الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ الآيَةَ، قَدْ قَدَّمْنا احْتِجاجَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى بِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى قَتْلِ المُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، ونَفْسُ الآيَةِ فِيها إشارَةٌ إلى أنَّ الكافِرَ لا يَدْخُلُ في عُمُومِ الآيَةِ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ العُلَماءِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ الآيَةَ.
وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ الكافِرَ لَيْسَ مِنَ المُتَصَدِّقِينَ الَّذِينَ تَكُونُ صَدَقَتُهم كَفّارَةٌ لَهم؛ لِأنَّ الكُفْرَ سَيِّئَةٌ لا تَنْفَعُ مَعَها حَسَنَةٌ، نَبَّهَ عَلى هَذا إسْماعِيلُ القاضِي في ”أحْكامِ القُرْآنِ“، كَما نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“، وما ذَكَرَهُ إسْماعِيلُ القاضِي مِن أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ أيْضًا عَلى عَدَمِ دُخُولِ العَبْدِ، بِناءً عَلى أنَّهُ لا يَصِحُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجُرْحِهِ؛ لِأنَّ الحَقَّ لِسَيِّدِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأنَّ مِنَ العُلَماءِ مَن يَقُولُ: إنَّ الأُمُورَ المُتَعَلِّقَةَ بِبَدَنِ العَبْدِ، كالقِصاصِ لَهُ العَفْوُ فِيها دُونَ سَيِّدِهِ، وعَلَيْهِ فَلا مانِعَ مَن تَصْدُّقِهِ بِجُرْحِهِ، وعَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنْ مَعْنى ﴿فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ﴾، أنَّ التَّصَدُّقَ بِالجِنايَةِ كَفّارَةٌ لِلْجانِي، لا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلا مانِعَ أيْضًا مِنَ الِاسْتِدْلالِ المَذْكُورِ بِالآيَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ لا يَذْكُرُ عَنِ الكافِرِ أنَّهُ مُتَصَدِّقٌ؛ لِأنَّ الكافِرَ لا صَدَقَةَ لَهُ لِكُفْرِهِ، وما هو باطِلٌ لا فائِدَةَ فِيهِ لا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعالى، في مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ والإثْباتِ، مَعَ أنَّ هَذا القَوْلَ ضَعِيفٌ في مَعْنى الآيَةِ.
وَجُمْهُورُ العُلَماءِ مِنَ الصَّحابَةِ، فَمَن بَعْدَهم: عَلى أنَّ مَعْناها فَهو كَفّارَةٌ لِلْمُتَصَدِّقِ، وهو أظْهَرُ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ عائِدٌ إلى مَذْكُورٍ، وذَلِكَ في المُؤْمِنِ قَطْعًا دُونَ الكافِرِ، فالِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ ظاهِرٌ جِدًّا.
* تَنْبِيهٌ
احْتَجَّ بَعْضُ العُلَماءِ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلى أنَّهُ لا يُقْتَلُ اثْنانِ بِواحِدٍ؛ لِأنَّهُما لَوْ قُتِلا بِهِ لَخَرَجَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾؛ لِكَوْنِهِما نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ واحِدَةٍ.
(p-٤٠٩)وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا مُتَمَسِّكًا بِهَذا الدَّلِيلِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، والزُّهْرِيُّ، وابْنُ سِيرِينَ، وحَبِيبُ بْنُ أبِي ثابِتٍ، وعَبْدُ المَلِكِ، ورَبِيعَةُ، وداوُدُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وحَكاهُ ابْنُ أبِي مُوسى، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ورُوِيَ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ، وابْنِ سِيرِينَ، والزُّهْرِيِّ أنَّهُ يُقْتَلُ مِنهم واحِدٌ، ويُؤْخَذُ مِنَ الباقِينَ حِصَصُهم مِنَ الدِّيَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم مُكافِئٌ لَهُ، فَلا تُسْتَوْفى أبْدالٌ بِمُبْدَلٍ واحِدٍ، كَما لا تَجِبُ دِياتٌ لِمَقْتُولٍ واحِدٍ، كَما نَقَلَهُ عَمَّنْ ذَكَرْنا ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ .
وَقالُوا مُقْتَضى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ﴾ [البقرة: ١٧٨]، وقَوْلِهِ: ﴿وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، أنَّهُ لا يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أكْثَرُ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، قالُوا: ولِأنَّ التَّفاوُتَ في الأوْصافِ يَمْنَعُ القِصاصَ، بِدَلِيلِ عَدَمِ قَتْلِ الحُرِّ بِالعَبْدِ، والتَّفاوُتَ في العَدَدِ أوْلى.
وَقالَ ابْنُ المُنْذِرِ: لا حُجَّةَ مَعَ مَن أوْجَبَ قَتَلَ جَماعَةٍ بِواحِدٍ، وعَدَمِ قَتْلِ الجَماعَةِ بِالواحِدِ رِوايَةٌ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ.
والرِّوايَةُ المَشْهُورَةُ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ، ومَذْهَبُ الأئِمَّةِ الثَّلاثَةِ: أنَّهُ يُقْتَلُ الجَماعَةُ بِالواحِدِ، وقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قَتَلَ سَبْعَةً بِواحِدٍ، وقالَ: لَوْ تَمالَأ عَلَيْهِ أهْلُ صَنْعاءَ لَقَتَلْتُهم بِهِ جَمِيعًا، ورُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ قِتالِ الحَرُورِيَّةِ حَتّى يُحْدِثُوا، فَلَمّا ذَبَحُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبّابٍ، كَما تُذْبَحُ الشّاةُ، وأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ نادُوهم أنْ أخْرِجُوا إلَيْنا قاتِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خِبّابٍ، فَقالُوا: كُلُّنا قَتَلَهُ، ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَقالَ عَلِيٌّ لِأصْحابِهِ: دُونَكُمُ القَوْمَ، فَما لَبِثَ أنْ قَتَلَهم عَلِيٌّ وأصْحابُهُ، نَقَلَهُ القُرْطُبِيُّ عَنِ الدّارَقُطْنِيِّ في ”سُنَنِهِ“ .
وَيَزِيدُ قَتْلَ الجَماعَةِ بِالواحِدِ ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ، وأبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لَوْ أنَّ أهْلَ السَّماءِ، وأهْلَ الأرْضِ اشْتَرَكُوا في دَمِ مُؤْمِنٍ لَأكَبَّهُمُ اللَّهُ في النّارِ» . قالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ، نَقَلَهُ عَنْهُ القُرْطُبِيُّ.
وَرَوى البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا، وزادَ: ”إلّا أنْ يَشاءَ“، ورَوى البَيْهَقِيُّ أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «مَن أعانَ عَلى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ» .
وَرُوِيَ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، والحَسَنُ، (p-٤١٠)وَأبُو سَلَمَةَ، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدامَةَ في المُغْنِي: أنَّ الجَماعَةَ تُقْتَلُ بِالواحِدِ، ورَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ، وعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أيْضًا، ولَمْ يُعْلَمْ لَهُما مُخالِفٌ في الصَّحابَةِ، فَصارَ إجْماعًا سُكُوتِيًّا، واعْتَرَضَهُ بَعْضُهم بِأنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ثَبَتَ عَنْهُ عَدَمُ قَتْلِ الجَماعَةِ بِالواحِدِ، كَما قالَهُ ابْنُ المُنْذِرِ.
وَإذَنْ فالخِلافُ واقِعٌ بَيْنَ الصَّحابَةِ، والمُقَرَّرُ في الأُصُولِ أنَّ الصَّحابَةَ إذا اخْتَلَفُوا، لَمْ يَجُزِ العَمَلُ بِأحَدِ القَوْلَيْنِ إلّا بِتَرْجِيحٍ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: ويَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الجُمْهُورِ الَّذِي هو قَتْلُ الجَماعَةِ بِالواحِدِ، بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿وَلَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]، يَعْنِي أنَّ مَن عُلِمَ أنَّهُ يُقْتَلُ إذا قَتَلَ يَكُونُ ذَلِكَ رادِعًا لَهُ وزاجِرًا عَنِ القَتْلِ، ولَوْ كانَ الِاثْنانِ لا يُقْتَصُّ مِنهُما لِلْواحِدِ، لَكانَ كُلُّ مَن أحَبَّ أنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا، أخَذَ واحِدًا مِن أعْوانِهِ فَقَتَلَهُ مَعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ هُناكَ رادِعٌ عَنِ القَتْلِ؛ وبِذَلِكَ تَضِيعُ حِكْمَةُ القِصاصِ مِن أصْلِها، مَعَ أنَّ المُتَمالِئِينَ عَلى القَتْلِ يَصْدُقُ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم أنَّهُ قاتِلٌ، فَيُقْتَلُ، ويَدُلُّ لَهُ أنَّ الجَماعَةَ لَوْ قَذَفُوا واحِدًا لَوَجَبَ حَدُّ القَذْفِ عَلى جَمِيعِهِمْ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَیۡنَ بِٱلۡعَیۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصࣱۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةࣱ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق