﴿هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ﴾ [آل عمران ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ آلِ عِمْرانَ
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾، يُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ بِالتَّأْوِيلِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ التَّفْسِيرُ وإدْراكُ المَعْنى، ويُحْتَمَلُ أنَّ المُرادَ بِهِ حَقِيقَةُ أمْرِهِ الَّتِي يَئُولُ إلَيْها وقَدْ قَدَّمْنا في مُقَدِّمَةِ هَذا الكِتابِ أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الَّتِي ذَكَرْنا أنَّ كَوْنَ أحَدِ الِاحْتِمالَيْنِ هو الغالِبُ في القُرْآنِ. يُبَيِّنُ أنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمالَ الغالِبَ هو المُرادُ؛ لِأنَّ الحَمْلَ عَلى الأغْلَبِ أوْلى مِنَ الحَمْلِ عَلى غَيْرِهِ. وإذا عَرَفْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ الغالِبَ في القُرْآنِ إطْلاقُ التَّأْوِيلِ عَلى حَقِيقَةِ الأمْرِ الَّتِي يَئُولُ إلَيْها
• كَقَوْلِهِ:
﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ١٠٠]،
• وقَوْلِهِ:
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ الآيَةَ
[يونس: ٣٩]،
• وقَوْلِهِ:
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يونس: ٣٩]،
• وقَوْلِهِ:
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩]،
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وأصْلُ التَّأْوِيلُ مِن آلَ الشَّيْءُ إلى كَذا إذا صارَ إلَيْهِ، ورَجَعَ يَئُولُ أوْ لا، وأوَّلْتُهُ أنا صَيَّرْتُهُ إلَيْهِ، وقالَ: وقَدْ أنْشَدَ بَعْضُ الرُّواةِ بَيْتَ الأعْشى:
[ الطَّوِيلِ ]
عَلى أنَّها كانَتْ تَأوُّلُ حُبِّها تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقابِ فَأصْحَبا
قالَ: ويَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَأوُّلُ حُبِّها مَصِيرُ حُبِّها ومَرْجِعُهُ، وإنَّما يُرِيدُ بِذَلِكَ أنَّ حُبَّها كانَ صَغِيرًا في قَلْبِهِ فَآلَ مِنَ الصِّغَرِ إلى العِظَمِ، فَلَمْ يَزَلْ يَنْبُتُ حَتّى أصْحَبَ فَصارَ قَدِيمًا كالسَّقْبِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتّى أصْحَبَ، فَصارَ كَبِيرًا مِثْلَ أُمِّهِ. قالَ وقَدْ يُنْشَدُ هَذا البَيْتَ:
[ الطَّوِيلِ ]
عَلى أنَّها كانَتْ تَوابِعُ حُبِّها ∗∗∗ تَوالِي رِبْعِيِّ السِّقابِ فَأصْحَبا
اهـ. وعَلَيْهِ فَلا شاهِدَ فِيهِ، والرِّبْعِيُّ السَّقْبُ الَّذِي وُلِدَ في أوَّلِ النِّتاجِ، ومَعْنى أصْحَبُ انْقادَ لِكُلِّ مَن يَقُودُهُ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
[ المُتَقارِبِ ]
وَلَسْتُ بِذِي رَثْيَةٍ إمَّرٍ ∗∗∗ إذا قِيدَ مُسْتَكْرَهًا أصْحَبا
والرَّثْيَةُ: وجَعُ المَفاصِلِ، والإمَّرُ: بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وتَشْدِيدِ المِيمِ مَفْتُوحَةً بَعْدَها راءٌ، هو الَّذِي يَأْتَمِرُ لِكُلِّ أحَدٍ؛ لِضَعْفِهِ. وأنْشَدَ بَيْتَ الأعْشى المَذْكُورَ الأزْهَرِيُّ و ”صاحِبُ اللِّسانِ“:
[ الطَّوِيلِ ]
وَلَكِنَّها كانَتْ نَوى أجْنَبَيْهِ ∗∗∗ تَوالِي رِبْعِيِّ السِّقابِ فَأصْحَبا
وَأطالا في شَرْحِهِ وعَلَيْهِ فَلا شاهِدَ فِيهِ أيْضًا.
* * *تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أنَّ التَّأْوِيلَ يُطْلَقُ ثَلاثَةَ إطْلاقاتٍ:
الأوَّلُ: هو ما ذَكَرْنا مِن أنَّهُ الحَقِيقَةُ الَّتِي يَئُولُ إلَيْها الأمْرُ، وهَذا هو مَعْناهُ في القُرْآنِ.
الثّانِي: يُرادُ بِهِ التَّفْسِيرُ والبَيانُ، ومِنهُ بِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ ﷺ في ابْنِ عَبّاسٍ: ”اللَّهُمَّ
«فَقِّهْهُ في الدِّينِ، وعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»“ . وقَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وغَيْرِهِ مِنَ العُلَماءِ، القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: كَذا وكَذا أيْ: تَفْسِيرُهُ وبَيانُهُ. وقَوْلُ عائِشَةَ الثّابِتُ في الصَّحِيحِ:
«كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أنْ يَقُولَ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: ”سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»“ يَتَأوَّلُ القُرْآنَ تَعْنِي يَمْتَثِلُهُ ويَعْمَلُ بِهِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
الثّالِثُ: هو مَعْناهُ المُتَعارَفُ في اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ، وهو صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ المُتَبادَرِ مِنهُ إلى مُحْتَمَلٍ مَرْجُوحٍ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، وحاصِلُ تَحْرِيرِ مَسْألَةِ التَّأْوِيلِ عِنْدَ أهْلِ الأُصُولِ أنَّهُ لا يَخْلُو مِن واحِدَةٍ مِن ثَلاثِ حالاتٍ بِالتَّقْسِيمِ الصَّحِيحِ:
الأُولى: أنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ في نَفْسِ الأمْرِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، وهَذا هو التَّأْوِيلُ المُسَمّى عِنْدَهم بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ، والتَّأْوِيلِ القَرِيبِ كَقَوْلِهِ ﷺ الثّابِتُ في الصَّحِيحِ:
«الجارُ أحَقُّ بِصَقْبِهِ»، فَإنَّ ظاهِرَهُ المُتَبادَرَ مِنهُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ لِلْجارِ، وحَمْلُ الجارِ في هَذا الحَدِيثِ عَلى خُصُوصِ الشَّرِيكِ المُقاسِمِ حَمْلٌ لَهُ عَلى مُحْتَمَلٍ مَرْجُوحٍ، إلّا أنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ المُصَرِّحُ بِأنَّهُ إذا صُرِّفَتِ الطُّرُقُ وضُرِبَتِ الحُدُودُ، فَلا شُفْعَةَ.
الحالَةُ الثّانِيَةُ: أنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ لِأمْرٍ يَظُنُّهُ الصّارِفُ دَلِيلًا ولَيْسَ بِدَلِيلٍ في نَفْسِ الأمْرِ، وهَذا هو المُسَمّى عِنْدَهم بِالتَّأْوِيلِ الفاسِدِ، والتَّأْوِيلِ البَعِيدِ، ومَثَّلَ لَهُ الشّافِعِيَّةُ، والمالِكِيَّةُ، والحَنابِلَةُ بِحَمْلِ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - المَرْأةَ في قَوْلِهِ ﷺ:
«أيُّما امْرَأةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ ولِيِّها فَنِكاحُها باطِلٌ، باطِلٌ» عَلى المُكاتَبَةِ، والصَّغِيرَةِ، وحَمْلِهِ أيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمِسْكِينٍ في قَوْلِهِ: سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلى المُدِّ، فَأجازَ إعْطاءَ سِتِّينَ مُدًّا لِمِسْكِينٍ واحِدٍ.
الحالَةُ الثّالِثَةُ: أنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ لا لِدَلِيلٍ أصْلًا، وهَذا يُسَمّى في اصْطِلاحِ الأُصُولِيِّينَ لَعِبًا، كَقَوْلِ بَعْضِ الشِّيعَةِ:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧]، يَعْنِي عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وأشارَ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ إلى حَدِّ التَّأْوِيلِ، وبَيانِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ بِقَوْلِهِ مُعَرِّفًا لِلتَّأْوِيلِ: [ الرَّجَزِ ]
حَمْلٌ لِظاهِرٍ عَلى المَرْجُوحِ ∗∗∗ واقْسِمْهُ لِلْفاسِدِ والصَّحِيحِ
صَحِيحُهُ وهو القَرِيبُ ما حَمَلَ ∗∗∗ مَعَ قُوَّةِ الدَّلِيلِ عِنْدَ المُسْتَدِلِّ
وَغَيْرُهُ الفاسِدُ والبَعِيدُ ∗∗∗ وما خَلا فَلَعِبًا يُفِيدُ
إلى أنْ قالَ: [ الرَّجَزِ ]
فَجَعْلُ مِسْكِينٍ بِمَعْنى المُدِّ ∗∗∗ عَلَيْهِ لائِحُ سِماتِ البُعْدِ
كَحَمْلِ امَرْأةٍ عَلى الصَّغِيرَةِ ∗∗∗ وما يُنافِي الحُرَّةَ الكَبِيرَةَ
وَحَمْلُ ما ورَدَ في الصِّيامِ ∗∗∗ عَلى القَضاءِ مَعَ الِالتِزامِ
أمّا التَّأْوِيلُ في اصْطِلاحِ خَلِيلِ بْنِ إسْحاقَ المالِكِيِّ الخاصِّ بِهِ في ”مُخْتَصَرِهِ“، فَهو عِبارَةٌ عَنِ اخْتِلافِ شُرُوحِ ”المُدَوَّنَةِ“ في المُرادِ عِنْدَ مالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأشارَ لَهُ في ”المَراقِي“ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزِ ]
والخَلْفُ في فَهْمِ الكِتابِ صَيَّرَ ∗∗∗ إيّاهُ تَأْوِيلًا لَدى المُخْتَصَرِ
والكِتابُ في اصْطِلاحِ فُقَهاءِ المالِكِيَّةِ ”المُدَوَّنَةُ“ .
* * *قَوْلُهُ تَعالى:
﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ الآيَةَ
[آل عمران: ٧]، لا يَخْفى أنَّ هَذِهِ الواوَ مُحْتَمِلَةٌ لِلِاسْتِئْنافِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:
﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ يَقُولُونَ، وعَلَيْهِ فالمُتَشابِهُ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ، والوَقْفُ عَلى هَذا تامٌّ عَلى لَفْظَةِ الجَلالَةِ ومُحْتَمَلَةٌ لِأنْ تَكُونَ عاطِفَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:
﴿والرّاسِخُونَ﴾ مَعْطُوفًا عَلى لَفْظِ الجَلالَةِ، وعَلَيْهِ فالمُتَشابِهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ:
﴿الرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ أيْضًا، وفي الآيَةِ إشاراتٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ الواوَ اسْتِئْنافِيَّةٌ لا عاطِفَةٌ.
قالَ ابْنُ قُدامَةَ في رَوْضَةِ النّاظِرِ ما نَصُّهُ: ولِأنَّ في الآيَةِ قَرائِنَ تَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ مُتَفَرِّدٌ بِعِلْمِ المُتَشابِهِ، وأنَّ الوَقْفَ الصَّحِيحَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ لَفْظًا ومَعْنًى، أمّا اللَّفْظُ فَلِأنَّهُ لَوْ أرادَ عَطْفَ الرّاسِخِينَ لَقالَ: ويَقُولُونَ آمَنّا بِهِ بِالواوِ، أمّا المَعْنى فَلِأنَّهُ ذَمُّ مُبْتَغِي التَّأْوِيلِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ لِلرّاسِخِينَ مَعْلُومًا لَكانَ مُبْتَغِيهِ مَمْدُوحًا لا مَذْمُومًا؛ ولِأنَّ قَوْلَهم آمَنّا بِهِ يَدُلُّ عَلى نَوْعِ تَفْوِيضٍ وتَسْلِيمٍ لِشَيْءٍ لَمْ يَقِفُوا عَلى مَعْناهُ سِيَّما إذا تَبِعُوهُ بِقَوْلِهِمْ:
﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ فَذِكْرُهم رَبَّهم هاهُنا يُعْطِي الثِّقَةَ بِهِ والتَّسْلِيمَ لِأمْرِهِ، وأنَّهُ صَدَرَ مِن عِنْدِهِ، كَما جاءَ مِن عِنْدِهِ المُحْكَمُ؛ وَلِأنَّ لَفْظَةَ أمّا لِتَفْصِيلِ الجُمَلِ فَذِكْرُهُ لَها في
﴿الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ مَعَ وصْفِهِ إيّاهم بِاتِّباعِ المُتَشابِهِ
﴿وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ يَدُلُّ عَلى قِسْمٍ آخَرَ يُخالِفُهم في هَذِهِ الصِّفَةِ، وهُمُ الرّاسِخُونَ. ولَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ لَمْ يُخالِفُوا القِسْمَ الأوَّلَ في ابْتِغاءِ التَّأْوِيلِ، وإذْ قَدْ ثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ التَّأْوِيلِ لِأحَدٍ فَلا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلى غَيْرِ ما ذَكَرْنا. اهـ مِن ”الرَّوْضَةِ“ بِلَفْظِهِ.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ أنَّ الواوَ اسْتِئْنافِيَّةٌ لا عاطِفَةٌ، دَلالَةُ الِاسْتِقْراءِ في القُرْآنِ أنَّهُ تَعالى إذا نَفى عَنِ الخَلْقِ شَيْئًا وأثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، أنَّهُ لا يَكُونُ لَهُ في ذَلِكَ الإثْباتِ شَرِيكٌ
• كَقَوْلِهِ:
﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ﴾ [النمل: ٦٥]،
• وقَوْلِهِ:
﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هُوَ﴾ [الأعراف: ١٨٧]،
• وقَوْلِهِ:
﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]،
فالمُطابِقُ لِذَلِكَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾، مَعْناهُ: أنَّهُ لا يَعْلَمُهُ إلّا هو وحْدَهُ كَما قالَهُ الخَطّابِيُّ وقالَ: لَوْ كانَتِ الواوُ في قَوْلِهِ:
﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ لِلنَّسَقِ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ:
﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ فائِدَةٌ: والقَوْلُ بِأنَّ الوَقْفَ تامٌّ عَلى قَوْلِهِ: إلّا اللَّهُ، وأنَّ قَوْلَهُ: والرّاسِخُونَ ابْتِداءُ كَلامٍ هو قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ لِلْأدِلَّةِ القُرْآنِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا.
وَمِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ عُمَرُ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعائِشَةُ، وعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ القُرْطُبِيُّ وغَيْرُهُ، ونَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ، عَنْ أشْهَبَ، عَنْ مالِكِ بْنِ أنَسٍ، وهو مَذْهَبُ الكِسائِيِّ والأخْفَشِ والفَرّاءِ وأبِي عُبَيْدٍ.
وَقالَ أبُو نَهِيكٍ الأسَدِيُّ: إنَّكم تَصِلُونَ هَذِهِ الآيَةَ وإنَّها مَقْطُوعَةٌ وما انْتَهى عِلْمُ الرّاسِخِينَ إلّا إلى قَوْلِهِمْ:
﴿آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾، والقَوْلُ بِأنَّ الواوَ عاطِفَةٌ مَرْوِيُّ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ والرَّبِيعٌ، ومُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وغَيْرُهم. ومِمَّنِ انْتَصَرَ لِهَذا القَوْلِ وأطالَ فِيهِ ابْنُ فُورَكٍ ونَظِيرُ الآيَةِ في احْتِمالِ الِاسْتِئْنافِ والعَطْفِ قَوْلُ الشّاعِرِ:
[ مُرَفَّلِ الكامِلِ ]
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها والبَرْقُ يَلْمَعُ في الغَمامَهْ
فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ والبَرْقُ مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ يَلْمَعُ كالتَّأْوِيلِ الأوَّلِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا مِمّا قَبْلَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الرِّيحِ، ويَلْمَعُ في مَوْضِعِ الحالِ عَلى التَّأْوِيلِ الثّانِي أيْ: لامِعًا.
واحْتَجَّ القائِلُونَ بِأنَّ الواوَ عاطِفَةٌ بِأنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - مَدَحَهم بِالرُّسُوخِ في العِلْمِ فَكَيْفَ يَمْدَحُهم بِذَلِكَ وهم جُهّالٌ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ شَيْخُنا أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو: هَذا القَوْلُ هو الصَّحِيحُ فَإنَّ تَسْمِيَتَهم راسِخِينَ يَقْتَضِي أنَّهم يَعْلَمُونَ أكْثَرَ مِنَ المُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي في عِلْمِهِ جَمِيعُ مَن يَفْهَمُ كَلامَ العَرَبِ، وفي أيِّ شَيْءٍ هو رُسُوخُهم إذا لَمْ يَعْلَمُوا إلّا ما يَعْلَمُ الجَمِيعُ. انْتَهى مِنهُ بِلَفْظِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: يُجابُ عَنْ كَلامِ شَيْخِ القُرْطُبِيِّ المَذْكُورِ بِأنَّ رُسُوخَهم في العِلْمِ هو السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَهم يَنْتَهُونَ حَيْثُ انْتَهى عِلْمُهم ويَقُولُونَ فِيما لَمْ يَقِفُوا عَلى عِلْمِ حَقِيقَتِهِ مِن كَلامِ اللَّهِ جَلَّ وعَلا:
﴿آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ بِخِلافِ غَيْرِ الرّاسِخِينَ فَإنَّهم يَتَّبِعُونَ
﴿ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾، وهَذا ظاهِرٌ.
وَمِمَّنْ قالَ بِأنَّ الواوَ عاطِفَةٌ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ ”الكَشّافِ“ . واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ ونِسْبَةُ العِلْمِ إلَيْهِ أسْلَمُ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: والتَّحْقِيقُ في هَذا المَقامِ أنَّ الَّذِينَ قالُوا: هي عاطِفَةٌ جَعَلُوا مَعْنى التَّأْوِيلِ التَّفْسِيرَ وفَهْمَ المَعْنى كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، أيِ: التَّفْسِيرَ وفَهْمَ مَعانِي القُرْآنِ، والرّاسِخُونَ يَفْهَمُونَ ما خُوطِبُوا بِهِ وإنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقائِقِ الأشْياءِ عَلى كُنْهِ ما هي عَلَيْهِ. والَّذِينَ قالُوا: هي اسْتِئْنافِيَّةٌ جَعَلُوا مَعْنى التَّأْوِيلَ حَقِيقَةَ ما يَئُولُ إلَيْهِ الأمْرُ وذَلِكَ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، وهو تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ ولَكِنَّهُ يُشْكَلُ عَلَيْهِ أمْرانِ:
الأوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: التَّفْسِيرُ عَلى أرْبَعَةِ أنْحاءٍ: تَفْسِيرُ: لا يُعْذَرُ أحَدٌ في فَهْمِهِ، وتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ العَرَبُ مِن لُغاتِها، وتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ العُلَماءُ، وتَفْسِيرٌ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. فَهَذا تَصْرِيحٌ مِنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ هَذا الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ بِمَعْنى التَّفْسِيرِ لا ما تَئُولُ إلَيْهِ حَقِيقَةُ الأمْرِ.
وَقَوْلُهُ هَذا يُنافِي التَّفْصِيلَ المَذْكُورَ.
الثّانِيَ: أنَّ الحُرُوفَ المُقَطَّعَةَ في أوائِلِ السُّورِ لا يَعْلَمُ المُرادَ بِها إلّا اللَّهُ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أنَّهُ هو المُرادُ بِها مِن كِتابٍ، ولا سُنَّةٍ، ولا إجْماعٍ ولا مِن لُغَةِ العَرَبِ. فالجَزْمُ بِأنَّ مَعْناها كَذا عَلى التَّعْيِينِ تَحَكُّمٌ بِلا دَلِيلٍ.
* * *
* تَنْبِيهانِالأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّهُ عَلى القَوْلِ بِأنَّ الواوَ عاطِفَةٌ فَإنَّ إعْرابَ جُمْلَةِ ”يَقُولُونَ“ مُسْتَشْكَلٌ مِن ثَلاثِ جِهاتِ:
الأُولى أنَّها حالٌ مِنَ المَعْطُوفِ وهو الرّاسِخُونَ، دُونَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ وهو لَفْظُ الجَلالَةِ. والمَعْرُوفُ إتْيانُ الحالِ مِنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعًا كَقَوْلِكِ: جاءَ زَيْدٌ وعَمْرٌو راكِبَيْنِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والقَمَرَ دائِبَيْنِ﴾ [إبراهيم: ٣٣] .
وَهَذا الإشْكالُ ساقِطٌ؛ لِجَوازِ إتْيانِ الحالِ مِنَ المَعْطُوفِ فَقَطْ دُونَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، ومِن أمْثِلَتِهِ في القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢]، فَقَوْلُهُ صَفًّا حالٌ مِنَ المَعْطُوفِ وهو المَلَكُ، دُونَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ وهو لَفْظَةُ: رَبُّكَ. وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا﴾ الآيَةَ
[الحشر: ١٠]، فَجُمْلَةُ يَقُولُونَ حالٌ مِن واوِ الفاعِلِ في قَوْلِهِ: الَّذِينَ جاءُوا، وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ:
﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ﴾ [الحشر: ٨]، وقَوْلُهُ:
﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ والإيمانَ﴾ [الحشر: ٩]، فَهو حالٌ مِنَ المَعْطُوفِ دُونَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَما بَيَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وغَيْرُهُ.
الجِهَةُ الثّانِيَةُ مِن جِهاتِ الإشْكالِ المَذْكُورَةِ هي ما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ عَنِ الخَطّابِيِّ قالَ عَنْهُ: واحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ، فَقالَ مَعْناهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَعْلَمُونَهُ قائِلِينَ: آمَنّا، وزَعَمَ أنَّ مَوْضِعَ يَقُولُونَ نَصْبٌ عَلى الحالِ، وعامَّةُ أهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ ويَسْتَبْعِدُونَهُ؛ لِأنَّ العَرَبَ لا تُضْمِرُ الفِعْلَ والمَفْعُولَ مَعًا، ولا تَذْكُرُ حالًا إلّا مَعَ ظُهُورِ الفِعْلِ، فَإذا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ فَلا يَكُونُ حالٌ، ولَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَ أنْ يُقالَ عَبْدُ اللَّهِ راكِبًا يَعْنِي: أقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ راكِبًا، وإنَّما يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الفِعْلِ كَقَوْلِهِ عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بَيْنَ النّاسِ، فَكانَ يُصْلِحُ حالًا لَهُ كَقَوْلِ الشّاعِرِ أنْشَدَنِيهِ أبُو عُمَرَ قالَ: أنْشَدَنا أبُو العَبّاسِ ثَعْلَبٌ:
[ الرَّجَزِ ]
أرْسَلْتُ فِيها قَطِمًا لُكالِكًا يُقَصِّرُ يَمْشِي ويَطُولُ بارِكًا
أيْ يَقْصُرُ ماشِيًا وهَذا الإشْكالُ أيْضًا ساقِطٌ؛ لِأنَّ الفِعْلَ العامِلَ في الحالِ المَذْكُورَةِ غَيْرُ مُضْمَرٍ؛ لِأنَّهُ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ يَعْلَمُ ولَكِنَّ الحالَ مِنَ المَعْطُوفِ دُونَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَما بَيَّنَهُ العَلّامَةُ الشَّوْكانِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“ وهو واضِحٌ.
الجِهَةُ الثّالِثَةُ مِن جِهاتِ الإشْكالِ المَذْكُورَةِ هي: أنَّ المَعْرُوفَ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ أنَّ الحالَ قَيْدٌ لِعامِلِها ووَصْفٌ لِصاحِبِها، فَيُشْكَلُ تَقْيِيدُ هَذا العامِلِ الَّذِي هو يَعْلَمُ بِهَذِهِ الحالِ الَّتِي هي
﴿يَقُولُونَ آمَنّا﴾؛ إذْ لا وجْهَ لِتَقْيِيدِ عِلْمِ الرّاسِخِينَ بِتَأْوِيلِهِ بِقَوْلِهِمْ
﴿آمَنّا بِهِ﴾؛ لِأنَّ مَفْهُومَهُ أنَّهم في حالِ عَدَمِ قَوْلِهِمْ
﴿آمَنّا بِهِ﴾ لا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وهو باطِلٌ، وهَذا الإشْكالُ قَوِيٌّ وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى مَنعِ الحالِيَّةِ في جُمْلَةٍ يَقُولُونَ عَلى القَوْلِ بِالعَطْفِ.
التَّنْبِيهُ الثّانِي: إذا كانَتْ جُمْلَةُ يَقُولُونَ: لا يَصِحُّ أنْ تَكُونَ حالًا لِما ذَكَرْنا فَما وجْهُ إعْرابِها عَلى القَوْلِ بِأنَّ الواوَ عاطِفَةٌ. الجَوابُ: واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنَّها مَعْطُوفَةٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ والعَطْفُ بِالحَرْفِ المَحْذُوفِ، أجازَهُ ابْنُ مالِكٍ وجَماعَةٌ مِن عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ. والتَّحْقِيقُ جَوازُهُ، وأنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَما زَعَمَهُ بَعْضُ عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ، والدَّلِيلِ عَلى جَوازِهِ وُقُوعُهُ في القُرْآنِ، وفي كَلامِ العَرَبِ. فَمِن أمْثِلَتِهِ في القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ﴾ الآيَةَ
[الغاشية: ٨]، فَإنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلا شَكٍّ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ﴾ [ ٨٨ ]، بِالحَرْفِ المَحْذُوفِ الَّذِي هو الواوُ ويَدُلُّ لَهُ إثْباتُ الواوِ في نَظِيرِهِ في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ”القِيامَةِ“:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ الآيَةَ [الحج:، ٢٤]، وقَوْلُهُ تَعالى في ”عَبَسَ“:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ الآيَةَ
[غافر: ٣٨] .
وَجَعَلَ بَعْضُ العُلَماءِ مِنهُ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿وَلا عَلى الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم قُلْتَ﴾ الآيَةَ
[التوبة: ٩٢]، قالَ: يَعْنِي وقُلْتَ: بِالعَطْفِ بِواوٍ مَحْذُوفَةٍ وهو أحَدُ احْتِمالاتٍ ذَكَرَها ابْنُ هِشامٍ في [ المُغْنِي ]، وجَعَلَ بَعْضُهم مِنهُ:
﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، عَلى قِراءَةِ فَتْحِ هَمْزَةِ إنْ قالَ: هو مَعْطُوفٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ عَلى قَوْلِهِ:
﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]، أيْ: وشَهِدَ أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ وهو أحَدُ احْتِمالاتٍ ذَكَرَها صاحِبُ ”المُغْنِي“ أيْضًا ومِنهُ حَدِيثُ:
«تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينارِهِ مِن دِرْهَمِهِ مِن صاعِ بُرِّهِ مِن صاعِ تَمْرِهِ» يَعْنِي ومِن دِرْهَمِهِ ومِن صاعٍ إلَخْ.
حَكاهُ الأشْمُونِيُّ وغَيْرُهُ، والحَدِيثُ المَذْكُورُ أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، والإمامُ أحْمَدُ، وأصْحابُ السُّنَنِ ومِن شَواهِدِ حَذْفِ حَرْفِ العَطْفِ قَوْلُ الشّاعِرِ:
[ الخَفِيفِ ]
كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمّا ∗∗∗ يَغْرِسُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَرِيمِ
يَعْنِي: وكَيْفَ أمْسَيْتَ وقَوْلُ الحُطَيْئَةِ: [ البَسِيطِ ] إنَّ امْرَأً رَهْطُهُ بِالشّامِ مَنزِلُهُ بِرَمْلِ يَبْرِينَ جارٌ شَدَّ ما اغْتَرَبا
أيْ: ومَنزِلُهُ بِرَمْلٍ يَبْرِينَ.
وَقِيلَ: الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لا مَعْطُوفَةٌ وعَلَيْهِ فَلا شاهِدَ في البَيْتِ، ومِمَّنْ أجازَ العَطْفَ بِالحَرْفِ المَحْذُوفِ الفارِسِيُّ وابْنُ عُصْفُورٍ خِلافًا لِابْنِ جِنِّيِّ والسُّهَيْلِيِّ.
وَلا شَكَّ أنَّ في القُرْآنِ أشْياءَ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ كَحَقِيقَةِ الرُّوحِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ:
﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ الآيَةَ
[الإسراء: ٨٥]، وكَمَفاتِحِ الغَيْبِ الَّتِي نَصَّ عَلى أنَّها لا يَعْلَمُها إلّا هو بِقَوْلِهِ:
﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ الآيَةَ
[الأنعام: ٥٩] .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّها الخَمْسُ المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ﴾ الآيَةَ [ ٣١ ] . وكالحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُّوَرِ وكَنَعِيمِ الجَنَّةِ
• لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ الآيَةَ
[السجدة: ١٧]، وفِيهِ أشْياءُ يَعْلَمُها الرّاسِخُونَ في العِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ
• كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: ٩٤]،
• وقَوْلِهِ:
﴿فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْألَنَّ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦]، مَعَ قَوْلِهِ:
﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ [الرحمن: ٣٩]،
• وقَوْلِهِ:
﴿وَلا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨]،
• وكَقَوْلِهِ:
﴿وَرُوحٌ مِنهُ﴾ [النساء: ١٧١]،
والرُّسُوخُ والثُّبُوتُ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
[ الطَّوِيلِ ]
لَقَدْ رَسَخَتْ في القَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ∗∗∗ لِلَيْلى أبَتْ آياتُها أنْ تُغَيَّرا
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ آلِ عِمْرانَ
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ مِنَ القُرْآنِ مُحْكَمًا ومِنهُ مُتَشابِهًا.
وَقَدْ جاءَتْ آيَةٌ أُخْرى تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّهُ مُحْكَمٌ وآيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّهُ مُتَشابِهٌ، أمّا الَّتِي تَدُلُّ عَلى إحْكامِهِ كُلِّهِ فَهي قَوْلُهُ تَعالى:
﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١]، وأمّا الَّتِي تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّهُ مُتَشابِهٌ فَهي قَوْلُهُ تَعالى:
﴿كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣]، ووَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الآياتِ أنَّ مَعْنى كَوْنِهِ كُلِّهِ مُحْكَمًا، أنَّهُ في غايَةِ الإحْكامِ أيِ الإتْقانِ في ألْفاظِهِ ومَعانِيهِ وإعْجازِهِ، أخْبارُهُ صِدْقٌ وأحْكامُهُ عَدْلٌ، لا تَعْتَرِيهِ وصْمَةٌ ولا عَيْبٌ، لا في الألْفاظِ ولا في المَعانِي.
وَمَعْنى كَوْنِهِ مُتَشابِهًا، أنَّ آياتِهِ يُشْبِهُ بَعْضُها بَعْضًا في الحُسْنِ والصِّدْقِ، والإعْجازِ والسَّلامَةِ مِن جَمِيعِ العُيُوبِ، ومَعْنى كَوْنِ بَعْضِهِ مُحْكَمًا وبَعْضِهِ مُتَشابِهًا، أنَّ المُحْكَمَ مِنهُ هو واضِحُ المَعْنى لِكُلِّ النّاسِ كَقَوْلِهِ:
﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا﴾ [ ١٧ ]،
﴿وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء: ٣٩] .
والمُتَشابِهُ هو ما خَفِيَ عَلِمُهُ عَلى غَيْرِ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ، بِناءً عَلى أنَّ الواوَ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧]، عاطِفَةٌ أوْ هو ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، كَمَعانِي الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُّورِ بِناءً عَلى أنَّ الواوَ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ اسْتِئْنافِيَّةٌ لا عاطِفَةٌ.