الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .
اخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾، فَقالَ بَعْضُهُمُ: المَعْنى ما خَلَقْتُهم إلّا لِيَعْبُدَنِي السُّعَداءُ مِنهم ويَعْصِيَنِي الأشْقِياءُ، فالحِكْمَةُ المَقْصُودَةُ مِن إيجادِ الخَلْقِ الَّتِي هي عِبادَةُ اللَّهِ حاصِلَةٌ بِفِعْلِ السُّعَداءِ مِنهم كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]، وهَذا القَوْلُ نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ وسُفْيانَ.
وَغايَةُ ما يَلْزَمُ عَلى هَذا القَوْلِ أنَّهُ أطْلَقَ فِيها المَجْمُوعَ وأرادَ بَعْضَهم.
وَأمْثالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ، ومِن أوْضَحِها قِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ: ”فَإنْ قَتَلُوكم فاقْتُلُوهم“، مِنَ القَتْلِ لا مِنَ القِتالِ، وقَدْ بَيَّنّا هَذا في مَواضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، وذَكَرْنا أنَّ مِن شَواهِدِهِ العَرَبِيَّةِ قَوْلَ الشّاعِرِ:
؎فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وقَدْ ضَرَبُوا بِهِ نَبا مِن يَدَيْ ورْقاءَ عَنْ رَأْسِ خالِدٍ
فَتَراهُ نَسَبَ الضَّرْبَ لِبَنِي عَبْسٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ أنَّ الضّارِبَ الَّذِي نَبا بِيَدِهِ السَّيْفُ عَنْ رَأْسِ خالِدٍ يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ الكِلابِيِّ، هو ورْقاءُ يَعْنِي ابْنَ زُهَيْرٍ العَبْسِيِّ.
وَقَدْ قَدَّمْنا في الحُجُراتِ أنَّ مِن ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قالَتِ الأعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ [الحجرات: ١٤٧]، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ الأعْرابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ٩٩] .
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾: أيْ ”إلّا لِيُقِرُّوا لِي بِالعُبُودِيَّةِ طَوْعًا (p-٤٤٥)أوْ كَرْهًا“، لِأنَّ المُؤْمِنَ يُطِيعُ بِاخْتِيارِهِ والكافِرَ مُذْعِنٌ مُنْقادٌ لِقَضاءِ رَبِّهِ جَبْرًا عَلَيْهِ، وهَذا القَوْلُ رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ واخْتارَهُ، ويَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا﴾ [الرعد: ١٥]، والسُّجُودُ والعِبادَةُ كِلاهُما خُضُوعٌ وتَذَلُّلٌ لِلَّهِ - جَلَّ وعَلا - وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ بَعْضَهم يَفْعَلُ ذَلِكَ طَوْعًا وبَعْضَهم يَفْعَلُهُ كَرْهًا.
وَعَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾: أيٌّ إلّا لِيَعْرِفُونِي. واسْتَدَلَّ بَعْضُهم لِهَذا القَوْلِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ، وقَدْ أوْضَحْنا كَثْرَتَهُ فِيهِ في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] .
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: وهو مَرْوِيٌّ عَنْ مُجاهِدٍ أيْضًا مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾: أيْ إلّا لِآمُرُهم بِعِبادَتِي فَيَعْبُدُنِي مَن وفَّقْتُهُ مِنهم لِعِبادَتِي دُونَ غَيْرِهِ، وعَلى هَذا القَوْلِ: فَإرادَةُ عِبادَتِهِمُ المَدْلُولُ عَلَيْها بِاللّامِ في قَوْلِهِ: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ - إرادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وهي المُلازِمَةُ لِلْأمْرِ، وهي عامَّةٌ لِجَمِيعِ مَن أمَرَتْهُمُ الرُّسُلُ لِطاعَةِ اللَّهِ، لا إرادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، لِأنَّها لَوْ كانَتْ كَذَلِكَ لَعَبَدَهُ جَمِيعُ الإنْسِ والجِنِّ، والواقِعُ خِلافُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ ﴿وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: التَّحْقِيقُ - إنْ شاءَ اللَّهُ - في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾، أيْ إلّا لِآمُرُهم بِعِبادَتِي وأبْتَلِيهِمْ أيْ أخْتَبِرُهم بِالتَّكالِيفِ، ثُمَّ أُجازِيهِمْ عَلى أعْمالِهِمْ، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وإنَّما قُلْنا إنَّ هَذا هو التَّحْقِيقُ في مَعْنى الآيَةِ، لِأنَّهُ تَدُلُّ عَلَيْهِ آياتٌ مُحْكَماتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ، فَقَدْ صَرَّحَ تَعالى في آياتٍ مِن كِتابِهِ أنَّهُ خَلَقَهم لِيَبْتَلِيَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا، وأنَّهُ خَلَقَهم لِيَجْزِيَهم بِأعْمالِهِمْ.
قالَ تَعالى في أوَّلِ سُورَةِ هُودٍ: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ [هود: ٧]، ثُمَّ بَيَّنَ الحِكْمَةَ في ذَلِكَ فَقالَ: ﴿لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: ٧] .
(p-٤٤٦)وَقالَ تَعالى في أوَّلِ سُورَةِ المُلْكِ: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢] .
وَقالَ تَعالى في أوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ: ﴿إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧] .
فَتَصْرِيحُهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآياتِ المَذْكُورَةِ بِأنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِ لِلْخَلْقِ، هي ابْتِلاؤُهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا، يُفَسِّرُ قَوْلَهُ: ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ . وخَيْرُ ما يُفَسَّرُ بِهِ القُرْآنُ - القُرْآنُ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ نَتِيجَةَ العَمَلِ المَقْصُودِ مِنهُ لا تَتِمُّ إلّا بِجَزاءِ المُحْسِنِ بِإحْسانِهِ والمُسِيءِ بِإساءَتِهِ، ولِذا صَرَّحَ تَعالى بِأنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِمْ أوَّلًا وبَعْثِهِمْ ثانِيًا، هو جَزاءُ المُحْسِنِ بِإحْسانِهِ والمُسِيءِ بِإساءَتِهِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى في أوَّلِ يُونُسَ: ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: ٤]، وقَوْلُهُ في النَّجْمِ: ﴿وَلِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءُوا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾ [النجم: ٣١] .
وَقَدْ أنْكَرَ تَعالى عَلى الإنْسانِ حُسْبانَهُ وظَنَّهُ أنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى، أيْ مُهْمَلًا، لَمْ يُؤْمَرْ ولَمْ يُنْهَ، وبَيَّنَ أنَّهُ ما نَقَلَهُ مِن طَوْرٍ إلى طَوْرٍ حَتّى أوْجَدَهُ إلّا لِيَبْعَثَهُ بَعْدَ المَوْتِ أيْ ويُجازِيَهُ عَلى عَمَلِهِ، قالَ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٣٦ - ٤٠] .
والبَراهِينُ عَلى البَعْثِ دالَّةٌ عَلى الجَزاءِ، وقَدْ نَزَّهَ تَعالى نَفْسَهُ عَنْ هَذا الظَّنِّ الَّذِي ظَنَّهُ الكُفّارُ بِهِ تَعالى، وهو أنَّهُ لا يَبْعَثُ الخَلْقَ ولا يُجازِيهِمْ مُنْكِرًا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: ١١٥ - ١١٦] .
وَقَدْ قَدَّمْنا الآياتِ المُوَضِّحَةَ لِهَذا في أوَّلِ سُورَةِ الأحْقافِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الأحقاف: ٣] .
* * *
تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أنَّ الآياتِ الدّالَّةَ عَلى حِكْمَةِ خَلْقِ اللَّهِ لِلسَّماواتِ والأرْضِ وأهْلِهِما وما بَيْنَهُما (p-٤٤٧)قَدْ يَظُنُّ غَيْرُ المُتَأمِّلِ أنَّ بَيْنَهُما اخْتِلافًا، والواقِعُ خِلافُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ كَلامَ اللَّهِ لا يُخالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وإيضاحُ ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى ذَكَرَ في بَعْضِ الآياتِ أنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِ لِلسَّماواتِ والأرْضِ هي إعْلامُ خَلْقِهِ بِأنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وأنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى في آخِرِ الطَّلاقِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢] .
وَذَكَرَ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن كِتابِهِ أنَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ لِيُبَيِّنَ لِلنّاسِ كَوْنَهُ هو المَعْبُودُ وحْدَهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣]، ثُمَّ أقامَ البُرْهانَ عَلى أنَّهُ إلَهٌ واحِدٌ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤]، ولَمّا قالَ: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١]، بَيَّنَ أنَّ خَلْقَهم بُرْهانٌ عَلى أنَّهُ المَعْبُودُ وحْدَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: ﴿الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢١] .
والِاسْتِدْلالُ عَلى أنَّ المَعْبُودَ واحِدٌ بِكَوْنِهِ هو الخالِقُ - كَثِيرٌ جِدًّا في القُرْآنِ، وقَدْ أوْضَحْنا الآياتِ الدّالَّةَ عَلَيْهِ في أوَّلِ سُورَةِ الفُرْقانِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا﴾ الآيَةَ [الفرقان: ٢ - ٣]، وفي سُورَةِ الرَّعْدِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الآيَةَ [الرعد: ١٦]، وفي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَواضِعِ.
وَذَكَرَ في بَعْضِ الآياتِ أنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لِيَبْتَلِيَ النّاسَ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٧] .
وَذَكَرَ في بَعْضِ الآياتِ أنَّهُ خَلَقَهم لِيَجْزِيَهم بِأعْمالِهِمْ وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ الآيَةَ [يونس: ٤]، وذَكَرَ في آيَةِ الذّارِياتِ هَذِهِ أنَّهُ ما خَلَقَ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُوهُ، فَقَدْ يَظُنُّ غَيْرُ العالِمِ أنَّ بَيْنَ هَذِهِ الآياتِ اخْتِلافًا مَعَ أنَّها لا اخْتِلافَ بَيْنِها، لِأنَّ الحُكْمَ المَذْكُورَ فِيها كُلِّها راجِعٌ إلى شَيْءٍ واحِدٍ، وهو مَعْرِفَةُ اللَّهِ وطاعَتُهُ ومَعْرِفَةُ وعْدِهِ ووَعِيدِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الطلاق: ١٢]، (p-٤٤٨)وَقَوْلُهُ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] راجِعٌ إلى شَيْءٍ واحِدٍ هو العِلْمُ بِاللَّهِ، لِأنَّ مَن عَرَفَ اللَّهَ أطاعَهُ ووَحَّدَهُ.
وَهَذا العِلْمُ يُعَلِّمُهُمُ اللَّهُ إيّاهُ ويُرْسِلُ لَهُمُ الرُّسُلَ بِمُقْتَضاهُ لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، ويَحْيا مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، فالتَّكْلِيفُ بَعْدَ العِلْمِ، والجَزاءُ بَعْدَ التَّكْلِيفِ، فَظَهَرَ بِهَذا اتِّفاقُ الآياتِ لِأنَّ الجَزاءَ لا بُدَّ لَهُ مِن تَكْلِيفٍ، وهو الِابْتِلاءُ المَذْكُورُ في الآياتِ والتَّكْلِيفُ لا بُدَّ لَهُ مِن عِلْمٍ، ولِذا دَلَّ بَعْضُ الآياتِ عَلى أنَّ حِكْمَةَ الخَلْقِ لِلْمَخْلُوقاتِ هي العِلْمُ بِالخالِقِ، ودَلَّ بَعْضُها عَلى أنَّها الِابْتِلاءُ، ودَلَّ بَعْضُها عَلى أنَّها الجَزاءُ، وكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لا اخْتِلافَ فِيهِ، وبَعْضُهُ مُرَتَّبٌ عَلى بَعْضٍ.
وَقَدْ بَيَّنّا مَعْنى ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ في كِتابِنا ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ في سُورَةِ هُودٍ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: ١١٩]، وبَيَّنّا هُناكَ أنَّ الإرادَةَ المَدْلُولَ عَلَيْها بِاللّامِ في قَوْلِهِ: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ أيْ ولِأجْلِ الِاخْتِلافِ إلى شَقِيٍّ وسَعِيدٍ خَلَقَهم، وفي قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ [الأعراف: ١٧٩] إرادَةٌ كَوْنِيَّةٌ قَدَرِيَّةٌ، وأنَّ الإرادَةَ المَدْلُولَ عَلَيْها بِاللّامِ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾، إرادَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ.
وَبَيَّنّا هُناكَ أيْضًا الأحادِيثَ الدّالَّةَ عَلى أنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ مُنْقَسِمًا إلى شَقِيٍّ وسَعِيدٍ، وأنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وقَدَّرَهُ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَهم، وقالَ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم فَمِنكم كافِرٌ ومِنكم مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢]،: وقالَ: ﴿فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧] .
والحاصِلُ: أنَّ اللَّهَ دَعا جَمِيعَ النّاسِ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ إلى الإيمانِ بِهِ وعِبادَتِهِ وحْدَهُ وأمَرَهم بِذَلِكَ، وأمْرُهُ بِذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإرادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعَلا - يَهْدِي مَن يَشاءُ مِنهم ويُضِلُّ مَن يَشاءُ بِإرادَتِهِ الكَوْنِيَّةِ القَدَرِيَّةِ فَيَصِيرُونَ إلى ما سَبَقَ بِهِ العِلْمُ مِن شَقاوَةٍ وسَعادَةٍ، وبِهَذا تَعْلَمُ وجْهَ الجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ . وقَوْلِهِ: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وإنَّما ذَكَرْنا أنَّ الإرادَةَ قَدْ تَكُونُ دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً، وهي مُلازِمَةٌ لِلْأمْرِ والرِّضا، وقَدْ تَكُونُ كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً ولَيْسَتْ مُلازِمَةً لَهُما، لِأنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الجَمِيعَ بِالأفْعالِ المُرادَةِ مِنهم دِينًا، ويُرِيدُ ذَلِكَ كَوْنًا وقَدَرًا مِن بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٦٤]، (p-٤٤٩)فَقَوْلُهُ: ﴿إلّا لِيُطاعَ﴾ أيْ: فِيما جاءَ بِهِ مِن عِنْدِنا، لِأنَّهُ مَطْلُوبٌ مُرادٌ مِنَ المُكَلَّفِينَ شَرْعًا ودِينًا، وقَوْلُهُ: ﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَقَعُ مِن ذَلِكَ إلّا ما أرادَهُ اللَّهُ كَوْنًا وقَدَرًا، واللَّهُ - جَلَّ وعَلا - يَقُولُ: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥]، والنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ»، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق