الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ . اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بِأُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ اخْتِلافًا كَثِيرًا. وَأشْهُرُ الأقْوالِ في ذَلِكَ أنَّهم خَمْسَةٌ، وهُمُ الَّذِينَ قَدَّمْنا ذِكْرَهم في ”الأحْزابِ“ و ”الشُّورى“، وهم نُوحٌ وإبْراهِيمُ ومُوسى وعِيسى ومُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - . وَعَلى هَذا القَوْلِ فالرُّسُلُ الَّذِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَصْبِرَ كَما صَبَرُوا - أرْبَعَةٌ، فَصارَ هو ﷺ خامِسَهم. واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ بِأنَّ المُرادَ بِأُولِي العَزْمِ جَمِيعُ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وأنَّ لَفْظَةَ مِن في قَوْلِهِ: مِنَ الرُّسُلِ بَيانِيَّةٌ يَظْهَرُ أنَّهُ خِلافُ التَّحْقِيقِ، كَما دَلَّ عَلى ذَلِكَ بَعْضُ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ الآيَةَ [القلم: ٤٨]، فَأمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - نَبِيَّهُ في آيَةِ ”القَلَمِ“ هَذِهِ بِالصَّبْرِ، ونَهاهُ عَنْ أنْ يَكُونَ مِثْلَ يُونُسَ؛ لِأنَّهُ هو صاحِبُ الحُوتِ، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: ١١٥] . فَآيَةُ ”القَلَمِ“، وآيَةُ ”طه“ المَذْكُورَتانِ كِلْتاهُما تَدُلُّ عَلى أنَّ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِمْ لَيْسُوا جَمِيعَ الرُّسُلِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى . * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ . نَهى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، أنْ يَسْتَعْجِلَ العَذابَ لِقَوْمِهِ، أيْ يَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ بِتَعْجِيلِهِ لَهم، فَمَفْعُولُ (تَسْتَعْجِلْ) مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ العَذابُ، كَما قالَهُ القُرْطُبِيُّ، وهو الظّاهِرُ. وَما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ تَعْجِيلِ العَذابِ لَهم - جاءَ مُوَضَّحًا في آياتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهم قَلِيلًا﴾ [المزمل: ١١] . وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ [الطارق: ١٧] . (p-٢٤٢)فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَهِّلْهم قَلِيلًا﴾، وقَوْلَهُ: ﴿فَمَهِّلِ الكافِرِينَ أمْهِلْهم رُوَيْدًا﴾ مُوَضِّحٌ لِمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ . والمُرادُ بِالآياتِ، نَهْيُهُ ﷺ عَنْ طَلَبِ تَعْجِيلِ العَذابِ لَهم؛ لِأنَّهم مُعَذَّبُونَ لا مَحالَةَ، عِنْدَ انْتِهاءِ المُدَّةِ المُحَدِّدَةِ لِلْإمْهالِ، كَما يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إنَّما نَعُدُّ لَهم عَدًّا﴾ [مريم: ٨٤] . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿نُمَتِّعُهم قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهم إلى عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: ٢٤] . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ ومَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النّارِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٢٦] . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ﴾ ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهادُ﴾ [آل عمران: ١٩٦ - ١٩٧] . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ ﴿مَتاعٌ في الدُّنْيا ثُمَّ إلَيْنا مَرْجِعُهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: ٦٩ - ٧٠] . إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ . قَدْ قَدَّمَنا الآياتِ المُوَضِّحَةَ لَهُ في سُورَةِ ”يُونُسَ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٤٥] . وفي سُورَةِ ”قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ﴾ [المؤمنون: ١١٣] . وَبَيَّنّا في الكَلامِ عَلى آيَةِ ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾ وجْهَ إزالَةِ إشْكالٍ مَعْرُوفٍ في الآياتِ المَذْكُورَةِ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلاغٌ﴾ . التَّحْقِيقُ - إنْ شاءَ اللَّهُ - أنَّ أصْوَبَ القَوْلَيْنِ في قَوْلِهِ: بَلاغٌ أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هَذا بَلاغٌ، أيْ هَذا القُرْآنُ بَلاغٌ مِنَ اللَّهِ إلى خَلْقِهِ. وَيَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ ”إبْراهِيمَ“: ﴿هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ ولِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ [إبراهيم: ٥٢] . وقَوْلُهُ في ”الأنْبِياءِ“: ﴿إنَّ في هَذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٦] . وخَيْرُ ما يُفَسَّرُ بِهِ القُرْآنُ القُرْآنُ. والبَلاغُ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنى التَّبْلِيغِ، وقَدْ عُلِمَ بِاسْتِقْراءِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ أنَّ الفِعالَ يَأْتِي (p-٢٤٣)كَثِيرًا بِمَعْنى التَّفْعِيلِ، كَبَلَّغَهُ بَلاغًا، أيْ تَبْلِيغًا، وكَلَّمَهُ كَلامًا، أيْ تَكْلِيمًا، وطَلَّقَها طَلاقًا، وسَرَّحَها سَراحًا، وبَيَّنَهُ بَيانًا. كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنى التَّفْعِيلِ؛ لِأنَّ فَعَّلَ - مُضَعَّفَةَ العَيْنِ، غَيْرُ مُعْتَلَّةِ اللّامِ ولا مَهْمُوزَتِهِ - قِياسُ مَصْدَرِها التَّفْعِيلُ. وَما جاءَ مِنهُ عَلى خِلافِ ذَلِكَ - يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عَلَيْهِ، كَما هو مَعْلُومٌ في مَحَلِّهِ. أمّا القَوْلُ بِأنَّ المَعْنى: وذَلِكَ اللَّبْثُ بِلاغٌ، فَهو خِلافُ الظّاهِرِ كَما تَرى، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب