الباحث القرآني
(p-٣٧٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهم وأمْلى لَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرارَهُمْ﴾ ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾
الظّاهِرُ أنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى، قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: هُمُ اليَهُودُ الَّذِينَ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ فَلَمّا بُعِثَ وتَحَقَّقُوا أنَّهُ هو النَّبِيُّ المَوْصُوفُ في كُتُبِهِمْ كَفَرُوا بِهِ.
وَعَلى هَذا القَوْلِ فارْتِدادُهم عَلى أدْبارِهِمْ هو كُفْرُهم بِهِ بَعْدَ أنْ عَرَفُوهُ وتَيَقَّنُوهُ، وعَلى هَذا فالهُدى الَّذِي تَبَيَّنَ لَهم هو صِحَّةُ نُبُوَّتِهِ ﷺ ومَعْرِفَتِهِ بِالعَلاماتِ المَوْجُودَةِ في كُتُبِهِمْ.
وَعَلى هَذا القَوْلِ فَهَذِهِ الآيَةُ يُوَضِّحُها قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿وَلَمّا جاءَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩]؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا﴾ مُبَيِّنٌ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى﴾، وقَوْلُهُ: ﴿كَفَرُوا وصَدُّوكُمْ﴾ مُبَيِّنٌ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ﴾ .
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: نَزَلَتِ الآيَةُ المَذْكُورَةُ في المُنافِقِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ سَبَبَ ارْتِدادِ هَؤُلاءِ القَوْمِ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى، هو إغْواءُ الشَّيْطانِ لَهم كَما قالَ تَعالى مُشِيرًا إلى عِلَّةِ ذَلِكَ: ﴿الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ أيْ زَيَّنَ لَهُمُ الكُفْرَ والِارْتِدادَ عَنِ الدِّينِ، ﴿وَأمْلى لَهُمْ﴾ أيْ مَدَّ لَهم في الأمَلِ ووَعَدَهم طُولَ العُمُرِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّلَ سَهَّلَ لَهم رُكُوبَ العَظائِمِ مِنَ السَّوْلِ، وهو الِاسْتِرْخاءُ، وقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ والِاشْتِقاقِ جَمِيعًا، ﴿وَأمْلى لَهُمْ﴾ ومَدَّ لَهم في الآمالِ والأمانِي. انْتَهى.
(p-٣٨٠)وَإيضاحُ هَذا أنَّ هَؤُلاءِ المُرْتَدِّينَ عَلى أدْبارِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى وقَعَ لَهم ذَلِكَ بِسَبَبِ أنَّ الشَّيْطانَ سَوَّلَ لَهم ذَلِكَ أيْ سَهَّلَهُ لَهم وزَيَّنَهُ لَهم وحَسَّنَهُ لَهم ومَنّاهم بِطُولِ الأعْمارِ؛ لِأنَّ طُولَ الأمَلِ مِن أعْظَمِ أسْبابِ ارْتِكابِ الكُفْرِ والمَعاصِي.
وَفِي هَذا الحَرْفِ قِراءَتانِ سَبْعِيَّتانِ: قَرَأهُ عامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ أبِي عَمْرٍو ﴿وَأمْلى لَهُمْ﴾ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ واللّامِ بَعْدَها ألِفٌ وهو فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ لِلْفاعِلِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى الشَّيْطانِ.
وَأصْلُ الإمْلاءِ الإمْهالُ والمَدُّ في الأجَلِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهم إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا﴾ [آل عمران: ١٧٨] .
وَمَعْنى إمْلاءِ الشَّيْطانِ لَهم وعْدُهُ إيّاهم بِطُولِ الأعْمارِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ [النساء: ١٢٠] .
وَقالَ تَعالى: ﴿واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهم بِصَوْتِكَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وَعِدْهم وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ [الإسراء: ٦٤] .
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ضَمِيرُ الفاعِلِ في قَوْلِهِ: ﴿وَأمْلى لَهُمْ﴾ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ راجِعٌ إلى اللَّهِ تَعالى.
والمَعْنى: ﴿الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ أيْ سَهَّلَ لَهُمُ الكُفْرَ والمَعاصِيَ، وزَيَّنَ ذَلِكَ وحَسَّنَهُ لَهم، واللَّهُ - جَلَّ وعَلا - أمْلى لَهم: أيْ أمْهَلَهم إمْهالَ اسْتِدْراجٍ.
وَكَوْنُ التَّسْوِيلِ مِنَ الشَّيْطانِ والإمْهالِ مِنَ اللَّهِ، قَدْ تَشْهَدُ لَهم آياتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ
• كَقَوْلِهِ تَعالى في تَزْيِينِ الشَّيْطانِ لَهم: ﴿وَإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تاللَّهِ لَقَدْ أرْسَلْنا إلى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَهو ولِيُّهُمُ اليَوْمَ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [النحل: ٦٣]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إنَّ اللَّهَ وعَدَكم وعْدَ الحَقِّ ووَعَدْتُكم فَأخْلَفْتُكُمْ﴾ [إبراهيم: ٢٢]،
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَ
• كَقَوْلِهِ تَعالى في إمْلاءِ اللَّهِ لَهُمُ اسْتِدْراجًا: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَأُمْلِي لَهم إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: ٤٤]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: (p-٣٨١)﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَن كانَ في الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ [مريم: ٧٥]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنا الضَّرّاءُ والسَّرّاءُ فَأخَذْناهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٥]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُونَ أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ نُسارِعُ لَهم في الخَيْراتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٥ - ٥٦]،
والآياتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَرَأ هَذا الحَرْفَ أبُو عَمْرٍو وحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ ”وَأُمْلِيَ لَهم“ بِضَمِّ الهَمْزَةِ وكَسْرِ اللّامِ، بَعْدَها ياءٌ مَفْتُوحَةٌ بِصِيغَةِ الماضِي المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ والفاعِلِ المَحْذُوفِ، فِيهِ الوَجْهانِ المَذْكُورانِ آنِفًا في فاعِلِ: ﴿وَأمْلى لَهُمْ﴾ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ.
وَقَدْ ذَكَرْنا قَرِيبًا ما يَشْهَدُ لِكُلٍّ مِنهُما مِنَ القُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعالى في إمْلاءِ الشَّيْطانِ لَهم: ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ [النساء: ١٢٠]، وقَوْلِهِ في إمْلاءِ اللَّهِ لَهم: ﴿وَأُمْلِي لَهم إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: ٤٥]، كَما تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
والإشارَةُ في قَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ﴾ راجِعَةٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهم وأمْلى لَهُمْ﴾ .
أيْ ذَلِكَ التَّسْوِيلُ والإمْلاءُ المُفْضِي إلى الكُفْرِ بِسَبَبِ أنَّهم: ﴿قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ﴾ .
وَظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ بَعْضَ الأمْرِ الَّذِي قالُوا لَهم سَنُطِيعُكم فِيهِ مِمّا نَزَّلَ اللَّهُ وكَرِهَهُ أُولَئِكَ المُطاعُونَ.
والآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن أطاعَ مَن كَرِهَ ما نَزَّلَ اللَّهُ في مُعاوَنَتِهِ لَهُ عَلى كَراهَتِهِ ومُؤازَرَتِهِ لَهُ عَلى ذَلِكَ الباطِلِ، أنَّهُ كافِرٌ بِاللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى فِيمَن كانَ كَذَلِكَ: ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهم ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ [محمد: ٢٧ - ٢٨] .
وَقَدْ قَدَّمْنا ما يُوَضِّحُ ذَلِكَ مِنَ القُرْآنِ في سُورَةِ الشُّورى في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ (p-٣٨٢)تَعالى: ﴿وَما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ﴾ [الشورى: ١٠]، وفي مَواضِعَ عَدِيدَةٍ مِن هَذا الكِتابِ المُبارَكِ.
وَبَيَّنّا في سُورَةِ الشُّورى أيْضًا شِدَّةَ كَراهَةِ الكُفّارِ لِما نَزَّلَ اللَّهُ، وبَيَّنّا ذَلِكَ بِالآياتِ القُرْآنِيَّةِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ﴾ [الشورى: ١٣]، وقَدْ قَدَّمْنا مِرارًا أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ الألْفاظِ لا بِخُصُوصِ الأسْبابِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إسْرارَهُمْ﴾ قَرَأهُ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ وشُعْبَةُ عَنْ عاصِمٍ ”أسْرارَهم“ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، جَمْعُ سِرٍّ.
وَقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ﴿إسْرارَهُمْ﴾ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ مَصْدَرُ أسَرَّ كَقَوْلِهِ: ﴿وَأسْرَرْتُ لَهم إسْرارًا﴾ [نوح: ٩]، وقَدْ قالُوا لَهم ذَلِكَ سِرًّا فَأفْشاهُ اللَّهُ العالِمُ بِكُلِّ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿فَكَيْفَ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ أيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ حالُ هَؤُلاءِ إذا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ ؟ أيْ قَبَضَ مَلَكُ المَوْتِ وأعْوانُهُ أرْواحَهم في حالِ كَوْنِهِمْ ضارِبِينَ وُجُوهَهم وأدْبارَهم.
وَما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن كَوْنِ المَلائِكَةِ يَتَوَفَّوْنَ الكُفّارَ وهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهم جاءَ مُوَضَّحًا في مَواضِعَ أُخَرَ مِن كِتابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعالى في الأنْفالِ: ﴿وَلَوْ تَرى إذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٠]، وقَوْلِهِ في الأنْعامِ: ﴿وَلَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ﴾ [الأنعام: ٩٣] .
فَقَوْلُهُ: ﴿باسِطُو أيْدِيهِمْ﴾ أيْ بِالضَّرْبِ المَذْكُورِ.
والإشارَةُ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ﴾ راجِعَةٌ إلى المَصْدَرِ الكامِنِ في الفِعْلِ الصِّناعِيِّ أعْنِي قَوْلَهُ: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ﴾، أيْ ذَلِكَ بِضَرْبِ وقْتِ المَوْتِ واقِعٌ بِسَبَبٍ ﴿بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ﴾ أيْ أغْضَبَهُ مِنَ الكُفْرِ بِهِ، وطاعَةِ الكُفّارِ الكارِهِينَ لِما نَزَّلَهُ.
والإسْخاطُ اسْتِجْلابُ السُّخْطِ، وهو الغَضَبُ هُنا.
(p-٣٨٣)وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ﴾ لِأنَّ مَن أطاعَ مَن كَرِهَ ما نَزَّلَ اللَّهُ فَقَدْ كَرِهَ رِضْوانَ اللَّهِ؛ لِأنَّ رِضْوانَهُ تَعالى لَيْسَ إلّا في العَمَلِ بِما نَزَّلَ، فاسْتَلْزَمَتْ كَراهَةُ ما نَزَّلَ كَراهَةَ رِضْوانِهِ لِأنَّ رِضْوانَهُ فِيما نَزَّلَ، ومَن أطاعَ كارِهَهُ، فَهو كَكارِهِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ أيْ أبْطَلَها، لِأنَّ الكُفْرَ سَيِّئَةٌ لا تَنْفَعُ مَعَها حَسَنَةٌ، وقَدْ أوْضَحْنا المَقامَ في ذَلِكَ إيضاحًا تامًّا في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] .
وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] .
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ، قَدْ قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّها نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ.
وَقالَ بَعْضُهم: إنَّها نَزَلَتْ في اليَهُودِ، وإنَّ المُنافِقِينَ أوِ اليَهُودَ قالُوا لِلْكُفّارِ الَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ، وهو عَداوَةُ النَّبِيِّ ﷺ والتَّعْوِيقُ عَنِ الجِهادِ ونَحْوُ ذَلِكَ.
وَبَعْضُهم يَقُولُ: إنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ هُمُ اليَهُودُ حِينَ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ لَمّا عَرَفُوهُ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ، وهو الإيمانُ بِهِ - ﷺ .
والتَّحْقِيقُ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ أنَّ هَذِهِ الآياتِ عامَّةٌ في كُلِّ ما يَتَناوَلُهُ لَفْظُها، وأنَّ كُلَّ ما فِيها مِنَ الوَعِيدِ عامٌّ لِمَنِ أطاعَ مَن كَرِهَ ما نَزَّلَ اللَّهُ.
* مَسْألَةٌ
اعْلَمْ أنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ في هَذا الزَّمانِ تَأمُّلُ هَذِهِ الآياتِ، مِن سُورَةِ مُحَمَّدٍ وتَدَبُّرِها، والحَذَرُ التّامُّ مِمّا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ داخِلُونَ بِلا شَكٍّ فِيما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ.
لِأنَّ عامَّةَ الكُفّارِ مِن شَرْقِيِّينَ وغَرْبِيِّينَ كارِهُونَ لِما نَزَّلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وهو هَذا القُرْآنُ وما يُبَيِّنُهُ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ السُّنَنِ.
(p-٣٨٤)فَكُلُّ مَن قالَ لِهَؤُلاءِ الكُفّارِ الكارِهِينَ لِما نَزَّلَهُ اللَّهُ: ﴿سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ﴾، فَهو داخِلٌ في وعِيدِ الآيَةِ.
وَأحْرى مِن ذَلِكَ مِن يَقُولُ لَهم: سَنُطِيعُكم في الأمْرِ كالَّذِينِ يَتَّبِعُونَ القَوانِينَ الوَضْعِيَّةَ مُطِيعِينَ بِذَلِكَ لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ، فَإنَّ هَؤُلاءِ لا شَكَّ أنَّهم مِمَّنْ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهم.
وَأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ، وأنَّهُ مُحْبِطٌ أعْمالَهم.
فاحْذَرْ كُلَّ الحَذَرِ مِنَ الدُّخُولِ في الَّذِينَ قالُوا: ﴿سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ﴾ .
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَـٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّیۡطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











