الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها﴾ .
قَدْ قَدَّمَنا الآياتِ المُوَضِّحَةَ لَهُ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها﴾ [فصلت: ٧] وفي سُورَةِ ”النَّمْلِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ [النمل: ٤٠] .
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ .
ما ذَكَرَهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن كَوْنِهِ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ - ذَكَرَهُ في مَواضِعَ أُخَرَ،
• كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ”آلِ عِمْرانَ“: ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكم وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ﴿الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ عَهِدَ إلَيْنا﴾ [آل عمران: ١٨٢] .
• وقَوْلِهِ في ”الأنْفالِ“ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكم وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [الأنفال: ٥١ - ٥٢] .
• وقَوْلِهِ في ”الحَجِّ“: ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ﴾ الآيَةَ [الحج: ١٠ - ١١] .
• وقَوْلِهِ في سُورَةِ ”ق“: ﴿ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وما أنا بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩] .
وَفِي هَذِهِ الآياتِ سُؤالٌ مَعْرُوفٌ، وهو أنَّ لَفْظَةَ (ظَلّامٍ) فِيها صِيغَةُ مُبالِغَةٍ، ومَعْلُومٌ (p-٣٢)أنَّ نَفْيَ المُبالِغَةِ لا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الفِعْلِ مِن أصْلِهِ.
فَقَوْلُكُ مَثَلًا: زِيدٌ لَيْسَ بِقَتّالٍ لِلرِّجالِ - لا يَنْفِي إلّا مُبالَغَتَهُ في قَتْلِهِمْ، فَلا يُنافِي أنَّهُ رُبَّما قَتَلَ بَعْضَ الرِّجالِ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ بِنَفْيِ المُبالِغَةِ في الآياتِ المَذْكُورَةِ - هو نَفْيُ الظُّلْمِ مِن أصْلِهِ.
والجَوابُ عَنْ هَذا الإشْكالِ مِن أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّ نَفْيَ صِيغَةِ المُبالَغَةِ في الآياتِ المَذْكُورَةِ قَدْ بَيَّنَتْ آياتٌ كَثِيرَةٌ أنَّ المُرادَ بِهِ نَفْيُ الظُّلْمِ مِن أصْلِهِ.
وَنَفْيُ صِيغَةِ المُبالَغَةِ إذا دَلَّتْ أدِلَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَلى أنْ يُرادَ بِهِ نَفْيُ أصْلِ الفِعْلِ، فَلا إشْكالَ لِقِيامِ الدَّلِيلِ عَلى المُرادِ.
والآياتُ الدّالَّةُ عَلى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ،
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها﴾ الآيَةَ [النساء: ٤٠] .
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا ولَكِنَّ النّاسَ أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: ٤٤] .
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩] .
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ الآيَةَ [الأنبياء: ٤٧] .
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ في سُورَةِ ”الكَهْفِ“ و ”الأنْبِياءِ“ .
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعَلا - نَفى ظُلْمَهُ لِلْعَبِيدِ، والعَبِيدُ في غايَةِ الكَثْرَةِ، والظُّلْمُ المَنفِيُّ عَنْهم تَسْتَلْزِمُ كَثْرَتُهم كَثْرَتَهُ، فَناسَبَ ذَلِكَ الإتْيانُ بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ لِلدَّلالَةِ عَلى كَثْرَةِ المَنفِيِّ التّابِعَةِ لِكَثْرَةِ العَبِيدِ المَنفِيِّ عَنْهُمُ الظُّلْمُ، إذْ لَوْ وقَعَ عَلى كُلِّ عَبْدٍ ظُلْمٌ، ولَوْ قَلِيلًا، كانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الظُّلْمِ في غايَةِ الكَثْرَةِ، كَما تَرى.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اتِّجاهَ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ، وأنَّ المُرادَ بِذَلِكَ نَفْيُ أصْلِ الظُّلْمِ عَنْ كُلِّ عَبْدٍ مِن أُولَئِكَ العَبِيدِ، الَّذِينَ هم في غايَةِ الكَثْرَةِ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ أنْ يَظْلِمَ أحَدًا شَيْئًا، كَما بَيَّنَتْهُ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ المَذْكُورَةُ، وفي الحَدِيثِ: «يا عِبادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلى نَفْسِي» الحَدِيثَ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ المُسَوِّغَ لِصِيغَةِ المُبالَغَةِ أنَّ عَذابَهُ تَعالى بالِغٌ مِنَ العِظَمِ والشِّدَّةِ أنَّهُ لَوْلا اسْتِحْقاقُ المُعَذَّبِينَ لِذَلِكَ العَذابِ بِكُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمْ - لَكانَ مُعَذِّبُهم بِهِ ظَلّامًا بَلِيغَ (p-٣٣)الظُّلْمِ مُتَفاقِمَهُ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَهَذا الوَجْهُ والَّذِي قَبْلَهُ أشارَ لَهُما الزَّمَخْشَرِيُّ في سُورَةِ ”الأنْفالِ“ .
الوَجْهُ الرّابِعُ: ما ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ وبَعْضُ المُفَسِّرِينَ مِن أنَّ المُرادَ بِالنَّفْيِ في قَوْلِهِ: ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ نَفْيُ نِسْبَةِ الظُّلْمِ إلَيْهِ؛ لِأنَّ صِيغَةَ فَعّالٍ تُسْتَعْمَلُ مُرادًا بِها النِّسْبَةُ، فَتُغْنِي عَنْ ياءِ النَّسَبِ، كَما أشارَ لَهُ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
؎وَمَعَ فاعِلٍ وفَعّالٍ فَعِلَ في نَسَبٍ أغْنى عَنِ اليا فَقُبِلْ
وَمَعْنى البَيْتِ المَذْكُورِ أنَّ الصِّيَغَ الثَّلاثَةَ المَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي هي فاعِلٌ كَظالِمٍ وفَعّالٌ كَظَلّامٍ وفَعِلٌ كَفَرِحٍ - كُلٌّ مِنها قَدْ تُسْتَعْمَلُ مُرادًا بِها النِّسْبَةُ، فَيُسْتَغْنى بِها عَنْ ياءِ النَّسَبِ، ومِثالُهُ في فاعِلٍ قَوْلُ الحُطَيْئَةِ في هَجْوِهِ الزِّبْرِقانِ بْنِ بَدْرٍ التَّمِيمِيِّ:
؎دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها ∗∗∗ واقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطّاعِمُ الكاسِ
فالمُرادُ بِقَوْلِهِ: الطّاعِمُ الكاسِي - النِّسْبَةُ، أيْ ذُو طَعامٍ وكُسْوَةٍ. وقَوْلُ الآخَرِ - وهو مِن شَواهِدِ سِيبَوَيْهِ -:
؎وَغَرَرْتَنِي وزَعَمْتَ أنَّكَ ∗∗∗ لابِنٌ في الصَّيْفِ تامِرْ
أيْ ذُو لَبَنٍ وذُو تَمْرٍ. وقَوْلُ نابِغَةِ ذُبْيانَ:
؎كِلِينِي لَهم يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ ∗∗∗ ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَواكِبِ
فَقَوْلُهُ: ”ناصِبِ“، أيْ ذُو نَصَبٍ. ومِثالُهُ في فَعّالٍ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعَنُنِي بِهِ ∗∗∗ ولَيْسَ بِذِي سَيْفٍ ولَيْسَ بِنَبّالِ
فَقَوْلُهُ: ولَيْسَ بِنَبّالٍ، أيْ لَيْسَ بِذِي نَبْلٍ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: ولَيْسَ بِذِي رُمْحٍ، ولَيْسَ بِذِي سَيْفٍ.
وَقالَ الأُشْمُونِيُّ بَعْدَ الِاسْتِشْهادِ بِالبَيْتِ المَذْكُورِ: قالَ المُصَنَّفُ - يَعْنِي ابْنَ مالِكٍ -: وعَلى هَذا حَمَلَ المُحَقِّقُونَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ أيْ بِذِي ظُلْمٍ. اهـ.
(p-٣٤)وَما عَزاهُ لِابْنِ مالِكٍ جَزَمَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ والمُفَسِّرِينَ، ومِثالُهُ في فَعِلٍ قَوْلُ الرّاجِزِ - وهو مِن شَواهِدِ سِيبَوَيْهِ -:
؎لَيْسَ بِلَيْلِي ولَكِنِّي نَهِرٌ ∗∗∗ لا أدْلُجُ اللَّيْلَ ولَكِنْ أبْتَكِرْ
فَقَوْلُهُ: نَهِرٌ بِمَعْنى نَهارِيٍّ، وقَدْ قَدَّمْنا إيضاحَهُ مَعْنى الظُّلْمِ بِشَواهِدِهِ العَرَبِيَّةِ، في مَواضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِن هَذا الكِتابِ المُبارَكِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى .
{"ayah":"مَّنۡ عَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَاۤءَ فَعَلَیۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمࣲ لِّلۡعَبِیدِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق