الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ . ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ الكُفّارَ صَرَّحُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ بِأنَّهم لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ ولا يُؤْمِنُونَ بِهِ، ولا يَقْبَلُونَ مِنهُ ما جاءَهم بِهِ؛ فَقالُوا لَهُ: قُلُوبُنا الَّتِي نَعْقِلُ بِها ونَفْهَمُ (في أكِنَّةٍ) أيْ أغْطِيَةٍ. (p-٦)والأكِنَّةُ جَمْعُ كِنانٍ، وهو الغِطاءُ والغِلافُ الَّذِي يُغَطِّي الشَّيْءَ ويَمْنَعُهُ مِنَ الوُصُولِ إلَيْهِ. وَيَعْنُونَ أنَّ تِلْكَ الأغْطِيَةَ مانِعَةٌ لَهم مِن فَهْمِ ما يَدْعُوهم إلَيْهِ ﷺ . وقالُوا: إنَّ في آذانِهِمُ الَّتِي يَسْمَعُونَ بِها وقْرًا، أيْ ثِقَلًا، وهو الصَّمَمُ، وإنَّ ذَلِكَ الصَّمَمَ مانِعٌ لَهم مِن أنْ يَسْمَعُوا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا ومِمّا يَقُولُ، كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ﴾ [فصلت: ٢٦] . وَأنَّ مِن بَيْنِهِمْ وبَيْنَهُ حِجابًا مانِعًا لَهم مِنَ الِاتِّصالِ والِاتِّفاقِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الحِجابَ يَحْجُبُ كُلًّا مِنهُما عَنِ الآخَرِ، ويَحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ رُؤْيَةِ ما يُبْدِيهِ ﷺ مِنَ الحَقِّ. واللَّهُ - جَلَّ وعَلا - ذَكَرَ عَنْهم هَذا الكَلامَ في مَعْرِضِ الذَّمِّ، مَعَ أنَّهُ تَعالى صَرَّحَ بِأنَّهُ جَعَلَ عَلى قُلُوبِهِمُ الأكِنَّةَ، وفي آذانِهِمُ الوَقْرَ، وجَعَلَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِهِ حِجابًا عِنْدَ قِراءَتِهِ القُرْآنَ، قالَ تَعالى في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“: ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ [الإسراء: ٤٥ - ٤٦] . وقالَ تَعالى في ”الأنْعامِ“: ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ [الأنعام: ٢٥] . وقالَ تَعالى ”في الكَهْفِ“: ﴿إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا وإنْ تَدْعُهم إلى الهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا﴾ [الكهف: ٥٧] . وَهَذا الإشْكالُ الَّذِي أشَرْنا إلَيْهِ في هَذِهِ الآياتِ قَوِيٌّ، ووَجْهُ كَوْنِهِ مُشْكِلًا ظاهِرٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى ذَمَّهم عَلى دَعْواهُمُ الأكِنَّةَ والوَقْرَ والحِجابَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن ”فُصِّلَتْ“، وبَيَّنَ في الآياتِ الأُخْرى أنَّ ما ذَمَّهم عَلى ادِّعائِهِ واقِعٌ بِهِمْ فِعْلًا، وأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِمْ. فَيُقالُ: فَكَيْفَ يُذَمُّونَ عَلى قَوْلِ شَيْءٍ هو حَقٌّ في نَفْسِ الأمْرِ ؟ والتَّحْقِيقُ في الجَوابِ عَنْ هَذا الإشْكالِ هو ما ذَكَرْناهُ مِرارًا مِن أنَّ اللَّهَ إنَّما جَعَلَ عَلى قُلُوبِهِمُ الأكِنَّةَ، وطَبَعَ عَلَيْها وخَتَمَ عَلَيْها، وجَعَلَ الوَقْرَ في آذانِهِمْ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المَوانِعِ مِنَ الهُدى - بِسَبَبِ أنَّهم بادَرُوا إلى الكُفْرِ، وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ طائِعِينَ مُخْتارِينَ، فَجَزاهُمُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ الذَّنْبِ الأعْظَمِ طَمْسَ البَصِيرَةِ، والعَمى عَنِ الهُدى، جَزاءً وِفاقًا. (p-٧)فالأكِنَّةُ والوَقْرُ والحِجابُ المَذْكُورَةُ إنَّما جَعَلَها اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُجازاةً لِكُفْرِهِمُ الأوَّلِ. وَمِن جَزاءِ السَّيِّئَةِ تَمادِي صاحِبِها في الضَّلالِ، ولِلَّهِ الحِكْمَةُ البالِغَةُ في ذَلِكَ. والآياتُ المُصَرِّحَةُ بِمَعْنى هَذا كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] . فَقَوْلُ اليَهُودِ في هَذِهِ الآيَةِ: قُلُوبُنا غُلْفٌ كَقَوْلِ كُفّارِ مَكَّةَ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ﴾؛ لِأنَّ الغُلْفَ جَمْعُ أغْلُفَ، وهو الَّذِي عَلَيْهِ غِلافٌ، والأكِنَّةُ جَمْعُ كِنانٍ، والغِلافُ والكِنانُ كِلاهُما بِمَعْنى الغِطاءِ السّاتِرِ. وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلى اليَهُودِ دَعْواهم بِ (بَلِ) الَّتِي هي لِلْإضْرابِ الإبْطالِيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] . فالباءُ في قَوْلِهِ: (بِكُفْرِهِمْ) سَبَبِيَّةٌ، وهي دالَّةٌ عَلى أنَّ سَبَبَ الطَّبْعِ عَلى قُلُوبِهِمْ هو كَفْرُهم، والأكِنَّةُ والوَقْرُ والطَّبْعُ كُلُّها مِن بابٍ واحِدٍ. وَكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهم لا يَفْقَهُونَ﴾ [المنافقون: ٣]، والفاءُ في قَوْلِهِ: (فَطُبِعَ) سَبَبِيَّةٌ، أيْ ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الكُفْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنا مِرارًا أنَّهُ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ الفاءَ مِن حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ العِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ. وَكَذَلِكَ الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَهم لا يَفْقَهُونَ﴾ فَهي سَبَبِيَّةٌ أيْضًا، أيْ فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهم بِسَبَبِ ذَلِكَ الطَّبْعِ (لا يَفْقَهُونَ) أيْ لا يَفْهَمُونَ مِن بَراهِينِ اللَّهِ وحُجَجِهِ شَيْئًا. وَذَلِكَ مِمّا يُبَيِّنُ أنَّ الطَّبْعَ والأكِنَّةَ يَئُولُ مَعْناهُما إلى شَيْءٍ واحِدٍ، وهو ما يَنْشَأُ عَنْ كُلٍّ مِنهُما مِن عَدَمِ الفَهْمِ. لِأنَّهُ قالَ في الطَّبْعِ ﴿فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهم لا يَفْقَهُونَ﴾ . وَقالَ في الأكِنَّةِ: ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ﴾ [الأنعام: ٢٥] أيْ كَراهَةَ أنْ يَفْقَهُوهُ، أوْ لِأجْلِ ألّا يَفْقَهُوهُ، كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ. (p-٨)وَكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] فَبَيَّنَ أنَّ زَيْغَهُمُ الأوَّلَ كانَ سَبَبًا لِإزاغَةِ اللَّهِ قُلُوبَهم، وتِلْكَ الإزاغَةُ قَدْ تَكُونُ بِالأكِنَّةِ والطَّبْعِ والخَتْمِ عَلى القُلُوبِ. وَ • كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: ١٠] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١١٠] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] . وَإيضاحُ هَذا الجَوابِ أنَّ الكُفّارَ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إخْبارَهُ ﷺ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بِوَجْهٍ، ولا يَتَّبِعُونَهُ بِحالٍ، ولا يُقِرُّونَ بِالحَقِّ الَّذِي هو كَوْنُ كُفْرِهِمْ هَذا هو الجَرِيمَةُ والذَّنْبُ الَّذِي كانَ سَبَبًا في الأكِنَّةِ والوَقْرِ والحِجابِ. فَدَعْواهم كاذِبَةٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهم قُلُوبًا يَفْهَمُونَ بِها، وآذانًا يَسْمَعُونَ بِها، خِلافًا لِما زَعَمُوا، ولَكِنَّهُ سَبَّبَ لَهُمُ الأكِنَّةَ والوَقْرَ والحِجابَ بِسَبَبِ مُبادَرَتِهِمْ إلى الكُفْرِ، وتَكْذِيبِ الرَّسُولِ ﷺ . وَهَذا المَعْنى أوْضَحَهُ رَدُّهُ تَعالى عَلى اليَهُودِ في قَوْلِهِ عَنْهم: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ . وَقَدْ حاوَلَ الفَخْرُ الرّازِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الجَوابَ عَلى الإشْكالِ المَذْكُورِ، فَقالَ: فَإنْ قِيلَ إنَّهُ تَعالى حَكى هَذا المَعْنى عَنِ الكُفّارِ في مَعْرِضِ الذَّمِّ، وذَكَرَ أيْضًا ما يَقْرُبُ مِنهُ في مَعْرِضِ الذَّمِّ، فَقالَ: ﴿وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٨] ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الأشْياءَ الثَّلاثَةَ بِعَيْنِها في مَعْنى التَّقْرِيرِ والإثْباتِ في سُورَةِ الأنْعامِ، فَقالَ: ﴿وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ [الأنعام: ٢٥] فَكَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَهُما ؟ قُلْنا: إنَّهُ لَمْ يَقُلْ ها هُنا إنَّهم كَذَبُوا في ذَلِكَ، إنَّما الَّذِي ذَمَّهم عَلَيْهِ أنَّهم قالُوا: إنّا إذا كُنّا كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُنا وتَوْجِيهُ الأمْرِ والنَّهْيِ عَلَيْنا، وهَذا الثّانِي باطِلٌ. أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم كَذَبُوا فِيهِ. اهـ مِنهُ. والأظْهَرُ هو ما ذَكَرْنا. (p-٩)قالَ صاحِبُ الكَشّافِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ . فَإنْ قُلْتَ: هَلْ لِزِيادَةِ (مِن) في قَوْلِهِ: ﴿وَمِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ - فائِدَةٌ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؛ لِأنَّهُ لَوْ قِيلَ: وبَيْنَنا وبَيْنَكَ حِجابٌ، لَكانَ المَعْنى أنْ حِجابًا حاصِلٌ وسَطَ الجِهَتَيْنِ. وَأمّا بِزِيادَةِ (مِن) فالمَعْنى أنَّ حِجابًا ابْتَدَأ مِنّا وابْتَدَأ مِنكَ، فالمَسافَةُ المُتَوَسِّطَةُ لِجِهَتِنا وجِهَتِكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالحِجابِ، لا فَراغَ فِيها. انْتَهى مِنهُ. واسْتَحْسَنَ كَلامَهُ هَذا الفَخْرُ الرّازِيُّ، وتَعَقَّبَهُ ابْنُ المُنِيرِ عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ، فَأوْضَحَ سُقُوطَهُ، والحَقُّ مَعَهُ في تَعَقُّبِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَمِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾، وقَدْ قَدَّمْنا تَفْسِيرَهُ وإيضاحَهُ بِالآياتِ القُرْآنِيَّةِ في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ [الإسراء: ٤٥] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب