الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ.
قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُرادُ بِالقَصْرِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَقْصُرُوا﴾ في هَذِهِ الآيَةِ قَصْرُ كَيْفِيَّتِها لا كَمِّيَّتِها، ومَعْنى قَصْرِ كَيْفِيَّتِها أنْ يَجُوزَ فِيها مِنَ الأُمُورِ ما لا يَجُوزُ في صَلاةِ الأمْنِ، كَأنْ يُصَلِّيَ بَعْضُهم مَعَ الإمامِ رَكْعَةً واحِدَةً، ويَقِفُ الإمامُ حَتّى يَأْتِيَ البَعْضُ الآخَرُ فَيُصَلِّي مَعَهُمُ الرَّكْعَةَ الأُخْرى، وكَصَلاتِهِمْ إيماءً رِجالًا ورُكْبانًا وغَيْرَ مُتَوَجِّهِينَ إلى القِبْلَةِ، فَكُلُّ هَذا مِن قَصْرِ كَيْفِيَّتِها ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ هو هَذا القَصْرُ مِن كَيْفِيَّتِها.
قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَهُ يَلِيهِ مُبَيِّنًا لَهُ: ﴿وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ الآيَةَ [النساء: ١٠٢]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ [البقرة: ٢٣٩]، ويَزِيدُهُ إيضاحًا أنَّهُ قالَ هُنا: ﴿فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [ ٤ ]، وقالَ في آيَةِ البَقَرَةِ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٩]؛ لِأنَّ مَعْناهُ فَإذا أمِنتُمْ فَأتِمُّوا كَيْفِيَّتَها بِرُكُوعِها وسُجُودِها وجَمِيعِ ما يَلْزَمُ فِيها مِمّا يَتَعَذَّرُ وقْتَ الخَوْفِ.
وَعَلى هَذا التَّفْسِيرِ الَّذِي دَلَّ لَهُ القُرْآنُ فَشَرْطُ الخَوْفِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: ١٠١]، مُعْتَبَرٌ أيْ: وإنْ لَمْ تَخافُوا مِنهم أنْ يَفْتِنُوكم فَلا تَقْصُرُوا مِن كَيْفِيَّتِها، بَلْ صَلُّوها عَلى أكْمَلِ الهَيْئاتِ، كَما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [ ٤ ]، وصَرَّحَ بِاشْتِراطِ الخَوْفِ أيْضًا لِقَصْرِ كَيْفِيَّتِها بِأنْ يُصَلِّيَها الماشِي والرّاكِبُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾، ثُمَّ قالَ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ﴾ الآيَةَ يَعْنِي: فَإذا أمِنتُمْ فَأقِيمُوا صَلاتَكم كَما أمَرْتُكم بِرُكُوعِها وسُجُودِها، وقِيامِها وقُعُودِها عَلى أكْمَلِ هَيْئَةٍ وأتَمِّها، وخَيْرُ ما يُبَيِّنُ القُرْآنَ القُرْآنُ، (p-٢٤٩)وَيَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالقَصْرِ في هَذِهِ الآيَةِ القَصْرُ مِن كَيْفِيَّتِها كَما ذَكَرْنا، أنَّ البُخارِيَّ صَدَّرَ بابَ صَلاةِ الخَوْفِ بِقَوْلِهِ: بابُ صَلاةِ الخَوْفِ، وقَوْلُ اللَّهِ تَعالى: ﴿وَإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكم عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ﴿وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهم فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكم ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهم ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكم وأمْتِعَتِكم فَيَمِيلُونَ عَلَيْكم مَيْلَةً واحِدَةً ولا جُناحَ عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى مِن مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكم وخُذُوا حِذْرَكم إنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا﴾ [النساء: ١٠١، ١٠٢]، وما ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وغَيْرُهُ مِن أنَّ البُخارِيَّ ساقَ الآيَتَيْنِ في التَّرْجَمَةِ؛ لِيُشِيرَ إلى خُرُوجِ صَلاةِ الخَوْفِ عَنْ هَيْئَةِ بَقِيَّةِ الصَّلَواتِ بِالكِتابِ قَوْلًا، وبِالسُّنَّةِ فِعْلًا، لا يُنافِي ما أشَرْنا إلَيْهِ مِن أنَّهُ ساقَ الآيَتَيْنِ في التَّرْجَمَةِ لِيُنَبِّهَ عَلى أنَّ قَصْرَ الكَيْفِيَّةِ الوارِدَ في أحادِيثِ البابِ هو المُرادُ بِقَصْرِ الصَّلاةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ويُؤَيِّدُهُ أيْضًا أنَّ قَصْرَ عَدَدِها لا يُشْتَرَطُ فِيهِ الخَوْفُ، وقَدْ كانَ ﷺ يَقْصُرُ هو وأصْحابُهُ في السَّفَرِ وهم في غايَةِ الأمْنِ، كَما وقَعَ في حَجَّةِ الوَداعِ وغَيْرُها، وكَما «قالَ ﷺ لِأهْلِ مَكَّةَ»: ”أتِمُّوا فَإنّا قَوْمٌ سَفْرٌ“ .
وَمِمَّنْ قالَ بِأنَّ المُرادَ بِالقَصْرِ في هَذِهِ الآيَةِ قَصْرُ الكَيْفِيَّةِ لا الكَمِّيَّةِ: مُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وهو قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الرّازِيِّ الحَنَفِيِّ. ونَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ولَمّا نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذا القَوْلَ عَمَّنْ ذَكَرْنا قالَ: واعْتَضَدُوا بِما رَواهُ الإمامُ مالِكٌ عَنْ صالِحِ بْنِ كَيْسانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّها قالَتْ: ”فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في السَّفْرِ والحَضَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ“ .
وَقَدْ رَوى هَذا الحَدِيثَ البُخارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ التِّنِيسِيِّ، ومُسْلِمٌ عَنْ يَحْيى بْنِ يَحْيى، وأبُو داوُدَ عَنِ القَعْنَبِيِّ، والنَّسائِيِّ عَنْ قُتَيْبَةَ أرْبَعَتُهم عَنْ مالِكٍ بِهِ قالُوا: " فَإذا كانَ أصْلُ الصَّلاةِ في السَّفَرِ اثْنَتَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ المُرادُ بِالقَصْرِ هُنا قَصْرَ الكَمِّيَّةِ ؟ لِأنَّ ما هو الأصْلُ لا يُقالُ فِيهِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ .
وَأصْرَحُ مِن ذَلِكَ دَلالَةً عَلى هَذا ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، حَدَّثَنا وكِيعٌ، وسُفْيانُ، (p-٢٥٠)وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ زُبَيْدٍ اليامِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «صَلاةُ السَّفَرِ رَكْعَتانِ، وصَلاةُ الأضْحى رَكْعَتانِ، وصَلاةُ الفِطْرِ رَكْعَتانِ، وصَلاةُ الجُمُعَةِ رَكْعَتانِ تَمامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ» .
وَهَكَذا رَواهُ النَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ حِبّانَ في ”صَحِيحِهِ“ مِن طُرُقٍ عَنْ زُبَيْدٍ اليامِيِّ بِهِ، وهَذا إسْنادٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وقَدْ حَكَمَ مُسْلِمٌ في مُقَدِّمَةِ كِتابِهِ بِسَماعِ ابْنِ أبِي لَيْلى عَنْ عُمَرَ، وقَدْ جاءَ مُصَرَّحًا بِهِ في هَذا الحَدِيثِ وغَيْرِهِ وهو الصَّوابُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وإنْ كانَ يَحْيى بْنُ مَعِينٍ، وأبُو حاتِمٍ، والنَّسائِيُّ قَدْ قالُوا: إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنهُ.
وَعَلى هَذا أيْضًا فَقالَ: فَقَدْ وقَعَ في بَعْضِ طُرُقِ أبِي يَعْلى المَوْصِلِيِّ، مِن طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، عَنِ الثِّقَةِ عَنْ عُمَرَ فَذَكَرَهُ، وعِنْدَ ابْنِ ماجَهْ مِن طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زِيادِ بْنِ أبِي الجَعْدِ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عُمَرَ فاللَّهُ أعْلَمُ.
وَقَدْ رَوى مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“، وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ مِن حَدِيثِ أبِي عَوانَةَ الوَضّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اليَشْكُرِيِّ زادَ مُسْلِمٌ، والنَّسائِيُّ، وأيُّوبُ بْنُ عائِذٍ، كِلاهُما عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأخْنَسِ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ قالَ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ عَلى لِسانِ نَبِيِّكم مُحَمَّدٍ ﷺ في الحَضَرِ أرْبَعًا وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً فَكَما يُصَلّى في الحَضَرِ قَبْلَها وبَعْدَها فَكَذَلِكَ يُصَلّى في السَّفَرِ» .
وَرَواهُ ابْنُ ماجَهْ مِن حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ طاوُسٍ نَفْسِهِ فَهَذا ثابِتٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ولا يُنافِي ما تَقَدَّمَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها؛ لِأنَّها أخْبَرَتْ ”أنَّ أصْلَ الصَّلاةِ رَكْعَتانِ، ولَكِنْ زِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ فَلَمّا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّ فَرْضَ صَلاةِ الحَضَرِ أرْبَعٌ“، كَما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَلَكِنِ اتَّفَقَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ، وعائِشَةَ عَلى أنَّ صَلاةَ السَّفَرِ رَكْعَتانِ، وأنَّها تامَّةٌ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ كَما هو مُصَرَّحٌ بِهِ في حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واعْلَمْ أنَّ حَدِيثَ عائِشَةَ المَذْكُورَ تُكُلِّمَ فِيهِ مِن ثَمانِ جِهاتٍ:
الأُولى: أنَّهُ مُعارَضٌ بِالإجْماعِ. قالَ القاضِي أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيِّ في كِتابِهِ المُسَمّى ”بِالقَبَسِ“ . قالَ عُلَماؤُنا هَذا الحَدِيثُ مَرْدُودٌ بِالإجْماعِ.
الثّانِيَةُ: أنَّها هي خالَفَتْهُ، والرّاوِي مِن أعْلَمِ النّاسِ بِما رَوى فَهي رَضِيَ اللَّهُ عَنْها (p-٢٥١)كانَتْ تُتِمُّ في السَّفَرِ، قالُوا: ومُخالَفَتُها لِرِوايَتِها تُوهِنُ الحَدِيثَ.
الثّالِثَةُ: إجْماعُ فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِأصْلٍ يُعْتَبَرُ في صَلاةِ المُسافِرِ خَلْفَ المُقِيمِ.
الرّابِعَةُ: أنَّ غَيْرَها مِنَ الصَّحابَةِ خالَفَها، كَعُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَقالُوا: ”إنَّ الصَّلاةَ فُرِضَتْ في الحَضَرِ أرْبَعًا، وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وفي الخَوْفِ رَكْعَةً“، وقَدْ قَدَّمْنا رِوايَةَ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
الخامِسَةُ: دَعْوى أنَّهُ مُضْطَرِبٌ؛ لِأنَّهُ رَواهُ ابْنُ عَجْلانَ، عَنْ صالِحِ بْنِ كَيْسانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الصَّلاةَ رَكْعَتَيْنِ»، وقالَ فِيهِ الأوْزاعِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ، قالَتْ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاةَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» الحَدِيثَ. قالُوا: فَهَذا اضْطِرابٌ.
السّادِسَةُ: أنَّهُ لَيْسَ عَلى ظاهِرِهِ؛ لِأنَّ المَغْرِبَ، والصُّبْحَ لَمْ يُزَدْ فِيهِما، ولَمْ يُنْقَصْ.
السّابِعَةُ: أنَّهُ مِن قَوْلِ عائِشَةَ لا مَرْفُوعٍ.
الثّامِنَةُ: قَوْلُ إمامِ الحَرَمَيْنِ: لَوْ صَحَّ لَنُقِلَ مُتَواتِرًا.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: وهَذِهِ الِاعْتِراضاتُ المُورَدَةُ عَلى حَدِيثِ عائِشَةَ المَذْكُورِ كُلُّها ساقِطَةٌ، أمّا مُعارَضَتُهُ بِالإجْماعِ فَلا يَخْفى سُقُوطُها؛ لِأنَّهُ لا يَصِحُّ فِيهِ إجْماعٌ وذَكَرَ ابْنُ العَرَبِيِّ نَفْسُهُ الخِلافَ فِيهِ.
وَقالَ القُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ دَعْوى ابْنِ العَرَبِيِّ الإجْماعَ المَذْكُورَ قُلْتُ: وهَذا لا يَصِحُّ، وقَدْ ذَكَرَ هو وغَيْرُهُ الخِلافَ والنِّزاعَ فَلَمْ يَصِحَّ ما ادَّعَوْهُ مِنَ الإجْماعِ.
وَأمّا مُعارَضَتُهُ بِمُخالَفَةِ عائِشَةَ لَهُ فَهي أيْضًا ظاهِرَةُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ العِبْرَةَ بِرِوايَتِها لا بِرَأْيِها كَما هو التَّحْقِيقُ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وقَدْ بَيَّنّاهُ في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ في الكَلامِ عَلى حَدِيثِ طاوُسٍ المُتَقَدِّمِ في الطَّلاقِ.
وَأمّا مُعارَضَتُهُ بِإجْماعِ فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِأصْلٍ يُعْتَبَرُ في صَلاةِ المُسافِرِ خَلْفَ المُقِيمِ، فَجَوابُهُ أنَّ فُقَهاءَ الأمْصارِ لَمْ يُجْمِعُوا عَلى ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ المُسافِرَ لا يَصِحُّ اقْتِداؤُهُ بِالمُقِيمِ لِمُخالَفَتِهِما في العَدَدِ، والنِّيَّةِ، واحْتَجُّوا (p-٢٥٢)بِحَدِيثِ: «لا تَخْتَلِفُوا عَلى إمامِكم» ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ وطاوُسٌ وداوُدُ الظّاهِرِيُّ وغَيْرُهم.
وَأمّا مُعارَضَتُهُ بِمُخالَفَةِ بَعْضِ الصَّحابَةِ لَها كابْنِ عَبّاسٍ، فَجَوابُهُ ما قَدَّمْناهُ آنِفًا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ مِن أنَّ صَلاةَ الحَضَرِ لَمّا زِيدَ فِيها واسْتَقَرَّ ذَلِكَ صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّ فَرْضَ صَلاةِ الحَضَرِ أرْبَعٌ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ.
وَأمّا تَضْعِيفُهُ بِالِاضْطِرابِ فَهو ظاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اضْطِرابٌ أصْلًا، ومَعْنى فَرَضَ اللَّهُ وفَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ واحِدٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ هو الشّارِعُ والرَّسُولُ هو المُبِيِّنُ، فَإذا قِيلَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ كَذا فالمُرادُ أنَّهُ مُبَلِّغٌ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ فَلا يُنافِي أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي فَرَضَ ذَلِكَ كَما قالَ تَعالى: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، ونَظِيرُهُ حَدِيثُ: «إنَّ إبْراهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ» مَعَ حَدِيثِ: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللَّهُ» الحَدِيثَ.
وَأمّا رَدُّهُ بِأنَّ المَغْرِبَ والصُّبْحَ لَمْ يُزَدْ فِيهِما فَهو ظاهِرُ السُّقُوطِ أيْضًا؛ لِأنَّ المُرادَ بِالحَدِيثِ الصَّلَواتُ الَّتِي تُقْصَرُ خاصَّةً كَما هو ظاهِرٌ، مَعَ أنَّ بَعْضَ الرِّواياتِ عَنْ عائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وابْنِ حِبّانَ، والبَيْهَقِيِّ. قالَتْ: «فُرِضَتْ صَلاةُ السَّفَرِ والحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ واطْمَأنَّ زِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ رَكْعَتانِ رَكْعَتانِ، وتُرِكَتْ صَلاةُ الفَجْرِ لِطُولِ القِراءَةِ وصَلاةُ المَغْرِبِ؛ لِأنَّها وتْرُ النَّهارِ» وعِنْدَ أحْمَدَ مِن طَرِيقِ ابْنِ كَيْسانَ في حَدِيثِ عائِشَةَ المَذْكُورِ ”إلّا المَغْرِبَ فَإنَّها كانَتْ ثَلاثًا“ .
وَهَذِهِ الرِّواياتُ تُبَيِّنُ أنَّ المُرادَ خُصُوصُ الصَّلَواتِ الَّتِي تُقْصَرُ، وأمّا رَدُّهُ بِأنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ فَهو ظاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّهُ مِمّا لا مَجالَ فِيهِ لِلرَّأْيِ فَلَهُ حُكْمُ المَرْفُوعِ، ولَوْ سَلَّمْنا أنَّ عائِشَةَ لَمْ تَحْضُرْ فَرْضَ الصَّلاةِ فَإنَّها يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ في زَمَنِها مَعَهُ، ولَوْ فَرَضْنا أنَّها لَمْ تَسْمَعْهُ مِنهُ فَهو مُرْسَلُ صَحابِيٍّ ومَراسِيلُ الصَّحابَةِ لَها حُكْمُ الوَصْلِ.
وَأمّا قَوْلُ إمامِ الحَرَمَيْنِ إنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَنُقِلَ مُتَواتِرًا فَهو ظاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا لا يُرَدُّ بِعَدَمِ التَّواتُرِ، فَإذا عَرَفْتَ مِمّا تَقَدَّمَ أنَّ صَلاةَ السَّفَرِ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ كَما صَحَّ بِهِ الحَدِيثُ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ عَبّاسٍ وعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فاعْلَمْ أنَّ ابْنَ كَثِيرٍ بَعْدَ أنْ ساقَ الحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وعائِشَةَ قالَ ما نَصُّهُ:
وَإذا كانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ﴾ [النساء: ١٠١]، أنْ (p-٢٥٣)تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ قَصْرَ الكَيْفِيَّةِ كَما في صَلاةِ الخَوْفِ؛ ولِهَذا قالَ: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ. ولِهَذا قالَ بَعْدَها: ﴿وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ الأيَّةَ [النساء: ١٠٢] . فَبَيَّنَ المَقْصُودَ مِنَ القَصْرِ هاهُنا، وذَكَرَ صِفَتَهُ وكَيْفِيَّتَهُ. اه مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ وهو واضِحٌ جِدًّا فِيما ذَكَرْنا وهو اخْتِيارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
* * *
وَعَلى هَذا القَوْلِ، فالآيَةُ في صَلاةِ الخَوْفِ وقَصْرِ الصَّلاةِ في السَّفَرِ عَلَيْهِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ لا مِنَ القُرْآنِ، وفي مَعْنى الآيَةِ الكَرِيمَةِ أقْوالٌ أُخَرُ:
أحَدُها: أنَّ مَعْنى أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: ١٠١]، الِاقْتِصارُ عَلى رَكْعَةٍ واحِدَةٍ في صَلاةِ الخَوْفِ كَما قَدَّمْنا آنِفًا مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، والنَّسائِيِّ، وأبِي داوُدَ، وابْنِ ماجَهْ، وقَدَّمْنا أنَّهُ رَواهُ ابْنُ ماجَهْ عَنْ طاوُسٍ.
وَقَدْ رَوى نَحْوَهُ أبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قالَ: «فَصَلّى بِهَؤُلاءِ رَكْعَةً، وهَؤُلاءِ رَكْعَةً ولَمْ يَقْضُوا» ورَواهُ النَّسائِيُّ أيْضًا مِن حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
وَمِمَّنْ قالَ بِالِاقْتِصارِ في الخَوْفِ عَلى رَكْعَةٍ واحِدَةٍ، الثَّوْرِيُّ وإسْحاقُ ومَن تَبِعَهُما. ورُوِيَ عَنْ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وعَطاءٍ، وجابِرٍ، والحَسَنِ، ومُجاهِدٍ، والحَكَمِ، وقَتادَةَ، وحَمّادٍ، والضَّحّاكِ.
وَقالَ بَعْضُهم: يُصَلّى الصُّبْحُ في الخَوْفِ رَكْعَةً، وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ، ويُحْكى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ وبِالِاقْتِصارِ عَلى رَكْعَةٍ واحِدَةٍ في الخَوْفِ.
قالَ أبُو هُرَيْرَةَ وأبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ وغَيْرُ واحِدٍ مِنَ التّابِعِينَ ومِنهم مَن قَيَّدَهُ بِشِدَّةِ الخَوْفِ.
وَعَلى هَذا القَوْلِ، فالقَصْرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: ١٠١]، قَصْرُ كَمِّيَّةٍ.
وَقالَ جَماعَةٌ: إنَّ المُرادَ بِالقَصْرِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾، هو قَصْرُ الصَّلاةِ في السَّفَرِ. قالُوا: ولا مَفْهُومَ مُخالَفَةٍ لِلشَّرْطِ الَّذِي هو قَوْلُهُ: ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ لِأنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الغالِبِ حالَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّ في مَبْدَأِ (p-٢٥٤)الإسْلامِ بَعْدَ الهِجْرَةِ كانَ غالِبُ أسْفارِهِمْ مَخُوفَةً.
وَقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ، أنَّ مِنَ المَوانِعِ لِاعْتِبارِ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ خُرُوجُ المَنطُوقِ مَخْرَجَ الغالِبِ، ولِذا لَمْ يَعْتَبِرِ الجُمْهُورُ مَفْهُومَ المُخالَفَةِ في قَوْلِهِ: ﴿اللّاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]؛ لِجَرَيانِهِ عَلى الغالِبِ.
قالَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“: في ذِكْرِ مَوانِعِ اعْتِبارِ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ: [ الرَّجَزُ ]
؎أوْ جَهِلَ الحُكْمَ أوِ النُّطْقَ انْجَلَبْ لِلسُّؤْلِ أوْ جَرى عَلى الَّذِي غَلَبْ
واسْتَدَلَّ مَن قالَ: إنَّ المُرادَ بِالآيَةِ قَصْرُ الرُّباعِيَّةِ في السَّفَرِ بِما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“، والإمامُ أحْمَدُ، وأصْحابُ السُّنَنِ الأرْبَعَةِ، عَنْ يَعْلى بْنِ أُمَيَّةَ قالَ: «قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، فَقَدْ أمِنَ النّاسُ، قالَ: عَجِبْتُ ما عَجِبْتَ مِنهُ، فَسَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ: ”صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْكم فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»“ .
فَهَذا الحَدِيثُ الثّابِتُ في ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“، وغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ يَعْلى بْنَ أُمَيَّةَ، وعُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - كانا يَعْتَقِدانِ أنَّ مَعْنى الآيَةِ قَصْرُ الرُّباعِيَّةِ في السَّفَرِ، وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أقَرَّ عُمَرَ عَلى فَهْمِهِ لِذَلِكَ، وهو دَلِيلٌ قَوِيٌّ، ولَكِنَّهُ مُعارَضٌ بِما تَقَدَّمَ عَنْ عُمَرَ مِن أنَّهُ قالَ: «صَلاةُ السَّفَرِ رَكْعَتانِ تَمامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ» ويُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عائِشَةَ، وحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ المُتَقَدِّمانِ.
وَظاهِرُ الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ قَصْرَ الكَيْفِيَّةِ في صَلاةِ الخَوْفِ، كَما قَدَّمْنا، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، وهَيْئاتُ صَلاةِ الخَوْفِ كَثِيرَةٌ، فَإنَّ العَدُوَّ تارَةً يَكُونُ إلى جِهَةِ القِبْلَةِ، وتارَةً إلى غَيْرِها، والصَّلاةُ قَدْ تَكُونُ رُباعِيَّةً، وقَدْ تَكُونُ ثُلاثِيَّةً، وقَدْ تَكُونُ ثُنائِيَّةً، ثُمَّ تارَةً يُصَلُّونَ جَماعَةً، وتارَةً يَلْتَحِمُ القِتالُ، فَلا يَقْدِرُونَ عَلى الجَماعَةِ بَلْ يُصَلُّونَ فُرادى رِجالًا، ورُكْبانًا مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ، وغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيها، وكُلُّ هَيْئاتِ صَلاةِ الخَوْفِ الوارِدَةِ في الصَّحِيحِ جائِزَةٌ، وهَيْئاتُها، وكَيْفِيّاتُها مُفَصَّلَةٌ في كُتُبِ الحَدِيثِ والفُرُوعِ، وسَنَذْكُرُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ مِنها إنْ شاءَ اللَّهُ.
أمّا مالِكُ بْنُ أنَسٍ، فالصُّورَةُ الَّتِي أخَذَ بِها مِنها هي أنَّ الطّائِفَةَ الأُولى تُصَلِّي مَعَ الإمامِ رَكْعَةً في الثُّنائِيَّةِ، ورَكْعَتَيْنِ في الرُّباعِيَّةِ والثُّلاثِيَّةِ، ثُمَّ تُتِمُّ باقِيَ الصَّلاةِ، وهو اثْنَتانِ في الرُّباعِيَّةِ، وواحِدَةٌ في الثُّنائِيَّةِ والثُّلاثِيَّةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُونَ ويَقِفُونَ وِجاهَ العَدُوِّ، وتَأتِي (p-٢٥٥)الطّائِفَةُ الأُخْرى فَيَجِدُونَ الإمامَ قائِمًا يَنْتَظِرُهم، وهو مُخَيَّرٌ في قِيامِهِ بَيْنَ القِراءَةِ، والدُّعاءِ، والسُّكُوتِ إنْ كانَتْ ثُنائِيَّةً، وبَيْنَ الدُّعاءِ والسُّكُوتِ إنْ كانَتْ رُباعِيَّةً أوْ ثُلاثِيَّةً، وقِيلَ: يَنْتَظِرُهم في الرُّباعِيَّةِ والثُّلاثِيَّةِ جالِسًا فَيُصَلِّي بِهِمْ باقِيَ الصَّلاةِ، وهو رَكْعَةٌ في الثُّنائِيَّةِ، والثُّلاثِيَّةِ، ورَكْعَتانِ في الرُّباعِيَّةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ ويَقْضُونَ ما فاتَهم بَعْدَ سَلامِهِ، وهو رَكْعَةٌ في الثُّنائِيَّةِ، ورَكْعَتانِ في الرُّباعِيَّةِ والثُّلاثِيَّةِ. فَتَحَصَّلَ أنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ، أنَّهُ يُصَلِّي بِالطّائِفَةِ الأُولى رَكْعَةً أوِ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ يُتِمُّونَ لِأنْفُسِهِمْ ويُسَلِّمُونَ، ويَقِفُونَ في وجْهِ العَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الأُخْرى فَيُصَلِّي بِهِمُ الباقِيَ، ويُسَلِّمُ ويُتِمُّونَ لِأنْفُسِهِمْ.
قالَ ابْنُ يُونُسَ في هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنا: وحَدِيثُ القاسِمِ أشْبَهُ بِالقُرْآنِ، وإلى الأخْذِ بِهِ رَجَعَ مالِكٌ. اهـ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: مُرادُ ابْنِ يُونُسَ، أنَّ الحَدِيثَ الَّذِي رَواهُ مالِكٌ في ”المُوَطَّأِ“، عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ، بِالكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا، هو الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مالِكٌ، ورَجَّحَهُ أخِيرًا عَلى ما رَواهُ، أعْنِي مالِكًا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ، عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَمَّنْ صَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ ذاتِ الرِّقاعِ صَلاةَ الخَوْفِ. الحَدِيثَ، والفَرْقُ بَيْنَ رِوايَةِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وبَيْنَ رِوايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ، أنَّ رِوايَةَ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ فِيها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى بِالطّائِفَةِ الأُخْرى الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِن صَلاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جالِسًا وأتَمُّوا لِأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ، وقَدْ عَرَفْتَ أنَّ رِوايَةَ القاسِمِ عِنْدَ مالِكٍ في ”المُوَطَّأِ“، أنَّهُ يُصَلِّي بِالطّائِفَةِ الأُخْرى الرَّكْعَةَ الباقِيَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيُتِمُّونَ بَعْدَ سَلامِهِ لِأنْفُسِهِمْ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ مُشِيرًا إلى الكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا، وهي رِوايَةُ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عِنْدَ مالِكٍ، وهَذا الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مالِكٌ بَعْدَ أنْ قالَ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ، وإنَّما اخْتارَهُ ورَجَعَ إلَيْهِ لِلْقِياسِ عَلى سائِرِ الصَّلَواتِ: إنَّ الإمامَ لا يَنْتَظِرُ المَأْمُومَ، وإنَّ المَأْمُومَ إنَّما يَقْضِي بَعْدَ سَلامِ الإمامِ، وحَدِيثُ القاسِمِ هَذا الَّذِي أخْرَجَهُ مالِكٌ في (المُوَطَّأِ) مَوْقُوفٌ عَلى سَهْلٍ، إلّا أنَّ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ؛ لِأنَّهُ لا مَجالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ والتَّحْقِيقُ أنَّهُ مُرْسَلُ صَحابِيٍّ؛ لِأنَّ سَهْلًا كانَ صَغِيرًا في زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وجَزَمَ الطَّبَرَيُّ، وابْنُ حِبّانَ، وابْنُ السَّكَنِ، وغَيْرُهم بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ تُوُفِّيَ وسَهْلٌ المَذْكُورُ ابْنُ ثَمانِ سِنِينَ، وزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ أنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ القَوْلُ بِالكَيْفِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا أنَّها رَجَعَ إلَيْها مالِكٌ، ورَواها في ”مُوَطَّئِهِ“ عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، هَذا هو حاصِلُ مَذْهَبِ مالِكٍ في كَيْفِيَّةِ صَلاةِ الخَوْفِ. (p-٢٥٦)قالَ أوَّلًا: بِأنَّ الإمامَ يُصَلِّي بِالطّائِفَةِ الأُولى، ثُمَّ تُتِمُّ لِأنْفُسِها، ثُمَّ تُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي بَقِيَّةَ الصَّلاةِ بِالطّائِفَةِ الأُخْرى ويَنْتَظِرُها حَتّى تُتِمَّ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِها ورَجَعَ إلى أنَّ الإمامَ يُسَلِّمُ إذا صَلّى بَقِيَّةَ صَلاتِهِ مَعَ الطّائِفَةِ الأُخْرى، ولا يَنْتَظِرُهم حَتّى يُسَلِّمَ بِهِمْ بَلْ يُتِمُّونَ لِأنْفُسِهِمْ بَعْدَ سَلامِهِ، كَما بَيَّنّا.
والظّاهِرُ أنَّ المُبْهَمَ في رِوايَةِ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ في قَوْلِ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَمَّنْ صَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الحَدِيثَ، أنَّهُ أبُوهُ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ الصَّحابِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لا سَهْلُ بْنُ أبِي حَثْمَةَ، كَما قالَهُ بَعْضُهم.
قالَ الحافِظُ في ”الفَتْحِ“: ولَكِنَّ الرّاجِحَ أنَّهُ أبُوهُ خَوّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ؛ لِأنَّ أبا أُوَيْسٍ، رَوى هَذا الحَدِيثَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ شَيْخِ مالِكٍ فِيهِ فَقالَ: عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَنْ أبِيهِ، أخْرَجَهُ ابْنُ مَندَهْ في ”مَعْرِفَةِ الصَّحابَةِ“ مِن طَرِيقِهِ، وكَذَلِكَ أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، مِن طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتٍ، عَنْ أبِيهِ، وجَزَمَ النَّوَوِيُّ في ”تَهْذِيبِهِ“ بِأنَّهُ أبَوْهُ خَوّاتٌ، وقالَ: إنَّهُ مُحَقَّقٌ مِن رِوايَةِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ، قُلْتُ: وسَبَقَهُ إلى ذَلِكَ الغَزّالِيُّ، فَقالَ إنَّ صَلاةَ ذاتِ الرِّقاعِ في رِوايَةِ خَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ. اه مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ المالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ العَدُوِّ إلى جِهَةِ القِبْلَةِ وبَيْنَ كَوْنِهِ إلى غَيْرِها، وأمّا إذا اشْتَدَّ الخَوْفُ والتَحَمَ القِتالُ، ولَمْ يُمْكِنْ لِأحَدٍ مِنهم تَرَكُ القِتالَ فَإنَّهم يُصَلُّونَها رِجالًا ورُكْبانًا إيماءً مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةَ وغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيها، كَما نَصَّ عَلَيْهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٣٩] .
* * *
وَأمّا الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإنَّهُ اخْتارَ مِن هَيْئاتِ صَلاةِ الخَوْفِ أرْبَعًا:
إحْداها: هي الَّتِي ذَكَرْنا آنِفًا عِنْدَ اشْتِدادِ الخَوْفِ والتِحامِ القِتالِ، حَتّى لا يُمْكِنَ لِأحَدٍ مِنهم تَرْكُ القِتالِ، فَإنَّهم يُصَلُّونَ كَما ذَكَرْنا رِجالًا ورُكْبانًا إلَخِ الهَيْئَةَ.
الثّانِيَةُ: هي الَّتِي صَلّاها ﷺ بِبَطْنِ نَخْلٍ، وهي أنْ يُصَلِّيَ بِالطّائِفَةِ الأُولى صَلاتَهم كامِلَةً ثُمَّ يُسَلِّمُونَ جَمِيعُهم: الإمامُ والمَأْمُومُونَ ثُمَّ تَأْتِي الطّائِفَةُ الأُخْرى الَّتِي كانَتْ في وجْهِ العَدُوِّ فَيُصَلِّي بِهِمْ مَرَّةً أُخْرى هي لَهم فَرِيضَةٌ ولَهُ نافِلَةٌ، وصَلاةُ بَطْنِ نَخْلٍ هَذِهِ رَواها جابِرٌ وأبُو بَكْرَةَ، فَأمّا حَدِيثُ جابِرٍ فَرَواهُ مُسْلِمٌ أنَّهُ صَلّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ، فَصَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلّى بِالطّائِفَةِ الأُخْرى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلّى (p-٢٥٧)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أرْبَعَ رَكَعاتٍ وصَلّى بِكُلِّ طائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ.
وَذَكَرَهُ البُخارِيُّ مُخْتَصَرًا ورَواهُ الشّافِعِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ خُزَيْمَةَ مِن طَرِيقِ الحَسَنِ عَنْ جابِرٍ وفِيهِ أنَّهُ سَلَّمَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ أوَّلًا ثُمَّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ بِالطّائِفَةِ الأُخْرى.
وَأمّا حَدِيثُ أبِي بَكْرَةَ فَرَواهُ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ والحاكِمُ والدّارَقُطْنِيُّ، وفي رِوايَةِ بَعْضِهِمْ أنَّها الظُّهْرُ، وفي رِوايَةِ بَعْضِهِمْ أنَّها المَغْرِبُ، وإعْلالُ ابْنِ القَطّانِ لِحَدِيثِ أبِي بَكْرَةَ هَذا بِأنَّهُ أسْلَمَ بَعْدَ وُقُوعِ صَلاةِ الخَوْفِ بِمُدَّةٍ، مَرْدُودٌ بِأنّا لَوْ سَلَّمْنا أنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ صَلاةَ الخَوْفِ فَحَدِيثُهُ مُرْسَلُ صَحابِيٍّ ومَراسِيلُ الصَّحابَةِ لَهم حُكْمُ الوَصْلِ كَما هو مَعْلُومٌ، واعْلَمْ أنَّ حَدِيثَ أبِي بَكْرَةَ لَيْسَ فِيهِ أنَّ ذَلِكَ كانَ بِبَطْنِ نَخْلٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشّافِعِيَّةُ بِصَلاةِ بَطْنِ نَخْلٍ هَذِهِ عَلى جَوازِ صَلاةِ المُفْتَرِضِ خَلْفَ المُتَنَفِّلِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الكَيْفِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنا أنَّها هي كَيْفِيَّةُ صَلاةِ بَطْنِ نَخْلٍ كَما ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وابْنُ حَجَرٍ وغَيْرُهُما، قَدْ دَلَّ بَعْضُ الرِّواياتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ والبُخارِيِّ وغَيْرِهِما، عَلى أنَّها هي صَلاةُ ذاتِ الرِّقاعِ، وجَزَمَ ابْنُ حَجَرٍ بِأنَّهُما صَلاتانِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الرِّواياتِ عَلى أنَّ صَلاةَ نَخْلٍ هي صَلاةُ عُسْفانَ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
الهَيْئَةُ الثّالِثَةُ: مِنَ الهَيْئاتِ الَّتِي اخْتارَها الشّافِعِيُّ: صَلاةُ عُسْفانَ، وكَيْفِيَّتُها كَما قالَ جابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ، فَصَفَّنا صَفَّيْنِ، صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والعَدُوُّ بَيْنَنا وبَيْنَ القِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ ﷺ وكَبَّرْنا جَمِيعًا ثُمَّ رَكَعَ ورَكَعْنا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ورَفَعْنا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ والصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، وقامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمّا قَضى النَّبِيُّ ﷺ السُّجُودَ وقامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وقامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ وتَأخَّرَ الصَّفُّ المُتَقَدِّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ ﷺ ورَكَعْنا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ورَفَعْنا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ والصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كانَ مُؤَخَّرًا في الرَّكْعَةِ الأُولى، وقامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نُحُورِ العَدُوِّ فَلَمّا قَضى النَّبِيُّ ﷺ السُّجُودَ والصَّفَّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ وسَلَّمْنا جَمِيعًا»، هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في ”صَحِيحِهِ“، وأخْرَجَ النَّسائِيُّ والبَيْهَقِيُّ مِن رِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ ورَواهُ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ والحاكِمُ مِن رِوايَةِ أبِي عَيّاشٍ الزُّرَقِيِّ واسْمُهُ زَيْدُ بْنُ الصّامِتِ وهو صَحابِيٌّ. (p-٢٥٨)وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“ في الكُنى: إنَّهُ تابِعِيٌّ، الظّاهِرُ أنَّهُ سَهْوٌ مِنهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ هَذِهِ الكَيْفِيَّةَ مِنَ الكَيْفِيّاتِ الَّتِي اخْتارَها الشّافِعِيُّ مَعَ أنَّها مُخالِفَةٌ لِلصُّورَةِ الَّتِي صَحَّتْ عَنْهُ في صَلاةِ عُسْفانَ؛ لِأنَّهُ أوْصى عَلى العَمَلِ بِالحَدِيثِ إذا صَحَّ، وأنَّهُ مَذْهَبُهُ، والصُّورَةُ الَّتِي صَحَّتْ عَنِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في ”مُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ“ ”والأُمِّ“ أنَّهُ قالَ: صَلّى بِهِمُ الإمامُ ورَكَعَ وسَجَدَ بِهِمْ جَمِيعًا إلّا صَفًّا يَلِيهِ أوْ بَعْضَ صَفٍّ يَنْتَظِرُونَ العَدُوَّ، فَإذا قامُوا بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَهم، فَإذا رَكَعَ رَكَعَ بِهِمْ جَمِيعًا وإذا سَجَدَ سَجَدَ مَعَهُ الَّذِينَ حَرَسُوا أوَّلًا إلّا صَفًّا أوْ بَعْضَ صَفٍّ يَحْرُسُهُ مِنهم، فَإذا سَجَدُوا سَجْدَتَيْنِ وجَلَسُوا سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوا ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا مَعًا، وهَذا نَحْوُ صَلاةِ النَّبِيِّ ﷺ بِعُسْفانَ، قالَ: ولَوْ تَأخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَ إلى الصَّفِّ الثّانِي وتَقَدَّمَ الثّانِي فَحَرَسَ فَلا بَأْسَ. انْتَهى بِواسِطَةِ نَقْلِ النَّوَوِيِّ.
والظّاهِرُ أنَّ الشّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرى أنَّ الصُّورَتَيْنِ أعْنِي: الَّتِي ذَكَرْنا في حَدِيثِ جابِرٍ وابْنِ عَبّاسٍ وأبِي عَيّاشٍ الزُّرَقِيِّ والَّتِي نَقَلْناها عَنِ الشّافِعِيِّ كِلْتاهُما جائِزَةٌ واتِّباعُ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ أحَقُّ مِن غَيْرِهِ، وصَلاةُ عُسْفانَ المَذْكُورَةُ صَلاةُ العَصْرِ.
وَقَدْ جاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ عِنْدَ أبِي داوُدَ وغَيْرِهِ أنَّ مِثْلَ صَلاةِ عُسْفانَ الَّتِي ذَكَرْنا صَلّاها أيْضًا ﷺ يَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ.
الرّابِعَةُ: مِنَ الهَيْئاتِ الَّتِي اخْتارَها الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هي: صَلاةُ ذاتِ الرِّقاعِ، والكَيْفِيَّةُ الَّتِي اخْتارَها الشّافِعِيُّ مِنها هي الَّتِي قَدَّمْنا رِوايَةَ مالِكٍ لَها عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ، وهي أنْ يُصَلِّيَ بِالطّائِفَةِ الأُولى رَكْعَةً ثُمَّ يُفارِقُونَهُ ويُتِمُّونَ لِأنْفُسِهِمْ ويُسَلِّمُونَ، ويَذْهَبُونَ إلى وُجُوهِ العَدُوِّ وهو قائِمٌ في الثّانِيَةِ يُطِيلُ القِراءَةَ حَتّى يَأْتِيَ الآخَرُونَ فَيُصَلِّي بِهِمُ الرَّكْعَةَ الباقِيَةَ ويَجْلِسُ يَنْتَظِرُهم حَتّى يُصَلُّوا رَكْعَتَهُمُ الباقِيَةَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وهَذِهِ الكَيْفِيَّةُ قَدْ قَدَّمْنا أنَّ مالِكًا رَواها عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ عَنْ صالِحِ بْنِ خَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذاتِ الرِّقاعِ، وأخْرَجَها الشَّيْخانِ مِن طَرِيقِهِ، فَقَدْ رَواهُ البُخارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مالِكٍ ومُسْلِمٌ عَنْ يَحْيى بْنِ يَحْيى عَنْ مالِكٍ نَحْوَ ما ذَكَرْنا، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ مالِكًا قالَ بِهَذِهِ الكَيْفِيَّةِ أوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْها إلى أنَّ الإمامَ يُسَلِّمُ ولا يَنْتَظِرُ إتْمامَ الطّائِفَةِ الثّانِيَةِ صَلاتَهم حَتّى يُسَلِّمَ بِهِمْ. وصَلاةُ ذاتِ الرِّقاعِ لَها كَيْفِيَّةٌ أُخْرى غَيْرُ هَذِهِ الَّتِي اخْتارَ الشّافِعِيُّ وهي ثابِتَةٌ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، والطّائِفَةُ الأُخْرى مُواجَهَةَ العَدُوِّ، (p-٢٥٩)ثُمَّ انْصَرَفُوا وقامُوا في مَقامِ أصْحابِهِمْ، مُقْبِلِينَ عَلى العَدُوِّ، وجاءَ أُولَئِكَ ثُمَّ صَلّى بِهِمُ النَّبِيُّ ﷺ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ قَضى هَؤُلاءِ رَكْعَةً وهَؤُلاءِ رَكْعَةً» .
وَهَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ ولَفْظُ البُخارِيِّ بِمَعْناهُ، ولَمْ تَخْتَلِفِ الطُّرُقُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ في هَذا، وظاهِرُهُ أنَّهم أتَمُّوا لِأنْفُسِهِمْ في حالَةٍ واحِدَةٍ ويُحْتَمَلُ أنَّهم أتَمُّوا عَلى التَّعاقُبِ، وهو الرّاجِحُ مِن حَيْثُ المَعْنى؛ لِأنَّ إتْمامَهم في حالَةٍ واحِدَةٍ يَسْتَلْزِمُ تَضْيِيعَ الحِراسَةِ المَطْلُوبَةِ وإفْرادَ الإمامِ وحْدَهُ، ويُرَجِّحُهُ ما رَواهُ أبُو داوُدَ مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ولَفْظُهُ: «ثُمَّ سَلَّمَ فَقامَ هَؤُلاءِ أيْ: الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ فَصَلَّوْا لِأنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا ثُمَّ ذَهَبُوا ورَجَعَ أُولَئِكَ إلى مَقامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا» . وظاهِرُهُ أنَّ الطّائِفَةَ الثّانِيَةَ والَتْ بَيْنَ رَكْعَتَيْها ثُمَّ أتَمَّتِ الطّائِفَةُ الأُولى بَعْدَها، واعْلَمْ أنَّ ما ذَكَرَهُ الرّافِعِيُّ وغَيْرُهُ مِن كُتُبِ الفِقْهِ مِن أنَّ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذا أنَّ الطّائِفَةَ الثّانِيَةَ تَأخَّرَتْ وجاءَتِ الطّائِفَةُ الأُولى فَأتَمُّوا رَكْعَةً ثُمَّ تَأخَّرُوا وعادَتِ الطّائِفَةُ الثّانِيَةُ فَأتَمُّوا - مُخالِفٌ لِلرِّواياتِ الثّابِتَةِ في ”الصَّحِيحَيْنِ“ وغَيْرِهِما.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في (الفَتْحِ): إنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ في شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ، وأمّا الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإنَّ جَمِيعَ أنْواعِ صَلاةِ الخَوْفِ الثّابِتَةِ عَنْهُ ﷺ جائِزَةٌ عِنْدَهُ، والمُخْتارُ مِنها عِنْدَهُ صَلاةُ ذاتِ الرِّقاعِ الَّتِي قَدَّمْنا اخْتِيارَ الشّافِعِيِّ لَها أيْضًا، وهي أنْ يُصَلِّيَ الإمامُ بِالطّائِفَةِ الأُولى رَكْعَةً ثُمَّ يُتِمُّونَ لِأنْفُسِهِمْ ويُسَلِّمُونَ ويَذْهَبُونَ إلى وُجُوهِ العَدُوِّ؛ ثُمَّ تَأْتِي الطّائِفَةُ الأُخْرى فَيُصَلِّي بِهِمُ الرَّكْعَةَ الأُخْرى ثُمَّ يُصَلُّونَ رَكْعَةً فَإذا أتَمُّوها وتَشَهَّدُوا سَلَّمَ بِهِمْ.
* * *
وَأمّا الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فالمُخْتارُ مِنها عِنْدَهُ، أنَّ الإمامَ يُصَلِّي بِالطّائِفَةِ الأُولى رَكْعَةً إنْ كانَ مُسافِرًا، أوْ كانَتْ صُبْحًا مَثَلًا، واثْنَتَيْنِ إنْ كانَ مُقِيمًا، ثُمَّ تَذْهَبُ هَذِهِ الطّائِفَةُ الأُولى إلى وُجُوهِ العَدُوِّ، ثُمَّ تَجِيءُ الطّائِفَةُ الأُخْرى ويُصَلِّي بِهِمْ ما بَقِيَ مِنَ الصَّلاةِ ويُسَلِّمُ، وتَذْهَبُ هَذِهِ الطّائِفَةُ الأخِيرَةُ إلى وُجُوهِ العَدُوِّ، وتَجِيءُ الطّائِفَةُ الأُولى، وتُتِمُّ بَقِيَّةَ صَلاتِها بِلا قِراءَةٍ؛ لِأنَّهم لاحِقُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلى وُجُوهِ العَدُوِّ، وتَجِيءُ الطّائِفَةُ الأُخْرى فَيُتِمُّونَ بَقِيَّةَ صَلاتِهِمْ بِقِراءَةٍ؛ لِأنَّهم مَسْبُوقُونَ، واحْتَجُّوا لِهَذِهِ الكَيْفِيَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المُتَقَدِّمِ وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ هَذِهِ الكَيْفِيَّةَ لَيْسَتْ في رِوايَةِ ”الصَّحِيحَيْنِ“ وغَيْرِهِما لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أيْضًا مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أبِي داوُدَ أنَّ الطّائِفَةَ الأُخْرى لَمّا صَلَّوْا (p-٢٦٠)مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الرَّكْعَةَ الأُخْرى أتَمُّوا لِأنْفُسِهِمْ فَوالَوْا بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ ذَهَبُوا إلى وُجُوهِ العَدُوِّ فَجاءَتِ الطّائِفَةُ الأُولى فَصَلَّوْا رَكْعَتَهُمُ الباقِيَةَ، هَذا هو حاصِلُ المَذاهِبِ الأرْبَعَةِ في صَلاةِ الخَوْفِ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ صَلاةُ ذاتِ الرِّقاعِ أفْضَلُ مِن صَلاةِ بَطْنِ نَخْلٍ عَلى أصَحِّ الوَجْهَيْنِ؛ لِأنَّها أعْدَلُ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ؛ ولِأنَّها صَحِيحَةٌ بِالإجْماعِ وتِلْكَ صَلاةُ مُفْتَرِضٍ خَلْفَ مُتَنَفِّلٍ وفِيها خِلافٌ لِلْعُلَماءِ. والثّانِي، وهو قَوْلُ أبِي إسْحاقَ صَلاةُ بَطْنِ نَخْلٍ أفْضَلُ لِتَحَصُّلِ كُلِّ طائِفَةٍ فَضِيلَةَ جَماعَةٍ تامَّةٍ. واعْلَمْ أنَّ الإمامَ في الحَضَرِيَّةِ يُصَلِّي بِكُلِّ واحِدَةٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وفي السَّفَرِيَّةِ رَكْعَةً رَكْعَةً، ويُصَلِّي في المَغْرِبِ بِالأُولى رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الأكْثَرِ.
وَقالَ بَعْضُهم: يُصَلِّي بِالأُولى في المَغْرِبِ رَكْعَةً، واعْلَمْ أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ بَعْدَ خَيْبَرَ، وإنْ جَزَمَ جَماعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ المُؤَرِّخِينَ بِأنَّ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ قَبْلَ خَيْبَرَ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ أنَّ قُدُومَ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ عَلى النَّبِيِّ ﷺ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ مَعَ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّ أبا مُوسى شَهِدَ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ.
قالَ البُخارِيُّ في ”صَحِيحِهِ“: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ العَلاءِ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ، حَدَّثَنا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبِي بُرْدَةَ؛ عَنْ أبِي مُوسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «بَلَغَنا مَخْرَجُ النَّبِيِّ ﷺ ونَحْنُ بِاليَمَنِ، فَخَرَجْنا مُهاجِرِينَ إلَيْهِ أنا وأخَوانِ لِي أنا أصْغَرُهم، أحَدُهُما أبُو بُرْدَةَ، والآخَرُ أبُو رُهْمٍ، إمّا قالَ في بِضْعٍ، وإمّا قالَ في ثَلاثَةٍ وخَمْسِينَ، أوِ اثْنَيْنِ وخَمْسِينَ رَجُلًا مِن قَوْمِي، فَرَكِبْنا سَفِينَةً فَألْقَتْنا سَفِينَتُنا إلى النَّجاشِيِّ بِالحَبَشَةِ، فَوافَقْنا جَعْفَرَ بْنَ أبِي طالِبٍ فَأقَمْنا مَعَهُ حَتّى قَدِمْنا جَمِيعًا، فَوافَقْنا النَّبِيَّ ﷺ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ» الحَدِيثَ. . .، وفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّ قُدُومَ أبِي مُوسى حِينَ افْتِتاحِ خَيْبَرَ.
وَقَدْ قالَ البُخارِيُّ أيْضًا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ العَلاءِ، حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أبِي مُوسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «خَرَجْنا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في غَزاةٍ ونَحْنُ في سِتَّةِ نَفَرٍ بَيْنَنا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ فَنَقِبَتْ أقْدامُنا ونَقِبَتْ قَدَمايَ وسَقَطَتْ أظْفارِي، وكُنّا نَلُفُّ عَلى أرْجُلِنا الخِرَقَ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ» الحَدِيثَ. فَهَذانَ الحَدِيثانِ الصَّحِيحانِ فِيهِما الدَّلالَةُ الواضِحَةُ عَلى تَأخُّرِ ذاتِ الرِّقاعِ عَنْ خَيْبَرَ، وقَدْ قالَ البُخارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: بابُ غَزْوَةِ ذاتِ الرِّقاعِ وهي غَزْوَةُ مُحارِبِ خَصَفَةَ مِن بَنِي ثَعْلَبَةَ مِن غَطْفانَ فَنَزَلَ نَخْلًا وهي بَعْدَ خَيْبَرَ؛ لِأنَّ أبا مُوسى جاءَ بَعْدَ خَيْبَرَ الَخْ. وإنَّما بَيَّنّا هَذا لِيُعْلَمَ بِهِ أنَّهُ (p-٢٦١)لا حُجَّةَ في عَدَمِ صَلاةِ الخَوْفِ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ عَلى أنْها مَشْرُوعَةٌ في الحَضَرِ بِدَعْوى أنَّ ذاتَ الرِّقاعِ قَبْلَ الخَنْدَقِ وأنَّ صَلاةَ الخَوْفِ كانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ غَزْوَةِ الأحْزابِ الَّتِي هي غَزْوَةُ الخَنْدَقِ، وأنَّهُ ﷺ ما تَرَكَها مَعَ أنَّهم شَغَلُوهُ وأصْحابَهُ عَنْ صَلاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ إلى اللَّيْلِ إلّا لِأنَّها لَمْ تُشْرَعْ في الحَضَرِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أنَّ صَلاةَ الخَوْفِ ما شُرِعَتْ إلّا بَعْدَ الخَنْدَقِ وأشارَ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في نَظْمِهِ لِلْمَغازِي إلى غَزْوَةِ ذاتِ الرِّقاعِ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
؎ثُمَّ إلى مُحارِبٍ وثَعْلَبَهْ ذاتِ الرِّقاعِناهَزُوا المُضارِبَهْ
؎وَلَمْ يَكُنْ حَرْبٌ وغَوْرَثٌ جَرى ∗∗∗ بِها لَهُ الَّذِي لِدَعْثَوْرٍ جَرى
؎مَعَ النَّبِيِّ وعَلى المُعْتَمَدِ ∗∗∗ جَرَتْ لِواحِدٍ بِلا تَعَدُّدِ
والنّاظِمُ هَذا يَرى أنَّها قَبْلَ خَيْبَرَ تَبَعًا لِابْنِ سَيِّدِ النّاسِ ومَن وافَقَهُ، ومِمّا اخْتَلَفَ فِيهِ العُلَماءُ مِن كَيْفِيّاتِ صَلاةِ الخَوْفِ صَلاةُ ذِي قَرَدٍ، وهي أنْ تُصَلِّيَ كُلُّ واحِدَةٍ مَعَ الإمامِ رَكْعَةً واحِدَةً وتَقْتَصِرَ عَلَيْها، وقَدْ قَدَّمْنا ذَلِكَ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وأبِي داوُدَ، والنَّسائِيِّ، وابْنِ ماجَهْ. ومِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ أبِي داوُدَ، والنَّسائِيِّ، وهَذِهِ الكَيْفِيَّةُ هي الَّتِي صَلّاها حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ لَمّا قالَ سَعِيدُ بْنُ العاصِ بَطَبَرِسْتانَ: أيُّكم صَلّى صَلاةَ الخَوْفِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ فَقالَ حُذَيْفَةُ: أنا، وصَلّى بِهِمْ مِثْلَ ما ذَكَرْنا كَما أخْرَجَهُ النَّسائِيُّ عَنْهُ، وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ ورَواهُ أبُو داوُدَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ وهو الَّذِي رَواهُ مِن طَرِيقِهِ النَّسائِيُّ، ولَفْظُ أبِي داوُدَ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَهْدَمٍ، قالَ: «كُنّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ العاصِ بِطَبَرِسْتانَ فَقامَ فَقالَ: أيُّكم صَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ ؟ فَقالَ حُذَيْفَةُ: أنا. فَصَلّى بِهَؤُلاءِ رَكْعَةً وبِهَؤُلاءِ رَكْعَةً ولَمْ يَقْضُوا» .
قالَ أبُو داوُدَ: وكَذا رَواهُ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ومُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ويَزِيدُ الفَقِيرُ، وأبُو مُوسى.
قالَ أبُو داوُدَ: رَجُلٌ مِنَ التّابِعِينَ لَيْسَ بِالأشْعَرِيِّ جَمِيعًا عَنْ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وقَدْ قالَ بَعْضُهم عَنْ شُعْبَةَ في حَدِيثِ يَزِيدَ الفَقِيرِ إنَّهم قَضَوْا رَكْعَةً أُخْرى، وكَذَلِكَ رَواهُ سِماكٌ الحَنَفِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وكَذَلِكَ رَواهُ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: فَكانَتْ لِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً، ولِلنَّبِيِّ ﷺ رَكْعَتَيْنِ. اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَقالَ القُرْطُبِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“ ما نَصُّهُ: قالَ السُّدِّيُّ إذا صَلَّيْتَ في السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ (p-٢٦٢)فَهُوَ تَمامٌ، والقَصْرُ لا يَحِلُّ إلّا أنْ تَخافَ، فَهَذِهِ الآيَةُ مُبِيحَةٌ أنْ تُصَلِيَ كُلُّ طائِفَةٍ رَكْعَةً لا تَزِيدُ عَلَيْها شَيْئًا؛ ويَكُونُ لِلْإمامِ رَكْعَتانِ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وجابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وكَعْبٍ وفَعَلَهُ حُذَيْفَةُ بِطَبَرِسْتانَ، وقَدْ سَألَهُ الأمِيرُ سَعِيدُ بْنُ العاصِ عَنْ ذَلِكَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى كَذَلِكَ في غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ رَكْعَةً لِكُلِّ طائِفَةٍ ولَمْ يَقْضُوا، ورُوِيَ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى بِأصْحابِهِ كَذَلِكَ يَوْمَ غَزْوَةِ مُحارِبِ خَصْفَةَ وبَنِي ثَعْلَبَةَ، ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى كَذَلِكَ بَيْنَ ضَجْنانَ وعُسْفانَ، وبِكَوْنِ كُلٍّ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ تَقْتَصِرُ عَلى رَكْعَةٍ واحِدَةٍ.
قالَ أيْضًا إسْحاقُ: ورُوِيَ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ وجُمْهُورِ العُلَماءِ عَلى أنَّ الِاقْتِصارَ عَلى رَكْعَةٍ واحِدَةٍ في الخَوْفِ لا يَجُوزُ، وأجابُوا عَنِ الأحادِيثِ الوارِدَةِ بِذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِ الصَّحابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا ذَلِكَ ولَمْ يَقْضُوا أنَّهم بَعْدَما أمِنُوا وزالَ الخَوْفُ، لَمْ يَقْضُوا تِلْكَ الصَّلاةَ الَّتِي صَلُّوها في حالَةِ الخَوْفِ وتَكُونُ فِيهِ فائِدَةٌ أنَّ الخائِفَ إذا أمِنَ لا يَقْضِي ما صَلّى عَلى تِلْكَ الهَيْئَةِ المُخالِفَةِ لِهَيْئَةِ صَلاةِ الأمْنِ ولِهَذا القَوْلِ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهم في الحَدِيثِ ولَمْ يَقْضُوا، أيْ في عِلْمِ مَن رَوى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قَدْ رَوى أنَّهم قَضَوْا رَكْعَةً في تِلْكَ الصَّلاةِ بِعَيْنِها، ورِوايَةُ مَن زادَ أوْلى قالَهُ القُرْطُبِيُّ وابْنُ عَبْدِ البَرِّ، ويَدُلُّ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن رِوايَةِ يَزِيدَ الفَقِيرِ عَنْ جابِرٍ مِن طَرِيقِ شُعْبَةَ عِنْدَ أبِي داوُدَ، أنَّهم قَضَوْا رَكْعَةً أُخْرى والمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلى النّافِي ويُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوايَةَ كَثْرَةُ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ بِعَدَمِ الِاقْتِصارِ عَلى واحِدَةٍ في كَيْفِيّاتِ صَلاةِ الخَوْفِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *
وَحاصِلُ ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ مِن كَيْفِيّاتِ صَلاةِ الخَوْفِ خَمْسٌ، وهي صَلاةُ المُسايَفَةِ الثّابِتَةُ في صَرِيحِ القُرْآنِ، وصَلاةُ بَطْنِ نَخْلٍ، وصَلاةُ عُسْفانَ، وصَلاةُ ذاتِ الرِّقاعِ، وصَلاةُ ذِي قَرَدٍ. وقَدْ أشارَ الشَّيْخُ أحْمَدُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في نَظْمِهِ لِلْمَغازِي إلى غَزْوَةِ ذاتِ قَرَدٍ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
؎فَغَزْوَةُ الغابَةِ وهْيَ ذُو قَرَدْ خَرَجَ في إثْرِ لِقاحِهِ وجَدْ
؎وَناشَها سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ
؎وَهْوَ يَقُولُ اليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ ∗∗∗ وفَرَضَ الهادِي لَهُ سَهْمَيْنِ
؎لِسَبْقِهِ الخَيْلَ عَلى الرِّجْلَيْنِ ∗∗∗ واسْتَنْقَذُوا مِنِ ابْنِ حِصْنٍ
؎عَشْرًا وقَسَمَ النَّبِيُّ فِيهِمْ جُزْرًا
(p-٢٦٣)وَقَدْ جَزَمَ البُخارِيُّ في ”صَحِيحِهِ“ بِأنَّ غَزْوَةَ ذاتِ قَرَدٍ قَبْلَ خَيْبَرَ بِثَلاثَةِ لَيالٍ، وأخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“ عَنْ إياسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ عَنْ أبِيهِ قالَ: فَرَجَعْنا مِنَ الغَزْوَةِ إلى المَدِينَةِ، فَواللَّهِ ما لَبِثْنا بِالمَدِينَةِ إلّا ثَلاثَ لَيالٍ حَتّى خَرَجْنا إلى خَيْبَرَ، فَما في الصَّحِيحِ أثْبَتُ مِمّا يَذْكُرُهُ أهْلُ السِّيَرِ مِمّا يُخالِفُ ذَلِكَ، كَقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ: إنَّها كانَتْ في رَبِيعٍ الأوَّلِ سَنَةَ سِتٍّ قَبْلَ الحُدَيْبِيَةِ، وكَقَوْلِ ابْنِ إسْحاقَ: إنَّها كانَتْ في شَعْبانَ مِن سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ غَزْوَةِ لَحْيانَ بِأيّامٍ.
وَمالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ إلى الجَمْعِ بَيْنَ ما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ وبَيْنَ ما ذَكَرَهُ أهْلُ السِّيَرِ بِتَكَرُّرِ الخُرُوجِ إلى ذِي قَرَدٍ، وقَرَدٌ بِفَتْحَتَيْنِ في رِوايَةِ الحَدِيثِ، وأهْلُ اللُّغَةِ يَذْكُرُونَ أنَّهُ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أوْ بِضَمَّتَيْنِ، وقَدْ ورَدَتْ صَلاةُ الخَوْفِ عَلى كَيْفِيّاتٍ أُخَرَ غَيْرِ ما ذَكَرْنا.
قالَ ابْنُ القَصّارِ المالِكِيُّ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّاها في عَشَرَةِ مَواضِعَ.
وَقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ: رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ صَلّى صَلاةَ الخَوْفِ أرْبَعًا وعِشْرِينَ مَرَّةً» .
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، إنَّ أفْضَلَ الكَيْفِيّاتِ الثّابِتَةِ عَنْهُ ﷺ في صَلاةِ الخَوْفِ، ما كانَ أبْلَغُ في الِاحْتِياطِ لِلصَّلاةِ والتَّحَفُّظِ مِنَ العَدُوِّ.
* * *
* تَنْبِيهانِ
الأوَّلُ: آيَةُ صَلاةِ الخَوْفِ هَذِهِ مِن أوْضَحِ الأدِلَّةِ عَلى وُجُوبِ الجَماعَةِ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِها في هَذا الوَقْتِ الحَرِجِ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّها أمْرٌ لازِمٌ؛ إذْ لَوْ كانَتْ غَيْرَ لازِمَةٍ لَما أمَرَ بِها في وقْتِ الخَوْفِ؛ لِأنَّهُ عُذْرٌ ظاهِرٌ.
الثّانِي: لا تَخْتَصُّ صَلاةُ الخَوْفِ بِالنَّبِيِّ ﷺ بَلْ مَشْرُوعِيَّتُها باقِيَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، والِاسْتِدْلالُ عَلى خُصُوصِها بِهِ ﷺ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ الآيَةَ [النساء: ١٠٢]، اسْتِدْلالٌ ساقِطٌ، وقَدْ أجْمَعَ الصَّحابَةُ وجَمِيعُ المُسْلِمِينَ عَلى رَدِّ مِثْلِهِ في قَوْلِهِ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ الآيَةَ [التوبة: ١٠٣]، واشْتِراطُ كَوْنِهِ ﷺ فِيهِمْ، إنَّما ورَدَ لِبَيانِ الحُكْمِ لا لِوُجُودِهِ، والتَّقْدِيرُ: بَيِّنْ لَهم بِفِعْلِكَ لِكَوْنِهِ أوْضَحَ مِنَ القَوْلِ كَما قالَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ وغَيْرُهُ، وشَذَّ عَنِ الجُمْهُورِ أبُو يُوسُفَ والمُزَنِيُّ وقالَ بِقَوْلِهِما الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ (p-٢٦٤)والُلُؤْلُؤِيُّ وإبْراهِيمُ بْنُ عُلَيَّةَ فَقالُوا: إنَّ صَلاةَ الخَوْفِ لَمْ تُشْرَعْ بَعْدَهُ ﷺ واحْتَجُّوا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ في قَوْلِهِ: ﴿وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾، ورُدَّ عَلَيْهِمْ بِإجْماعِ الصَّحابَةِ عَلَيْها بَعْدَهُ ﷺ وبِقَوْلِهِ ﷺ: «صَلُّوا كَما رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي»، وعُمُومُ مَنطُوقِ هَذا الحَدِيثِ مُقَدَّمٌ عَلى ذَلِكَ المَفْهُومِ.
* * *
* تَنْبِيهٌ
قَدْ قَرَّرْتُمْ تَرْجِيحَ أنَّ آيَةَ: ﴿وَإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: ١١٠] في صَلاةِ الخَوْفِ لا صَلاةِ السَّفَرِ، وإذَنْ فَمَفْهُومُ الشَّرْطِ في قَوْلِهِ: ﴿وَإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ صَلاةَ الخَوْفِ لا تُشْرَعُ في الحَضَرِ.
فالجَوابُ: أنَّ هَذا المَفْهُومَ قالَ بِهِ ابْنُ الماجِشُونِ، فَمَنَعَ صَلاةَ الخَوْفِ في الحَضَرِ، واسْتَدَلَّ بَعْضُهم أيْضًا لِمَنعِها فِيهِ بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُصَلِّها يَوْمَ الخَنْدَقِ، وفاتَ عَلَيْهِ العَصْرانِ وقَضاهُما بَعْدَ المَغْرِبِ، وبِأنَّهُ ﷺ لَمْ يُصَلِّها إلّا في سَفَرٍ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّها تُصَلّى في الحَضَرِ أيْضًا، وأجابُوا بِأنَّ الشَّرْطَ لا مَفْهُومَ مُخالَفَةٍ لَهُ أيْضًا لِجَرْيِهِ عَلى الغالِبِ كَما تَقَدَّمَ، أوْ لِأنَّهُ نَزَلَ في حادِثَةٍ واقِعَةٍ مُبَيِّنًا حُكْمَها.
كَما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ بِعُسْفانَ والمُشْرِكُونَ بِضَجْنانَ، فَتَوافَقُوا، فَصَلّى النَّبِيُّ ﷺ بِأصْحابِهِ صَلاةً تامَّةً بِرُكُوعِها وسُجُودِها، فَهَمَّ بِهِمُ المُشْرِكُونَ أنْ يُغِيرُوا عَلى أمْتِعَتِهِمْ وأثْقالِهِمْ» فَنَزَلَتْ، وهَذِهِ الحادِثَةُ وقَعَتْ وهم مُسافِرُونَ ضارِبُونَ في الأرْضِ، وقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ مِن مَوانِعِ اعْتِبارِ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ كَوْنُ المَنطُوقِ نازِلًا عَلى حادِثَةٍ واقِعَةٍ، ولِذا لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُ المُخالَفَةِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ أرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [سبإ: ٣٣]، ولا في قَوْلِهِ: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨]؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما نَزَلَ عَلى حادِثَةٍ واقِعَةٍ:
فالأوَّلُ: نَزَلَ في إكْراهِ ابْنِ أُبَيٍّ جَوارِيَهُ عَلى الزِّنا، وهُنَّ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ مِن ذَلِكَ.
والثّانِي: نَزَلَ في قَوْمٍ مِنَ الأنْصارِ والَوُا اليَهُودَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَ القُرْآنُ في كُلٍّ مِنهُما ناهِيًا عَنِ الصُّورَةِ الواقِعَةِ مِن غَيْرِ إرادَةِ التَّخْصِيصِ بِها، وأشارَ إلَيْهِ في ”المَراقِي“ بِقَوْلِهِ في تَعْدادِ مَوانِعِ اعْتِبارِ مَفْهُومِ المُخالَفَةِ: [ الرَّجَزُ ]
؎أوِ امْتِنانٌ أوْ وِفاقُ الواقِعِ والجَهْلُ والتَّأْكِيدُ عِنْدَ السّامِعِ
(p-٢٦٥)وَأجابُوا عَنْ كَوْنِهِ ﷺ لَمْ يُصَلِّها يَوْمَ الخَنْدَقِ بِأنَّ ذَلِكَ كانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلاةِ الخَوْفِ، كَما رَواهُ النَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ والشّافِعِيُّ، وبِهِ تَعْلَمُ عَدَمَ صِحَّةِ قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ غَزْوَةَ ذاتِ الرِّقاعِ الَّتِي صَلّى فِيها النَّبِيُّ ﷺ صَلاةَ الخَوْفِ كانَتْ قَبْلَ الخَنْدَقِ، وأجابُوا عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّها إلّا في السَّفَرِ بِأنَّ السَّفَرَ بِالنِّسْبَةِ إلى صَلاةِ الخَوْفِ وصْفٌ طَرْدِيٌّ، وعِلَّتُها هي الخَوْفُ لا السَّفَرُ، فَمَتى وُجِدَ الخَوْفُ وُجِدَ حُكْمُها، كَما هو ظاهِرٌ.
* * *
* نُكْتَةٌ
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا تَكُونُ كُلُّ هَيْئَةٍ مِن هَيْئاتِ صَلاةِ الخَوْفِ ناسِخَةٌ لِلَّتِي قَبْلَها؛ لِأنَّهم كانُوا يَأْخُذُونَ بِالأحْدَثِ فالأحْدَثِ، فالجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: هو ما تَقَدَّمَ مِن أنَّ العَدُوَّ تارَةً يَكُونُونَ إلى جِهَةِ القِبْلَةِ وتارَةً إلى غَيْرِ جِهَتِها إلى آخِرِ ما تَقَدَّمَ، وكُلُّ حالَةٍ تُفْعَلُ فِيها الهَيْئَةُ المُناسِبَةُ لَها كَما هو ظاهِرٌ.
الثّانِي: هو ما حَقَّقَهُ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ كابْنِ الحاجِبِ والرَّهُونِيِّ وغَيْرِهِما مِن أنَّ الأفْعالَ لا تَعارُضَ بَيْنَها أصْلًا، إذِ الفِعْلُ لا يَقَعُ في الخارِجِ إلّا شَخْصِيًّا لا كُلِّيًّا حَتّى يُنافِيَ فِعْلًا آخَرَ، فَلَيْسَ لِلْفِعْلِ الواقِعِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ أنْ يَقَعَ الفِعْلُ واجِبًا في وقْتٍ، وفي وقْتٍ آخَرَ بِخِلافِهِ، وإذَنْ فَلا مانِعَ مِن جَوازِ الفِعْلَيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ في الهَيْئَةِ لِعِبادَةٍ واحِدَةٍ وعَقَدَهُ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ بِقَوْلِهِ:
؎وَلَمْ يَكُنْ تَعارُضُ الأفْعالِ في كُلِّ حالَةٍ مِنَ الأحْوالِ
وَما ذَكَرَهُ المَحَلِّيُّ مِن دَلالَةِ الفِعْلِ عَلى الجَوازِ المُسْتَمِرِّ دُونَ القَوْلِ بَحَثَ فِيهِ صاحِبُ (نَشْرِ البُنُودِ) في شَرْحِ البَيْتِ المُتَقَدِّمِ آنِفًا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مَعْناهُ: يَنالُونَكم بِسُوءٍ. فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَلى القَوْلِ بِأنَّها في قَصْرِ الرُّباعِيَّةِ كَما يُفْهَمُ مِن حَدِيثِ يَعْلى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ مُسْلِمٍ وأحْمَدَ وأصْحابِ السُّنَنِ كَما تَقَدَّمَ.
الفَرْعُ الأوَّلُ: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ الرُّباعِيَّةِ في السَّفَرِ خِلافًا لِمَن شَذَّ وقالَ: لا قَصْرَ إلّا في حَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ، ومَن قالَ: لا قَصْرَ إلّا في خَوْفٍ، ومَن قالَ: لا قَصْرَ إلّا في سَفَرِ طاعَةٍ خاصَّةً، فَإنَّها أقْوالٌ لا مُعَوَّلَ عَلَيْها عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ، واخْتَلَفَ (p-٢٦٦)العُلَماءُ في الإتْمامِ في السَّفَرِ، هَلْ يَجُوزُ أوْ لا ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّ القَصْرَ في السَّفَرِ واجِبٌ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ: أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو قَوْلُ عَلِيٍّ، وعُمَرَ، وابْنِ عُمَرَ، ويُرْوى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وجابِرٍ، وبِهِ قالَ الثَّوْرِيُّ وعَزاهُ الخَطّابِيُّ في المَعالِمِ لِأكْثَرِ عُلَماءِ السَّلَفِ وفُقَهاءِ الأمْصارِ، ونَسَبَهُ إلى عَلِيٍّ وعُمَرَ وابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وقَتادَةَ والحَسَنِ قالَ: وقالَ حَمّادُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ: يُعِيدُ مَن صَلّى في السَّفَرِ أرْبَعًا. اهـ. مِنهُ بِواسِطَةِ نَقْلِ الشَّوْكانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وحُجَّةُ هَذا القَوْلِ الَّذِي هو وُجُوبُ القَصْرِ ما قَدَّمْنا مِنَ الأحادِيثِ عَنْ عائِشَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بِأنَّ الصَّلاةَ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ وزِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ، ودَلِيلُ هَؤُلاءِ واضِحٌ، وذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى جَوازِ الإتْمامِ والقَصْرِ، كَما يَجُوزُ الصَّوْمُ والإفْطارُ، إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلِ القَصْرُ أوِ الإتْمامُ أفْضَلُ ؟ وبِهَذا قالَ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، وسَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ، وعائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ وحَكاهُ العَبْدَرِيُّ عَنْ هَؤُلاءِ يَعْنِي مَن ذَكَرْنا وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ البَصْرِيِّ ومالِكٍ وأحْمَدَ وأبِي ثَوْرٍ وداوُدَ، وهو مَذْهَبُ أكْثَرِ العُلَماءِ، ورَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ في اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الصَّحابَةِ. وعَنْ أنَسٍ والمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأسْوَدِ وابْنِ المُسَيَّبِ وأبِي قِلابَةَ، واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِأُمُورٍ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ الآيَةَ [النساء: ١٠١]؛ لِأنَّ التَّعْبِيرَ بِرَفْعِ الجُناحِ دَلِيلٌ لِعَدَمِ اللُّزُومِ.
الأمْرُ الثّانِي: هو ما قَدَّمْنا في حَدِيثِ يَعْلى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ مِن «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ في القَصْرِ في السَّفَرِ: ”صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْكم»“ . الحَدِيثَ، فَكَوْنُهُ صَدَقَةً وتَخْفِيفًا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ اللُّزُومِ.
الأمْرُ الثّالِثُ: هو ما رَواهُ النَّسائِيُّ والبَيْهَقِيُّ والدّارَقُطْنِيُّ «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأفْطَرَ هو ﷺ وقَصَرَ الصَّلاةَ وصامَتْ هي وأتَمَّتِ الصَّلاةَ، فَأخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَقالَ لَها: ”أحْسَنْتِ“» .
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: هَذا الحَدِيثُ رَواهُ النَّسائِيُّ والدّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ (p-٢٦٧)بِإسْنادٍ حَسَنٍ أوْ صَحِيحٍ، قالَ: وقالَ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“: قالَ الدّارَقُطْنِيُّ إسْنادُهُ حَسَنٌ، وقالَ في ”مَعْرِفَةِ السُّنَنِ والآثارِ“: هو إسْنادٌ صَحِيحٌ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: الظّاهِرُ أنَّ ما جاءَ في هَذا الحَدِيثِ مِن أنَّ عُمْرَةَ عائِشَةَ المَذْكُورَةَ في رَمَضانَ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ المَحْفُوظَ الثّابِتَ بِالرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَعْتَمِرْ في رَمَضانَ قَطُّ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ إلّا أرْبَعَ عُمَرٍ:
الأُولى: عُمْرَةُ الحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صَدَّهُ فِيها المُشْرِكُونَ عَنِ البَيْتِ الحَرامِ، عامَ سِتٍّ.
الثّانِيَةُ: عُمْرَةُ القَضاءِ الَّتِي وقَعَ عَلَيْها عَقْدُ الصُّلْحِ في الحُدَيْبِيَةِ، وهي عامُ سَبْعٍ.
الثّالِثَةُ: عُمْرَةُ الجِعْرانَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، عامَ ثَمانٍ وكُلُّ هَذِهِ العُمَرِ الثَّلاثِ في شَهْرِ ذِي القِعْدَةِ بِالإجْماعِ وبِالرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ.
الرّابِعَةُ: عُمْرَتُهُ مَعَ حَجِّهِ في حَجَّةِ الوَداعِ، ورِوايَةُ النَّسائِيِّ لَيْسَ فِيها أنَّ العُمْرَةَ المَذْكُورَةَ في رَمَضانَ ولَفْظُهُ: أخْبَرَنِي أحْمَدُ بْنُ يَحْيى الصُّوفِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا أبُو نُعَيْمٍ، قالَ: حَدَّثَنا العَلاءُ بْنُ زُهَيْرٍ الأزْدِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحِمَنِ بْنُ الأسْوَدِ عَنْ عائِشَةَ: «أنَّها اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ المَدِينَةِ إلى مَكَّةَ حَتّى إذا قَدِمَتْ مَكَّةَ قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، بِأبِي أنْتَ وأُمِّي قَصَرْتَ وأتْمَمْتُ وأفْطَرْتَ وصُمْتُ. قالَ: ”أحْسَنْتِ يا عائِشَةَ“، وما عابَ عَلَيَّ» . اهـ.
الأمْرُ الرّابِعُ: ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَقْصُرُ في السَّفَرِ ويُتِمُّ، ويُفْطِرُ ويَصُومُ» .
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُما.
قالَ البَيْهَقِيُّ: قالَ الدّارَقُطْنِيُّ إسْنادُهُ صَحِيحٌ وضَبَطَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّلْخِيصِ“ بِلَفْظِ يَقْصُرُ بِالياءِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرُ النَّبِيِّ ﷺ وتُتِمُّ بِتائَيْنِ وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى عائِشَةَ فَيَكُونُ بِمَعْنى الحَدِيثِ الأوَّلِ، ولَكِنْ جاءَ في بَعْضِ رِواياتِ الحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِإسْنادِ الإتْمامِ المَذْكُورِ لِلنَّبِيِّ ﷺ .
قالَ البَيْهَقِيُّ: أخْبَرَنا أبُو بَكْرِ بْنُ الحارِثِ الفَقِيهُ، أنْبَأنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الحافِظُ، حَدَّثَنا المَحامِلِيُّ، حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوابٍ، حَدَّثَنا أبُو عاصِمٍ، حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ وعَنْ (p-٢٦٨)عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ، عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَقْصُرُ في الصَّلاةِ ويُتِمُّ ويُفْطِرُ ويَصُومُ» . قالَ عَلِيٌّ: هَذا إسْنادٌ صَحِيحٌ. اهـ.
قالَ البَيْهَقِيُّ: ولَهُ شاهِدٌ مِن حَدِيثِ دَلْهَمِ بْنِ صالِحٍ، والمُغِيرَةِ بْنِ زِيادٍ، وطَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو وكُلُّهم ضَعِيفٌ.
الخامِسُ: إجْماعُ العُلَماءِ عَلى أنَّ المُسافِرَ إذا اقْتَدى بِمُقِيمٍ لَزِمَهُ الإتْمامُ، ولَوْ كانَ القَصْرُ واجِبًا حَتْمًا لَما جازَ صَلاةُ أرْبَعٍ خَلْفَ الإمامِ.
وَأجابَ أهْلُ هَذا القَوْلِ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ وعائِشَةَ وابْنِ عَبّاسٍ بِأنَّ المُرادَ بِكَوْنِ صَلاةِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ أيْ: لِمَن أرادَ ذَلِكَ، وعَنْ قَوْلِ عَمَرَ في الحَدِيثِ: تَمامٌ غَيْرُ قَصْرٍ بِأنَّ مَعْناهُ أنَّها تامَّةٌ في الأجْرِ قالَهُ النَّوَوِيُّ، ولا يَخْلُو مِن تَعَسُّفٍ وأجابَ أهْلُ القَوْلِ الأوَّلِ عَنْ حُجَجِ هَؤُلاءِ قالُوا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: ١٠١] في صَلاةِ الخَوْفِ كَما قَدَّمْنا، فَلا دَلِيلَ فِيهِ لِقَصْرِ الرُّباعِيَّةِ، قالُوا: ولَوْ سَلَّمْنا أنَّهُ في قَصْرِ الرُّباعِيَّةِ فالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ ﴿وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ١٠٢]، لا يُنافِي الوُجُوبَ كَما اعْتَرَفْتُمْ بِنَظِيرِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِن شَعائِرِ اللَّهِ فَمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما﴾ [البقرة: ١٥٨] لِأنَّ السَّعْيَ فَرْضٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ. وعَنْ قَوْلِهِ في الحَدِيثِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْكم» بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِقَبُولِها في قَوْلِهِ: «فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»، والأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ فَلَيْسَ لَنا عَدَمُ قَبُولِها مَعَ قَوْلِهِ ﷺ: ”فاقْبَلُوها“، وأجابُوا عَنِ الثّالِثِ والرّابِعِ بِأنَّ حَدِيثَيْ عائِشَةَ المَذْكُورَيْنِ لا يَصِحُّ واحِدٌ مِنها واسْتَدَلُّوا عَلى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ بِما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عُرْوَةَ أنَّها تَأوَّلَتْ في إتْمامِها ما تَأوَّلَ عُثْمانُ، فَلَوْ كانَ عِنْدَها في ذَلِكَ رِوايَةٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَقُلْ عَنْها عُرْوَةُ أنَّها تَأوَّلَتْ.
وَقالَ ابْنُ القَيَّمِ في ”زادِ المَعادِ“ ما نَصُّهُ: وسَمِعْتُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: هَذا الحَدِيثُ كَذِبٌ عَلى عائِشَةَ، ولَمْ تَكُنْ عائِشَةُ لِتُصَلِّيَ بِخِلافِ صَلاةِ النَّبِيِّ ﷺ وسائِرِ الصَّحابَةِ، وهي تُشاهِدُهم يَقْصُرُونَ ثُمَّ تُتِمُّ هي وحْدَها بِلا مُوجِبٍ، كَيْفَ وهي القائِلَةُ: فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ في صَلاةِ الحَضَرِ، وأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ فَكَيْفَ يُظَنُّ أنَّها تَزِيدُ عَلى ما فَرَضَ اللَّهُ وتُخالِفُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأصْحابَهُ.
وَقالَ الزُّهْرِيُّ لِهِشامِ بْنِ عُرْوَةَ لَمّا حَدَّثَهُ عَنْ أبِيهِ عَنْها بِذَلِكَ، فَما شَأْنُها كانَتْ تُتِمُّ (p-٢٦٩)الصَّلاةَ فَقالَ: تَأوَّلَتْ كَما تَأوَّلَ عُثْمانُ فَإذا كانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ حَسَّنَ فِعْلَها وأقَرَّها عَلَيْهِ، فَما لِلتَّأْوِيلِ حِينَئِذٍ وجْهٌ، ولا يَصِحُّ أنَّ يُضافَ إتْمامُها إلى التَّأْوِيلِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، وقَدْ أخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ في السَّفَرِ عَلى رَكْعَتَيْنِ ولا أبُو بَكْرٍ ولا عُمَرُ، أفَيُظَنُّ بِعائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ مُخالَفَتُهم وهي تَراهم يَقْصُرُونَ. وأمّا بَعْدَ مَوْتِهِ ﷺ فَإنَّها أتَمَّتْ كَما أتَمَّ عُثْمانُ، وكِلاهُما تَأوَّلَ تَأْوِيلًا. والحُجَّةُ في رِوايَتِهِمْ لا في تَأْوِيلِ الواحِدِ مِنهم مَعَ مُخالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. اهـ. مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: أمّا اسْتِبْعادُ مُخالَفَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لِلنَّبِيِّ ﷺ في حَياتِهِ مَعَ الِاعْتِرافِ بِمُخالَفَتِها لَهُ ﷺ بَعْدَ وفاتِهِ، فَإنَّهُ يُوهِمُ أنَّ مُخالَفَتَهُ بَعْدَ وفاتِهِ سائِغَةٌ، ولا شَكَّ أنَّ المَنعَ مِن مُخالَفَتِهِ في حَياتِهِ باقٍ بَعْدَ وفاتِهِ ﷺ فَلا يَحِلُّ لِأحَدٍ البَتَّةَ مُخالَفَةُ ما جاءَ بِهِ مِنَ الهُدى إلى يَوْمِ القِيامَةِ: فِعْلًا كانَ أوْ قَوْلًا أوْ تَقْرِيرًا، ولا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ أنَّ عائِشَةَ تُخالِفُ هَدْيَ الرَّسُولِ ﷺ بِاجْتِهادٍ ورِوايَةُ مَن رَوى أنَّها تَأوَّلَتْ تَقْتَضِي نَفْيَ رِوايَتِها عَنِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا في ذَلِكَ، والحَدِيثُ المَذْكُورُ فِيهِ إثْباتُ أنَّها رَوَتْ عَنْهُ ذَلِكَ، والمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلى النّافِي، فَبِهَذا يَعْتَضِدُ الحَدِيثَ الَّذِي صَحَّحَهُ بَعْضُهم وحَسَّنَهُ بَعْضُهم كَما تَقَدَّمَ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ سَنَدَ النَّسائِيِّ المُتَقَدِّمَ الَّذِي رَوى بِهِ هَذا الحَدِيثَ صَحِيحٌ، وإعْلالَ ابْنِ حِبّانَ لَهُ بِأنَّ فِيهِ العَلاءَ بْنَ زُهَيْرٍ الأزْدِيَّ، وقالَ فِيهِ: إنَّهُ يَرْوِي عَنِ الثِّقاتِ ما لا يُشْبِهُ حَدِيثَ الإثْباتِ فَبَطَلَ الِاحْتِجاجُ بِهِ، مَرْدُودٌ بِأنَّ العَلاءَ المَذْكُورَ ثِقَةٌ كَما قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّقْرِيبِ“ وغَيْرِهِ وإعْلالُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ لَمْ يُدْرِكْ عائِشَةَ مَرْدُودٌ بِأنَّهُ أدْرَكَها.
قالَ الدّارَقُطْنِيُّ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ أدْرَكَ عائِشَةَ فَدَخَلَ عَلَيْها وهو مُراهِقٌ وذَكَرَ الطَّحاوِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّهُ دَخَلَ عَلى عائِشَةَ بِالِاسْتِئْذانِ بَعْدَ احْتِلامِهِ، وذَكَرَ صاحِبُ ”الكَمالِ“ أنَّهُ سَمِعَ مِنها، وذَكَرَ البُخارِيُّ في ”تارِيخِهِ“ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ ما يَشْهَدُ لِذَلِكَ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وإعْلالُ الحَدِيثِ المَذْكُورِ بِأنَّهُ مُضْطَرِبٌ؛ لِأنَّ بَعْضَ الرُّواةِ يَقُولُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأسْوَدِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ، وبَعْضَهم يَقُولُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عائِشَةَ مَرْدُودٌ أيْضًا، بِأنَّ رِوايَةَ مَن قالَ عَنْ أبِيهِ خَطَأٌ والصَّوابُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأسْوَدِ عَنْ عائِشَةَ.
قالَ البَيْهَقِيُّ بَعْدَ أنْ ساقَ أسانِيدَ الرِّوايَتَيْنِ: قالَ أبُو بَكْرٍ النَّيْسابُورِيُّ: هَكَذا قالَ (p-٢٧٠)أبُو نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عائِشَةَ، ومَن قالَ عَنْ أبِيهِ في هَذا الحَدِيثِ فَقَدْ أخْطَأ. اهـ.
فالظّاهِرُ ثُبُوتُ هَذا الحَدِيثِ وهو يُقَوِّي حُجَّةَ مَن لَمْ يَمْنَعْ إتْمامَ الرُّباعِيَّةِ في السَّفَرِ وهم أكْثَرُ العُلَماءِ، وذَهَبَ الإمامُ مالِكُ بْنُ أنَسٍ إلى أنَّ قَصْرَ الرُّباعِيَّةِ في السَّفَرِ سُنَّةٌ، وأنَّ مَن أتَمَّ أعادَ في الوَقْتِ؛ لِأنَّ الثّابِتَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُواظِبُ عَلى القَصْرِ في أسْفارِهِ وكَذَلِكَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ في غَيْرِ أيّامِ مِنًى ولَمْ يَمْنَعْ مالِكٌ الإتْمامَ؛ لِلْأدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
الفَرْعُ الثّانِي: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَحْدِيدِ المَسافَةِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيها الصَّلاةُ. فَقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ: هي أرْبَعَةُ بُرُدٍ، والبَرِيدُ أرْبَعَةُ فَراسِخَ، والفَرْسَخُ ثَلاثَةُ أمْيالٍ، وتَقْرِيبُهُ بِالزَّمانِ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ سَيْرًا مُعْتَدِلًا، وعِنْدَهُمُ اخْتِلافٌ في قَدْرِ المِيلِ مَعْرُوفٌ واسْتَدَلَّ مَن قالَ بِهَذا القَوْلِ بِما رَواهُ مالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ سالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ رَكِبَ إلى رِيمٍ فَقَصَرَ الصَّلاةَ في مَسِيرِهِ ذَلِكَ.
قالَ مالِكٌ: وذَلِكَ نَحْوٌ مِن أرْبَعَةِ بُرُدٍ، ورِيمٌ مَوْضِعٌ. قالَ بَعْضُ شُعَراءِ المَدِينَةِ: [ الوافِرُ ]
فَكَمْ مِن حَرَّةٍ بَيْنَ المُنَقّى إلى أُحُدٍ إلى جَنَباتِ رِيمِ
وَبِما رَواهُ مالِكٌ عَنْ نافِعٍ عَنْ سالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَكِبَ إلى ذاتِ النُّصُبِ فَقَصَرَ الصَّلاةَ في مَسِيرِهِ ذَلِكَ.
قالَ مالِكٌ: وبَيْنَ ذاتِ النُّصُبِ والمَدِينَةِ أرْبَعَةُ بُرُدٍ، وبِما قالَ مالِكٌ: إنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبّاسٍ كانَ يَقْصُرُ الصَّلاةَ في مِثْلِ ما بَيْنَ مَكَّةَ والطّائِفِ، وفي مِثْلِ ما بَيْنَ مَكَّةَ وعُسْفانَ، وفي مِثْلِ ما بَيْنَ مَكَّةَ وجُدَّةَ.
قالَ مالِكٌ: وذَلِكَ أرْبَعَةُ بُرُدٍ وذَلِكَ أحَبُّ ما تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاةُ إلَيَّ، وبِما رَواهُ مالِكٌ عَنْ نافِعٍ أنَّهُ كانَ يُسافِرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ البَرِيدَ فَلا يَقْصُرُ الصَّلاةَ. كُلُّ هَذِهِ الآثارِ المَذْكُورَةِ في ”المُوَطَّأِ“، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا ابْنُ عُمَرَ وابْنُ عَبّاسٍ كَما ذَكَرْناهُ عَنْهُما.
وَقالَ البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في ”صَحِيحِهِ“: وكانَ ابْنُ عُمَرَ وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم يَقْصُرانِ ويُفْطِرانِ في أرْبَعَةِ بُرُدٍ، وهي سِتَّةُ عَشَرَ فَرْسَخًا. اهـ. وبِهِ قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ والزُّهْرِيُّ واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وإسْحاقُ وأبُو ثَوْرٍ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ النَّوَوِيُّ، وذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ القَصْرُ في أقَلَّ مِن مَسافَةِ ثَلاثَةِ أيّامٍ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ أبُو (p-٢٧١)حَنِيفَةَ، وهو قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وسُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ، والثَّوْرِيِّ، وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ أيْضًا يَوْمانِ وأكْثَرُ الثّالِثِ، واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وحَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الثّابِتَيْنِ في الصَّحِيحِ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا تُسافِرِ المَرْأةُ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا ومَعَها ذُو مَحْرَمٍ»، وبِحَدِيثِ: «مَسْحُ المُسافِرِ عَلى الخُفِّ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيهِنَّ»، ووَجْهُ الِاحْتِجاجِ بِهَذا الحَدِيثِ الأخِيرِ أنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ مُسافِرٍ يُشْرَعُ لَهُ مَسْحُ ثَلاثَةِ أيّامٍ ولا يَصِحُّ العُمُومُ في ذَلِكَ إلّا إذا قَدَّرَ أقَلَّ مُدَّةِ السَّفَرِ بِثَلاثَةِ أيّامٍ؛ لِأنَّها لَوْ قُدِّرَتْ بِأقَلَّ مِن ذَلِكَ لا يُمْكِنُهُ اسْتِيفاءُ مُدَّتِهِ؛ لِانْتِهاءِ سَفَرِهِ فاقْتَضى ذَلِكَ تَقْدِيرُهُ بِالثَّلاثَةِ وإلّا لَخَرَجَ بَعْضُ المُسافِرِينَ عَنْهُ. اهـ.
والِاسْتِدْلالُ بِالحَدِيثَيْنِ غَيْرُ ظاهِرٍ فِيما يَظْهَرُ لِي؛ لِأنَّ المُرادَ بِالحَدِيثِ الأوَّلِ: أنَّ المَرْأةَ لا يَحِلُّ لَها سَفَرُ مَسافَةِ ثَلاثَةِ أيّامٍ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وهَذا لا يَدُلُّ عَلى تَحْدِيدِ أقَلِّ ما يُسَمّى سَفَرًا، ويَدُلُّ لَهُ أنَّهُ ورَدَ في بَعْضِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ لا تُسافِرِ المَرْأةُ يَوْمَيْنِ إلّا ومَعَها زَوْجُها أوْ ذُو مَحْرَمٍ.
وَفِي بَعْضِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ: «لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُسافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَها حُرْمَةٌ» وفي رِوايَةٍ لِمُسْلِمٍ ”مَسِيرَةَ يَوْمٍ“، وفي رِوايَةٍ لَهُ ”لَيْلَةٍ“، وفي رِوايَةِ أبِي داوُدَ لا ”تُسافِرْ بَرِيدًا“، ورَواهُ الحاكِمُ، وقالَ: صَحِيحُ الإسْنادِ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“: وهَذِهِ الرِّوايَةُ في الثَّلاثَةِ واليَوْمَيْنِ واليَوْمِ صَحِيحَةٌ، «وَكَأنَّ النَّبِيَّ ﷺ: سُئِلَ عَنِ المَرْأةِ تُسافِرُ ثَلاثًا مِن غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَقالَ: ”لا“، وسُئِلَ عَنْها تُسافِرُ يَوْمَيْنِ مِن غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَقالَ: ”لا“، ويَوْمًا فَقالَ: ”لا“ فَأدّى كُلُّ واحِدٍ مِنهم ما حَفِظَ ولا يَكُونُ عَدَدٌ مِن هَذِهِ الأعْدادِ حَدًّا لِلسَّفَرِ» . اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ.
فَظَهْرَ مِن هَذا أنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلى أقَلِّ السَّفَرِ بِالحَدِيثِ غَيْرُ مُتَّجِهٍ كَما تَرى لا سِيَّما أنَّ ابْنَ عُمَرَ راوِيهِ قَدْ خالَفَهُ كَما تَقَدَّمَ، والقاعِدَةُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ أنَّ العِبْرَةَ بِما رَأى الصَّحابِيُّ لا بِما رَوى.
وَأمّا الِاسْتِدْلالُ بِحَدِيثِ تَوْقِيتِ مَسْحِ المُسافِرِ بِثَلاثَةِ أيّامٍ بِلَيالِيهِنَّ فَهو أيْضًا غَيْرُ مُتَّجِهٍ، لِأنَّهُ إذا انْتَهى سَفَرُهُ قَبْلَها صارَ مُقِيمًا وزالَ عَنْهُ اسْمُ السَّفَرِ ولَيْسَ في الحَدِيثِ أنَّهُ لا بُدَّ مِن أنْ يُسافِرَ ثَلاثَةٌ بَلْ غايَةُ ما يُفِيدُهُ الحَدِيثُ أنَّ المُسافِرَ لَهُ في المَسْحِ عَلى الخُفِّ (p-٢٧٢)مُدَّةَ ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَإنْ مَكَثَها مُسافِرًا فَذَلِكَ، وإنْ أتَمَّ سَفَرَهُ قَبْلَها صارَ غَيْرَ مُسافِرٍ ولا إشْكالَ في ذَلِكَ، وذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: إلى أنَّ القَصْرَ يَجُوزُ في مَسِيرَةِ يَوْمٍ تامٍّ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ الأوْزاعِيُّ وابْنُ المُنْذِرِ واحْتَجُّوا بِما تَقَدَّمَ في بَعْضِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أطْلَقَ اسْمَ السَّفَرِ عَلى مَسافَةِ يَوْمٍ والسَّفَرُ هو مَناطُ القَصْرِ، وبِما رَواهُ مالِكٌ في ”المُوَطَّأِ“ عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ سالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كانَ يَقْصُرُ الصَّلاةَ في مَسِيرَةِ اليَوْمِ التّامِّ، وظاهِرُ صَنِيعِ البُخارِيِّ أنَّهُ يَخْتارُ أنَّها يَوْمٌ ولَيْلَةٌ؛ لِأنَّهُ قالَ: ”بابٌ في كَمْ يَقْصُرُ الصَّلاةَ وسَمّى النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا ولَيْلَةً سَفَرًا“؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: وسَمّى النَّبِيُّ الخَ. . . بَعْدَ قَوْلِهِ: ”في كَمْ يَقْصُرُ الصَّلاةَ“، يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ هو مَناطُ القَصْرِ عِنْدَهُ كَما هو ظاهِرٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى جَوازِ القَصْرِ في قَصِيرِ السَّفَرِ وطَوِيلِهِ، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا داوُدُ الظّاهِرِيُّ، قالَ عَنْهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: حَتّى إنَّهُ لَوْ خَرَجَ إلى بُسْتانٍ خارِجَ البَلَدِ قَصَرَ، واحْتَجَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِإطْلاقِ الكِتابِ والسُّنَّةِ جَوازَ القَصْرِ بِلا تَقْيِيدٍ لِلْمَسافَةِ، وبِما رَواهُ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“ عَنْ يَحْيى بْنِ يَزِيدَ الهَنائِيِّ قالَ: سَألْتُ أنَسَ بْنَ مالِكٍ عَنْ قَصْرِ الصَّلاةِ فَقالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أمْيالٍ أوْ ثَلاثَةِ فَراسِخَ - شُعْبَةُ الشّاكُّ - صَلّى رَكْعَتَيْنِ»، هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ وبِما رَواهُ مُسْلِمٌ أيْضًا في ”الصَّحِيحِ“ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قالَ: ”خَرَجْتُ مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ إلى قَرْيَةٍ عَلى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ أوْ ثَمانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ لَهُ. فَقالَ: رَأيْتُ عُمَرَ صَلّى بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ لَهُ، فَقالَ: إنَّما أفْعَلُ كَما رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ“، وأُجِيبَ مِن جِهَةِ الجُمْهُورِ بِأنَّهُ لا دَلِيلَ في حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ المَذْكُورَيْنِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِهِما أنَّ تِلْكَ المَسافَةُ المَذْكُورَةُ فِيهِما هي غايَةُ السَّفَرِ، بَلْ مَعْناهُ أنَّهُ كانَ إذا سافَرَ سَفَرًا طَوِيلًا فَتَباعَدَ ثَلاثَةَ أمْيالٍ قَصَرَ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ ﷺ كانَ لا يُسافِرُ عِنْدَ دُخُولِ وقْتِ الصَّلاةِ إلّا بَعْدَ أنْ يُصَلِّيَها فَلا تُدْرِكُهُ الصَّلاةُ الأُخْرى إلّا وقَدْ تَباعَدَ مِنَ المَدِينَةِ، وكَذَلِكَ حَدِيثُ شُرَحْبِيلَ المَذْكُورُ. فَقَوْلُهُ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلّى بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلى ما ذَكَرْناهُ في حَدِيثِ أنَسٍ وهو أنَّهُ كانَ مُسافِرًا إلى مَكَّةَ أوْ غَيْرِها فَمَرَّ بِذِي الحُلَيْفَةِ وأدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ لا أنَّ ذا الحُلَيْفَةِ غايَةُ سَفَرِهِ، قالَهُ النَّوَوِيُّ وغَيْرُهُ، ولَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ولَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ القَصْرَ صَرِيحًا فِيما دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ كَما جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ - قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”تَلْخِيصِ الحَبِيرِ“: ورَوى سَعِيدُ بْنُ (p-٢٧٣)مَنصُورٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا سافَرَ فَرْسَخًا يَقْصُرُ الصَّلاةَ وسَكَتَ عَلَيْهِ»، فَإنْ كانَ صَحِيحًا فَهو ظاهِرٌ في قَصْرِ الصَّلاةِ في المَسافَةِ القَصِيرَةِ ظُهُورًا أقْوى مِن دَلالَةِ حَدِيثَيْ مُسْلِمٍ المُتَقَدِّمَيْنِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: هَذا الَّذِي ذَكَرْنا هو حاصِلُ كَلامِ العُلَماءِ في تَحْدِيدِ مَسافَةِ القَصْرِ، والظّاهِرُ أنَّهُ لَيْسَ في تَحْدِيدِها نَصٌّ صَرِيحٌ، وقَدِ اخْتُلِفَ فِيها عَلى نَحْوٍ مِن عِشْرِينَ قَوْلًا، وما رَواهُ البَيْهَقِيُّ والدّارَقُطْنِيُّ والطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«يا أهْلَ مَكَّةَ» لا تَقْصُرُوا في أقَلَّ مِن أرْبَعَةِ بُرُدٍ“ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ في إسْنادِهِ عَبْدَ الوَهّابِ بْنَ مُجاهِدٍ وهو مَتْرُوكٌ، وكَذَّبَهُ الثَّوْرِيُّ.
وَقالَ الأزْدِيُّ: لا تَحِلُّ الرِّوايَةُ عَنْهُ وراوِيهِ عَنْهُ إسْماعِيلُ بْنُ عَيّاشٍ، ورِوايَتُهُ عَنْ غَيْرِ الشّامِيِّينَ ضَعِيفَةٌ وعَبْدُ الوَهّابِ المَذْكُورُ حِجازِيٌّ لا شامِيٌّ، والصَّحِيحُ في هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ رَواهُ عَنْهُ الشّافِعِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ، ورَواهُ عَنْهُ مالِكٌ في ”المُوَطَّأِ“ بَلاغًا، وقَدْ قَدَّمْناهُ.
والظّاهِرُ أنَّ الِاخْتِلافَ في تَحْدِيدِ المَسافَةِ مِن نَوْعِ الِاخْتِلافِ في تَحْقِيقِ المَناطِ، فَكُلُّ ما كانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ في لُغَةِ العَرَبِ يَجُوزُ القَصْرُ فِيهِ؛ لِأنَّهُ ظاهِرُ النُّصُوصِ ولَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صارِفٌ مِن نَقْلٍ صَحِيحٍ ومُطْلَقُ الخُرُوجِ مِنَ البَلَدِ لا يُسَمّى سَفَرًا، وقَدْ كانَ ﷺ يَذْهَبُ إلى قُباءٍ وإلى أُحُدٍ ولَمْ يَقْصُرِ الصَّلاةَ، والحَدِيثانِ اللَّذانِ قَدَّمْنا عَنْ مُسْلِمٍ مُحْتَمَلانِ وحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ مَنصُورٍ المُتَقَدِّمُ لا نَعْلَمُ أصَحِيحٌ هو أمْ لا ؟ فَإنْ كانَ صَحِيحًا كانَ نَصًّا قَوِيًّا في قَصْرِ الصَّلاةِ في المَسافَةِ القَصِيرَةِ والطَّوِيلَةِ، وقَصْرُ أهْلِ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في حَجَّةِ الوَداعِ دَلِيلٌ عِنْدَ بَعْضِ العُلَماءِ عَلى القَصْرِ في المَسافَةِ غَيْرِ الطَّوِيلَةِ، وبَعْضُهم يَقُولُ: القَصْرُ في مُزْدَلِفَةَ، ومِنًى، وعَرَفاتٍ، مِن مَناسِكِ الحَجِّ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: أقْوى الأقْوالِ فِيما يَظْهَرُ لِي حُجَّةً، هو قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ كُلَّ ما يُسَمّى سَفَرًا ولَوْ قَصِيرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاةُ؛ لِإطْلاقِ السَّفَرِ في النُّصُوصِ، ولِحَدِيثَيْ مُسْلِمٍ المُتَقَدِّمَيْنِ، وحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مَنصُورٍ، ورَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، عَنْ وكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مُحارِبٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «إنِّي لَأُسافِرُ السّاعَةَ مِنَ النَّهارِ فَأقْصُرُ» .
وَقالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: ”لَوْ خَرَجْتُ (p-٢٧٤)مِيلًا قَصَرْتُ الصَّلاةَ“ .
قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“: إسْنادُ كُلٍّ مِنهُما صَحِيحٌ. اهـ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
الفَرْعُ الثّالِثُ: يَبْتَدِئُ المُسافِرُ القَصْرَ، إذا جاوَزَ بُيُوتَ بَلَدِهِ بِأنْ خَرَجَ مِنَ البَلَدِ كُلِّهِ، ولا يَقْصُرُ في بَيْتِهِ إذا نَوى السَّفَرَ، ولا في وسَطِ البَلَدِ، وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ مِنهُمُ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ، وأكْثَرُ فُقَهاءِ الأمْصارِ، وقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قَصَرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وعَنْ مالِكٍ أنَّهُ إذا كانَ في البَلَدِ بَساتِينُ مَسْكُونَةٌ أنَّ حُكْمَها حُكْمُ البَلَدِ، فَلا يَقْصُرُ حَتّى يُجاوِزَها، واسْتَدَلَّ الجُمْهُورُ؛ عَلى أنَّهُ لا يُقْصُرُ إلّا إذا خَرَجَ مِنَ البَلَدِ، بِأنَّ القَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالضَّرْبِ في الأرْضِ، ومَن لَمْ يَخْرُجْ مِنَ البَلَدِ لَمْ يَضْرِبْ في الأرْضِ، وذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّهُ إنْ أرادَ السَّفَرَ قَصَرَ وهو في مَنزِلِهِ، وذَكَرَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الحارِثِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ أنَّهُ أرادَ سَفَرًا فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ في مَنزِلِهِ وفِيهِمُ الأسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وغَيْرُ واحِدٍ مِن أصْحابِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ورَوَيْنا مَعْناهُ عَنْ عَطاءٍ، وسُلَيْمانَ بْنِ مُوسى قالَ: وقالَ مُجاهِدٌ: لا يَقْصُرُ المُسافِرُ نَهارًا حَتّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ، وإنْ خَرَجَ بِاللَّيْلِ لَمْ يَقْصُرْ حَتّى يَدْخُلَ النَّهارُ، وعَنْ عَطاءٍ، أنَّهُ قالَ: إذا جاوَزَ حِيطانَ دارِهِ فَلَهُ القَصْرُ.
قالَ النَّوَوِيُّ: فَهَذانَ المَذْهَبانِ فاسِدانِ فَمَذْهَبُ مُجاهِدٍ مُنابِذٌ لِلْأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ في قَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِذِي الحُلَيْفَةِ، حِينَ خَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ، ومَذْهَبُ عَطاءٍ، ومُوافِقِيهِ مُنابِذٌ لِلسَّفَرِ. اهـ. مِنهُ، وهو ظاهِرٌ كَما تَرى.
* * *
الفَرْعُ الرّابِعُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في قَدْرِ المُدَّةِ الَّتِي إذا نَوى المُسافِرُ إقامَتَها لَزِمَهُ الإتْمامُ، فَذَهَبَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، وأحْمَدُ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ إلى أنَّها أرْبَعَةُ أيّامٍ، والشّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: لا يَحْسِبُ فِيها يَوْمَ الدُّخُولِ، ولا يَوْمَ الخُرُوجِ، ومالَكٌ يَقُولُ: إذا نَوى إقامَةَ أرْبَعَةِ أيّامٍ صِحاحٍ أتَمَّ.
وَقالَ ابْنُ القاسِمِ: في العُتَيْبَةِ يُلْغى يَوْمُ دُخُولِهِ ولا يَحْسِبُهُ، والرِّوايَةُ المَشْهُورَةُ عَنْ أحْمَدَ، أنَّها ما زادَ عَلى إحْدى وعِشْرِينَ صَلاةً.
وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هي نِصْفُ شَهْرٍ، واحْتَجَّ مَن قالَ بِأنَّها أرْبَعَةُ أيّامٍ، بِما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ العَلاءِ بْنِ الحَضْرَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «ثَلاثُ لَيالٍ يَمْكُثُهُنَّ المُهاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الصَّدْرِ»، هَذا لَفَظُ مُسْلِمٍ، وفي رِوايَةٍ لَهُ عَنْهُ: «لِلْمُهاجِرِ إقامَةُ ثَلاثِ لَيالٍ بَعْدَ الصَّدْرِ بِمَكَّةَ»، وفي رِوايَةٍ لَهُ عَنْهُ: «يُقِيمُ (p-٢٧٥)المُهاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضاءِ نُسُكِهِ ثَلاثًا»، وأخْرَجَهُ البُخارِيُّ في المَناقِبِ، عَنِ العَلاءِ بْنِ الحَضْرَمِيِّ أيْضًا بِلَفْظِ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ثَلاثٌ لِلْمُهاجِرِ بَعْدَ الصَّدْرِ» اهـ. قالُوا فَأذِنَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْمُهاجِرِينَ في ثَلاثَةِ أيّامٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن أقامَها في حُكْمِ المُسافِرِ، وأنَّ ما زادَ عَلَيْها يَكُونُ إقامَةً والمُقِيمُ عَلَيْهِ الإتْمامُ، وبِما أخْرَجَهُ مالِكٌ في ”المُوَطَّأِ“ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ أجْلى اليَهُودَ مِنَ الحِجازِ، ثُمَّ أذِنَ لِمَن قَدِمَ مِنهم تاجِرًا أنَّ يُقِيمَ ثَلاثًا "، وأُجِيبَ عَنْ هَذا الدَّلِيلِ مِن جِهَةِ المُخالِفِ، بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ إنَّما رَخَّصَ لَهم في الثَّلاثِ؛ لِأنَّها مَظِنَّةُ قَضاءِ حَوائِجِهِمْ، وتَهْيِئَةُ أحْوالِهِمْ لِلسَّفَرِ، وكَذَلِكَ تَرْخِيصُ عُمَرَ لِلْيَهُودِ في إقامَةِ ثَلاثَةِ أيّامٍ، والِاسْتِدْلالُ المَذْكُورُ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ؛ لِأنَّهُ يَعْتَضِدُ بِالقِياسِ؛ لِأنَّ القَصْرَ شُرِعَ لِأجْلِ تَخْفِيفِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، ومَن أقامَ أرْبَعَةَ أيّامٍ، فَإنَّها مَظِنَّةٌ لِإذْهابِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ عَنْهُ، واحْتَجَّ الإمامُ أحْمَدُ، عَلى أنَّها ما زادَ عَلى إحْدى وعِشْرِينَ صَلاةً بِما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ جابِرٍ، وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «قَدِمَ مَكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ صُبْحَ رابِعَةٍ، فَأقامَ النَّبِيُّ ﷺ اليَوْمَ الرّابِعَ، والخامِسَ، والسّادِسَ، والسّابِعَ، وصَلّى الفَجْرَ بِالأبْطُحِ يَوْمَ الثّامِنِ، فَكانَ يَقْصُرُ الصَّلاةَ في هَذِهِ الأيّامِ، وقَدْ أجْمَعَ عَلى إقامَتِها، وهي إحْدى وعِشْرُونَ صَلاةً؛ لِأنَّها أرْبَعَةُ أيّامٍ كامِلَةٍ، وصَلاةُ الصُّبْحِ مِنَ الثّامِنِ»، قالَ: فَإذا أجْمَعَ أنْ يُقِيمَ، كَما أقامَ النَّبِيُّ ﷺ قَصَرَ، وإذا أجْمَعَ عَلى أكْثَرَ مِن ذَلِكَ أتَمَّ.
وَرَوى الأثْرَمُ، عَنْ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ هَذا الِاحْتِجاجَ كَلامٌ لَيْسَ يَفْقَهُهُ كُلُّ النّاسِ، وحَمَلَ الإمامُ أحْمَدُ حَدِيثَ أنَسٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أقامَ بِمَكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ عَشْرًا يَقْصُرُ الصَّلاةَ» عَلى هَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرْنا عَنْهُ، وأنَّ أنَسًا أرادَ مُدَّةَ إقامَتِهِ بِمَكَّةَ ومِنًى ومُزْدَلِفَةَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ -: وهَذا لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ لِظُهُورِ وجْهِهِ، ووُضُوحِ أنَّهُ الحَقُّ.
* تَنْبِيهٌ
حَدِيثُ أنَسٍ هَذا الثّابِتُ في الصَّحِيحِ، لا يُعارِضُهُ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ أيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «أقامَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ»، فَنَحْنُ إذا سافَرْنا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنا، وإنْ زِدْنا أتْمَمْنا؛ لِأنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في غَزْوَةِ الفَتْحِ، وحَدِيثَ أنَسٍ، في حَجَّةِ الوَداعِ، وحَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ، مَحْمُولٌ عَلى (p-٢٧٦)أنَّهُ ﷺ، ما كانَ ناوِيًا الإقامَةَ؛ والإقامَةُ المُجَرَّدَةُ عَنْ نِيَّةٍ لا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأنَّها نِصْفُ شَهْرٍ، بِما رَوى أبُو داوُدَ مِن طَرِيقِ ابْنِ إسْحاقَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «أقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ عامَ الفَتْحِ خَمْسَةَ عَشَرَ، يَقْصُرُ الصَّلاةَ» وضَعَّفَ النَّوَوِيُّ في الخُلاصَةِ، رِوايَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ.
قالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“: ولَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ رُواتَها ثِقاتٌ، ولَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ إسْحاقَ، فَقَدْ أخْرَجَها النَّسائِيُّ، مِن رِوايَةِ عِراكِ بْنِ مالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ كَذَلِكَ، واخْتارَ أبُو حَنِيفَةَ رِوايَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ، عَنْ رِوايَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ، ورِوايَةِ ثَمانِيَةَ عَشَرَ، ورِوايَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ؛ لِأنَّها أقَلُّ ما ورَدَ فَيُحْمَلُ غَيْرُها عَلى أنَّهُ وقَعَ اتِّفاقًا، وأرْجَحُ الرِّواياتِ، وأكْثَرُها وُرُودًا في الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ رِوايَةُ تِسْعَةَ عَشَرَ وبِها أخَذَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ، وجَمَعَ البَيْهَقِيُّ بَيْنَ الرِّواياتِ، بِأنَّ مَن قالَ: تِسْعَةَ عَشَرَ، عَدَّ يَوْمَ الدُّخُولِ، ويَوْمَ الخُرُوجِ، ومَن قالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ حَذَفَهُما، ومَن قالَ: ثَمانِيَ عَشْرَةَ حَذَفَ أحَدَهُما.
أمّا رِوايَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ، فالظّاهِرُ فِيها أنَّ الرّاوِيَ ظَنَّ، أنَّ الأصْلَ رِوايَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ فَحَذَفَ مِنها، يَوْمَ الدُّخُولِ، ويَوْمَ الخُرُوجِ، فَصارَ الباقِي خَمْسَةَ عَشَرَ، واعْلَمْ أنَّ الإقامَةَ المُجَرَّدَةَ عَنِ النِّيَّةِ فِيها أقْوالٌ لِلْعُلَماءِ:
أحَدُها: أنَّهُ يُتِمُّ بَعْدَ أرْبَعَةِ أيّامٍ.
والثّانِي: بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
والثّالِثُ: ثَمانِيَةَ عَشَرَ.
والرّابِعُ: تِسْعَةَ عَشَرَ.
والخامِسُ: عِشْرِينَ يَوْمًا.
والسّادِسُ: يَقْصُرُ أبَدًا حَتّى يُجْمِعَ عَلى الإقامَةِ.
والسّابِعُ: لِلْمُحارِبِ أنْ يَقْصُرَ، ولَيْسَ لِغَيْرِهِ القَصْرُ بَعْدَ إقامَةِ أرْبَعَةِ أيّامٍ.
وَأظْهَرُ هَذِهِ الأقْوالِ أنَّهُ لا يَقْصُرُ حَتّى يَنْوِيَ الإقامَةَ ولَوْ طالَ مَقامُهُ مِن غَيْرِ نِيَّةِ الإقامَةِ، ويَدُلُّ لَهُ قَصْرُ النَّبِيِّ ﷺ مُدَّةَ إقامَتِهِ في مَكَّةَ عامَ الفَتْحِ، كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ، وما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ وابْنُ حِبّانَ والبَيْهَقِيُّ عَنْ جابِرٍ قالَ: «أقامَ النَّبِيُّ ﷺ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلاةَ» . وقَدْ صَحَّحَ هَذا الحَدِيثَ النَّوَوِيُّ وابْنُ حَزْمٍ، وأعَلَّهُ (p-٢٧٧)الدّارَقُطْنِيُّ في العِلَلِ بِالإرْسالِ والِانْقِطاعِ، وأنَّ عَلِيَّ بْنَ المُبارَكِ وغَيْرَهُ مِنَ الحُفّاظِ رَوَوْهُ عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبانَ مُرْسَلًا، وأنَّ الأوْزاعِيَّ رَواهُ عَنْ يَحْيى عَنْ أنَسٍ فَقالَ: ”بِضْعَ عَشْرَةَ“ وبِهَذا اللَّفْظِ أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ وهو ضَعِيفٌ.
قالَ البَيْهَقِيُّ بَعْدَ إخْراجِهِ لَهُ: ولا أراهُ مَحْفُوظًا، وقَدْ رُوِيَ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْ جابِرٍ: ”بِضْعَ عَشْرَةَ“ . اهـ. وقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلى الأوْزاعِيِّ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيُّ في العِلَلِ وقالَ: الصَّحِيحُ عَنِ الأوْزاعِيِّ عَنْ يَحْيى أنَّ أنَسًا كانَ يَفْعَلُهُ. قالَ ابْنُ حَجَرٍ: ويَحْيى لَمْ يَسْمَعْ مِن أنَسٍ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: قُلْتُ ورِوايَةُ المُسْنَدِ تَفَرَّدَ بِها مَعْمَرُ بْنُ راشِدٍ وهو إمامٌ مُجْمَعٌ عَلى جَلالَتِهِ وباقِي الإسْنادِ صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ، فالحَدِيثُ صَحِيحٌ؛ لِأنَّ الصَّحِيحَ أنَّهُ إذا تَعارَضَ في الحَدِيثِ إرْسالٌ وإسْنادٌ حُكِمَ بِالمُسْنَدِ. اهـ. مِنهُ وعَقَدَهُ صاحِبُ ”المَراقِي“ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ]
والرَّفْعُ والوُصُولُ وزَيْدُ اللَّفْظِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إمامِ الحِفْظِ
الَخْ. . .
واسْتَدَلَّ أيْضًا مَن قالَ بِأنَّ الإقامَةَ المُجَرَّدَةَ عَنِ النِّيَّةِ لا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ بِما أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ عِمْرانَ بْنِ حَصِينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وشَهِدْتُ مَعَهُ الفَتْحَ فَأقامَ بِمَكَّةَ ثَمانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لا يُصَلِّي إلّا رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ: ”يا أهْلَ البَلْدَةِ صَلُّوا أرْبَعًا فَإنّا سَفْرٌ»، فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ“ فَإنّا سَفْرٌ " مَعَ إقامَتِهِ ثَمانِيَ عَشْرَةَ يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّ المُقِيمَ مِن غَيْرِ نِيَّةِ الإقامَةِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ المُسافِرِ، ويُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: «إنَّما الأعْمالُ بِالنِّيّاتِ»، وهَذا الحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وفي إسْنادِهِ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعانَ وهو ضَعِيفٌ.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ: وإنَّما حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَهُ لِشَواهِدِهِ ولَمْ يَعْتَبِرِ الِاخْتِلافَ في المُدَّةِ كَما عُلِمَ مِن عادَةِ المُحَدِّثِينَ مِنِ اعْتِبارِهِمُ الِاتِّفاقَ عَلى الأسانِيدِ دُونَ السِّياقِ. اهـ. وعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ المَذْكُورُ أخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ.
وَقالَ التِّرْمِذِيُّ في حَدِيثِهِ في السَّفَرِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقالَ: صَدُوقٌ رُبَّما رَفَعَ المَوْقُوفَ ووَثَّقَهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: اخْتَلَطَ في كِبَرِهِ، وقَدْ رَوى عَنْهُ شُعْبَةُ، والثَّوْرِيُّ، (p-٢٧٨)وَعَبْدُ الوارِثِ، وخَلْقٌ.
وَقالَ الدّارَقُطْنِيُّ: إنَّما فِيهِ لِينٌ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَ الدّارَقُطْنِيِّ هَذا أقْرَبُ لِلصَّوابِ فِيهِ، لَكِنْ يُتَّقى مِنهُ ما كانَ بَعْدَ الِاخْتِلاطِ. اهـ. إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ عَلى أنَّ الإقامَةَ دُونَ نِيَّتِها لا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، ”وَقَدْ أقامَ الصَّحابَةُ بِرامَهُرْمُزَ تِسْعَةَ أشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلاةَ“ . رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ، وتَضْعِيفُهُ بِعِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ مَرْدُودٌ بِأنَّ عِكْرِمَةَ المَذْكُورَ مِن رِجالِ مُسْلِمٍ في ”صَحِيحِهِ“ .
وَقَدْ رَوى أحْمَدُ في ”مَسْنَدِهِ“ عَنْ ثُمامَةَ بْنِ شَراحِيلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: ”كُنْتُ بِأذْرَبِيجانَ لا أدْرِي قالَ: أرْبَعَةَ أشْهُرٍ أوْ شَهْرَيْنِ فَرَأيْتُهم يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ“، وأخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّلْخِيصِ“: إنَّ إسْنادَهُ صَحِيحٌ. اهـ.
وَمَذْهَبُ مالِكٍ الفَرْقُ بَيْنَ العَسْكَرِ بِدارِ الحَرْبِ فَلا يَقْصُرُ وبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَقْصُرُ بِنِيَّةِ إقامَةِ أرْبَعَةِ أيّامٍ صِحاحٍ.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُوا۟ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن یَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كَانُوا۟ لَكُمۡ عَدُوࣰّا مُّبِینࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











