الباحث القرآني

(p-٣٩٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الفَتْحِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ . التَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّ المُرادَ بِهَذا الفَتْحِ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ؛ لِأنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ. وَإيضاحُ ذَلِكَ أنَّ الصُّلْحَ المَذْكُورَ هو السَّبَبُ الَّذِي تَهَيَّأ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ أنْ يَجْتَمِعُوا بِالكُفّارِ فَيَدْعُوهم إلى الإسْلامِ وبَيَّنُوا لَهم مَحاسِنَهُ، فَدَخَلَ كَثِيرٌ مِن قَبائِلِ العَرَبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ في الإسْلامِ. وَمِمّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا صُلْحَ الحُدَيْبِيَةِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في ذِي القِعْدَةِ عامَ سِتٍّ كانُوا ألْفًا وأرْبَعَمِائَةٍ. وَلَمّا أرادَ النَّبِيُّ ﷺ غَزْوَ مَكَّةَ حِينَ نَقَضَ الكُفّارُ العَهْدَ، كانَ خُرُوجُهُ إلى مَكَّةَ في رَمَضانَ عامَ ثَمانٍ. وَكانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلافِ مُقاتِلٍ، وذَلِكَ يُوَضِّحُ أنَّ الصُّلْحَ المَذْكُورَ مِن أعْظَمِ الفُتُوحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِقُوَّةِ المُسْلِمِينَ وكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ. وَلَيْسَ المُرادُ بِالفَتْحِ المَذْكُورِ فَتْحَ مَكَّةَ، وإنْ قالَ بِذَلِكَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ. وَإنَّما قُلْنا ذَلِكَ لِأنَّ أكْثَرَ أهْلِ العِلْمِ عَلى ما قُلْنا، ولِأنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ سُورَةَ الفَتْحِ هَذِهِ نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ في طَرِيقِهِ ﷺ راجِعًا إلى المَدِينَةِ. وَلَفْظُ الماضِي في قَوْلِهِ: ﴿إنّا فَتَحْنا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الفَتْحَ قَدْ مَضى، فَدَعْوى أنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ ولَمْ يَقَعْ إلّا بَعْدَ ذَلِكَ بِقُرْبِ سَنَتَيْنِ - خِلافُ الظّاهِرِ. والآيَةُ الَّتِي في فَتْحِ مَكَّةَ دَلَّتْ عَلى الِاسْتِقْبالِ لا عَلى المُضِيِّ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ الآيَةَ [النصر: ١] . وَقَدْ أوْضَحْنا في كِتابِنا ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ مَعْنى اللّامِ في قَوْلِهِ: (p-٣٩٤)﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ﴾ الآيَةَ [الفتح: ٢] . ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): (p-٣٩٦)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الفَتْحِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ . لا يَخْفى ما يَسْبِقُ إلى الذِّهْنِ مِن تَنافِي هَذِهِ العِلَّةِ ومَعْلُولِها، لِأنَّ فَتْحَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ لا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِغُفْرانِهِ لَهُ. والجَوابُ عَنْ هَذا مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: وهو اخْتِيارُ ابْنِ جَرِيرٍ لِدَلالَةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ عَلَيْهِ أنَّ المَعْنى إنَّ فَتْحَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ يَدُلُّ بِدَلالَةِ الِالتِزامِ عَلى شُكْرِ النَّبِيِّ لِنِعْمَةِ الفَتْحِ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ وما تَأخَّرَ بِسَبَبِ شُكْرِهِ بِأنْواعِ العِبادَةِ عَلى تِلْكَ النِّعْمَةِ، فَكَأنَّ شُكْرَ النَّبِيِّ لازِمٌ لِنِعْمَةِ الفَتْحِ، والغُفْرانُ مُرَتَّبٌ عَلى ذَلِكَ اللّازِمِ. أمّا دَلالَةُ الكِتابِ عَلى هَذا فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ ﴿وَرَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا﴾ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ [النصر: - ٣] . فَصَرَّحَ في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ بِأنَّ تَسْبِيحَهُ بِحَمْدِ رَبِّهِ واسْتِغْفارَهُ لِرَبِّهِ شُكْرًا عَلى نِعْمَةِ الفَتْحِ سَبَبٌ لِغُفْرانِ ذُنُوبِهِ، لِأنَّهُ رَتَّبَ تَسْبِيحَهُ بِحَمْدِهِ واسْتِغْفارِهِ بِالفاءِ عَلى مَجِيءِ الفَتْحِ والنَّصْرِ تَرْتِيبَ المَعْلُولِ عَلى عِلَّتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الشُّكْرَ سَبَبُ الغُفْرانِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ . وَأمّا دَلالَةُ السُّنَّةِ فَفي «قَوْلِهِ ﷺ لَمّا قالَ لَهُ بَعْضُ أصْحابِهِ لا تَجْهَدْ نَفْسَكَ بِالعَمَلِ، فَإنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ: أفَلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . فَبَيَّنَ ﷺ أنَّ اجْتِهادَهُ في العَمَلِ لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وتَرَتُّبَ الغُفْرانِ عَلى الِاجْتِهادِ في العَمَلِ لا خَفاءَ بِهِ. (p-٣٩٧)الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: إنّا فَتَحْنا يُفْهَمُ مِنهُ بِدَلالَةِ الِالتِزامِ الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ، لِأنَّهُ السَّبَبُ الأعْظَمُ في الفَتْحِ، والجِهادُ سَبَبٌ لِغُفْرانِ الذُّنُوبِ، فَيَكُونُ المَعْنى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ بِسَبَبِ جِهادِكَ المَفْهُومِ مِن ذِكْرِ الفَتْحِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب