﴿أَلَّا یَسۡجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِی یُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَیَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ﴾ [النمل ٢٥]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ . تَقَدَّمَ إيضاحُهُ بِالآياتِ القُرْآنِيَّةِ في أوَّلِ سُورَةِ ”هُودٍ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ألا إنَّهم يَثْنُونَ صُدُورَهم لِيَسْتَخْفُوا مِنهُ ألا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهم يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [هود: ٥] وقَوْلُهُ:
﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾،
• كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: ٣٧] • وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا﴾ [النجم: ٦٢] وقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ﴾، قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: الخَبْءُ في السَّماواتِ: المَطَرُ، والخَبْءُ في الأرْضِ: النَّباتُ، والمَعادِنُ، والكُنُوزُ، وهَذا المَعْنى مُلائِمٌ
• لِقَوْلِهِ:
﴿يُخْرِجُ الخَبْءَ﴾، وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: الخَبْءُ: السِّرُّ والغَيْبُ، أيْ: يَعْلَمُ ما غابَ في السَّماواتِ والأرْضِ؛ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ:
﴿وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾،
• وكَقَوْلِهِ في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿وَما مِن غائِبَةٍ في السَّماءِ والأرْضِ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: ٧٥] • وقَوْلِهِ:
﴿وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ ولا أصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرَ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: ٦١] كَما أوْضَحْناهُ في سُورَةِ ”هُودٍ“، وقَرَأ هَذا الحَرْفَ عامَّةُ القُرّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ الكِسائِيِّ:
﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ بِتَشْدِيدِ اللّامِ في لَفْظَةِ (ألّا)، ولا خِلافَ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ أنَّ يَسْجُدُوا فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنصُوبٌ بِأنِ المُدْغَمَةِ في لَفْظَةِ لا، فالفِعْلُ المُضارِعُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، وأنِ المَصْدَرِيَّةُ المُدْغَمَةُ في لا يَنْسَبِكُ مِنهُما مَصْدَرٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الأظْهَرِ، وقِيلَ في مَحَلِّ جَرٍّ وفي إعْرابِهِ أوْجُهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، أيْ:
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾، مِن أجْلِ
﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾، أيْ: مِن أجْلِ عَدَمِ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، أوْ
﴿فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ﴾، لِأجْلِ
﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾، وبِالأوَّلِ قالَ الأخْفَشُ. وبِالثّانِي قالَ الكِسائِيُّ، وقالَ اليَزِيدِيُّ وغَيْرُهُ: هو مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن أعْمالَهم، أيْ: وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم ألّا يَسْجُدُوا، أيْ: عَدَمَ سُجُودِهِمْ، وعَلى هَذا فَأعْمالُهم هي عَدَمُ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، وهَذا الإعْرابُ يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّرْكَ عَمَلٌ؛ كَما أوْضَحْناهُ في سُورَةِ ”الفُرْقانِ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَقالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذا القُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠] وقالَ بَعْضُهم: إنَّ المَصْدَرَ المَذْكُورَ في مَحَلِّ خَفْضٍ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ السَّبِيلِ، أوْ عَلى أنَّ العامِلَ فِيهِ
﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾، وعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ فَلَفْظَةُ (لا) صِلَةٌ، فَعَلى الأوَّلِ مِنهُما. فالمَعْنى:
﴿فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ﴾ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، وعَلى هَذا فَسَبِيلُ الحَقِّ الَّذِي صُدُّوا عَنْهُ هو السُّجُودُ لِلَّهِ، (ولا) زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وعَلى الثّانِي، فالمَعْنى: فَهم لا يَهْتَدُونَ؛ لِأنَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أيْ: لِلسُّجُودِ لَهُ، (ولا) زائِدَةٌ أيْضًا لِلتَّوْكِيدِ، ومَعْلُومٌ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ أنَّ المَصْدَرَ المُنْسَبِكَ مِن فِعْلٍ، ومَوْصُولٍ حَرْفِيٍّ إنْ كانَ الفِعْلُ مَنفِيًّا ذُكِرَتْ لَفْظَةُ (عَدَمُ) قَبْلَ المَصْدَرِ، لِيُؤَدّى بِها مَعْنى النَّفْيِ الدّاخِلِ عَلى الفِعْلِ، فَقَوْلُكَ مَثَلًا: عَجِبْتُ مِن أنْ لا تَقُومَ، إذا سَبَكْتَ مَصْدَرَهُ لَزِمَ أنْ تَقُولَ: عَجِبْتُ مِن عَدَمِ قِيامِكَ، وإذا كانَ الفِعْلُ مُثْبَتًا لَمْ تَذْكُرْ مَعَ المَصْدَرِ لَفْظَةَ (عَدَمُ)، فَلَوْ قُلْتَ: عَجِبْتُ مِن أنْ تَقُومَ، فَإنَّكَ تَقُولُ في سَبْكِ مَصْدَرِهِ: عَجِبْتُ مِن قِيامِكَ؛ كَما لا يَخْفى. وعَلَيْهِ: فالمَصْدَرُ المُنْسَبِكُ مِن قَوْلِهِ:
﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾ يَلْزَمُ أنْ يُقالَ فِيهِ عَدَمُ السُّجُودِ إلّا إذا اعْتُبِرَتْ لَفْظَةُ (لا) زائِدَةً، وقَدْ أشَرْنا في سُورَةِ ”الأعْرافِ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿قالَ ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: ١٢] إلى أنّا أوْضَحْنا الكَلامَ عَلى زِيادَةِ (لا) لِتَوْكِيدِ الكَلامِ في كِتابِنا ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“، في أوَّلِ سُورَةِ ”البَلَدِ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾ [البلد: ١]وسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِن كَلامِنا فِيهِ هُنا.
فَقَدْ قُلْنا فِيهِ: الأوَّلُ وعَلَيْهِ الجُمْهُورُ: أنَّ (لا) هُنا صِلَةٌ عَلى عادَةِ العَرَبِ، فَإنَّها رُبَّما لَفَظَتْ بِلَفْظَةِ لا مِن غَيْرِ قَصْدِ مَعْناها الأصْلِيِّ بَلْ لِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ الكَلامِ وتَوْكِيدِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما مَنَعَكَ إذْ رَأيْتَهم ضَلُّوا﴾ ﴿ألّا تَتَّبِعَنِي﴾ [طه: ٩٢ - ٩٣] يَعْنِي أنْ تَتَّبِعَنِي، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ﴾، أيْ: أنْ تَسْجُدَ عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ. ويَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ ”ص“:
﴿ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿لِئَلّا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ﴾ [الحديد: ٢٩] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٦٥] أيْ: فَوَرَبِّكَ، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت: ٣٤] أيْ: والسَّيِّئَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٥] عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٩] عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم ألّا تُشْرِكُوا﴾ الآيَةَ
[الأنعام: ١٥١] عَلى أحَدِ الأقْوالِ الماضِيَةِ؛ وكَقَوْلِ أبِي النَّجْمِ:
فَما ألُومُ البِيضَ ألّا تَسْخَرا لِما رَأيْنَ الشَّمْطَ القَفَنْدَرَ
يَعْنِي: أنْ تَسْخَرَ، وقَوْلِ الآخَرِ:
وَتَلْحِينُنِي في اللَّهْوِ ألّا أُحِبَّهُ ∗∗∗ ولِلَّهْوِ داعٍ دائِبٌ غَيْرُ غافِلِ
يَعْنِي: أنْ أُحِبَّهُ، و (لا) زائِدَةٌ. وقَوْلِ الآخَرِ:
أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ ∗∗∗ نَعَمْ مِن فَتًى لا يَمْنَعُ الجُوعَ قاتِلَهْ
يَعْنِي: أبى جُودُهُ البُخْلَ، ولا زائِدَةٌ عَلى خِلافٍ في زِيادَتِها في هَذا البَيْتِ الأخِيرِ، ولا سِيَّما عَلى رِوايَةِ البُخْلِ بِالجَرِّ؛ لِأنَّ لا عَلَيْها مُضافٌ بِمَعْنى لَفْظَةِ لا، فَلَيْسَتْ زائِدَةً عَلى رِوايَةِ الجَرِّ، وقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
فَلا وأبِيكِ ابْنَةَ العامِرِيِّ ∗∗∗ لا يَدَّعِي القَوْمُ أنِّي أفِرُّ
يَعْنِي: وأبِيكِ، وأنْشَدَ الفَرّاءُ لِزِيادَةِ لا في الكَلامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنى الجَحْدِ، قَوْلَ الشّاعِرِ:
ما كانَ يَرْضى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمُ ∗∗∗ والأطْيَبانِ أبُو بَكْرٍ ولا عُمَرُ
يَعْنِي: عُمَرُ و (لا) صِلَةٌ، وأنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ لِزِيادَتِها قَوْلَ العَجّاجِ:
فِي بِئْرٍ لا حُورٍ سَرى وما شَعَرْ ∗∗∗ بِإفْكِهِ حَتّى رَأى الصُّبْحَ جَشَرْ
والحُورُ: الهَلَكَةُ، يَعْنِي: في بِئْرٍ هَلِكَةٍ و (لا) صِلَةٌ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ. وأنْشَدَ الأصْمَعِيُّ لِزِيادَتِها قَوْلَ ساعِدَةَ الهُذَلِيِّ:
أفَعَنْكَ لا بَرْقٌ كانَ ومِيضُهُ ∗∗∗ غابَ تَسَنُّمُهُ ضِرامَ مُثَقَّبِ
وَيُرْوى: أفَمِنكَ وتَشَيُّمُهُ، بَدَلَ أفَعَنْكَ وتَسَنُّمُهُ، يَعْنِي: أفَعَنْكَ بَرْقٌ، و (لا) صِلَةٌ، ومِن شَواهِدِ زِيادَتِها قَوْلُ الشّاعِرِ:
تَذَكَّرْتُ لَيْلى فاعْتَرَتْنِي صَبابَةٌ ∗∗∗ وكادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتَقَطَّعُ
يَعْنِي: كادَ يَتَقَطَّعُ، وأمّا اسْتِدْلالُ أبِي عُبَيْدَةَ لِزِيادَتِها بِقَوْلِ الشَّمّاخِ:
أعائِشُ ما لِقَوْمِكِ لا أراهم ∗∗∗ يُضِيعُونَ الهِجانَ مَعَ المُضِيعِ
فَغَلَطٌ مِنهُ، لِأنَّ لا في بَيْتِ الشَّمّاخِ هَذا نافِيَةٌ لا زائِدَةٌ، ومَقْصُودُهُ أنَّها تَنْهاهُ عَنْ حِفْظِ مالِهِ، مَعَ أنَّ أهْلَها يَحْفَظُونَ مالَهم، أيْ: لا أرى قَوْمَكِ يُضِيعُونَ مالَهم وأنْتِ تُعاتِبِينَنِي في حِفْظِ مالِي، وما ذَكَرَهُ الفَرّاءُ مِن أنَّ لَفْظَةَ لا، لا تَكُونُ صِلَةً إلّا في الكَلامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنى الجَحْدِ، فَهو أغْلَبِيٌّ لا يَصِحُّ عَلى الإطْلاقِ، بِدَلِيلِ بَعْضِ الأمْثِلَةِ المُتَقَدِّمَةِ الَّتِي لا جَحْدَ فِيها كَهَذِهِ الآيَةِ، عَلى القَوْلِ بِأنَّ لا فِيها صِلَةٌ، وكَبَيْتِ ساعِدَةَ الهُذَلِيِّ، وما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن زِيادَةِ لا في أوَّلِ الكَلامِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلا دَلِيلَ عَلَيْهِ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كِتابِنا ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ .
وَقَرَأ هَذا الحَرْفَ الكِسائِيُّ وحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ:
﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾ بِتَخْفِيفِ اللّامِ مِن قَوْلِهِ: (ألّا)، وعَلى قِراءَةِ الكِسائِيِّ هَذِهِ، فَلَفْظَةُ (ألّا) حَرْفُ اسْتِفْتاحٍ، وتَنْبِيهٍ ويا حَرْفُ نِداءٍ، والمُنادى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ألا يا هَؤُلاءِ اسْجُدُوا، واسْجُدُوا فِعْلُ أمْرٍ ومَعْلُومٌ في عِلْمِ القِراءاتِ، أنَّكَ إذا قِيلَ لَكَ: قِفْ عَلى كُلِّ كَلِمَةٍ بِانْفِرادِها في قِراءَةِ الكِسائِيِّ، أنَّكَ تَقِفُ في قَوْلِهِ:
﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾، ثَلاثَ وقَفاتٍ، الأُولى: أنْ تَقِفَ عَلى ألا. والثّانِيَةُ: أنْ تَقِفَ عَلى يا. والثّالِثَةُ: أنْ تَقِفَ عَلى اسْجُدُوا، وهَذا الوَقْفُ وقْفُ اخْتِبارٍ لا وقْفُ اخْتِيارٍ، وأمّا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، فَإنَّكَ تَقِفُ وقْفَتَيْنِ فَقَطْ: الأُولى: عَلى (ألّا)، ولا تَقِفُ عَلى أنْ لِأنَّها مُدْغَمَةٌ في لا، والثّانِيَةُ: أنَّكَ تَقِفُ عَلى يَسْجُدُوا.
واعْلَمْ أنَّهُ عَلى قِراءَةِ الكِسائِيِّ قَدْ حُذِفَ في الخَطِّ ألِفانِ، الأُولى: الألِفُ المُتَّصِلَةُ بِياءِ النِّداءِ، والثّانِيَةُ: ألِفُ الوَصْلِ في قَوْلِهِ: (اسْجُدُوا)، ووَجَّهَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إسْقاطَهُما في الخَطِّ، بِأنَّهُما لَمّا سَقَطَتا في اللَّفْظِ، سَقَطَتا في الكِتابَةِ، قالُوا: ومِثْلُ ذَلِكَ في القُرْآنِ كَثِيرٌ.
واعْلَمْ أنَّ جُمْهُورَ أهْلِ العِلْمِ عَلى ما ذَكَرْنا في قِراءَةِ الكِسائِيِّ مِن أنَّ لَفْظَةَ (ألا) لِلِاسْتِفْتاحِ والتَّنْبِيهِ، وأنَّ يا حَرْفُ نِداءٍ حُذِفَ مِنهُ الألِفُ في الخَطِّ، واسْجُدُوا فِعْلُ أمْرٍ، قالُوا: وحَذْفُ المُنادى مَعَ ذِكْرِ أداةِ النِّداءِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، ومِنهُ قَوْلُ الأخْطَلِ:
ألا يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ ∗∗∗ وإنْ كانَ حَيّانا عِدى آخِرَ الدَّهْرِ
وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ عَلى البِلا ∗∗∗ ولا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعائِكِ القَطْرُ
فَقَوْلُهُ في البَيْتَيْنِ: ألا يا اسْلَمِي، أيْ: يا هَذِهِ اسْلَمِي، وقَوْلُ الآخَرِ:
لا يا اسْلَمِي ذاتَ الدَّمالِيجِ والعِقْدِ
وَقَوْلُ الشَّمّاخِ:
ألا يا اصْبَحانِي قَبْلَ غارَةِ سِنْجالِي ∗∗∗ وقَبْلَ مَنايا قَدْ حَضَرْنَ وآجالِي
يَعْنِي: ألا يا صَحْبِي اصْبَحانِي، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الآخَرِ:
ألا يا اسْقِيانِي قَبْلَ خَيْلِ أبِي بَكْرِ
وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ:
فَقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أعِظْكَ بِخُطْبَةٍ ∗∗∗ فَقُلْتُ سَمِعْنا فانْطِقِي وأصِيبِي
يَعْنِي: ألا يا هَذا اسْمَعْ، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِحَذْفِ المُنادى مَعَ ذِكْرِ أداتِهِ، قَوْلَ الشّاعِرِ:
يا لَعْنَةُ اللَّهِ والأقْوامِ كُلِّهِمُ ∗∗∗ والصّالِحِينَ عَلى سَمْعانَ مِن جارِ
بِضَمِّ التّاءِ مِن قَوْلِهِ: لَعْنَةُ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ: فَيا لَغَيْرُ اللَّعْنَةِ، يَعْنِي أنَّ المُرادَ: يا قَوْمُ لَعْنَةُ اللَّهِ، إلى آخِرِهِ. وأنْشَدَ صاحِبُ اللِّسانِ لِحَذْفِ المُنادى، مَعَ ذِكْرِ أداتِهِ مُسْتَشْهِدًا لِقِراءَةِ الكِسائِيِّ المَذْكُورَةِ، قَوْلَ الشّاعِرِ:
يا قاتَلَ اللَّهُ صِبْيانًا تَجِيءُ بِهِمْ ∗∗∗ أُمُّ الهُنَيْنِينَ مِن زَنْدَلِها وارى
ثُمَّ قالَ: كَأنَّهُ أرادَ: يا قَوْمُ قاتَلَ اللَّهُ صِبْيانًا، وقَوْلَ الآخَرِ:
يا مَن رَأى بارِقًا أُكَفْكِفُهُ ∗∗∗ بَيْنَ ذِراعَيْ وجَبْهَةِ الأسَدِ
ثُمَّ قالَ: كَأنَّهُ دَعا يا قَوْمُ يا إخْوَتِي، فَلَمّا أقْبَلُوا عَلَيْهِ قالَ: مَن رَأى. وأنْشَدَ بَعْضُهم لِحَذْفِ المُنادى مَعَ ذِكْرِ أداتِهِ، قَوْلَ عَنْتَرَةَ في مُعَلَّقَتِهِ:
يا شاةَ ما قَنَصٍ لِمَن حَلَّتْ لَهُ ∗∗∗ حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ
قالُوا: التَّقْدِيرُ: يا قَوْمُ انْظُرُوا شاةَ ما قَنَصٍ.
واعْلَمْ أنَّ جَماعَةً مِن أهْلِ العِلْمِ، قالُوا: إنَّ يا عَلى قِراءَةِ الكِسائِيِّ، وفي جَمِيعِ الشَّواهِدِ الَّتِي ذَكَرْنا لَيْسَتْ لِلنِّداءِ، وإنَّما هي لِلتَّنْبِيهِ فَكُلٌّ مِن ألا ويا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ كُرِّرَ لِلتَّوْكِيدِ، ومِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذا القَوْلُ: أبُو الحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ، وهَذا القَوْلُ اخْتارَهُ أبُو حَيّانَ في ”البَحْرِ المُحِيطِ“، قالَ فِيهِ: والَّذِي أذْهَبُ إلَيْهِ أنَّ مِثْلَ هَذا التَّرْكِيبِ الوارِدِ عَنِ العَرَبِ لَيْسَتْ يا فِيهِ لِلنِّداءِ، وحُذِفَ المُنادى؛ لِأنَّ المُنادى عِنْدِي لا يَجُوزُ حَذْفُهُ، لِأنَّهُ قَدْ حُذِفَ الفِعْلُ العامِلُ في النِّداءِ، وانْحَذَفَ فاعِلُهُ لِحَذْفِهِ، ولَوْ حُذِفَ المُنادى لَكانَ في ذَلِكَ حَذْفُ جُمْلَةِ النِّداءِ، وحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ، وهو المُنادى، فَكانَ ذَلِكَ إخْلالًا كَبِيرًا، وإذا أبْقَيْنا المُنادى ولَمْ نَحْذِفْهُ كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى العامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّداءِ، ولَيْسَ حَرْفُ النِّداءِ حَرْفَ جَوابٍ كَنَعَمْ، ولا، وبَلى، وأجَلْ، فَيَجُوزُ حَذْفُ الجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلالَةِ ما سَبَقَ مِنَ السُّؤالِ عَلى الجُمَلِ المَحْذُوفَةِ، فَيا عِنْدِي في تِلْكَ التَّراكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ أكَّدَ بِهِ ألا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وجازَ ذَلِكَ لِاخْتِلافِ الحَرْفَيْنِ ولِقَصْدِ المُبالَغَةِ في التَّوْكِيدِ، وإذا كانَ قَدْ وجَدَ التَّوْكِيدَ في اجْتِماعِ الحَرْفَيْنِ المُخْتَلِفَيِ اللَّفْظِ، العامِلَيْنِ في قَوْلِهِ: فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بِما بِهِ، والمُتَّفِقَيِ اللَّفْظِ العامِلَيْنِ في قَوْلِهِ: ولا لَلَمّا بِهِمْ أبَدًا دَواءُ.
وَجازَ ذَلِكَ، وإنْ عَدُّوهُ ضَرُورَةً أوْ قَلِيلًا، فاجْتِماعُ غَيْرِ العامِلَيْنِ وهُما مُخْتَلِفا اللَّفْظِ يَكُونُ جائِزًا، ولَيْسَ يا في قَوْلِهِ: يا لَعْنَةُ اللَّهِ والأقْوامِ كُلِّهِمُ.
حَرْفَ نِداءٍ عِنْدِي، بَلْ حَرْفَ تَنْبِيهٍ جاءَ بَعْدَهُ المُبْتَدَأُ، ولَيْسَ مِمّا حُذِفَ مِنهُ المُنادى، لِما ذَكَرْناهُ. انْتَهى الغَرَضُ مِن كَلامِ أبِي حَيّانَ، وما اخْتارَهُ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: ومِمّا لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ عِنْدِي في قِراءَةِ الكِسائِيِّ، أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يا اسْجُدُوا فِعْلٌ مُضارِعٌ حُذِفَتْ مِنهُ نُونُ الرَّفْعِ، بِلا ناصِبٍ، ولا جازِمٍ، ولا نُونِ تَوْكِيدٍ، ولا نُونِ وِقايَةٍ.
وَقَدْ قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إنَّ حَذْفَها لا لِمُوجِبٍ مِمّا ذَكَرَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ.
قالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ مُسْلِمٍ“، في الجُزْءِ السّابِعِ عَشَرَ في صَفْحَةِ ٧٠٢، ما نَصُّهُ: قَوْلُهُ:
«يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَيْفَ يَسْمَعُوا وأنّى يُجِيبُوا وقَدْ جَيَّفُوا»، كَذا هو في عامَّةِ النُّسَخِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا، وأنّى يُجِيبُوا مِن غَيْرِ نُونٍ، وهي لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، وإنْ كانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمالِ، وسَبَقَ بَيانُها مَرّاتٍ. ومِنها الحَدِيثُ السّابِقُ في ”الإيمانِ“:
«لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتّى تُؤْمِنُوا»، انْتَهى مِنهُ. وعَلى أنَّ حَذْفَ نُونِ الرَّفْعِ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلا مانِعَ مِن أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿يَسْجُدُوا﴾، في قِراءَةِ الكِسائِيِّ فِعْلًا مُضارِعًا، ولا شَكَّ أنَّ هَذا لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وقَدِ اقْتَصَرْنا في سُورَةِ ”الحِجْرِ“، عَلى أنَّ حَذْفَها مَقْصُورٌ عَلى السَّماعِ، وذَكَرْنا بَعْضَ شَواهِدِهِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *تَنْبِيهانِ.
الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ آيَةَ ”النَّمْلِ“ هَذِهِ، مَحَلُّ سَجْدَةٍ عَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ؛ لِأنَّ قِراءَةَ الكِسائِيِّ فِيها الأمْرُ بِالسُّجُودِ، وقِراءَةَ الجُمْهُورِ فِيها ذَمُّ تارِكِ السُّجُودِ وتَوْبِيخُهُ، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ قَوْلَ الزَّجّاجِ ومَن وافَقَهُ أنَّها لَيْسَتْ مَحَلَّ سَجْدَةٍ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وإنَّما هي مَحَلُّ سُجُودٍ عَلى قِراءَةِ الكِسائِيِّ خِلافُ التَّحْقِيقِ، وقَدْ نَبَّهَ عَلى هَذا الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ.
* * *التَّنْبِيهُ الثّانِي: اعْلَمْ أنَّهُ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، لا يَحْسُنُ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ: لا يَهْتَدُونَ، وعَلى قِراءَةِ الكِسائِيِّ، يَحْسُنُ الوَقْفُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ [النمل: ٢٥] قَرَأهُ حَفْصٌ والكِسائِيُّ بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ، وقَرَأهُ الباقُونَ: يُخْفُونَ، ويُعْلِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى الغَيْبَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.