٧]، وذَلِكَ في يَوْمِ القِيامَةِ؛ لِبُرُوزِ الأرْضِ، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلى الرَّحْمَنِ وفْدًا﴾ [مريم: ٨٥]، وذَلِكَ في يَوْمِ القِيامَةِ لِتَقْيِيدِهِ بِاليَوْمِ، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢]، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: ٥]، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللَّهِ إلى النّارِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ [فصلت: ١٩]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا هو مُقَيَّدٌ بِما يُعَيِّنُ المُرادَ بِالحَشْرِ، وهو يَوْمُ القِيامَةِ. فَإذا أُطْلِقَ كانَ لِمُجَرَّدِ الجَمْعِ كَما في الأمْثِلَةِ المُتَقَدِّمَةِ، وعَلَيْهِ فَيَكُونُ المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِأوَّلِ الحَشْرِ﴾، أنَّ الرّاجِحَ فِيهِ لِأوَّلِ الجَمْعِ، وتَكُونُ الأوَّلِيَّةُ زَمانِيَّةً وفِعْلًا، فَقَدْ كانَ أوَّلُ جَمْعٍ لِلْيَهُودِ، وقَدْ أعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ لِإخْوانِهِمْ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ عامٍ واحِدٍ، وأعْقَبَهُ جَمْعٌ آخَرُ في خَيْبَرَ، وقَدْ قَدَّمْنا رَبْطَ إخْراجِ بَنِي النَّضِيرِ مِن دِيارِهِمْ بِإنْزالِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِن صَياصِيهِمْ، وهَكَذا رَبَطَ جَمْعَ هَؤُلاءِ بِأُولَئِكَ إلّا أنَّ هَؤُلاءِ أُجْلُوا وأُخْرِجُوا، وأُولَئِكَ قُتِلُوا واسْتُرِقُّوا. * تَنْبِيهٌ وَكَوْنُ الحَشْرِ بِمَعْنى الجَمْعِ لا يَتَنافى مَعَ كَوْنِ خُرُوجِهِمْ كانَ إلى أوائِلِ الشّامِ؛ لِأنَّ الغَرَضَ الأوَّلَ هو جَمْعُهم لِلْخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إلى الشّامِ أوْ إلى غَيْرِها. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ العُلَماءِ عَلى أنَّ تَوَجُّهَهم كانَ إلى الشّامِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: (p-١٧)﴿ياأيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقًا لِما مَعَكم مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها أوْ نَلْعَنَهم كَما لَعَنّا أصْحابَ السَّبْتِ وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [النساء: ٤٧]؛ لِأنَّ السِّياقَ في أهْلِ الكِتابِ، والتَّعْرِيضَ بِأصْحابِ السَّبْتِ ألْصَقُ بِهِمْ. فَقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: الوُجُوهُ هُنا هي سُكْناهم بِالمَدِينَةِ، وطَمْسُها تَغَيُّرُ مَعالِمِها، ورَدُّهم عَلى أدْبارِهِمْ، أيْ: إلى بِلادِ الشّامِ الَّتِي جاءُوا مِنها أوَّلًا حِينَما خَرَجُوا مِنَ الشّامِ إلى المَدِينَةِ، انْتِظارًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ، حَكاهُ أبُو حَيّانَ وحَسَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ . أتى: تَأْتِي لِعِدَّةِ مَعانٍ، مِنها بِمَعْنى المَجِيءِ، ومِنها بِمَعْنى الإنْذارِ، ومِنها بِمَعْنى المُداهَمَةِ. وَقَدْ تَوَهَّمَ الرّازِيُّ أنَّها مِن بابِ الصِّفاتِ، فَقالَ: المَسْألَةُ الثّانِيَةُ قَوْلُهُ: فَأتاهُمُ اللَّهُ، لا يُمْكِنُ إجْراؤُهُ عَلى ظاهِرِهِ بِاتِّفاقِ جُمْهُورِ العُقَلاءِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ بابَ التَّأْوِيلِ مَفْتُوحٌ، وأنَّ صَرْفَ الآياتِ عَنْ ظَواهِرِها بِمُقْتَضى الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ جائِزٌ. ا هـ. وَهَذا مِنهُ عَلى مَبْدَئِهِ في تَأْوِيلِ آياتِ الصِّفاتِ، ويَكْفِي لِرَدِّهِ أنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى مُقْتَضى الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ العَقْلَ لا مَدْخَلَ لَهُ في بابِ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّها فَوْقَ مُسْتَوَياتِ العُقُولِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا سُبْحانَهُ وتَعالى. أمّا مَعْنى الآيَةِ فَإنَّ سِياقَ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى أنَّ مِثْلَ هَذا السِّياقِ لَيْسَ مِن بابِ الصِّفاتِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهم مِنَ القَواعِدِ﴾ [النحل: ٢٦]، أيْ هَدَمَهُ واقْتَلَعَهُ مِنَ قَواعِدِهِ، ونَظِيرِهِ: ﴿أتاها أمْرُنا لَيْلًا أوْ نَهارًا﴾ [يونس: ٢٤]، • وقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها﴾ [الرعد: ٤١]، • وقَوْلِهِ ﴿أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها﴾ [الأنبياء: ٤٤] . وَفِي الحَدِيثِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في العَدْوى: أنِّي قُلْتُ أُتِيتَ أيْ دُهِيتَ، وتَغَيَّرَ عَلَيْكَ حِسُّكُ فَتَوَهَّمْتَ ما لَيْسَ بِصَحِيحٍ صَحِيحًا. وَيُقالُ: أُتِيَ فُلانٌ بِضَمِّ الهَمْزَةِ وكَسْرِ التّاءِ إذا أظَلَّ عَلَيْهِ العَدُّوُ، ومِنهُ قَوْلُهم: مِن مَأْمَنِهِ (p-١٨)يُؤْتى الحَذِرُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾، أخَذَهم ودَهاهم وباغَتَهم مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا مِن قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ وحِصارِهِمْ، وقَذْفِ الرُّعْبِ في قُلُوبِهِمْ. وَهُناكَ مَوْقِفٌ آخَرُ في سُورَةِ البَقَرَةِ يُؤَيِّدُ ما ذَكَرْناهُ هُنا، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فاعْفُوا واصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٩] . فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾ وهو في سِياقِ أهْلِ الكِتابِ، وهم بِذاتِهِمِ الَّذِينَ قالَ فِيهِمْ: ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ﴾ فَيَكُونُ فَأتاهُمُ اللَّهُ هُنا هو إتْيانُ أمْرِهِ تَعالى المَوْعُودِ في بادِئِ الأمْرِ عِنْدَ الأمْرِ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ. وَقَدْ أوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في أهْلِ الكِتابِ كَما هو واضِحٌ مِنَ السِّياقِ، وقالَ: والأمْرُ في قَوْلِهِ: بِأمْرِهِ، قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: هو واحِدُ الأوامِرِ، وقالَ بَعْضُهم: هو واحِدُ الأُمُورِ. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ بِأنَّهُ الأمْرُ الَّذِي هو ضِدُّ النَّهْيِ فَإنَّ الأمْرَ المَذْكُورَ، هو المُصَرَّحُ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] . وَعَلى القَوْلِ بِأنَّ واحِدَ الأُمُورِ، فَهو ما صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ في الآياتِ الدّالَّةِ عَلى ما أوْقَعَ بِاليَهُودِ مِنَ القَتْلِ، والتَّشْرِيدِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهم بِأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤْمِنِينَ فاعْتَبِرُوا ياأُولِي الأبْصارِ﴾ ﴿وَلَوْلا أنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ﴾ الآيَةَ [الحشر: ٢ - ٣]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، والآيَةُ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ عَلى التَّحْقِيقِ. ا هـ [ مِنَ الجُزْءِ الأوَّلِ مِنَ الأضْواءِ ] . فَقَدْ نَصَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلى أنَّ آيَةَ: ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾ مُرْتَبِطَةٌ بِآيَةِ: ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾، هَذِهِ كَما قَدَّمْنا: أنَّ هَذا هو الأمْرُ المَوْعُودُ بِهِ، وقَدْ أتاهم بِهِ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، ويَشْهَدُ لِهَذا كُلِّهِ القِراءَةُ الثّانِيَةُ (فَآتاهم) بِالمَدِّ بِمَعْنى: أعْطاهم وأنْزَلَ بِهِمْ، ويَكُونُ الفِعْلُ مُتَعَدِّيًا والمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (p-١٩)﴿مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ أيْ: أنْزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةً وذِلَّةً ومَهانَةً جاءَتْهم مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ . مَنطُوقُهُ أنَّ الرُّعْبَ سَبَبٌ مِن أسْبابِ هَزِيمَةِ اليَهُودِ، ومَفْهُومُ المُخالَفَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَكْسَ بِالعَكْسِ أيْ: أنَّ الطُّمَأْنِينَةَ وهي ضِدُّ الرُّعْبِ، سَبَبٌ مِن أسْبابِ النَّصْرِ، وهو ضِدُّ الهَزِيمَةِ. وَقَدْ جاءَ ذَلِكَ المَفْهُومُ مُصَرَّحًا بِهِ في آياتٍ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى، مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهم فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: ١٨]، ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكم كَثْرَتُكم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكم شَيْئًا وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٠٢٦] ﴿ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ وأنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْها وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذَلِكَ جَزاءُ الكافِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥ - ٢٦]، فَقَدْ ولَّوْا مُدْبِرِينَ بِالهَزِيمَةِ، ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ، وأنْزَلَ جُنُودًا مِنَ المَلائِكَةِ فَكانَ النَّصْرُ لَهم، وهَزِيمَةُ أعْدائِهِمِ المُشارُ إلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: ٢٥] أيْ: بِالقَتْلِ، والسَّبْيِ في ذَلِكَ اليَوْمِ. وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٤٠] . وَهَذا المَوْقِفُ آيَةٌ مِن آياتِ اللَّهِ، اثْنانِ أعْزَلانِ يَتَحَدَّيانِ قُرَيْشًا بِكامِلِها، بِعَدَدِها وعُدَدِها، فَيَخْرُجانِ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ، ويَدْخُلانِ الغارَ في سُدْفَةِ اللَّيْلِ، ويَأْتِي الطَّلَبُ عَلى فَمِ الغارِ بِقُلُوبٍ حانِقَةٍ، وسُيُوفٍ مُصْلَتَةٍ، وآذانٍ مُرْهَفَةٍ حَتّى يَقُولَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَظَرَ أحَدُهم تَحْتَ نَعْلَيْهِ لَأبْصَرَنا، فَيَقُولُ ﷺ وهو في غايَةِ الطُّمَأْنِينَةِ، ومُنْتَهى السَّكِينَةِ: «”ما بالُكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما“ ؟» . وَمِنها: وفي أخْطَرِ المَواقِفِ في الإسْلامِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ، حِينَما التَقى الحَقُّ بِالباطِلِ وجْهًا لِوَجْهٍ، جاءَتْ قُوى الشَّرِّ في خُيَلائِها وبَطَرِها وأشْرِها، وأمامَها جُنْدُ اللَّهِ في تَواضُعِهِمْ (p-٢٠)وَإيمانِهِمْ، وضَراعَتِهِمْ إلى اللَّهِ: ﴿فاسْتَجابَ لَكم أنِّي مُمِدُّكم بِألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وما جَعَلَهُ اللَّهُ إلّا بُشْرى ولِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكم وما النَّصْرُ إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أمَنَةً مِنهُ ويُنَزِّلُ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكم بِهِ ويُذْهِبَ عَنْكم رِجْزَ الشَّيْطانِ ولِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكم ويُثَبِّتَ بِهِ الأقْدامَ﴾ [الأنفال: ٩ - ١١] . فَما جَعَلَ اللَّهُ الإمْدادَ بِالمَلائِكَةِ إلّا؛ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُهم، وما غَشّاهُمُ النُّعاسَ إلّا أمَنَةً مِنهُ، وتَمَّ كُلُّ ذَلِكَ بِما رَبَطَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَقاوَمُوا بِقِلَّتِهِمْ قُوى الشَّرِّ عَلى كَثْرَتِهِمْ، وتَمَّ النَّصْرُ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِمَدَدٍ مِنَ اللَّهِ، كَما رَبَطَ عَلى قُلُوبِ أهْلِ الكَهْفِ: ﴿وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] . هَذِهِ آثارُ الطُّمَأْنِينَةِ والسَّكِينَةِ والرَّبْطِ عَلى القُلُوبِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِ المُخالَفَةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهم بِأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤْمِنِينَ﴾، وقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعالى الأمْرَيْنِ المَنطُوقَ والمَفْهُومَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ أنِّي مَعَكم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: ١٢]، فَنَصَّ عَلى الطُّمَأْنِينَةِ بِالتَّثْبِيتِ في قَوْلِهِ: ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ونَصَّ عَلى الرُّعْبِ في قَوْلِهِ: ﴿سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ فَكانَتِ الطُّمَأْنِينَةُ تَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، والرُّعْبُ زَلْزَلَةً لِلْكافِرِينَ. وَقَدْ جاءَ في الحَدِيثِ أنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا أمَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِالتَّوَجُّهِ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ، قالَ: ”إنِّي مُتَقَدِّمُكم؛ لِأُزَلْزِلَ بِهِمُ الأقْدامَ“، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أسْبابِ هَذِهِ الطُّمَأْنِينَةِ في هَذِهِ المَواقِفِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿وَأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكم واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٥، ٤٦] . فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى أرْبَعَةَ أسْبابٍ لِلطُّمَأْنِينَةِ: الأُولى: الثَّباتُ، وقَدْ دَلَّ عَلَيْها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤] . (p-٢١)والثّانِيَةُ: ذِكْرُ اللَّهِ كَثِيرًا، وقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨] . والثّالِثَةُ: طاعَةُ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ويَدُلُّ لَها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأيْتَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأوْلى لَهُمْ﴾ ﴿طاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [محمد: ٢٠ - ٢١] . والرّابِعَةُ: عَدَمُ التَّنازُلِ والِاعْتِصامُ والأُلْفَةُ، ويَدُلُّ عَلَيْها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣] . وَمِن ذِكْرِ أسْبابِ الهَزِيمَةِ مِن رُعْبِ القُلُوبِ، وأسْبابِ النَّصْرِ مِنَ السَّكِينَةِ والطُّمَأْنِينَةِ، تَعْلَمُ مَدى تَأْثِيرِ الدَّعاياتِ في الآوِنَةِ الأخِيرَةِ، وما سُمِّيَ بِالحَرْبِ البارِدَةِ مِن كَلامٍ وإرْجافٍ مِمّا يَنْبَغِي الحَذَرُ مِنهُ أشَدُّ الحَذَرِ، وقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ تَعالى مِنهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكم والقائِلِينَ لِإخْوانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنا ولا يَأْتُونَ البَأْسَ إلّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: ١٨]، وقَدْ حَذَّرَ تَعالى مِنَ السَّماعِ لِهَؤُلاءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا ولَأوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكم سَمّاعُونَ لَهم واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ [التوبة: ٤٧] . وَلَمّا اشْتَدَّ الأمْرُ عَلى المُسْلِمِينَ في غَزْوَةِ الأحْزابِ، وبَلَغَ الرَّسُولَ ﷺ أنَّ اليَهُودَ نَقَضُوا عَهْدَهم أرْسَلَ إلَيْهِمْ ﷺ مَن يَسْتَطْلِعُ خَبَرَهم، وأوْصاهم إنْ هم رَأوْا غَدْرًا ألّا يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ، وأنْ يَلْحَنُوا لَهُ لَحْنًا حِفاظًا عَلى طُمَأْنِينَةِ المُسْلِمِينَ، وإبْعادًا لِلْإرْجافِ في صُفُوفِهِمْ. كَما بَيَّنَ تَعالى أثَرَ الدِّعايَةِ الحَسَنَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأعِدُّوا لَهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ ومِن رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وقَدْ كانَ بِالفِعْلِ لِخُرُوجِ جَيْشِ أُسامَةَ بَعْدَ انْتِقالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى الرَّفِيقِ الأعْلى، وعِنْدَ تَرَبُّصِ الأعْرابِ كانَ لَهُ الأثَرُ الكَبِيرُ في إحْباطِ نَوايا المُتَرَبِّصِينَ بِالمُسْلِمِينَ، وقالُوا: ما أنْفَذُوا هَذا البَعْثَ إلّا وعِنْدَهُمُ الجُيُوشُ الكافِيَةُ، والقُوَّةُ اللّازِمَةُ. وَما أجْراهُ اللَّهُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ مِن هَذا القَبِيلِ أكْبَرُ دَلِيلٍ عَمَلِيٍّ، إذْ يُقَلِّلُ كُلَّ فَرِيقٍ في أعْيُنِ الآخَرِينَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ قَلِيلًا ولَوْ أراكَهم كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ولَتَنازَعْتُمْ في الأمْرِ ولَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿وَإذْ يُرِيكُمُوهم إذِ التَقَيْتُمْ في أعْيُنِكم قَلِيلًا ويُقَلِّلُكم في أعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمْرًا كانَ مَفْعُولًا وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ (p-٢٢)[الأنفال: ٤٣ - ٤٤]، وهَذا كُلُّهُ مِمّا يَنْبَغِي الِاسْتِفادَةُ مِنهُ اليَوْمَ عَلى العَدُوِّ في قَضِيَّةِ الإسْلامِ والمُسْلِمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب