الباحث القرآني

* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا﴾ الآيَةَ. هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ القاتِلَ عَمْدًا لا تَوْبَةَ لَهُ وأنَّهُ مُخَلَّدٌ في النّارِ، وقَدْ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلى خِلافِ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ١١٦] . وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ - إلى قَوْلِهِ - ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ الآيَةَ [الفرقان: ٧٠] . وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] . (p-٢٥٧)وَقَوْلِهِ: ﴿وَإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ﴾ الآيَةَ [الفرقان: ٨٢] . وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ أوْجَهٌ مِنها أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها﴾ أيْ إذا كانَ مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِ المُؤْمِنِ عَمْدًا لِأنَّ مُسْتَحِلَّ ذَلِكَ كافِرٌ. قالَهُ عِكْرِمَةُ وغَيْرُهُ ويَدُلُّ لَهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ وابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِن أنَّها نَزَلَتْ في مِقْيَسِ بْنِ صُبابَةَ، فَإنَّهُ أسْلَمَ هو وأخُوهُ هِشامٌ وكانا بِالمَدِينَةِ فَوَجَدَ مِقْيَسٌ أخاهُ قَتِيلًا في بَنِي النَّجّارِ ولَمْ يَعْرِفْ قاتِلَهُ، فَأمَرَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِالدِّيَةِ فَأعْطَتْها لَهُ الأنْصارُ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وقَدْ أرْسَلَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا مِن قُرَيْشٍ مِن بَنِي فِهْرٍ، فَعَمَدَ مِقْيَسٌ إلى الفِهْرِيِّ رَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَتَلَهُ وارْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ، ورَكِبَ جَمَلًا مِنَ الدِّيَةِ، وساقَ مَعَهُ البَقِيَّةَ، ولَحِقَ بِمَكَّةَ مُرْتَدًّا، وهو يَقُولُ في شِعْرٍ لَهُ: ؎قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وحَمَّلْتُ عَقْلَهُ سَراةَ بَنِي النَّجّارِ أرْبابَ فارِعِ ؎وَأدْرَكْتُ ثَأْرِي واضَّجَعْتُ مُوَسَّدًا ∗∗∗ وكُنْتُ إلى الأوْثانِ أوَّلَ راجِعِ وَمِقْيَسٌ هَذا هو الَّذِي قالَ فِيهِ ﷺ: «لا أُؤَمِّنُهُ في حِلٍّ ولا حَرَمٍ» وقُتِلَ مُتَعَلِّقًا بِأسْتارِ الكَعْبَةِ يَوْمَ الفَتْحِ، فالقاتِلُ الَّذِي هو كَمِقْيَسِ بْنِ صُبابَةَ المُسْتَحِلُّ لِلْقَتْلِ المُرْتَدُّ عَنِ الإسْلامِ، لا إشْكالَ في خُلُودِهِ في النّارِ. وَعَلى هَذا فالآيَةُ مُخْتَصَّةٌ بِما يُماثِلُ سَبَبُ نُزُولِها بِدَلِيلِ النُّصُوصِ المُصَرِّحَةِ بِأنَّ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ لا يُخَلَّدُ أحَدٌ مِنهم في النّارِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ المَعْنى: ”فَجَزاؤُهُ“ أنْ جُوزِيَ مَعَ إمْكانِ ألّا يُجازى إذا تابَ أوْ كانَ لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ يُرَجَّحُ بِعَمَلِهِ السَّيِّئِ، وهَذا قَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ وأبِي مِجْلَزٍ وأبِي صالِحٍ وجَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ الآيَةَ لِلتَّغْلِيظِ في الزَّجْرِ ذَكَرَ هَذا الوَجْهَ الخَطِيبُ والألُوسِيُّ في تَفْسِيرَيْهِما، وعَزاهُ الألُوسِيُّ لِبَعْضِ المُحَقِّقِينَ واسْتَدَلّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧]، عَلى القَوْلِ بِأنَّ مَعْناهُ ومَن لَمْ يَحُجَّ. وَبِقَوْلِهِ ﷺ الثّابِتِ في الصَّحِيحَيْنِ لِلْمِقْدادِ حِينَ سَألَهُ عَنْ قَتْلِ مَن أسْلَمَ مِنَ الكُفّارِ بَعْدَ (p-٢٥٨)أنْ قَطَعَ يَدَهُ في الحَرْبِ: «لا تَقْتُلْهُ فَإنْ قَتَلْتَهُ فَإنَّهُ بِمَنزِلَتِكَ قَبْلَ أنْ تَقْتُلَهُ وإنَّكَ بِمَنزِلَتِهِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ الكَلِمَةَ الَّتِي قالَ» . وَهَذا الوَجْهُ مِن قَبِيلِ كُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ، وخُلُودٍ دُونَ خُلُودٍ، فالظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِهِ عِنْدَ القائِلِ بِهِ أنَّ مَعْنى الخُلُودِ المُكْثُ الطَّوِيلُ، والعَرَبُ رُبَّما تُطْلِقُ اسْمَ الخُلُودِ عَلى المُكْثِ ومِنهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: ؎فَوَقَفْتُ أسْألُها وكَيْفَ سُؤالُنا ∗∗∗ صُمًّا خَوالِدَ ما يَبِينُ كَلامُها إلّا أنَّ الصَّحِيحَ في مَعْنى الآيَةِ الوَجْهُ الثّانِي والأوَّلُ، وعَلى التَّغْلِيظِ في الزَّجْرِ، حَمَلَ بَعْضُ العُلَماءِ كَلامَ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ ناسِخَةٌ لِكُلِّ ما سِواها، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ أنَّ القاتِلَ عَمْدًا مُؤْمِنٌ عاصٍ لَهُ تَوْبَةٌ، كَما عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَماءِ الأُمَّةِ، وهو صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ﴾ الآيَةَ وادِّعاءُ تَخْصِيصِها بِالكُفّارِ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ . وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ . وَقَدْ تَوافَرَتِ الأحادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ. وَصَرَّحَ تَعالى بِأنَّ القاتِلَ أخُو المَقْتُولِ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٧٨]، ولَيْسَ أخُو المُؤْمِنِ إلّا المُؤْمِنَ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩] فَسَمّاهم مُؤْمِنِينَ مَعَ أنَّ بَعْضَهم يَقْتُلُ بَعْضًا. وَمِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ في قِصَّةِ الإسْرائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، لِأنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ أوْلى بِالتَّخْفِيفِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، لِأنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْها الآصارَ والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب