الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ القَرائِنُ القُرْآنِيَّةُ واسْتِقْراءُ القُرْآنِ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، لا يَصِحُّ فِيهِ مِن أقْوالِ العُلَماءِ، إلّا تَفْسِيرانِ: الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، أيْ: لا تُسْمِعُ الكُفّارَ الَّذِينَ أماتَ اللَّهُ قُلُوبَهم، وكَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقاءَ في سابِقِ عِلْمِهِ إسْماعَ هُدًى وانْتِفاعٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقاءَ، فَخَتَمَ عَلى قُلُوبِهِمْ، وعَلى سَمْعِهِمْ، وجَعَلَ عَلى قُلُوبِهِمُ الأكِنَّةَ، وفي آذانِهِمُ الوَقْرَ، (p-١٢٥)وَعَلى أبْصارِهِمُ الغِشاوَةَ، فَلا يَسْمَعُونَ الحَقَّ سَماعَ اهْتِداءٍ وانْتِفاعٍ. ومِنَ القَرائِنِ القُرْآنِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى ما ذَكَرْنا، أنَّهُ جَلَّ وعَلا قالَ بَعْدَهُ: ﴿وَما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إنْ تُسْمِعُ﴾ [النمل: ٨١] . فاتَّضَحَ بِهَذِهِ القَرِينَةِ أنَّ المَعْنى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، أيِ: الكُفّارَ الَّذِينَ هم أشْقِياءُ في عِلْمِ اللَّهِ إسْماعَ هُدًى وقَبُولٍ لِلْحَقِّ، ما تُسْمِعُ ذَلِكَ الإسْماعَ ﴿وَما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ﴾، فَمُقابَلَتُهُ جَلَّ وعَلا بِالإسْماعِ المَنفِيِّ في الآيَةِ عَنِ المَوْتى بِالإسْماعِ المُثْبَتِ فِيها لِمَن يُؤْمِنُ بِآياتِهِ، فَهو مُسَلَّمٌ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمَوْتِ في الآيَةِ مَوْتُ الكُفْرِ والشَّقاءِ، لا مَوْتُ مُفارَقَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ، ولَوْ كانَ المُرادُ بِالمَوْتِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، مُفارَقَةَ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ لَما قابَلَ قَوْلَهُ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا﴾ بَلْ لَقابَلَهُ بِما يُناسِبُهُ، كَأنْ يُقالَ: إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن لَمْ يَمُتْ، أيْ: يُفارِقْ رُوحُهُ بَدَنَهُ، كَما هو واضِحٌ. وَإذا عَلِمْتَ أنَّ هَذِهِ القَرِينَةَ القُرْآنِيَّةَ دَلَّتْ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمَوْتى هُنا الأشْقِياءُ، الَّذِينَ لا يَسْمَعُونَ الحَقَّ سَماعَ هُدًى وقَبُولٍ. فاعْلَمْ أنَّ اسْتِقْراءَ القُرْآنِ العَظِيمِ يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ والمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [الأنعام: ٣٦] وقَدْ أجْمَعَ مَن يُعْتَدُّ بِهِ مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّ المُرادَ بِالمَوْتى في قَوْلِهِ: ﴿والمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾: الكُفّارُ، ويَدُلُّ لَهُ مُقابَلَةُ المَوْتى في قَوْلِهِ: ﴿والمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ بِالَّذِينِ يَسْمَعُونَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾، ويُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى قَبْلَهُ: ﴿وَإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهم فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ أوْ سُلَّمًا في السَّماءِ فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: ٣٥] أيْ: فافْعَلْ، ثُمَّ قالَ: ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿إنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٣٥ - ٣٦] وهَذا واضِحٌ فِيما ذَكَرْنا. ولَوْ كانَ يُرادُ بِالمَوْتى مَن فارَقَتْ أرْواحُهم أبْدانَهم لَقابَلَ المَوْتى بِما يُناسِبُهم؛ كَأنْ يُقالَ: إنَّما يَسْتَجِيبُ الأحْياءُ، أيِ: الَّذِينَ لَمْ تُفارِقْ أرْواحُهم أبْدانَهم، وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ١٢٢] . (p-١٢٦)فَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا﴾، أيْ: كافِرًا فَأحْيَيْناهُ، أيْ: بِالإيمانِ والهُدى، وهَذا لا نِزاعَ فِيهِ، وفِيهِ إطْلاقُ المَوْتِ وإرادَةُ الكُفْرِ بِلا خِلافٍ؛ وكَقَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكافِرِينَ﴾ [يس: ٧٠] وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ ولا الأمْواتُ﴾ [فاطر: ٢٢] أيْ: لا يَسْتَوِي المُؤْمِنُونَ والكافِرُونَ. وَمِن أوْضَحِ الأدِلَّةِ عَلى هَذا المَعْنى، أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾ الآيَةَ، وما في مَعْناها مِنَ الآياتِ كُلِّها، تَسْلِيَةٌ لَهُ ﷺ لِأنَّهُ يُحْزِنُهُ عَدَمُ إيمانِهِمْ، كَما بَيَّنَهُ تَعالى في آياتٍ كَثِيرَةٍ؛ • كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾ الآيَةَ [الحجر: ٩٧] • وقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ الآيَةَ [النحل: ١٢٧] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٨] • وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ الآيَةَ [فاطر: ٨] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا﴾ [الكهف: ٦] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ألّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ. ولَمّا كانَ يُحْزِنُهُ كُفْرُهم وعَدَمُ إيمانِهِمْ، أنْزَلَ اللَّهُ آياتٍ كَثِيرَةً تَسْلِيَةً لَهُ ﷺ بَيَّنَ لَهُ فِيها أنَّهُ لا قُدْرَةَ لَهُ ﷺ عَلى هُدى مَن أضَلَّهُ اللَّهُ، فَإنَّ الهُدى والإضْلالَ بِيَدِهِ جَلَّ وعَلا وحْدَهُ، وأوْضَحَ لَهُ أنَّهُ نَذِيرٌ، وقَدْ أتى بِما عَلَيْهِ فَأنْذَرَهم عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ وأبْلَغِها، وأنَّ هُداهم وإضْلالَهم بِيَدِ مَن خَلَقَهم. وَمِنَ الآياتِ النّازِلَةِ تَسْلِيَةً لَهُ ﷺ، قَوْلُهُ هُنا: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، أيْ: لا تُسْمِعُ مَن أضَلَّهُ اللَّهُ إسْماعَ هُدًى وقَبُولٍ، ﴿إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا﴾، يَعْنِي: ما تُسْمِعُ إسْماعَ هُدًى وقَبُولٍ إلّا مَن هَدَيْناهم لِلْإيمانِ بِآياتِنا فَهم مُسْلِمُونَ. والآياتُ الدّالَّةُ عَلى هَذا المَعْنى كَثِيرَةٌ؛ • كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهم فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾ الآيَةَ [النحل: ٣٧] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهم لَهم في الدُّنْيا خِزْيٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٤١] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ الآيَةَ [القصص: ٥٦] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَما كانَ لِنَفْسٍ أنْ تُؤْمِنَ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ويَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ٩٩] إلى غَيْرِ (p-١٢٧)ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. ولَوْ كانَ مَعْنى الآيَةِ وما شابَهَها: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، أيِ: الَّذِينَ فارَقَتْ أرْواحُهم أبْدانَهم لَما كانَ في ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ ﷺ كَما تَرى. واعْلَمْ: أنَّ آيَةَ ”النَّمْلِ“ هَذِهِ جاءَتْ آيَتانِ أُخْرَيانِ بِمَعْناها: الأُولى مِنهُما: قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ ”الرُّومِ“: ﴿فَإنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ ﴿وَما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهم مُسْلِمُونَ﴾ [الروم: ٥٢ - ٥٣] ولَفْظُ آيَةِ ”الرُّومِ“ هَذِهِ كَلَفْظِ آيَةِ ”النَّمْلِ“ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها، فَيَكْفِي في بَيانِ آيَةِ ”الرُّومِ“، ما ذَكَرْنا في آيَةِ ”النَّمْلِ“ . والثّانِيَةُ مِنهُما: قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ ”فاطِرٍ“: ﴿إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾ [فاطر: ٢٢] وآيَةُ ”فاطِرٍ“ هَذِهِ كَآيَةِ ”النَّمْلِ“ و ”الرُّومِ“ المُتَقَدِّمَتَيْنِ، لِأنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ فِيها: ﴿مَن في القُبُورِ﴾ المَوْتى، فَلا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾؛ لِأنَّ المُرادَ بِالمَوْتى ومَن في القُبُورِ واحِدٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في القُبُورِ﴾ [الحج: ٧] أيْ: يَبْعَثُ جَمِيعَ المَوْتى مَن قُبِرَ مِنهم ومَن لَمْ يُقْبَرْ، وقَدْ دَلَّتْ قَرائِنُ قُرْآنِيَّةٌ أيْضًا عَلى أنَّ مَعْنى آيَةِ ”فاطِرٍ“ هَذِهِ كَمَعْنى آيَةِ ”الرُّومِ“، مِنها قَوْلُهُ تَعالى قَبْلَها: ﴿إنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ وأقامُوا الصَّلاةَ﴾ الآيَةَ [فاطر: ١٨] لِأنَّ مَعْناها: لا يَنْفَعُ إنْذارُكَ إلّا مَن هُداهُ اللَّهُ ووَفَّقَهُ فَصارَ مِمَّنْ يَخْشى رَبَّهُ بِالغَيْبِ ويُقِيمُ الصَّلاةَ، ﴿وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾، أيِ: المَوْتى، أيِ: الكُفّارَ الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمُ الشَّقاءُ كَما تَقَدَّمَ. ومِنها قَوْلُهُ تَعالى أيْضًا: ﴿وَما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾ [فاطر: ١٩] أيِ: المُؤْمِنُ والكافِرُ. وقَوْلُهُ تَعالى بَعْدَها: ﴿وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ ولا الأمْواتُ﴾ [فاطر: ٢٢] أيِ: المُؤْمِنُونَ والكُفّارُ. ومِنها قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَهُ: ﴿إنْ أنْتَ إلّا نَذِيرٌ﴾ [الطور: ٢٣] أيْ: لَيْسَ الإضْلالُ والهُدى بِيَدِكَ ما أنْتَ إلّا نَذِيرٌ، أيْ: وقَدْ بَلَّغْتَ. التَّفْسِيرُ الثّانِي: هو أنَّ المُرادَ بِالمَوْتى الَّذِينَ ماتُوا بِالفِعْلِ، ولَكِنَّ المُرادَ بِالسَّماعِ المَنفِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾ خُصُوصُ السَّماعِ المُعْتادِ الَّذِي يَنْتَفِعُ صاحِبُهُ بِهِ، وأنَّ هَذا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفّارِ، والكُفّارُ يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، لَكِنْ لا يَسْمَعُونَ سَماعَ قَبُولٍ بِفِقْهٍ واتِّباعٍ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً (p-١٢٨)وَنِداءً﴾ [البقرة: ١٧١] فَهَكَذا المَوْتى الَّذِينَ ضُرِبَ بِهِمُ المَثَلُ لا يَجِبُ أنْ يُنْفى عَنْهم جَمِيعُ أنْواعِ السَّماعِ، كَما لَمْ يُنْفَ ذَلِكَ عَنِ الكُفّارِ، بَلْ قَدِ انْتَفى عَنْهُمُ السَّماعُ المُعْتادُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وأمّا سَماعٌ آخَرُ فَلا، وهَذا التَّفْسِيرُ الثّانِي جَزَمَ بِهِ واقْتَصَرَ عَلَيْهِ أبُو العَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، كَما سَيَأْتِي إيضاحُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ في هَذا المَبْحَثِ. وَهَذا التَّفْسِيرُ الأخِيرُ دَلَّتْ عَلَيْهِ أيْضًا آياتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ، جاءَ فِيها التَّصْرِيحُ بِالبَكَمِ والصَّمَمِ والعَمى مُسْنَدًا إلى قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ ويَسْمَعُونَ ويُبْصِرُونَ، والمُرادُ بِصَمَمِهِمْ صَمَمُهم عَنْ سَماعِ ما يَنْفَعُهم دُونَ غَيْرِهِ، فَهم يَسْمَعُونَ غَيْرَهُ، وكَذَلِكَ في البَصَرِ والكَلامِ، وذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعالى في المُنافِقِينَ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨] فَقَدْ قالَ فِيهِمْ: صُمٌّ بُكْمٌ مَعَ شِدَّةِ فَصاحَتِهِمْ وحَلاوَةِ ألْسِنَتِهِمْ، كَما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى فِيهِمْ: ﴿وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: ٤] أيْ: لِفَصاحَتِهِمْ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكم بِألْسِنَةٍ حِدادٍ﴾ [الأحزاب: ١٩] فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ إنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، وإذا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوا المُسْلِمِينَ بِألْسِنَةٍ حِدادٍ، هُمُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، وما ذَلِكَ إلّا أنَّ صَمَمَهم وبَكَمَهم وعَماهم بِالنِّسْبَةِ إلى شَيْءٍ خاصٍّ، وهو ما يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الحَقِّ، فَهَذا وحْدَهُ هو الَّذِي صُمُّوا عَنْهُ فَلَمْ يَسْمَعُوهُ، وبُكِمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْطِقُوا بِهِ، وعُمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَرَوْهُ مَعَ أنَّهم يَسْمَعُونَ غَيْرَهُ ويُبْصِرُونَهُ، ويَنْطِقُونَ بِهِ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً فَما أغْنى عَنْهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن شَيْءٍ﴾ الآيَةَ [الأحقاف: ٢٦] وهَذا واضِحٌ كَما تَرى. وَقَدْ أوْضَحْنا هَذا غايَةَ الإيضاحِ مَعَ شَواهِدِهِ العَرَبِيَّةِ في كِتابِنا ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ في الكَلامِ عَلى وجْهِ الجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ في المُنافِقِينَ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] مَعَ قَوْلِهِ فِيهِمْ: ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] • وقَوْلِهِ فِيهِمْ: ﴿سَلَقُوكم بِألْسِنَةٍ حِدادٍ﴾ [الأحزاب: ١٩] • وقَوْلِهِ فِيهِمْ أيْضًا: ﴿وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ • لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: ٤] وقَدْ أوْضَحْنا هُناكَ أنَّ العَرَبَ تُطْلِقُ الصَّمَمَ وعَدَمَ السَّماعِ عَلى السَّماعِ، الَّذِي لا فائِدَةَ فِيهِ، وذَكَرْنا بَعْضَ الشَّواهِدِ العَرَبِيَّةِ عَلى ذَلِكَ. * * * مَسْألَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ. اعْلَمْ أنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ هو أنَّ المَوْتى في قُبُورِهِمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ مَن (p-١٢٩)كَلَّمَهم، وأنَّ قَوْلَ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - ومَن تَبِعَها: إنَّهم لا يَسْمَعُونَ، اسْتِدْلالًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، وما جاءَ بِمَعْناها مِنَ الآياتِ غَلَطٌ مِنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، ومِمَّنْ تَبِعَها. وَإيضاحُ كَوْنِ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي رُجْحانَ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى مُقَدِّمَتَيْنِ: الأُولى مِنهُما: أنَّ سَماعَ المَوْتى ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في أحادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ ثُبُوتًا لا مَطْعَنَ فِيهِ، ولَمْ يَذْكُرْ ﷺ أنَّ ذَلِكَ خاصٌّ بِإنْسانٍ ولا بِوَقْتٍ. والمُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ: هي أنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ عَنْهُ ﷺ في سَماعِ المَوْتى لَمْ يَثْبُتْ في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ شَيْءٌ يُخالِفُها، وتَأْوِيلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بَعْضَ الآياتِ عَلى مَعْنًى يُخالِفُ الأحادِيثَ المَذْكُورَةَ، لا يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ؛ لِأنَّ غَيْرَهُ في مَعْنى الآياتِ أوْلى بِالصَّوابِ مِنهُ، فَلا تُرَدُّ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِتَأوُّلِ بَعْضِ الصَّحابَةِ بَعْضَ الآياتِ، وسَنُوَضِّحُ هُنا إنْ شاءَ اللَّهُ صِحَّةَ المُقْدِمَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، وإذا ثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ سَماعَ المَوْتى ثابِتٌ عَنْهُ ﷺ مِن غَيْرِ مُعارِضٍ صَرِيحٍ، عُلِمَ بِذَلِكَ رُجْحانُ ما ذَكَرْنا، أنَّ الدَّلِيلَ يَقْتَضِي رُجْحانَهُ. أمّا المُقَدِّمَةُ الأُولى، وهي ثُبُوتُ سَماعِ المَوْتى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَدْ قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبادَةَ، حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ أبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتادَةَ، قالَ: ذَكَرَ لَنا أنَسُ بْنُ مالِكٍ عَنْ أبِي طَلْحَةَ أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ «أمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ رَجُلًا مِن صَنادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا في طُوًى مِن أطْواءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وكانَ إذا ظَهَرَ عَلى قَوْمٍ أقامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاثَ لَيالٍ، فَلَمّا كانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثّالِثَ أمَرَ بِراحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْها رَحْلُها، ثُمَّ مَشى واتَّبَعَهُ أصْحابُهُ، وقالُوا: ما نَرى يَنْطَلِقُ إلّا لِبَعْضِ حاجَتِهِ، حَتّى قامَ عَلى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنادِيهِمْ بِأسْمائِهِمْ وأسْماءِ آبائِهِمْ: ”يا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، ويا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، أيَسُرُّكم أنَّكم أطَعْتُمُ اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَإنّا قَدْ وجَدْنا ما وعَدَنا رَبُّنا حَقًا، فَهَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكم حَقًا“ ؟ قالَ: فَقالَ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ما تُكَلِّمُ مِن أجْسادٍ لا أرْواحَ لَها ؟ ! فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنهم“»، قالَ قَتادَةُ: أحْياهُمُ اللَّهُ لَهُ حَتّى أسْمَعَهم تَوْبِيخًا وتَصْغِيرًا ونِقْمَةً وحَسْرَةً ونَدَمًا. فَهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ أقْسَمَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ الأحْياءَ الحاضِرِينَ لَيْسُوا بِأسْمَعَ لِما يَقُولُ ﷺ مِن أُولَئِكَ المَوْتى بَعْدَ ثَلاثٍ، وهو نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ في سَماعِ المَوْتى، ولَمْ يَذْكُرْ ﷺ في ذَلِكَ (p-١٣٠)تَخْصِيصًا، وكَلامُ قَتادَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُ البُخارِيُّ اجْتِهادٌ مِنهُ، فِيما يَظْهَرُ. وَقالَ البُخارِيُّ في ”صَحِيحِهِ“ أيْضًا: حَدَّثَنِي عُثْمانُ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ عَنْ هُشامٍ عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: «وَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقالَ: ”هَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكم حَقًّا“ ؟ ثُمَّ قالَ: ”إنَّهُمُ الآنَ يَسْمَعُونَ ما أقُولُ“، فَذُكِرَ لِعائِشَةَ، فَقالَتْ: إنَّما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”إنَّهُمُ الآنَ لَيَعْلَمُونَ أنَّ الَّذِي كُنْتُ أقُولُ لَهم هو الحَقُّ“»، ثُمَّ قَرَأتْ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، حَتّى قَرَأتِ الآيَةَ، انْتَهى مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ. وَقَدْ رَأيْتُهُ أخْرَجَ عَنْ صَحابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ هُما: ابْنُ عُمَرَ، وأبُو طَلْحَةَ، تَصْرِيحَ النَّبِيِّ ﷺ بِأنَّ أُولَئِكَ المَوْتى يَسْمَعُونَ ما يَقُولُ لَهم، ورَدُّ عائِشَةَ لِرِوايَةِ ابْنِ عُمَرَ بِما فَهِمَتْ مِنَ القُرْآنِ مَرْدُودٌ، كَما سَتَرى إيضاحَهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وَقَدْ أوْضَحْنا في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الإسراء: ١٥]، أنَّ رَدَّها عَلى ابْنِ عُمَرَ أيْضًا رِوايَتَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكاءِ أهْلِهِ» بِما فَهِمَتْ مِنَ الآيَةِ - مَرْدُودٌ أيْضًا، وأوْضَحْنا أنَّ الحَقَّ مَعَ ابْنِ عُمَرَ في رِوايَتِهِ لا مَعَها فِيما فَهِمَتْ مِنَ القُرْآنِ. وَقالَ البُخارِيُّ في ”صَحِيحِهِ“ أيْضًا: حَدَّثَنا عَيّاشٌ، حَدَّثَنا عَبْدُ الأعْلى، حَدَّثَنا سَعِيدٌ، قالَ: وقالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنا ابْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ العَبْدَ إذا وُضِعَ في قَبْرِهِ وتَوَلّى عَنْهُ أصْحابُهُ، وإنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِهِمْ، أتاهُ مَلَكانِ فَيُقْعِدانِهِ فَيَقُولانِ: ما كُنْتَ تَقُولُ في هَذا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ﷺ ؟ فَيَقُولُ: أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، فَيُقالُ: انْظُرْ إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النّارِ أبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا في الجَنَّةِ» الحَدِيثَ، وقَدْ رَأيْتُ في هَذا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَصْرِيحَ النَّبِيِّ ﷺ بِأنَّ المَيِّتَ في قَبْرِهِ، يَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِ مَن دَفَنُوهُ إذا رَجَعُوا، وهو نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ في سَماعِ المَوْتى، ولَمْ يَذْكُرْ ﷺ فِيهِ تَخْصِيصًا. وَقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ”صَحِيحِهِ“: حَدَّثَنِي إسْحاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الهُذَلِيُّ، حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ المُغِيرَةِ، عَنْ ثابِتٍ، قالَ: قالَ أنَسٌ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ [ ح ]، وحَدَّثَنا شَيْبانُ بْنُ فَرُّوخٍ، واللَّفْظُ لَهُ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ المُغِيرَةِ بْنِ ثابِتٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، قالَ: كُنّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ فَتَراءَيْنا الهِلالَ، الحَدِيثَ. وفِيهِ: فَقالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يُرِينا مُصارِعَ أهْلِ بَدْرٍ» بِالأمْسِ، يَقُولُ: ”هَذا مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إنْ شاءَ اللَّهُ“، قالَ: فَقالَ عُمَرُ: فَوالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ ما أخْطَئُوا الحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَجُعِلُوا في بِئْرٍ (p-١٣١)بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، فانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى انْتَهى إلَيْهِمْ فَقالَ: ”يا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، ويا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، هَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ حَقًّا ؟ فَإنِّي قَدْ وجَدْتُ ما وعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا“، قالَ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَيْفَ تُكَلِّمُ أجْسادًا لا أرْواحَ فِيها ؟ قالَ: ”ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنهم، غَيْرَ أنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا“ . حَدَّثَنا هَدّابُ بْنُ خالِدٍ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثابِتٍ البُنانِيِّ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَرَكَ قَتْلى بَدْرٍ ثَلاثًا ثُمَّ أتاهم، فَقامَ عَلَيْهِمْ فَناداهم، فَقالَ: ”يا أبا جَهْلِ بْنَ هِشامٍ، يا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، ألَيْسَ قَدْ وجَدْتُمْ ما وعَدَكُمُ اللَّهُ حَقًّا، فَإنِّي قَدْ وجَدْتُ ما وعَدَنِي رَبِّي حَقًّا“، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وأنّى يُجِيبُوا وقَدْ جَيَّفُوا ؟ قالَ: ”والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنهم، ولَكِنَّهم لا يَقْدِرُونَ أنْ يُجِيبُوا“، ثُمَّ أمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ» . ثُمَّ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذا رِوايَةَ أنَسٍ عَنْ أبِي طَلْحَةَ، الَّتِي ذَكَرْناها عَنِ البُخارِيِّ، فَتَرى هَذِهِ الأحادِيثَ الثّابِتَةَ في الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ وابْنِهِ، وأنَسٍ، وأبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، فِيها التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ بِأنَّ الأحْياءَ الحاضِرِينَ لَيْسُوا بِأسْمَعَ مِن أُولَئِكَ المَوْتى لِما يَقُولُهُ ﷺ، وقَدْ أقْسَمَ ﷺ عَلى ذَلِكَ ولَمْ يَذْكُرْ تَخْصِيصًا، وقالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في ”صَحِيحِهِ“ أيْضًا: حَدَّثَنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا شَيْبانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِمَنِ، عَنْ قَتادَةَ، حَدَّثَنا أنَسُ بْنُ مالِكٍ، قالَ: قالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ العَبْدَ إذا وُضِعَ في قَبْرِهِ وتَوَلّى عَنْهُ أصْحابُهُ إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِهِمْ ”، قالَ:“ يَأْتِيهِ مَلَكانِ فَيُعْقِدانِهِ» الحَدِيثَ، وفِيهِ تَصْرِيحُ النَّبِيِّ ﷺ بِسَماعِ المَيِّتِ في قَبْرِهِ قَرْعَ النِّعالِ، وهو نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ في سَماعِ المَوْتى، وظاهِرُهُ العُمُومُ في كُلِّ مَن دُفِنَ وتَوَلّى عَنْهُ قَوْمُهُ، كَما تَرى. وَمِنَ الأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى عُمُومِ سَماعِ المَوْتى ما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى التَّمِيمِيُّ، ويَحْيى بْنُ أيُّوبَ، وقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قالَ يَحْيى بْنُ يَحْيى: أخْبَرَنا، وقالَ الآخَرانِ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكٍ، وهو ابْنُ أبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أنَّها قالَتْ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كُلَّما كانَ لَيْلَتُها مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَخْرُجُ مِن آخِرِ اللَّيْلِ إلى البَقِيعِ، فَيَقُولُ: ”السَّلامُ عَلَيْكم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وأتاكم ما تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ“، ولَمْ يُقِمْ قُتَيْبَةُ قَوْلَهُ: ”وَأتاكم ما تُوعِدُونَ“»، وفي رِوايَةٍ في صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْها، قالَتْ: «كَيْفَ أقُولُ لَهم يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ؟ قالَ: ”قُولِي: السَّلامُ عَلى أهْلِ (p-١٣٢)الدِّيارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُسْلِمِينَ ويَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنّا والمُسْتَأْخِرِينَ، وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم لَلاحِقُونَ“»، ثُمَّ قالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنا أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قالا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأسَدِيُّ عَنْ سُفْيانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُهم إذا خَرَجُوا إلى المَقابِرِ، فَكانَ قائِلُهم يَقُولُ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ: «السَّلامُ عَلى أهْلِ الدِّيارِ»، وفي رِوايَةِ زُهَيْرٍ: «السَّلامُ عَلَيْكم أهْلَ الدِّيارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُسْلِمِينَ، وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم لَلاحِقُونَ، نَسْألُ اللَّهَ لَنا ولَكُمُ العافِيَةَ»، انْتَهى مِن ”صَحِيحِ مُسْلِمٍ“ . وَخِطابُهُ ﷺ لِأهْلِ القُبُورِ بِقَوْلِهِ: «السَّلامُ عَلَيْكم»، وقَوْلُهُ: «وَإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم»، ونَحْوُ ذَلِكَ يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّهم يَسْمَعُونَ سَلامَهُ لِأنَّهم لَوْ كانُوا لا يَسْمَعُونَ سَلامَهُ وكَلامَهُ لَكانَ خِطابُهُ لَهم مِن جِنْسِ خِطابِ المَعْدُومِ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِن شَأْنِ العُقَلاءِ، فَمِنَ البَعِيدِ جَدًّا صُدُورُهُ مِنهُ ﷺ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ ذِكْرُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاصِ الدّالِّ عَلى أنَّ المَيِّتَ في قَبْرِهِ يَسْتَأْنِسُ بِوُجُودِ الحَيِّ عِنْدَهُ. وَإذا رَأيْتَ هَذِهِ الأدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الدّالَّةَ عَلى سَماعِ المَوْتى، فاعْلَمْ أنَّ الآياتِ القُرْآنِيَّةَ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، وقَوْلِهِ: ﴿وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾ [فاطر: ٢٢] لا تُخالِفُها، وقَدْ أوْضَحْنا الصَّحِيحَ مِن أوْجُهِ تَفْسِيرِها، وذَكَرْنا دَلالَةَ القَرائِنِ القُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ، وأنَّ اسْتِقْراءَ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأنَّ الآياتِ المَذْكُورَةَ لا تُنافِي الأحادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي ذَكَرْنا أبُو العَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، فَقَدْ قالَ في الجُزْءِ الرّابِعِ مِن ”مَجْمُوعِ الفَتاوِي“ مِن صَحِيفَةِ خَمْسٍ وتِسْعِينَ ومِائَتَيْنِ، إلى صَحِيفَةِ تِسْعٍ وتِسْعِينَ ومِائَتَيْنِ، ما نَصُّهُ: وقَدْ تُعادُ الرُّوحُ إلى البَدَنِ في غَيْرِ وقْتِ المَسْألَةِ، كَما في الحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قالَ: «ما مِن رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ الَّذِي كانَ يَعْرِفُهُ في الدُّنْيا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إلّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ» ”. وفي سُنَنِ أبِي داوُدَ وغَيْرِهِ عَنْ أوْسِ بْنِ أبِي أوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «“ إنَّ خَيْرَ أيّامِكم يَوْمُ الجُمُعَةِ، فَأكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ ولَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَإنَّ صَلاتَكم مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ ”، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهَ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلاتُنا عَلَيْكَ وقَدْ أرِمْتَ ؟ فَقالَ:“ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلى الأرْضِ أنْ تَأْكُلَ أجْسادَ الأنْبِياءِ»، وهَذا البابُ فِيهِ مِنَ الأحادِيثِ والآثارِ، ما يَضِيقُ هَذا الوَقْتُ عَنِ اسْتِقْصائِهِ، مِمّا يُبَيِّنُ أنَّ الأبْدانَ الَّتِي في القُبُورِ تَنْعَمُ وتُعَذَّبُ إذا شاءَ اللَّهُ ذَلِكَ كَما يَشاءُ، وأنَّ الأرْواحَ باقِيَةٌ بَعْدَ مُفارَقَةِ البَدَنِ ومُنْعِمَةٌ أوْ مُعَذَّبَةٌ، ولِذا أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالسَّلامِ عَلى المَوْتى، كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ والسُّنَنِ أنَّهُ كانَ يُعَلِّمُ (p-١٣٣)أصْحابَهُ إذا زارُوا القُبُورَ أنْ يَقُولُوا: «السَّلامُ عَلَيْكم أهْلَ الدِّيارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم لاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنّا ومِنكم والمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْألُ اللَّهَ لَنا ولَكُمُ العافِيَةَ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنا أجْرَهم ولا تَفْتِنّا بَعْدَهم، واغْفِرْ لَنا ولَهم» . وقَدِ انْكَشَفَ لِكَثِيرٍ مِنَ النّاسِ ذَلِكَ حَتّى سَمِعُوا صَوْتَ المُعَذَّبِينَ في قُبُورِهِمْ، ورَأوْهم بِعُيُونِهِمْ يُعَذَّبُونَ في قُبُورِهِمْ في آثارٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، ولَكِنْ لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ دائِمًا عَلى البَدَنِ في كُلِّ وقْتٍ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في حالٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَرَكَ قَتْلى بَدْرٍ ثَلاثًا ثُمَّ أتاهم فَقامَ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: ”يا أبا جَهْلِ بْنَ هِشامٍ، يا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ألَيْسَ قَدْ وجَدْتُمْ ما وعَدَكم رَبُّكم حَقًّا ؟ فَإنِّي وجَدْتُ ما وعَدَنِي رَبِّي حَقًّا“، فَسَمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُونَ وقَدْ جَيَّفُوا ؟ فَقالَ: ”والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنهم ولَكِنَّهم لا يَقْدِرُونَ أنْ يُجِيبُوا“، ثُمَّ أمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ»، وقَدْ أخْرَجاهُ في الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وقَفَ عَلى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقالَ: ”هَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَكم رَبُّكم حَقًّا“ ؟ وقالَ: ”إنَّهم لَيَسْمَعُونَ الآنَ ما أقُولُ»“، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعائِشَةَ فَقالَتْ: وهِمَ ابْنُ عُمَرَ، إنَّما قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”إنَّهم لَيَعْلَمُونَ الآنَ أنَّ الَّذِي قُلْتُ لَهم هو الحَقُّ“، ثُمَّ قَرَأتْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، حَتّى قَرَأتِ الآيَةَ. وَأهْلُ العِلْمِ بِالحَدِيثِ اتَّفَقُوا عَلى صِحَّةِ ما رَواهُ أنَسٌ وابْنُ عُمَرَ، وإنْ كانا لَمْ يَشْهَدا بَدْرًا، فَإنَّ أنَسًا رَوى ذَلِكَ عَنْ أبِي طَلْحَةَ، وأبُو طَلْحَةَ شَهِدَ بَدْرًا كَما رَوى أبُو حاتِمٍ في صَحِيحِهِ، عَنْ أنَسٍ، عَنْ أبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «أمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ رَجُلًا مِن صَنادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا في طُوًى مِن أطْواءِ بَدْرٍ، وكانَ إذا ظَهَرَ عَلى قَوْمٍ أحَبَّ أنْ يُقِيمَ في عَرْصَتِهِمْ ثَلاثَ لَيالٍ، فَلَمّا كانَ اليَوْمُ الثّالِثُ أمَرَ بِراحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْها فَحَرَّكَها، ثُمَّ مَشى وتَبِعَهُ أصْحابُهُ، وقالُوا: ما نَراهُ يَنْطَلِقُ إلّا لِبَعْضِ حاجَتِهِ، حَتّى قامَ عَلى شِفاءِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنادِيهِمْ بِأسْمائِهِمْ وأسْماءِ آبائِهِمْ: ”يا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، أيَسُرُّكم أنَّكم أطَعْتُمُ اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَإنّا قَدْ وجَدْنا ما وعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فَهَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَكم رَبُّكم حَقًّا“، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ما تُكَلِّمُ مِن أجْسادٍ ولا أرْواحَ فِيها، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنهم»“، قالَ قَتادَةُ: أحْياهُمُ اللَّهُ (p-١٣٤)حَتّى أسْمَعَهم تَوْبِيخًا، وتَصْغِيرًا، ونِقْمَةً، وحَسْرَةً، وتَنْدِيمًا، وعائِشَةُ قالَتْ فِيما ذَكَرَتْهُ كَما تَأوَّلَتْ. والنَّصُّ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُقَدَّمٌ عَلى تَأْوِيلِ مَن تَأوَّلَ مِن أصْحابِهِ وغَيْرِهِ، ولَيْسَ في القُرْآنِ ما يَنْفِي ذَلِكَ، فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، إنَّما أرادَ بِهِ السَّماعَ المُعْتادَ الَّذِي يَنْفَعُ صاحِبَهُ، فَإنَّ هَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكُفّارِ، والكُفّارُ تَسْمَعُ الصَّوْتَ، لَكِنْ لا تَسْمَعُ سَماعَ قَبُولٍ بِفِقْهٍ واتِّباعٍ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً ونِداءً﴾ [البقرة: ١٧١]، فَهَكَذا المَوْتى الَّذِينَ ضَرَبَ بِهِمُ المَثَلَ لا يَجِبُ أنْ يُنْفى عَنْهم جَمِيعُ أنْواعِ السَّماعِ، بَلِ السَّماعُ المُعْتادُ كَما لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ عَنِ الكُفّارِ، بَلِ انْتَفى عَنْهُمُ السَّماعُ المُعْتادُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَأمّا سَماعٌ آخَرُ فَلا يُنْفى عَنْهم، وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعالِهِمْ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَذا مُوافِقٌ لِهَذا فَكَيْفَ يُرْفَعُ ذَلِكَ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ أبِي العَبّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. وقَدْ تَراهُ صَرَّحَ فِيهِ بِأنَّ تَأوُّلَ عائِشَةَ لا يُرَدُّ بِهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ عَنْهُ ﷺ، وأنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ ما يَنْفِي السَّماعَ الثّابِتَ لِلْمَوْتى في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَإذا عَلِمْتَ بِهِ أنَّ القُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ ما يَنْفِي السَّماعَ المَذْكُورَ، عَلِمْتَ أنَّهُ ثابِتٌ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ، مِن غَيْرِ مُعارِضٍ. والحاصِلُ أنَّ تَأوُّلَ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - بَعْضَ آياتِ القُرْآنِ، لا تُرَدُّ بِهِ رِواياتُ الصَّحابَةِ العُدُولِ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ عَنْهُ ﷺ، ويَتَأكَّدُ، ذَلِكَ بِثَلاثَةِ أُمُورٍ: الأوَّلُ: هو ما ذَكَرْناهُ الآنَ مِن أنَّ رِوايَةَ العَدْلِ لا تُرَدُّ بِالتَّأْوِيلِ. الثّانِي: أنَّ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لَمّا أنْكَرَتْ رِوايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «”إنَّهم لَيَسْمَعُونَ الآنَ ما أقُولُ»“، قالَتْ: إنَّ الَّذِي قالَهُ ﷺ: ”إنَّهم لَيَعْلَمُونَ الآنَ أنَّ الَّذِي كُنْتُ أقُولُ لَهم هو الحَقُّ“، فَأنْكَرَتِ السَّماعَ ونَفَتْهُ عَنْهم، وأثْبَتَتْ لَهُمُ العِلْمَ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن ثَبَتَ لَهُ العِلْمُ صَحَّ مِنهُ السَّماعُ، كَما نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُهم. الثّالِثُ: هو ما جاءَ عَنْها مِمّا يَقْتَضِي رُجُوعَها عَنْ تَأْوِيلِها، إلى الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ. ب قالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“: ومِنَ الغَرِيبِ أنَّ في المَغازِي لِابْنِ إسْحاقَ رِوايَةَ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ بِإسْنادٍ جَيِّدٍ، عَنْ عائِشَةَ مِثْلُ حَدِيثِ أبِي طَلْحَةَ، وفِيهِ: «”ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما (p-١٣٥)أقُولُ مِنهم»“، وأخْرَجَهُ أحْمَدُ بِإسْنادٍ حَسَنٍ، فَإنْ كانَ مَحْفُوظًا فَكَأنَّها رَجَعَتْ عَنِ الإنْكارِ لِما ثَبَتَ عِنْدَها مِن رِوايَةِ هَؤُلاءِ الصَّحابَةِ؛ لِكَوْنِها لَمْ تَشْهَدِ القِصَّةَ، انْتَهى مِنهُ. واحْتِمالُ رُجُوعِها لِما ذُكِرَ قَوِيٌّ، لِأنَّ ما يَقْتَضِي رُجُوعَها ثَبَتَ بِإسْنادَيْنِ. قالَ ابْنُ حَجَرٍ: إنَّ أحَدَهُما جَيِّدٌ، والآخُرُ حَسَنٌ. ثُمَّ قالَ ابْنُ حَجَرٍ: قالَ الإسْماعِيلِيُّ: كانَ عِنْدَ عائِشَةَ مِنَ الفَهْمِ والذَّكاءِ وكَثْرَةِ الرِّوايَةِ والغَوْصِ عَلى غَوامِضِ العِلْمِ، ما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لا سَبِيلَ إلى رَدِّ رِوايَةِ الثِّقَةِ إلّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلى نَسْخِهِ أوْ تَخْصِيصِهِ، أوِ اسْتِحالَتِهِ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ ابْنِ حَجَرٍ. وَقالَ ابْنُ القَيِّمِ في أوَّلِ ”كِتابِ الرُّوحِ“: المَسْألَةُ الأُولى: وهي هَلْ تَعْرِفُ الأمْواتَ زِيارَةَ الأحْياءِ وسَلامَهم أمْ لا ؟ قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قالَ: «ما مِن مُسْلِمٍ يَمُرُّ عَلى قَبْرِ أخِيهِ كانَ يَعْرِفُهُ في الدُّنْيا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إلّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رَوْحَهُ حَتّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ»، فَهَذا نَصٌّ في أنَّهُ يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلامَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ مِن وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: «أنَّهُ أمَرَ بِقَتْلى بَدْرٍ فَأُلْقُوا في قَلِيبٍ، ثُمَّ جاءَ حَتّى وقَفَ عَلَيْهِمْ وناداهم بِأسْمائِهِمْ: ”يا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، ويا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، هَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَكم رَبُّكم حَقًّا، فَإنِّي وجَدْتُ ما وعَدَنِي رَبِّي حَقًّا“، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما تُخاطِبُ مِن أقْوامٍ قَدْ جَيَّفُوا، فَقالَ: ”والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ، ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنهم، ولَكِنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ جَوابًا»“ . وَثَبَتَ عَنْهُ ﷺ: أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِ المُشَيِّعِينَ لَهُ إذا انْصَرَفُوا عَنْهُ، وقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ إذا سَلَّمُوا عَلى أهْلِ القُبُورِ، أنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ سَلامَ مَن يُخاطِبُونَهُ، فَيَقُولُ: «السَّلامُ عَلَيْكم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ»، وهَذا خِطابٌ لِمَن يَسْمَعُ ويَعْقِلُ، ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ هَذا الخِطابُ بِمَنزِلَةِ خِطابِ المَعْدُومِ والجَمادِ، والسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلى هَذا، وقَدْ تَواتَرَتِ الآثارُ عَنْهم أنَّ المَيِّتَ يَعْرِفُ زِيارَةَ الحَيِّ لَهُ، ويَسْتَبْشِرُ لَهُ، قالَ أبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أبِي الدُّنْيا في ”كِتابِ القُبُورِ“: * * * بابٌ في مَعْرِفَةِ المَوْتى بِزِيارَةِ الأحْياءِ. حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَمانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمْعانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«ما مِن رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أخِيهِ ويَجْلِسُ عِنْدَهُ إلّا اسْتَأْنَسَ بِهِ ورَدَّ عَلَيْهِ، حَتّى يَقُومَ“» . حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ قُدامَةَ الجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنا مَعْنُ بْنُ عِيسى القَزّازُ، أخْبَرَنا هِشامُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنا زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ (p-١٣٦)- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - قالَ: إذا مَرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ أخِيهِ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ وعَرَفَهُ، وإذا مَرَّ بِقَبْرٍ لا يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ. وَذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ في كَلامِ أبِي الدُّنْيا وغَيْرِهِ آثارًا تَقْتَضِي سَماعَ المَوْتى، ومَعْرِفَتَهم لِمَن يَزُورُهم، وذَكَرَ في ذَلِكَ مَرائِيَ كَثِيرًا جَدًا، ثُمَّ قالَ: وهَذِهِ المَرائِي، وإنْ لَمْ تَصْلُحْ بِمُجَرَّدِها لِإثْباتِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَهي عَلى كَثْرَتِها، وأنَّها لا يُحْصِيها إلّا اللَّهُ قَدْ تَواطَأتْ عَلى هَذا المَعْنى، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أرى رُؤْياكم قَدْ تَواطَأتْ عَلى أنَّها في العَشْرِ الأواخِرِ»، يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ، فَإذا تَواطَأتْ رُؤْيا المُؤْمِنِينَ عَلى شَيْءٍ، كانَ كَتَواطُؤِ رِوايَتِهِمْ لَهُ، ومِمّا قالَهُ ابْنُ القَيِّمِ في كَلامِهِ الطَّوِيلِ المَذْكُورِ، وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ أنَّ المَيِّتَ يَسْتَأْنِسُ بِالمُشَيِّعِينَ لِجِنازَتِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ، فَرَوى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمّاسَةَ المَهْرِيِّ، قالَ: حَضَرْنا عَمْرَو بْنَ العاصِ، وهو في سِياقِ المَوْتِ، فَبَكى طَوِيلًا وحَوَّلَ وجْهَهُ إلى الجِدارِ. . الحَدِيثَ، وفِيهِ: فَإذا أنا مُتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نائِحَةٌ ولا نارٌ، فَإذا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرابَ سَنًّا، ثُمَّ أقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ ما تُنْحَرُ الجَزُورُ، ويُقَسَّمُ لَحْمُها، حَتّى أسْتَأْنِسَ بِكم وأنْظُرَ ماذا أُراجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، فَدَلَّ عَلى أنَّ المَيِّتَ يَسْتَأْنِسُ بِالحاضِرِينَ عِنْدَ قَبْرِهِ ويُسَرُّ بِهِمْ، ا هـ. وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذا الحَدِيثَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، لِأنَّ اسْتِئْناسَ المَقْبُورِ بِوُجُودِ الأحْياءِ عِنْدَ قَبْرِهِ لا مَجالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ. وَمِمّا قالَهُ ابْنُ القِيَمِ في كَلامِهِ الطَّوِيلِ المَذْكُورِ: ويَكْفِي في هَذا تَسْمِيَةُ المُسْلِمِ عَلَيْهِمْ زائِرًا، ولَوْلا أنَّهم يَشْعُرُونَ بِهِ لَما صَحَّ تَسْمِيَتُهُ زائِرًا، فَإنَّ المَزُورَ إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِزِيارَةِ مَن زارَهُ، لَمْ يَصِحَّ أنْ يُقالَ: زارَهُ، وهَذا هو المَعْقُولُ مِنَ الزِّيارَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الأُمَمِ، وكَذَلِكَ السَّلامُ عَلَيْهِمْ أيْضًا، فَإنَّ السَّلامَ عَلى مَن لا يَشْعُرُ ولا يَعْلَمُ بِالمُسْلِمِ مُحالٌ، وقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ إذا زارُوا القُبُورَ أنْ يَقُولُوا: «”السَّلامُ عَلَيْكم أهْلَ الدِّيارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُسْلِمِينَ، وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم لاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنّا ومِنكم والمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْألُ اللَّهَ لَنا ولَكُمُ العافِيَةَ»“، وهَذا السَّلامُ والخِطابُ والنِّداءُ لِمَوْجُودٍ يَسْمَعُ، ويُخاطِبُ، ويَعْقِلُ، ويَرُدُّ، وإنْ لَمْ يَسْمَعِ المُسْلِمُ الرَّدَّ. وَمِمّا قالَهُ ابْنُ القِيَمِ في كَلامِهِ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ: وقَدْ تَرْجَمَ الحافِظُ أبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ الأشْبِيلِيُّ عَلى هَذا، فَقالَ: ذِكْرُ ما جاءَ أنَّ المَوْتى يُسْألُونَ عَنِ الأحْياءِ، ويَعْرِفُونَ أقْوالَهم وأعْمالَهم، ثُمَّ قالَ: ذَكَرَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «ما مِن (p-١٣٧)رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أخِيهِ المُؤْمِنِ كانَ يَعْرِفُهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إلّا عَرَفَهُ ورَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ» . وَيُرْوى مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قالَ: «فَإنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ»، قالَ: ويُرْوى مِن حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، أنَّها قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«ما مِن رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أخِيهِ فَيَجْلِسُ عِنْدَهُ، إلّا اسْتَأْنَسَ بِهِ حَتّى يَقُومَ“»، واحْتَجَّ الحافِظُ أبُو مُحَمَّدٍ في هَذا البابِ بِما رَواهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ، مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما مِن أحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتّى أرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ» . ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ عَنْ عَبْدِ الحَقِّ وغَيْرِهِ مَرائِيَ وآثارًا في المَوْضُوعِ، ثُمَّ قالَ في كَلامِهِ الطَّوِيلِ: ويَدُلُّ عَلى هَذا أيْضًا ما جَرى عَلَيْهِ عَمَلُ النّاسِ قَدِيمًا وإلى الآنِ، مِن تَلْقِينِ المَيِّتِ في قَبْرِهِ ولَوْلا أنَّهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ ويَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فائِدَةٌ، وكانَ عَبَثًا. وقَدْ سُئِلَ عَنْهُ الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فاسْتَحْسَنَهُ واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالعَمَلِ. وَيُرْوى فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: ذَكَرَ الطَّبَرانِيُّ في مُعْجَمِهِ مِن حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا ماتَ أحَدُكم فَسَوَّيْتُمْ عَلَيْهِ التُّرابَ، فَلْيَقُمْ أحَدُكم عَلى رَأْسِ قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: يا فُلانَ بْنَ فُلانَةَ ”، الحَدِيثَ. وفِيهِ:“ اذْكُرْ ما خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيا شَهادَةَ ألّا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وأنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وبِالقُرْآنِ إمامًا»، الحَدِيثَ. ثُمَّ قالَ ابْنُ القَيِّمِ: فَهَذا الحَدِيثُ وإنْ لَمْ يَثْبُتْ، فاتِّصالُ العَمَلِ بِهِ في سائِرِ الأمْصارِ والأعْصارِ مِن غَيْرِ إنْكارٍ كافٍ في العَمَلِ بِهِ، وما أجْرى اللَّهُ سُبْحانَهُ العادَةَ قَطُّ بِأنَّ أُمَّةً طَبَّقَتْ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها، وهي أكْمَلُ الأُمَمِ عُقُولًا، وأوْفَرُها مَعارِفَ تُطْبِقُ عَلى مُخاطَبَةِ مَن لا يَسْمَعُ، وتَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ لا يُنْكِرُهُ مِنها مُنْكِرٌ بَلْ سَنَّهُ الأوَّلُ لِلْآخِرِ، ويَقْتَدِي فِيهِ الآخِرُ بِالأوَّلِ، فَلَوْلا أنَّ الخِطابَ يُسْمَعُ لَكانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ الخِطابِ لِلتُّرابِ، والخَشَبِ والحَجَرِ والمَعْدُومِ، وهَذا وإنِ اسْتَحْسَنَهُ واحِدٌ فالعُلَماءُ قاطِبَةً عَلى اسْتِقْباحِهِ واسْتِهْجانِهِ. وَقَدْ رَوى أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ بِإسْنادٍ لا بَأْسَ بِهِ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَضَرَ جِنازَةَ رَجُلٍ، فَلَمّا دُفِنَ قالَ: «سَلُوا لِأخِيكُمُ التَّثْبِيتَ، فَإنَّهُ الآنَ يُسْألُ»، فَأخْبَرَ أنَّهُ يُسْألُ حِينَئِذٍ، وإذا كانَ يُسْألُ فَإنَّهُ يَسْمَعُ التَّلْقِينَ، وقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِهِمْ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ» . ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ قِصَّةَ الصَّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ، وعَوْفِ بْنِ مالِكٍ، وتَنْفِيذَ عَوْفٍ لِوَصِيَّةِ الصَّعْبِ لَهُ في المَنامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وأثْنى عَلى عَوْفِ بْنِ مالِكٍ بِالفِقْهِ في تَنْفِيذِهِ وصِيَّةِ الصَّعْبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِما (p-١٣٨)عُلِمَ صِحَّةُ ذَلِكَ بِالقَرائِنِ، وكانَ في الوَصِيَّةِ الَّتِي نَفَّذَها عَوْفٌ إعْطاءُ عَشَرَةِ دَنانِيرَ لِيَهُودِيٍّ مِن تَرِكَةِ الصَّعْبِ كانَتْ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ، وماتَ قَبْلَ قَضائِها. قالَ ابْنُ القَيِّمِ: وهَذا مِن فِقْهِ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكانَ مِنَ الصَّحابَةِ حَيْثُ نَفَّذَ وصِيَّةَ الصَّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وعَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِهِ بِالقَرائِنِ الَّتِي أخْبَرَهُ بِها، مِن أنَّ الدَّنانِيرَ عَشْرَةٌ وهي في القَرْنِ، ثُمَّ سَألَ اليَهُودِيَّ فَطابَقَ قَوْلُهُ ما في الرُّؤْيا فَجَزَمَ عَوْفٌ بِصِحَّةِ الأمْرِ، فَأعْطى اليَهُودِيَّ الدَّنانِيرَ، وهَذا فِقْهٌ إنَّما يَلِيقُ بِأفْقَهِ النّاسِ وأعْلَمِهِمْ، وهم أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَعَلَّ أكْثَرَ المُتَأخِّرِينَ يُنْكِرُ ذَلِكَ، ويَقُولُ: كَيْفَ جازَ لِعَوْفٍ أنْ يَنْقُلَ الدَّنانِيرَ مِن تَرِكَةٍ صَعْبَةٍ، وهي لِأيْتامِهِ ووَرَثَتِهِ إلى يَهُودِيٍّ بِمَنامٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ تَنْفِيذَ خالِدٍ وأبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وصِيَّةَ ثابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وفي وصِيَّتِهِ المَذْكُورَةِ قَضاءُ دِينٍ عَيَّنَهُ لِرَجُلٍ في المَنامِ، وعِتْقِ بَعْضِ رَقِيقِهِ، وقَدْ وصَفَ لِلرَّجُلِ الَّذِي رَآهُ في مَنامِهِ المَوْضِعَ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ دِرْعَهُ الرَّجُلُ الَّذِي سَرَقَها، فَوَجَدُوا الأمْرَ كَما قالَ، وقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ. وَإذا كانَتْ وصِيَّةُ المَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَدْ نَفَّذَها في بَعْضِ الصُّوَرِ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَإنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يُدْرِكُ ويَعْقِلُ ويَسْمَعُ، ثُمَّ قالَ ابْنُ القَيِّمِ في خاتِمَةِ كَلامِهِ الطَّوِيلِ: والمَقْصُودُ جَوابُ السّائِلِ وأنَّ المَيِّتَ إذا عَرَفَ مِثْلَ هَذِهِ الجُزْئِيّاتِ وتَفاصِيلَها، فَمَعْرِفَتُهُ بِزِيارَةِ الحَيِّ لَهُ وسَلامُهُ عَلَيْهِ ودُعاؤُهُ لَهُ أوْلى وأحْرى، ا هـ. فَكَلامُ ابْنِ القَيِّمِ هَذا الطَّوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنا بَعْضَهُ جُمْلَةً وبَعْضَهُ تَفْصِيلًا، فِيهِ مِنَ الأدِلَّةِ المُقْنِعَةِ ما يَكْفِي في الدَّلالَةِ عَلى سَماعِ الأمْواتِ، وكَذَلِكَ الكَلامُ الَّذِي نَقَلْنا عَنْ شَيْخِهِ أبِي العَبّاسِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، وفي كَلامِهِما الَّذِي نَقَلْنا عَنْهُما أحادِيثُ صَحِيحَةٌ، وآثارٌ كَثِيرَةٌ، ومَرائِي مُتَواتِرَةٌ وغَيْرُ ذَلِكَ، ومَعْلُومٌ أنَّ ما ذَكَرْنا في كَلامِ ابْنِ القَيِّمِ مِن تَلْقِينِ المَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ، أنْكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وقالَ: إنَّهُ بِدْعَةٌ، وأنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ وأنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ إلّا أهْلُ الشّامِ، وقَدْ رَأيْتَ ابْنَ القَيِّمِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأدِلَّةٍ، مِنها: أنَّ الإمامَ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فاسْتَحْسَنَهُ. واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالعَمَلِ. ومِنها: أنَّ عَمَلَ المُسْلِمِينَ اتَّصَلَ بِهِ في سائِرِ الأمْصارِ والأعْصارِ مِن غَيْرِ إنْكارٍ. وَمِنها: أنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِ الدّافِنِينَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ ‌‌‌‌‌‌، واسْتِدْلالُهُ بِهَذا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ اسْتِدْلالٌ قَوِيٌّ جِدًّا؛ لِأنَّهُ إذا كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ يَسْمَعُ قَرْعَ النِّعالِ، فَلَأنْ يَسْمَعُ الكَلامَ الواضِحَ بِالتَّلْقِينِ مِن أصْحابِ النِّعالِ أوْلى (p-١٣٩)وَأحْرى، واسْتِدْلالُهُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أبِي داوُدَ: «سَلُوا لِأخِيكُمُ التَّثْبِيتَ فَإنَّهُ الآنَ يُسْألُ»، لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ يَسْمَعُ سُؤالَ السّائِلِ فَإنَّهُ يَسْمَعُ تَلْقِينَ المُلَقِّنِ، واللَّهُ أعْلَمُ. والفَرْقُ بَيْنَ سَماعِهِ سُؤالَ المَلِكِ وسَماعِهِ التَّلْقِينَ مِنَ الدّافِنِينَ مُحْتَمَلٌ احْتِمالًا قَوِيًّا، وما ذَكَرَهُ بَعْضُهم مِن أنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ المَوْتِ لَمْ يَفْعَلْهُ إلّا أهْلُ الشّامِ، يُقالُ فِيهِ: إنَّهم هم أوَّلُ مَن فَعَلَهُ، ولَكِنَّ النّاسَ تَبِعُوهم في ذَلِكَ، كَما هو مَعْلُومٌ عِنْدَ المالِكِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ. قالَ الشَّيْخُ الحَطّابَ في كَلامِهِ عَلى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إسْحاقَ المالِكِيِّ في مُخْتَصَرِهِ: (وتَلْقِينُهُ الشَّهادَةَ) وجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِاسْتِحْبابِ التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ. وَقالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ في شَرْحِ الرِّسالَةِ والإرْشادِ، وقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أبُو بَكْرِ بْنِ الطِّلاعِ مِنَ المالِكِيَّةِ، فَقالَ: هو الَّذِي نَخْتارُهُ ونَعْمَلُ بِهِ، وقَدْ رُوِّينا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ أبِي أُمامَةَ لَيْسَ بِالقَوِيِّ، ولَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِالشَّواهِدِ، وعَمَلِ أهْلِ الشّامِ قَدِيمًا، إلى أنْ قالَ: وقالَ في المَدْخَلِ: يَنْبَغِي أنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرافِ النّاسِ عَنْهُ مَن كانَ مِن أهْلِ الفَضْلِ والدِّينِ، ويَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقاءَ وجْهِهِ ويُلَقِّنَهُ؛ لِأنَّ المَلَكَيْنِ عَلَيْهِما السَّلامُ، إذْ ذاكَ يَسْألانِهِ وهو يَسْمَعُ قَرْعَ نِعالِ المُنْصَرِفِينَ. وَقَدْ رَوى أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ عَنْ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا فَرَغَ مِن دَفْنِ المَيِّتِ وقَفَ عَلَيْهِ، وقالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأخِيكم واسْألُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإنَّهُ الآنَ يُسْألُ»، إلى أنْ قالَ: وقَدْ كانَ سَيِّدِي أبُو حامِدِ بْنُ البَقّالِ، وكانَ مِن كِبارِ العُلَماءِ والصُّلَحاءِ، إذا حَضَرَ جِنازَةً عَزّى ولَيَّها بَعْدَ الدَّفْنِ، وانْصَرَفَ مَعَ مَن يَنْصَرِفُ، فَيَتَوارى هُنَيْهَةً حَتّى يَنْصَرِفَ النّاسُ، ثُمَّ يَأْتِي إلى القَبْرِ، فَيُذَكِّرُ المَيِّتَ بِما يُجاوِبُ بِهِ المَلَكَيْنِ عَلَيْهِما السَّلامُ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ الحَطّابِ. وَما ذَكَرَهُ مِن كَلامِ أبِي بَكْرِ بْنِ الطِّلاعِ المالِكِيِّ لَهُ وجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ، كَما سَتَرى إيضاحَهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ثُمَّ قالَ الحَطّابُ: واسْتَحَبَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ أيْضًا القُرْطُبِيُّ والثَّعالِبِيُّ وغَيْرُهُما، ويَظْهَرُ مِن كَلامِ أبِي. . . في أوَّلِ كِتابِ الجَنائِزِ يَعْنِي مِن صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وفي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاصِ في كِتابِ ”الإيمانِ“ مَيْلٌ إلَيْهِ، انْتَهى مِنَ الحَطّابِ. وحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ العاصِ المُشارُ إلَيْهِ، هو الَّذِي ذَكَرْنا مَحَلَّ الغَرَضِ مِنهُ في كَلامِ ابْنِ القَيِّمِ الطَّوِيلِ المُتَقَدِّمِ. قالَ مُسْلِمٌ في ”صَحِيحِهِ“: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى العَنَزِيُّ، وأبُو مَعْنٍ الرَّقاشِيُّ، وإسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، كُلُّهم عَنْ أبِي عاصِمٍ. واللَّفْظُ لِابْنِ المُثَنّى: حَدَّثَنا الضَّحّاكُ، يَعْنِي أبا عاصِمٍ، قالَ: أخْبَرَنا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شَمّاسَةَ (p-١٤٠)المَهْرِيِّ، قالَ: حَضَرْنا عَمْرَو بْنَ العاصِ، وهو في سِياقَةِ المَوْتِ، فَبَكى طَوِيلًا وحَوَّلَ وجْهَهُ إلى الجِدارِ، الحَدِيثَ. وقَدْ قَدَّمْنا مَحَلَّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ في كَلامِ ابْنِ القَيِّمِ المَذْكُورِ، وقَدَّمْنا أنَّ حَدِيثَ عَمْرٍو هَذا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وأنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلى اسْتِئْناسِ المَيِّتِ بِوُجُودِ الأحْياءِ عِنْدَ قَبْرِهِ. وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”رَوْضَةِ الطّالِبِينَ“، ما نَصُّهُ: ويُسْتَحَبُّ أنْ يُلَقَّنَ المَيِّتُ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَيُقالُ: يا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أمَةِ اللَّهِ اذْكُرْ ما خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيا: شَهادَةَ ألّا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وأنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وأنَّ النّارَ حَقٌّ، وأنَّ البَعْثَ حَقٌّ، وأنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في القُبُورِ، وأنْتَ رَضِيَتْ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالإسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا، وبِالقُرْآنِ إمامًا، وبِالكَعْبَةِ قِبْلَةً، وبِالمُؤْمِنِينَ إخْوانًا، ورَدَ بِهِ الخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ . قُلْتُ: هَذا التَّلْقِينُ اسْتَحَبَّهُ جَماعاتٌ مِن أصْحابِنا، مِنهُمُ القاضِي حُسَيْنٌ، وصاحِبُ التَّتِمَّةِ، والشَّيْخُ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ في كِتابِهِ ”التَّهْذِيبُ“ وغَيْرُهم، ونَقَلَهُ القاضِي حُسَيْنٌ عَنْ أصْحابِنا مُطْلَقًا، والحَدِيثُ الوارِدُ فِيهِ ضَعِيفٌ، لَكِنَّ أحادِيثَ الفَضائِلِ يُتَسامَحُ فِيها عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنَ المُحَدِّثِينَ وغَيْرِهِمْ، وقَدِ اعْتَضَدَ هَذا الحَدِيثُ بِشَواهِدَ مِنَ الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ كَحَدِيثِ: «”اسْألُوا لَهُ التَّثْبِيتَ»“، ووَصِيَّةِ عَمْرِو بْنِ العاصِ: أقِيمُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ ما تُنْحَرُ جَزُورٌ، ويُقَسَّمُ لَحْمُها حَتّى أسْتَأْنِسَ بِكم وأعْلَمَ ماذا أُراجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، ولَمْ يَزَلْ أهْلُ الشّامِ عَلى العَمَلِ بِهَذا التَّلْقِينِ، مِنَ العَصْرِ الأوَّلِ، وفي زَمَنِ مَن يُقْتَدى بِهِ، ا هـ مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ النَّوَوِيِّ. وَبِما ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ وابْنُ الطِّلاعِ، وصاحِبُ المَدْخَلِ مِنَ المالِكِيَّةِ، والنَّوَوِيُّ مِنَ الشّافِعِيَّةِ، كَما أوْضَحْنا كَلامَهم تَعْلَمُ أنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ لَهُ وجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ؛ لِأنَّهُ جاءَ فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، واعْتَضَدَ بِشَواهِدَ صَحِيحَةٍ، وبِعَمَلِ أهْلِ الشّامِ قَدِيمًا، ومُتابَعَةِ غَيْرِهِمْ لَهم. وَبِما عُلِمَ في عِلْمِ الحَدِيثِ مِنَ التَّساهُلِ في العَمَلِ بِالضَّعِيفِ في أحادِيثِ الفَضائِلِ، ولا سِيَّما المُعْتَضِدُ مِنها بِصَحِيحٍ، وإيضاحُ شَهادَةِ الشَّواهِدِ لَهُ أنَّ حَقِيقَةَ التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ مُرَكَّبَةٌ مِن شَيْئَيْنِ: أحَدُهُما: سَماعُ المَيِّتِ كَلامَ مُلَقِّنِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ. (p-١٤١)والثّانِي: انْتِفاعُهُ بِذَلِكَ التَّلْقِينِ، وكِلاهُما ثابِتٌ في الجُمْلَةِ، أمّا سَماعُهُ لِكَلامِ المُلَقِّنِ فَيَشْهَدُ لَهُ سَماعُهُ لِقَرْعِ نَعْلِ المُلَقِّنِ الثّابِتِ في الصَّحِيحَيْنِ، ولَيْسَ سَماعُ كَلامِهِ بِأبْعَدَ مِن سَماعِ قَرْعِ نَعْلِهِ كَما تَرى. وأمّا انْتِفاعُهُ بِكَلامِ المُلَقِّنِ، فَيَشْهَدُ لَهُ انْتِفاعُهُ بِدُعاءِ الحَيِّ وقْتَ السُّؤالِ في حَدِيثِ: «سَلُوا لِأخِيكُمُ التَّثْبِيتَ فَإنَّهُ يُسْألُ الآنَ»، واحْتِمالُ الفَرْقِ بَيْنَ الدُّعاءِ والتَّلْقِينِ قَوِيٌّ جَدًا كَما تَرى، فَإذا كانَ وقْتُ السُّؤالِ يَنْتَفِعُ بِكَلامِ الحَيِّ الَّذِي هو دُعاؤُهُ لَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِانْتِفاعِهِ بِكَلامِ الحَيِّ الَّذِي هو تَلْقِينُهُ إيّاهُ وإرْشادُهُ إلى جَوابِ المَلَكَيْنِ، فالجَمِيعُ في الأوَّلِ سَماعٌ مِنَ المَيِّتِ لِكَلامِ الحَيِّ، وفي الثّانِي انْتِفاعٌ مِنَ المَيِّتِ بِكَلامِ الحَيِّ وقْتَ السُّؤالِ، وقَدْ عَلِمْتَ قُوَّةَ احْتِمالِ الفِرَقِ بَيْنَ الدُّعاءِ والتَّلْقِينِ. وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلى سَماعِ المَيِّتِ كَلامَ الحَيِّ، ومِن أوْضَحِ الشَّواهِدِ لِلتَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ السَّلامُ عَلَيْهِ، وخِطابُهُ خِطابَ مَن يَسْمَعُ، ويَعْلَمُ عِنْدَ زِيارَتِهِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما خِطابٌ لَهُ في قَبْرِهِ، وقَدِ انْتَصَرابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ سُورَةِ ”الرُّومِ“، في كَلامِهِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿فَهم مُسْلِمُونَ﴾ [الروم: ٣٢ - ٣٣]، لِسَماعِ المَوْتى، وأوْرَدَ في ذَلِكَ كَثِيرًا مِنَ الأدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنا في كَلامِ ابْنِ القَيِّمِ، وابْنِ أبِي الدُّنْيا وغَيْرِهِما، وكَثِيرًا مِنَ المَرائِي الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ، وقَدْ قَدَّمْنا الحَدِيثَ الدّالَّ عَلى أنَّ المَرائِيَ إذا تَواتَرَتْ أفادَتِ الحُجَّةَ، ومِمّا قالَ في كَلامِهِ المَذْكُورِ: وقَدِ اسْتَدَلَّتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَإنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾، عَلى تَوْهِيمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، في رِوايَتِهِ مُخاطَبَةَ النَّبِيِّ ﷺ القَتْلى الَّذِينَ أُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلاثَةِ أيّامٍ، إلى أنْ قالَ: والصَّحِيحُ عِنْدَ العُلَماءِ رِوايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، لِما لَها مِنَ الشَّواهِدِ عَلى صِحَّتِها، مِن أشْهَرِ ذَلِكَ ما رَواهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ مُصَحِّحًا لَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا: «ما مِن أحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أخِيهِ المُسْلِمِ كانَ يَعْرِفُهُ»، الحَدِيثَ. وَقَدْ قَدَّمْناهُ في هَذا المَبْحَثِ مِرارًا، وبِجَمِيعِ ما ذَكَرْنا في هَذا المَبْحَثِ في الكَلامِ عَلى آيَةِ ”النَّمْلِ“ هَذِهِ تَعْلَمُ أنَّ الَّذِي يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ: أنَّ المَوْتى يَسْمَعُونَ سَلامَ الأحْياءِ وخِطابَهم سَواءٌ قُلْنا: إنَّ اللَّهَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أرْواحَهم حَتّى يَسْمَعُوا الخِطابَ ويَرُدُّوا الجَوابَ، أوْ قُلْنا: إنَّ الأرْواحَ أيْضًا تَسْمَعُ وتَرُدُّ بَعْدَ فَناءِ الأجْسامِ، لِأنّا قَدْ قَدَّمْنا أنَّ هَذا يَنْبَنِي عَلى مُقَدِّمَتَيْنِ: ثُبُوتُ سَماعِ المَوْتى بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وأنَّ القُرْآنَ لا يُعارِضُها عَلى التَّفْسِيرِ (p-١٤٢)الصَّحِيحِ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ القَرائِنُ القُرْآنِيَّةُ، واسْتِقْراءُ القُرْآنِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِن غَيْرِ مُعارِضٍ مِن كِتابٍ ولا سُنَّةٍ ظَهَرَ بِذَلِكَ رُجْحانُهُ عَلى تَأوُّلِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ومَن تَبِعَها بَعْضَ آياتِ القُرْآنِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ. وَفِي الأدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَها ابْنُ القَيِّمِ في كِتابِ الرُّوحِ عَلى ذَلِكَ مُقْنِعٌ لِلْمُنْصِفِ، وقَدْ زِدْنا عَلَيْها ما رَأيْتَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب