الباحث القرآني

* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ . لا تَعارُضَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] . والجَوابُ ظاهِرٌ، وهو أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ﴾ أيْ مَطَرٌ وخِصْبٌ وأرْزاقٌ وعافِيَةٌ يَقُولُوا هَذا أكْرَمَنا اللَّهُ بِهِ، ﴿وَإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ﴾ أيْ جَدْبٌ وقَحْطٌ وفَقْرٌ وأمْراضٌ، ﴿يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ أيْ مِن شُؤْمِكَ يا مُحَمَّدُ وشُؤْمِ ما جِئْتَ بِهِ. قُلْ لَهم: كُلُّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ. وَمَعْلُومٌ أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي يَأْتِي بِالمَطَرِ والرِّزْقِ والعافِيَةِ، كَما أنَّهُ يَأْتِي بِالجَدْبِ والقَحْطِ والفَقْرِ والأمْراضِ والبَلايا، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُ اللَّهِ في فِرْعَوْنِ وقَوْمِهِ مَعَ (p-٢٥٤)مُوسى: ﴿وَإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣١] . وَقَوْلُهُ تَعالى في قَوْمِ صالِحٍ مَعَ صالِحٍ: ﴿قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وبِمَن مَعَكَ﴾ الآيَةَ [النمل: ٤٧]، وقَوْلُ أصْحابِ القَرْيَةِ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ: قالُوا ﴿إنّا تَطَيَّرْنا بِكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ الآيَةَ [يس: ١٨] . وَأمّا قَوْلُهُ: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ أيْ لِأنَّهُ هو المُتَفَضِّلُ بِكُلِّ نِعْمَةٍ ﴿وَما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ أيْ مِن قِبَلِكَ ومِن قِبَلِ عَمَلِكَ أنْتِ إذْ لا تُصِيبُ الإنْسانَ سَيِّئَةٌ إلّا بِما كَسَبَتْ يَداهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [ ٤٢ ] . وَسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَحْرِيرُ المَقامِ في قَضِيَّةِ أفْعالِ العِبادِ بِما يَرْفَعُ الإشْكالَ في سُورَةِ ”الشَّمْسِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ [الشمس: ٨]، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. قَيَّدَ في هَذِهِ الآيَةِ الرَّقَبَةَ المُعْتَقَةَ في كَفّارَةِ القَتْلِ خَطَأً بِالإيمانِ، وأطْلَقَ الرَّقَبَةَ الَّتِي في كَفّارَةِ الظِّهارِ واليَمِينِ عَنْ قَيْدِ الإيمانِ، حَيْثُ قالَ في كُلٍّ مِنهُما: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ ولَمْ يَقُلْ: مُؤْمِنَةٍ. وَهَذِهِ المَسْألَةُ مِن مَسائِلِ تَعارُضِ المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ وحاصِلُ تَحْرِيرِ المَقامِ فِيها أنَّ المُطْلَقَ والمُقَيَّدَ لَهُما أرْبَعُ حالاتٍ: الأُولى: أنَّهُ يَتَّفِقُ حُكْمُهُما وسَبَبُهُما كَآيَةِ الدَّمِ الَّتِي تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها، فَجُمْهُورُ العُلَماءِ يَحْمِلُونَ المُطْلَقَ عَلى المُقَيَّدِ في هَذِهِ الحالَةِ الَّتِي هي اتِّحادُ السَّبَبِ والحُكْمِ مَعًا، وهو أُسْلُوبٌ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لِأنَّهم يُثْبِتُونَ ثُمَّ يَحْذِفُونَ اتِّكالًا عَلى المُثْبَتِ، كَقَوْلِ الشّاعِرِ وهو قَيْسُ بْنُ الخَطِيمِ: ؎نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ فَحَذَفَ راضُونَ لِدَلالَةِ راضٍ عَلَيْها، ونَظِيرُهُ أيْضًا قَوْلُ ضابِئِ بْنِ الحارَثِ البُرْجُمِيِّ: ؎فَمَن يَكُ أمْسى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ ∗∗∗ فَإنِّي وقَيّارًا بِها لَغَرِيبُ(p-٢٥٥) ؎رَمانِي بِأمْرٍ كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي ∗∗∗ بَرِيئًا ومِن أجْلِ الطَّوِيِّ رَمانِي وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّ حَمْلَ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ بِالقِياسِ، وقِيلَ بِالعَقْلِ وهو أضْعَفُها، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. الحالَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ يَتَّحِدَ الحُكْمُ ويَخْتَلِفَ السَّبَبُ، كَما في هَذِهِ الآيَةِ فَإنَّ الحُكْمَ مُتَّحِدٌ وهو عِتْقُ رَقَبَةٍ، والسَّبَبُ مُخْتَلِفٌ وهو قَتْلُ خَطَأٍ وظِهارٌ مَثَلًا، ومِثْلُ هَذا المُطْلَقِ يُحْمَلُ عَلى المُقَيَّدِ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ والحَنابِلَةِ وكَثِيرٍ مِنَ المالِكِيَّةِ، ولِذا أوْجَبُوا الإيمانَ في كَفّارَةِ الظِّهارِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ، ويَدُلُّ لِحَمْلِ هَذا المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ، قَوْلُهُ ﷺ في قِصَّةِ مُعاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ: «أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ» ولَمْ يَسْتَفْصِلْهُ عَنْها هَلْ هي كَفّارَةٌ أوْ لا، وتَرْكُ الِاسْتِفْصالِ يَنْزِلُ مَنزِلَةَ العُمُومِ في الأقْوالِ، قالَ في مَراقِي السُّعُودِ: ؎وَنَزِّلَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصالِ ∗∗∗ مَنزِلَةَ العُمُومِ في الأقْوالِ الحالَةُ الثّالِثَةُ: عَكْسُ هَذِهِ، وهي الِاتِّحادُ في السَّبَبِ مَعَ الِاخْتِلافِ في الحُكْمِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ فِيها المُطْلَقُ عَلى المُقَيَّدِ، وقِيلَ: لا، وهو أكْثَرُ العُلَماءِ، ومِثالُهُ صَوْمُ الظِّهارِ وإطْعامُهُ فَسَبَبُهُما واحِدٌ وهو الظِّهارُ، وحُكْمُهُما مُخْتَلِفٌ لِأنَّ هَذا صَوْمٌ وهَذا إطْعامٌ، وأحَدُهُما مُقَيَّدٌ بِالتَّتابُعِ وهو الصَّوْمُ، والثّانِي مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتابُعِ وهو الإطْعامُ، فَلا يُحْمَلُ هَذا المُطْلَقُ عَلى هَذا المُقَيَّدِ. والقائِلُونَ بِحَمْلِ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ في هَذِهِ الحالَةِ مَثَّلُوا لَهُ بِإطْعامِ الظِّهارِ، فَإنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِكَوْنِهِ قَبْلَ أنْ يَتَماسّا، مَعَ أنَّ عِتْقَهُ وصَوْمَهُ قُيِّدا بِقَوْلِهِ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَتَماسّا﴾ [المجادلة: ٣]، فَيُحْمَلُ هَذا المُطْلَقُ عَلى المُقَيَّدِ فَيَجِبُ كَوْنُ الإطْعامِ قَبْلَ المَسِيسِ. وَمَثَّلَ لَهُ اللَّخْمِيُّ بِالإطْعامِ في كَفّارَةِ اليَمِينِ حَيْثُ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] . وَأطْلَقَ الكُسْوَةَ عَنِ القَيْدِ بِذَلِكَ حَيْثُ قالَ: ﴿أوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ [المائدة: ٨٩]، فَيُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلى المُقَيَّدِ فَيُشْتَرَطُ في الكُسْوَةِ أنْ تَكُونَ مِن أوْسَطِ ما تَكْسُونَ أهْلِيكم. الحالَةُ الرّابِعَةُ: أنْ يَخْتَلِفا في الحُكْمِ والسَّبَبِ مَعًا ولا حَمْلَ فِيها إجْماعًا وهو واضِحٌ، وهَذا فِيما إذا كانَ المُقَيَّدُ واحِدًا. (p-٢٥٦)أمّا إذا ورَدَ مُقَيَّدانِ بِقَيْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلا يُمْكِنُ حَمْلُ المُطْلَقِ عَلى كِلَيْهِما لِتَنافِي قَيْدَيْهِما، ولَكِنَّهُ يَنْظُرُ فِيهِما، فَإنْ كانَ أحَدُهُما أقْرَبَ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الآخَرِ حُمِلَ المُطْلَقُ عَلى الأقْرَبِ لَهُ مِنهُما عِنْدَ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ فَيُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ أحَدُهُما أقْرَبَ لَهُ فَلا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ واحِدٍ مِنهُما، ويَبْقى عَلى إطْلاقِهِ لِاسْتِحالَةِ التَّرْجِيحِ بِلا مُرَجِّحٍ. مِثالُ كَوْنِ أحَدِهِما أقْرَبَ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الآخَرِ صَوْمُ كَفّارَةِ اليَمِينِ، فَإنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ التَّتابُعِ والتَّفْرِيقِ، مَعَ أنَّ صَوْمَ الظِّهارِ مُقَيَّدٌ بِالتَّتابُعِ، وصَوْمَ التَّمَتُّعِ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ، واليَمِينُ أقْرَبُ إلى الظِّهارِ مِنَ التَّمَتُّعِ لِأنَّ كُلًّا مِنَ اليَمِينِ والظِّهارِ صَوْمُ كَفّارَةٍ بِخِلافِ صَوْمِ التَّمَتُّعِ، فَيُقَيَّدُ صَوْمُ كَفّارَةِ اليَمِينِ بِالتَّتابُعِ عِنْدَ مَن يَقُولُ بِذَلِكَ، ولا يُقَيَّدُ بِالتَّفْرِيقِ الَّذِي في صَوْمِ التَّمَتُّعِ. وَقِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: ”فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ مُتَتابِعاتٍ“ لَمْ تَثْبُتْ لِإجْماعِ الصَّحابَةِ عَلى عَدَمِ كَتْبِ ”مُتَتابِعاتٍ“ في المُصْحَفِ، ومِثالُ كَوْنِهِما لَيْسَ أحَدُهُما أقْرَبَ لِلْمُطْلَقِ مِنَ الآخَرِ صَوْمُ قَضاءِ رَمَضانَ، فَإنَّ اللَّهَ قالَ فِيهِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ٨٤]، ولَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَتابُعٍ ولا تَفْرِيقٍ مَعَ أنَّهُ قَيَّدَ صَوْمَ الظِّهارِ بِالتَّتابُعِ وصَوْمَ التَّمَتُّعِ بِالتَّفْرِيقِ، ولَيْسَ أحَدُهُما أقْرَبَ إلى قَضاءِ رَمَضانَ مِنَ الآخَرِ، فَلا يُقَيَّدُ بِقَيْدٍ واحِدٍ مِنهُما، بَلْ يَبْقى عَلى الِاخْتِيارِ إنْ شاءَ تابَعَهُ وإنْ شاءَ فَرَّقَهُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب