الباحث القرآني

(p-٣٠١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الصّافّاتِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والصّافّاتِ صَفًّا﴾ ﴿فالزّاجِراتِ زَجْرًا﴾ ﴿فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾ ﴿إنَّ إلَهَكم لَواحِدٌ﴾ ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما ورَبُّ المَشارِقِ﴾ . أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّ المُرادَ بِـ: الصّافّاتِ هُنا، و الزّاجِراتِ، و التّالِياتِ: جَماعاتُ المَلائِكَةِ، وقَدْ جاءَ وصْفُ المَلائِكَةِ بِأنَّهم صافُّونَ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى عَنْهم: ﴿وَإنّا لَنَحْنُ الصّافُّونَ﴾ ﴿وَإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ﴾ [الصافات: ١٦٥ - ١٦٦]، ومَعْنى كَوْنِهِمْ صافِّينَ: أنْ يَكُونُوا صُفُوفًا مُتَراصِّينَ بَعْضُهم جَنْبَ بَعْضٍ في طاعَةِ اللَّهِ تَعالى، مِن صَلاةٍ وغَيْرِها. وقِيلَ: لِأنَّهم يَصُفُّونَ أجْنِحَتَهم في السَّماءِ، يَنْتَظِرُونَ أمْرَ اللَّهِ، ويُؤَيِّدُ القَوْلَ الأوَّلَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الَّذِي قَدَّمْنا في أوَّلِ سُورَةِ ”المائِدَةِ“ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وهو قَوْلُهُ ﷺ: «فُضِّلْنا عَلى النّاسِ بِثَلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنا كَصُفُوفِ المَلائِكَةِ، وجُعِلَتْ لَنا الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدًا، وجُعِلَتْ لَنا تُرْبَتُها طَهُورًا إذا لَمْ نَجِدِ الماءَ» وهو دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ المُصَلِّينَ في صَلاتِهِمْ، وقَدْ جاءَ في بَعْضِ الآياتِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم يُلْقُونَ الذِّكْرَ عَلى الأنْبِياءِ، لِأجْلِ الإعْذارِ والإنْذارِ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ ﴿عُذْرًا أوْ نُذْرًا﴾ [الملك: ٥ - ٦] فَقَوْلُهُ: ﴿فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ كَقَوْلِهِ هُنا: ﴿فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾؛ لِأنَّ الذِّكْرَ الَّذِي تَتْلُوهُ تُلْقِيهِ إلى الأنْبِياءِ، كَما كانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالوَحْيِ عَلى نَبِيِّنا وغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلى الجَمِيعِ، وقَوْلُهُ: ﴿عُذْرًا أوْ نُذْرًا﴾، أيْ: لِأجْلِ الإعْذارِ والإنْذارِ، أيْ: بِذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي نَتْلُوهُ وتُلْقِيهِ، والإعْذارُ: قَطْعُ العُذْرِ بِالتَّبْلِيغِ. والإنْذارُ قَدْ قَدَّمْنا إيضاحَهُ وبَيَّنّا أنْواعَهُ في أوَّلِ سُورَةِ ”الأعْرافِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿المص﴾ ﴿كِتابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١ - ٢]، وقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فالزّاجِراتِ زَجْرًا﴾ المَلائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحابَ، وقِيلَ: تَزْجُرُ الخَلائِقَ عَنْ مَعاصِي اللَّهِ بِالذِّكْرِ الَّذِي تَتْلُوهُ، وتُلْقِيهِ إلى الأنْبِياءِ. (p-٣٠٢)وَمِمَّنْ قالَ بِأنَّ الصّافّاتِ و الزَّجِراتِ و التّالِياتِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ هي جَماعاتُ المَلائِكَةِ: ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وعِكْرِمَةُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ؛ كَما قالَهُ القُرْطُبِيُّ وابْنُ كَثِيرٍ وغَيْرُهُما. وزادُ ابْنُ كَثِيرٍ وغَيْرُهُ مِمَّنْ قالَ بِهِ: مَسْرُوقًا والسُّدِّيَّ والرَّبِيعَ بْنَ أنَسٍ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: الصّافّاتِ في الآيَةِ الطَّيْرُ تَصُفُّ أجْنِحَتَها في الهَواءِ، واسْتَأْنَسَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ فَوْقَهم صافّاتٍ ويَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إلّا الرَّحْمَنُ﴾ الآيَةَ [الملك: ١٩]، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ والطَّيْرُ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ الآيَةَ [النور: ٤١] . وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُرادُ بِـ: الصّافّاتِ جَماعاتُ المُسْلِمِينَ يَصُفُّونَ في مَساجِدِهِمْ لِلصَّلاةِ، ويَصُفُّونَ في غَزْوِهِمْ عِنْدَ لِقاءِ العَدُوِّ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤] . وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ أيْضًا: المُرادُ بِـ: ﴿فالزّاجِراتِ زَجْرًا﴾، و ﴿فالتّالِياتِ ذِكْرًا﴾: جَماعاتُ العُلَماءِ العامِلِينَ يُلْقُونَ آياتِ اللَّهِ عَلى النّاسِ، ويَزْجُرُونَ عَنْ مَعاصِي اللَّهِ بِآياتِهِ، ومَواعِظِهِ الَّتِي أنْزَلَها عَلى رُسُلِهِ. وَقالَ بَعْضُهُمِ: المُرادُ بِـ: ﴿فالزّاجِراتِ زَجْرًا﴾: جَماعاتُ الغُزاةِ يَزْجُرُونَ الخَيْلَ لِتُسْرِعَ إلى الأعْداءِ، والقَوْلُ الأوَّلُ أظْهَرُ وأكْثَرُ قائِلًا. ووَجْهُ تَوْكِيدِهِ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿إنَّ إلَهَكم لَواحِدٌ﴾، بِهَذِهِ الأقْسامِ، وبِأنَّ واللّامِ هو أنَّ الكُفّارَ أنْكَرُوا كَوْنَ الإلَهِ واحِدًا إنْكارًا شَدِيدًا وتَعَجَّبُوا مِن ذَلِكَ تَعَجُّبًا شَدِيدًا؛ كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٥]، ولَمّا قالَ تَعالى: ﴿إنَّ إلَهَكم لَواحِدٌ﴾ أقامَ الدَّلِيلَ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما ورَبُّ المَشارِقِ﴾، فَكَوْنُهُ خالِقَ السَّماواتِ والأرْضِ الَّذِي جَعَلَ فِيها المَشارِقَ والمَغارِبَ بُرْهانٌ قاطِعٌ عَلى أنَّهُ المَعْبُودُ وحْدَهُ. وَهَذا البُرْهانُ القاطِعُ الَّذِي أقامَهُ هُنا عَلى أنَّهُ هو الإلَهُ المَعْبُودُ وحْدَهُ، أقامَهُ عَلى ذَلِكَ أيْضًا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“: ﴿وَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] فَقَدْ أقامَ البُرْهانَ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مُتِّصِلًا بِهِ: (p-٣٠٣)﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ وما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماءٍ فَأحْيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّياحِ والسَّحابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤] . وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: فَإنْ قُلْتَ: ما حُكْمُ الفاءِ إذا جاءَتْ عاطِفَةً في الصِّفاتِ ؟ قُلْتُ: إمّا أنْ تَدُلَّ عَلى تَرَتُّبِ مَعانِيها في الوُجُودِ؛ كَقَوْلِهِ: ؎يا لَهْفَ زِيابَةَ لِلْحارِثِ الـ صّابِحِ فالغانِمِ فالآئِبِ كَأنَّهُ قِيلَ: الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ، وإمّا عَلى تَرَتُّبِها في التَّفاوُتِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ؛ كَقَوْلِكَ: خُذِ الأفْضَلَ فالأكْمَلَ، واعْمَلِ الأحْسَنَ فالأجْمَلَ. وإمّا عَلى تَرَتُّبِ مَوْصُوفاتِها في ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ: رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ فالمُقَصِّرِينَ، فَعَلى هَذِهِ القَوانِينِ الثَّلاثَةِ يَنْساقُ أمْرُ الفاءِ العاطِفَةِ في الصِّفاتِ. فَإنْ قُلْتَ: فَعَلى أيِّ هَذِهِ القَوانِينِ هي فِيما أنْتَ بِصَدَدِهِ ؟ قُلْتُ: إنْ وحَّدْتَ المَوْصُوفَ كانَتْ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرَتُّبِ الصِّفاتِ في التَّفاضُلِ، وإنْ ثَلَّثْتَهُ فَهي لِلدَّلالَةِ عَلى تَرَتُّبِ المَوْصُوفاتِ فِيهِ. بَيانُ ذَلِكَ: أنَّكَ إذا أجْرَيْتَ هَذِهِ الأوْصافَ عَلى المَلائِكَةِ، وجَعَلْتَهم جامِعِينَ لَها فَعَطْفُها بِالفاءِ يُفِيدُ تَرَتُّبًا لَها في الفَضْلِ، إمّا أنْ يَكُونَ الفَضْلُ لِلصَّفِّ، ثُمَّ لِلزَّجْرِ ثُمَّ لِلتِّلاوَةِ. وإمّا عَلى العَكْسِ، وكَذَلِكَ إنْ أرَدْتَ العُلَماءَ وقُوّادَ الغُزاةِ. وإنْ أجْرَيْتَ الصِّفَةَ الأُولى عَلى طَوائِفَ والثّانِيَةَ والثّالِثَةَ عَلى أُخَرَ، فَقَدْ أفادَتْ تَرَتُّبَ المَوْصُوفاتِ في الفَضْلِ أعْنِي أنَّ الطَّوائِفَ الصّافّاتِ ذَواتِ فَضْلٍ، والزّاجِراتُ أفْضَلُ، والتّالِياتُ أبْهَرُ فَضْلًا أوْ عَلى العَكْسِ، وكَذَلِكَ إذا أرَدْتَ بِالصّافّاتِ الطَّيْرَ، وبِالزّاجِراتِ كُلَّ ما يَزْجُرُ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وبِالتّالِياتِ كُلَّ نَفْسٍ تَتْلُو الذِّكْرَ، فَإنَّ المَوْصُوفاتِ مُخْتَلِفَةٌ، انْتَهى كَلامُ الزَّمَخْشَرِيُّ في ”الكَشّافِ“ . قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: كَلامُ صاحِبِ الكَشّافِ هَذا نَقَلَهُ عَنْهُ أبُو حَيّانَ، والقُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُما، ولَمْ يَتَعَقَّبُوهُ، والظّاهِرُ أنَّهُ كَلامٌ لا تَحْقِيقَ فِيهِ، ويُوَضِّحُ ذَلِكَ اعْتِرافُ الزَّمَخْشَرِيِّ نَفْسِهِ بِأنَّهُ لا يَدْرِي ما ذَكَرَهُ: هَلْ هو كَذا أوْ عَلى العَكْسِ، وذَلِكَ صَرِيحٌ (p-٣٠٤)فِي أنَّهُ لَيْسَ عَلى عِلْمٍ مِمّا يَقُولُهُ؛ لِأنَّ مَن جَزَمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ جَوَّزَ فِيهِ النَّقِيضَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَيْسَ عَلى عِلْمٍ مِمّا جَزَمَ بِهِ. والأظْهَرُ الَّذِي لا يَلْزَمُهُ إشْكالٌ أنَّ التَّرْتِيبَ بِالفاءِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ والإتْيانِ بِأداةِ التَّرْتِيبِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ فَقَطْ، دُونَ إرادَةِ تَرْتِيبِ الصِّفاتِ أوِ المَوْصُوفاتِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ جاءَ في القُرْآنِ في مَواضِعَ، وهو كَثِيرٌ في كَلامِ العَرَبِ. وَمِن أمْثِلَتِهِ في القُرْآنِ العَظِيمِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما العَقَبَةُ﴾ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ ﴿يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ﴾ ﴿أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآيَةَ [البلد: ١١ - ١٧]، فَلا يَخْفى أنْ ثُمَّ حَرْفُ تَرْتِيبٍ وأنَّ المُرَتَّبَ بِهِ الَّذِي هو كَوْنُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرَتُّبَ لَهُ عَلى ما قَبْلَهُ إلّا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، ومِن ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكم وصّاكم بِهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٥٣ - ١٥٤] كَما لا يَخْفى أنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ ذِكْرِيٌّ. وَقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى هَذا في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ [البقرة: ١٩٩]، ومِن أمْثِلَةِ ذَلِكَ في كَلامِ العَرَبِ قَوْلُهُ: ؎إنَّ مَن سادَ ثُمَّ سادَ أبُوهُ ∗∗∗ ثُمَّ قَدْ سادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَرَبُّ المَشارِقِ﴾، لَمْ يَذْكُرْ في هَذِهِ الآيَةِ إلّا المَشارِقَ وحْدَها، ولَمْ يَذْكُرْ فِيها المَغارِبَ. وَقَدْ بَيَّنّا في كِتابِنا ”دَفْعَ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“: وجْهُ اخْتِلافِ ألْفاظِ الآياتِ في ذَلِكَ، فَقُلْنا فِيهِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١١٥]، ما لَفْظُهُ أُفْرِدَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ، وثَنّاهُما في سُورَةِ ”الرَّحْمَنِ“، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٧]، وجَمَعَهُما في سُورَةِ ”سَألَ سائِلٌ“، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشارِقِ والمَغارِبِ﴾ [المعارج: ٤٠]، وجَمَعَ المَشارِقَ في سُورَةِ ”الصّافّاتِ“، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما ورَبُّ المَشارِقِ﴾ . (p-٣٠٥)والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ هُنا: ﴿وَلِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ [البقرة: ١١٥] المُرادُ بِهِ جِنْسُ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، فَهو صادِقٌ بِكُلِّ مَشْرِقٍ مِن مَشارِقِ الشَّمْسِ الَّتِي هي ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ، وكُلُّ مَغْرِبٍ مِن مَغارِبِها الَّتِي هي كَذَلِكَ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، ما نَصُّهُ: وإنَّما مَعْنى ذَلِكَ: ولِلَّهِ المَشْرِقُ الَّذِي تُشْرِقُ مِنهُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ والمَغْرِبُ الَّذِي تَغْرُبُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ. فَتَأْوِيلُهُ إذا كانَ ذَلِكَ مَعْناهُ: ولِلَّهِ ما بَيْنَ قُطْرَيِ المَشْرِقِ وقُطْرَيِ المَغْرِبِ إذا كانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مِن مَوْضِعٍ مِنهُ لا تَعُودُ لِشُرُوقِها مِنهُ إلى الحَوْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وكَذَلِكَ غُرُوبُها، انْتَهى مِنهُ بِلَفْظِهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٧]، يَعْنِي مَشْرِقَ الشِّتاءِ، ومَشْرِقَ الصَّيْفِ ومَغْرِبَهُما، كَما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ. وقِيلَ: مَشْرِقَ الشَّمْسِ والقَمَرِ ومَغْرِبَهُما. وَقَوْلُهُ: ﴿بِرَبِّ المَشارِقِ والمَغارِبِ﴾ أيْ: مَشارِقِ الشَّمْسِ ومَغارِبِها كَما تَقَدَّمَ. وقِيلَ: مَشارِقِ الشَّمْسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ ومَغارِبِها، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب