الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ .
قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: يَعْنِي إذا أخَّرُوا التَّوْبَةَ إلى حُضُورِ المَوْتِ فَتابُوا حِينَئِذٍ، وهَذا التَّفْسِيرُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ [النساء: ١٨] . وقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ حَمْلُ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ، ولا سِيَّما إذا اتَّحَدَ الحُكْمُ والسَّبَبُ كَما هُنا.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: مَعْنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهم لَنْ يُوَفَّقُوا لِلتَّوْبَةِ حَتّى تُقْبَلَ مِنهم ويَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾ [النساء: ١٣٧]، فَعَدَمُ غُفْرانِهِ لَهم لِعَدَمِ هِدايَتِهِمُ السَّبِيلَ الَّذِي يَغْفِرُ لِصاحِبِهِ ونَظِيرُها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم طَرِيقًا﴾ ﴿إلّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١٦٨، ١٦٩] .
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهم وأُولَئِكَ هُمُ الضّالُّونَ﴾ .
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المُرْتَدِّينَ بَعْدَ إيمانِهِمُ المُزْدادِينَ كُفْرًا لا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهم إذا تابُوا لِأنَّهُ عَبَّرَ بِلَنِ الدّالَّةِ عَلى نَفْيِ الفِعْلِ في المُسْتَقْبَلِ مَعَ أنَّهُ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ دالَّةٌ عَلى أنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ كُلِّ تائِبٍ قَبْلَ حُضُورِ المَوْتِ وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ﴾ [الشورى: ٢٥]،
• وقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ [الأنعام: ١٥٨] .
فَإنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلى أنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ إتْيانِ بَعْضِ الآياتِ مَقْبُولَةٌ مِن كَلِّ تائِبٍ، وصَرَّحَ تَعالى بِدُخُولِ المُرْتَدِّينَ في قَبُولِ التَّوْبَةِ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ مُباشَرَةً في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ وشَهِدُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ﴾ - إلى قَوْلِهِ - ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٨٦ - ٨٩] .
فالِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ راجِعٌ إلى المُرْتَدِّينَ بَعْدَ الإيمانِ المُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذابِ واللَّعْنَةِ إنْ لَمْ يَتُوبُوا ويَدُلُّ لَهُ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كافِرٌ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢١٧] .
لِأنَّ مَفْهُومَهُ أنَّهُ تابَ قَبْلَ المَوْتِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ مُطْلَقًا، والجَوابُ مِن أرْبَعَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: وهو اخْتِيارُ ابْنِ جَرِيرٍ ونَقَلَهُ عَنْ رُفَيْعٍ أبِي العالِيَةِ أنَّ المَعْنى: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اليَهُودِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ بَعْدَ إيمانِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا بِما أصابُوا مِنَ الذُّنُوبِ في كُفْرِهِمْ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهم مِن ذُنُوبِهِمُ الَّتِي أصابُوها في كُفْرِهِمْ حَتّى يَتُوبُوا مِن كُفْرِهِمْ، ويَدُلُّ لِهَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الضّالُّونَ﴾ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ تَوْبَتَهم مَعَ بَقائِهِما عَلى ارْتِكابِ الضَّلالِ وعَدَمُ قَبُولِها حِينَئِذٍ ظاهِرٌ.
(p-٢٣٧)الثّانِي: وهو أقْرَبُها عِنْدِي، أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ يَعْنِي إذْ تابُوا عِنْدَ حُضُورِ المَوْتِ، ويَدُلُّ لِهَذا الوَجْهِ أمْرانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ أنَّ الكافِرَ الَّذِي لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ هو الَّذِي يُصِرُّ عَلى الكُفْرِ حَتّى يَحْضُرَهُ المَوْتُ فَيَتُوبُ في ذَلِكَ الوَقْتِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ [النساء: ١٨] .
فَجُعِلَ التّائِبُ عِنْدَ حُضُورِ المَوْتِ والمَيِّتُ عَلى كُفْرِهِ سَواءً.
وَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ الآيَةَ [غافر: ٨٥] .
وَقَوْلِهِ في فِرْعَوْنَ: ﴿آلْآنَ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [يونس: ٩١] .
فالإطْلاقُ الَّذِي في هَذِهِ الآيَةِ يُقَيَّدُ بِقَيْدِ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ إلى حُضُورِ المَوْتِ لِوُجُوبِ حَمْلِ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ، كَما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ.
والثّانِي: أنَّهُ تَعالى أشارَ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ تَوْبَتِهِمْ في وقْتِ نَفْعِها ونَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذا الوَجْهَ الثّانِي الَّذِي هو التَّقْيِيدُ بِحُضُورِ المَوْتِ عَنِ الحَسَنِ وقَتادَةَ وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ والسُّدِّيِّ.
الثّالِثُ: أنَّ مَعْنى ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ أيْ إيمانُهُمُ الأوَّلُ، لِبُطْلانِهِ بِالرِّدَّةِ بَعْدَهُ، ونَقْلٌ خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَذا القَوْلَ عَنِ ابْنِ جَرِيحٍ ولا يَخْفى ضِعْفُ هَذا القَوْلِ وبُعْدُهُ عَنْ ظاهِرِ القُرْآنِ.
الرّابِعُ: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ أنَّهم لَمْ يُوَفَّقُوا لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ حَتّى تُقْبَلَ مِنهم، ويَدُلَّ لِهَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾ [النساء: ١٣٧] .
فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَلا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾، يَدُلُّ عَلى أنَّ عَدَمَ غُفْرانِهِ لَهم لِعَدَمِ تَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ والهُدى.
كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم طَرِيقًا﴾ ﴿إلّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١٦٨] .
(p-٢٣٨)وَكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ الآيَةَ [يونس: ٩٦] .
وَنَظِيرُ الآيَةِ عَلى هَذا القَوْلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما تَنْفَعُهم شَفاعَةُ الشّافِعِينَ﴾ [المدثر: ٤٨]، أيْ لا شَفاعَةَ لَهم أصْلًا حَتّى تَنْفَعَهم، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ﴾ الآيَةَ [المؤمنون: ١١٧] .
لِأنَّ الإلَهَ الآخَرَ لا يُمْكِنُ وُجُودُهُ أصْلًا، حَتّى يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهانٌ أوْ لا يَقُومَ عَلَيْهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: مِثْلُ هَذا الوَجْهِ الأخِيرِ هو المَعْرُوفُ عِنْدَ النُّظّارِ، بِقَوْلِهِمُ السّالِبَةُ لا تَقْضِي بِوُجُودِ المَوْضُوعِ، وإيضاحُهُ أنَّ القَضِيَّةَ السّالِبَةَ عِنْدَهم صادِقَةٌ في صُورَتَيْنِ، لِأنَّ المَقْصُودَ مِنها عَدَمُ اتِّصافِ المَوْضُوعِ بِالمَحْمُولِ وعَدَمُ اتِّصافِهِ بِهِ يَتَحَقَّقُ في صُورَتَيْنِ:
الأُولى: أنْ يَكُونَ المَوْضُوعُ مَوْجُودًا إلّا أنَّ المَحْمُولَ مُنْتَفٍ عَنْهُ، كَقَوْلِكَ: لَيْسَ الإنْسانُ بِحَجَرٍ، فالإنْسانُ مَوْجُودٌ والحَجَرِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ.
والثّانِيَةُ: أنْ يَكُونَ المَوْضُوعُ مِن أصْلِهِ مَعْدُومًا لِأنَّهُ إذا عَدِمَ تَحَقَّقَ عَدَمُ اتِّصافِهِ بِالمَحْمُولِ المَوْجُودِيِّ، لِأنَّ العَدَمَ لا يَتَّصِفُ بِالوُجُودِ كَقَوْلِكَ: لا نَظِيرَ لِلَّهِ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ، فَإنَّ المَوْضُوعَ الَّذِي هو النَّظِيرُ لَيْسَ مُسْتَحِيلًا مِن أصْلِهِ، وإذا تَحَقَّقَ عَدَمُهُ تَحَقَّقَ انْتِفاءُ اتِّصافِهِ بِاسْتِحْقاقِ العِبادَةِ ضَرُورَةً وهَذا النَّوْعُ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، ومِن شَواهِدِهِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎عَلى لاحِبٍ لا يَهْتَدِي بِمَنارِهِ إذا سافَهُ العَوْدُ النُّباطِيُّ جَرْجَرا
لِأنَّ المَعْنى عَلى لاحِبٍ لا مَنارَ لَهُ أصْلًا حَتّى يُهْتَدى بِهِ.
وَقَوْلُ الآخَرِ:
؎لا تُفْزِعُ الأرْنَبَ أهْوالُها ∗∗∗ ولا تَرى الضَّبَّ بِها يَنْجَحِرْ
لِأنَّهُ يَصِفُ فَلاةً بِأنَّها لَيْسَ فِيها أرانِبُ ولا ضِبابٌ حَتّى تُفْزِعَ أهْوالُها الأرْنَبَ، أوْ يَنْجَحِرَ فِيها الضَّبُّ أيْ يَدْخُلُ الجُحْرَ أوْ يَتَّخِذُهُ، وقَدْ أوْضَحْتُ مَسْألَةَ أنَّ السّالِبَةَ لا تَقْتَضِي وُجُودَ المَوْضُوعِ في أُرْجُوزَتِي في المَنطِقِ في مَبْحَثِ انْحِرافِ السُّوَرِ، وأوْضَحْتُ فِيها أيْضًا في مَبْحَثِ التَّحْصِيلِ والعُدُولِ أنَّ مِنَ المُوجِباتِ ما لا يَقْتَضِي وُجُودَ المَوْضُوعِ نَحْوَ: بَحْرٌ مِن زِئْبَقٍ مُمْكِنٌ، والمُسْتَحِيلُ مَعْدُومٌ فَإنَّها مُوجِبَتانِ ومَوْضُوعُ كُلٍّ مِنهُما مَعْدُومٌ، وحَرَّرْنا (p-٢٣٩)هُناكَ التَّفْصِيلَ فِيما يَقْتَضِي وُجُودَ المَوْضُوعِ وما لا يَقْتَضِيهِ، وهَذا الَّذِي قَرَّرْنا مِن أنَّ المُرْتَدَّ إذا تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ولَوْ بَعْدَ تَكَرُّرِ الرِّدَّةِ ثَلاثَ مَرّاتٍ أوْ أكْثَرَ، لا مُنافاةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما قالَهُ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ: مِن أنَّ المُرْتَدَّ إذا تَكَرَّرَ مِنهُ ذَلِكَ يُقْتَلُ ولا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، واسْتَدَلَّ بَعْضُهم عَلى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّ هَذا الخِلافَ في تَحْقِيقِ المَناطِ مَعَ اتِّفاقِهِما عَلى أصْلِ المَناطِ، وإيضاحُهُ أنَّ المَناطَ مَكانُ النَّوْطِ وهو التَّعْلِيقُ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
؎وَأنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آلِ هاشِمٍ ∗∗∗ كَما نِيطَ خَلْفَ الرّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
والمُرادُ بِهِ مَكانُ تَعْلِيقِ الحُكْمِ، وهو العِلَّةُ فالمَناطُ والعِلَّةُ مُتَرادِفانِ اصْطِلاحًا إلّا أنَّهُ غَلَبَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ المَناطِ في المَسْلَكِ الخامِسِ مِن مَسالِكَ العِلَّةِ، الَّذِي هو المُناسَبَةُ والإحالَةُ فَإنَّهُ يُسَمّى تَخْرِيجَ المَناطِ وكَذَلِكَ في المَسْلَكِ التّاسِعِ الَّذِي هو تَنْقِيحُ المَناطِ، فَتَخْرِيجُ المَناطِ هو اسْتِخْراجُ العِلَّةِ بِمَسْلَكِ المُناسَبَةِ والإحالَةِ، وتَنْقِيحُ المَناطِ هو تَصْفِيَةُ العِلَّةِ وتَهْذِيبُها حَتّى لا يَخْرُجَ شَيْءٌ صالِحٌ لَها ولا يَدْخُلَ شَيْءٌ غَيْرُ صالِحٍ لَها، كَما هو مَعْلُومٌ في مَحَلِّهِ، وأمّا تَحْقِيقُ المَناطِ وهو الغَرَضُ هُنا فَهو أنْ يَكُونَ مَناطُ الحُكْمِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ.
إلّا أنَّ أحَدَهُما يَقُولُ هو مَوْجُودٌ في هَذا الفَرْعِ.
والثّانِي: يَقُولُ: لا ومِثالُهُ الِاخْتِلافُ في قَطْعِ النَّبّاشِ، فَإنَّ أبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى يُوافِقُ الجُمْهُورَ عَلى أنَّ السَّرِقَةَ هي مُناطُ القَطْعِ، ولَكِنَّهُ يَقُولُ لَمْ يَتَحَقَّقِ المَناطُ في النَّبّاشِ لِأنَّهُ غَيْرُ سارِقٍ، بَلْ هو آخِذُ مالٍ عارِضٍ لِلضَّياعِ كالمُلْتَقَطِ مِن غَيْرِ حِرْزٍ، فَإذا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ مُرادَ القائِلِينَ أنَّهُ لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، أنَّ أفْعالَهُ دالَّةٌ عَلى خُبْثِ نِيَّتِهِ وفَسادِ عَقِيدَتِهِ وأنَّهُ لَيْسَ تائِبًا في الباطِلِ تَوْبَةً نَصُوحًا فَهم مُوافِقُونَ عَلى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مَناطِ القَبُولَ كَما ذَكَرْنا، ولَكِنْ يَقُولُونَ أفْعالُ هَذا الخَبِيثِ دَلَّتْ عَلى عَدَمِ تَحْقِيقِ المَناطِ.
وَمِن هُنا اخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ أعْنِي المُسْتَسِرَّ بِالكُفْرِ، فَمِن قائِلٍ لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ومِن قائِلٍ تُقْبَلُ ومِن مُفَرِّقٍ بَيْنَ إتْيانِهِ تائِبًا قَبْلَ الِاطِّلاعِ عَلَيْهِ وبَيْنَ الِاطِّلاعِ عَلى نِفاقِهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، كَما هو مَعْرُوفٌ في فُرُوعِ مَذاهِبِ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ لِأنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ يُقْتَلُ ولا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ يَرَوْنَ أنَّ نِفاقَهُ الباطِلَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ تَوْبَتَهُ تَقِيَّةٌ لا حَقِيقَةٌ واسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا﴾ [البقرة: ١٦٠] .
(p-٢٤٠)فَقالُوا: الإصْلاحُ شَرْطٌ والزِّنْدِيقُ لا يُطَّلَعُ عَلى إصْلاحِهِ، لِأنَّ الفَسادَ إنَّما أتى مِمّا أسَرَّهُ فَإذا اطُّلِعَ عَلَيْهِ وأظْهَرَ الإقْلاعَ لَمْ يَزَلْ في الباطِنِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ أدِلَّةَ القائِلِينَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ مُطْلَقًا أظْهَرُ وأقْوى، كَقَوْلِهِ ﷺ لِأُسامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «هَلّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»، وقَوْلِهِ لِلَّذِي سارَّهُ في قَتْلِ رَجُلٍ قالَ: «ألَيْسَ يُصَلِّي ؟ قالَ: بَلى. قالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ»، وقَوْلِهِ لِخالِدٍ لَمّا اسْتَأْذَنَهُ في قَتْلِ الَّذِي أنْكَرَ القِسْمَةَ: «إنِّي لِمَ أُومَرْ بِأنْ أنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النّاسِ» وهَذِهِ الأحادِيثُ في الصَّحِيحِ ويَدُلُّكَ لِذَلِكَ أيْضًا إجْماعُهم عَلى أنَّ أحْكامَ الدُّنْيا عَلى الظّاهِرِ، واللَّهُ يَتَوَلّى السَّرائِرَ.
وَقَدْ نَصَّ تَعالى عَلى أنَّ الأيْمانَ الكاذِبَةَ جُنَّةٌ لِلْمُنافِقِينَ في الأحْكامِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿اتَّخَذُوا أيْمانَهم جُنَّةً﴾ [المجادلة: ١٦]،
• وقَوْلِهِ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهم فَأعْرِضُوا عَنْهم إنَّهم رِجْسٌ﴾ [التوبة: ٩٥] .
• وقَوْلِهِ: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهم لَمِنكم وما هم مِنكُمْ﴾ الآيَةَ [التوبة: ٥٦] .
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَما اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهم مِن قَتْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِابْنِ النَّوّاحَةِ صاحِبِ مُسَيْلِمَةَ فَيُجابُ عَنْهُ بِأنَّهُ قَتَلَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ جاءَهُ رَسُولًا لِمُسَيْلِمَةَ: «لَوْلا أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ» فَقَتَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ ﷺ .
فَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ فَإنْ قِيلَ هَذِهِ الآيَةُ الدّالَّةُ عَلى عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ أخَصُّ مِن غَيْرِها لِأنَّ فِيها القَيْدَ بِالرِّدَّةِ وازْدِيادِ الكُفْرِ، فالَّذِي تَكَرَّرَتْ مِنهُ الرِّدَّةُ أخَصُّ مِن مُطْلَقِ المُرْتَدِّ، والدَّلِيلُ عَلى الأعَمِّ لَيْسَ دَلِيلًا عَلى الأخَصِّ لِأنَّ وُجُودَ الأعَمِّ لا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الأخَصِّ.
فالجَوابُ أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى قَبُولِ تَوْبَةِ مَن تَكَرَّرَ مِنهُ الكُفْرُ، إذا أخْلَصَ في الإنابَةِ إلى اللَّهِ، ووَجْهُ دَلالَةِ القُرْآنِ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾ [النساء: ٣٧] .
ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ المُنافِقِينَ داخِلُونَ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ الآيَةَ [النساء: ١٣٨] .
وَدَلالَةُ الِاقْتِرانِ وإنْ ضَعَّفَها الأُصُولِيُّونَ فَقَدْ صَحَّحَتْها جَماعَةٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ، ولا سِيَّما إذا اعْتَضَدَتْ بِالأدِلَّةِ القَرِينَةُ عَلَيْها كَما هُنا لِقَوْلِهِ تَعالى: (p-٢٤١)﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾ ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ فِيهِ الدَّلالَةُ الواضِحَةُ عَلى دُخُولِهِمْ في المُرادِ بِالآيَةِ، بَلْ كَوْنُها في خُصُوصِهِمْ قالَ بِهِ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ، فَإذا حَقَّقَتْ ذَلِكَ، فاعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى نَصَّ عَلى أنَّ مَن أخْلَصَ التَّوْبَةَ مِنَ المُنافِقِينَ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ ولَنْ تَجِدَ لَهم نَصِيرًا﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا واعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وأخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكم إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنتُمْ وكانَ اللَّهُ شاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: ١٤٥ - ١٤٧] .
وَقَدْ كانَ مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ المُنافِقِينَ الَّذِينَ أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ [التوبة: ٦٥ - ٦٦] .
فَتابَ إلى اللَّهِ بِإخْلاصٍ، فَتابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: ﴿إنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنكم نُعَذِّبْ طائِفَةً﴾ الآيَةَ [التوبة: ٦٦]، فَتَحَصَّلَ أنَّ القائِلِينَ بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَن تَكَرَّرَتْ مِنهُ الرِّدَّةُ، يَعْنُونَ الأحْكامَ الدُّنْيَوِيَّةَ ولا يُخالِفُونَ في أنَّهُ إذا أخْلَصَ التَّوْبَةَ إلى اللَّهِ قَبِلَها مِنهُ، لِأنَّ اخْتِلافَهم في تَحْقِيقِ المَناطِ كَما تَقَدَّمَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِیمَـٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُوا۟ كُفۡرࣰا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلضَّاۤلُّونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق