الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ﴾ ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ﴾ .
(p-٤٣٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذاتِ الحُبُكِ﴾ فِيهِ لِلْعُلَماءِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ لا يُكَذِّبُ بَعْضُها بَعْضًا، فَذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، إلى أنَّ الحُبُكَ جُمَعُ حَبِيكَةٍ أوْ حِباكٍ، وعَلَيْهِ فالمَعْنى ذاتُ الحُبُكِ أيْ ذاتُ الطَّرائِقِ، فَما يَبْدُو عَلى سَطْحِ الماءِ السّاكِنِ أوِ الرَّمْلِ مِنَ الطَّرائِقِ إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ هو الحُبُكُ، وهو جَمْعُ حَبِيكَةٍ أوْ حِباكٍ، قالُوا: ولِبُعْدِ السَّماءِ لا تُرى طَرائِقُها المُعَبَّرُ عَنْها بِالحُبُكِ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ زُهَيْرٍ:
؎مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ رِيحٌ خَرِيقٌ بِضاحِي مِائَةٍ حُبُكِ
وَقَوْلُ الرّاجِزِ:
؎كَأنَّما جَلَّلَها الحُوّاكُ ∗∗∗ طَنْفَسَةٌ في وشْيِها حِباكُ
وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ هَذا القَوْلُ الكَلْبِيُّ والضَّحّاكُ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: ”ذاتِ الحُبُكِ“ أيْ ذاتِ الخَلْقِ الحَسَنِ المُحْكَمِ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ - ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ.
وَهَذا الوَجْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقًا ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئًا وهو حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٣ - ٤]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَعَلى هَذا القَوْلِ فالحُبُكُ مَصْدَرٌ، لِأنَّ كُلَّ عَمَلٍ أتْقَنَهُ عامِلُهُ وأحْسَنَ صُنْعَهُ، تَقُولُ فِيهِ العَرَبُ: حَبَكَهُ حَبْكًا بِالفَتْحِ عَلى القِياسِ. والحُبُكُ بِضَمَّتَيْنِ بِمَعْناهُ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ذاتُ الحُبُكِ: أيِ الزِّينَةِ.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والحَسَنُ، وعَلى هَذا القَوْلِ فالآيَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ﴾ [الملك: ٥]، وقَدْ قَدَّمْنا الآياتِ المُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ في ”ق“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السَّماءِ فَوْقَهم كَيْفَ بَنَيْناها وزَيَّنّاها﴾ [ق: ٦] .
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ذاتُ الحُبُكِ أيْ ذاتُ الشِّدَّةِ، وهَذا القَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَبَنَيْنا فَوْقَكم سَبْعًا شِدادًا﴾ [النبإ: ١٢] .
(p-٤٣٨)والعَرَبُ تُسَمِّي شِدَّةَ الخَلْقِ حَبْكًا، ومِنهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ الشَّدِيدِ الخَلْقِ: مَحْبُوكٌ.
وَمِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎قَدْ غَدا يَحْمِلُنِي في أنْفِهِ ∗∗∗ لاحِقُ الإطْلَيْنِ مَحْبُوكٌ مُمَرٍّ
والآيَةُ تَشْمَلُ الجَمِيعَ، فَكُلُّ الأقْوالِ حَقٌّ، والمُقْسَمُ عَلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكم لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾، أيْ إنَّكم أيُّها الكُفّارُ لَفي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في شَأْنِ النَّبِيِّ ﷺ وشَأْنِ القُرْآنِ، لِأنَّ بَعْضَهم يَقُولُ: هو شِعْرٌ، وبَعْضُهم يَقُولُ: سِحْرٌ، وبَعْضُهم يَقُولُ: كِهانَةٌ، وبَعْضُهم يَقُولُ: أساطِيرُ الأوَّلِينَ، وقَوْلُ مَن قالَ في قَوْلِ مُخْتَلِفٍ أيْ لِأنَّ بَعْضَهم مُصَدِّقٌ، وبَعْضُهم مُكَذِّبٌ - خِلافُ التَّحْقِيقِ.
وَيَدُلُّ عَلى أنَّ الِاخْتِلافَ إنَّما هو بَيْنَ المُكَذِّبِينَ دُونَ المُصَدِّقِينَ - قَوْلُهُ تَعالى في ق: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهم فَهم في أمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق: ٥]، أيْ مُخْتَلِطٍ، وقالَ بَعْضُهم: مُخْتَلِفٍ، والمَعْنى واحِدٌ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ﴾ أظْهَرُ الأقْوالِ فِيهِ عِنْدِي ولا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ في نَظَرِي، أنَّ لَفْظَةَ ”عَنْ“ في الآيَةِ سَبَبِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ﴾ [هود: ٥٣]، أيْ بِسَبَبِ قَوْلِكَ، ومِن أجْلِهِ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ بِـ ”عَنْ“ راجِعٌ إلى القَوْلِ المُخْتَلِفِ، والمَعْنى: ”يُؤْفَكُ“ أيْ يُصْرَفُ عَنِ الإيمانِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ. ”عَنْهُ“ أيْ عَنْ ذَلِكَ القَوْلِ المُخْتَلِفِ أيْ بِسَبَبِهِ. ”مَن أُفِكَ“ أيْ مَن سَبَقَتْ لَهُ الشَّقاوَةُ في الأزَلِ، فَحُرِمَ الهُدى وأُفِكَ عَنْهُ، لِأنَّ هَذا القَوْلَ المُخْتَلِفَ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا ويُناقِضُهُ.
وَمِن أوْضَحِ الأدِلَّةِ عَلى كَذِبِ القَوْلِ وبُطْلانِهِ اخْتِلافُهُ وتَناقُضُهُ كَما لا يَخْفى، فَهَذا القَوْلُ المُخْتَلِفُ الَّذِي يُحاوِلُ كُفّارُ مَكَّةَ أنْ يَصُدُّوا بِهِ النّاسَ عَنِ الإسْلامِ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بَعْضُهم: إنَّ الرَّسُولَ ساحِرٌ، وبَعْضُهم يَقُولُ شاعِرٌ، وبَعْضُهم يَقُولُ: كَذّابٌ - ظاهِرُ البُطْلانِ لِتَناقُضِهِ وتَكْذِيبِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ، فَلا يُصْرَفُ عَنِ الإسْلامِ بِسَبَبِهِ إلّا مَن صُرِفَ، أيْ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنِ الحَقِّ لِشَقاوَتِهِ في الأزَلِ فَمَن لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ في سابِقِ عِلْمِ اللَّهِ الشَّقاوَةُ والكُفْرُ لا يَصْرِفُهُ عَنِ الحَقِّ قَوْلٌ ظاهِرُ الكَذِبِ والبُطْلانِ لِتَناقُضِهِ.
وَهَذا المَعْنى جاءَ مُوَضَّحًا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنَّكم وما تَعْبُدُونَ﴾ ﴿ما أنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ﴾ ﴿إلّا مَن هو صالِي الجَحِيمِ﴾ [الصافات: ١٦١ - ١٦٣] .
(p-٤٣٩)وَمَعْنى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ دِينَ الكُفّارِ، الَّذِي هو الشِّرْكُ بِاللَّهِ وعِبادَةُ الأوْثانِ، مَعَ حِرْصِهِمْ عَلى صَدِّ النّاسِ عَنْ دِينِ الإسْلامِ إلَيْهِ ”ما هم بِفاتِنَيْنِ“ أيْ لَيْسُوا بِمُضِلِّينَ عَلَيْهِ أحَدًا لِظُهُورِ فَسادِهِ وبُطْلانِهِ ”إلّا مَن هو صالِ الجَحِيمِ“ أيْ إلّا مَن قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقاوَةَ وأنَّهُ مِن أهْلِ النّارِ في سابِقِ عِلْمِهِ، هَذا هو الظّاهِرُ لَنا في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
وَأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ﴾ راجِعٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ أوِ القُرْآنِ، أيْ يُصْرَفُ عَنِ الإيمانِ بِالنَّبِيِّ أوِ القُرْآنِ، مَن أُفِكَ أيْ صُرِفَ عَنِ الحَقِّ، وحُرِمَ الهُدى لِشِدَّةِ ظُهُورِ الحَقِّ في صِدْقِ النَّبِيِّ ﷺ وأنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، وهَذا خِلافُ ظاهِرِ السِّياقِ كَما تَرى.
وَقَوْلُ مَن قالَ: يُؤْفَكُ عَنْهُ، أيْ يُصْرَفُ عَنِ القَوْلِ المُخْتَلِفِ الباطِلِ مَن أُفِكَ، أيْ مَن صُرِفَ عَنِ الباطِلِ إلى الحَقِّ لا يَخْفى بُعْدُهُ وسُقُوطُهُ.
والَّذِينَ قالُوا هَذا القَوْلَ يَزْعُمُونَ أنَّ الإفْكَ يُطْلَقُ عَلى الصَّرْفِ عَنِ الحَقِّ إلى الباطِلِ، وعَنِ الباطِلِ إلى الحَقِّ، ويُبْعِدُ هَذا أنَّ القُرْآنَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ الإفْكُ مُرادٌ بِهِ إلّا الصَّرْفُ عَنِ الخَيْرِ إلى الشَّرِّ دُونَ عَكْسِهِ.
{"ayah":"وَٱلسَّمَاۤءِ ذَاتِ ٱلۡحُبُكِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











