الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ﴾ . الشُّعَراءُ: جَمْعُ شاعِرٍ، كَجاهِلٍ وجُهَلاءَ، وعالِمٍ وعُلَماءَ. و ﴿يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ﴾: جَمْعُ غاوٍ وهو الضّالُّ، وقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ اتِّباعَ الشُّعَراءِ مِنِ اتِّباعِ الشَّيْطانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢] وقَرَأ هَذا الحَرْفَ نافِعٌ وحْدَهُ: يَتَّبِعُهُمُ بِسُكُونِ التّاءِ المُثَنّاةِ، وفَتْحِ الباءِ المُوَحَّدَةِ، وقَرَأهُ الباقُونَ يَتَّبِعُهُمُ بِتَشْدِيدِ المُثَنّاةِ، وكَسْرِ المُوَحَّدَةِ، ومَعْناهُما واحِدٌ. وَما ذَكَرَهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، في قَوْلِهِ: ﴿والشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ﴾، يَدُلُّ عَلى تَكْذِيبِ الكُفّارِ في دَعْواهم، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ شاعِرٌ؛ لِأنَّ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمُ الغاوُونَ، لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ مِنهم. وَيُوَضِّحُ هَذا المَعْنى ما جاءَ مِنَ الآياتِ، مُبَيِّنًا أنَّهُمُ ادَّعَوْا عَلَيْهِ ﷺ أنَّهُ شاعِرٌ وتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهم في ذَلِكَ، أمّا دَعْواهم أنَّهُ ﷺ شاعِرٌ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعالى في قَوْلِهِ عَنْهم: ﴿بَلْ قالُوا أضْغاثُ أحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شاعِرٌ﴾ الآيَةَ [الأنبياء: ٥] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَقُولُونَ أئِنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات: ٣٦] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ﴾ [الطور: ٣٠] . وأمّا تَكْذِيبُ اللَّهِ لَهم في ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما هو بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ﴾ الآيَةَ [الحاقة: ٤١] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ إنْ هو إلّا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٩٦] • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَقُولُونَ أئِنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ ﴿بَلْ جاءَ بِالحَقِّ وصَدَّقَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ٣٦ - ٣٧]؛ لِأنَّ (p-١٠٥)قَوْلَهُ تَعالى: ﴿بَلْ جاءَ بِالحَقِّ﴾ الآيَةَ، تَكْذِيبٌ لَهم في قَوْلِهِمْ إنَّهُ شاعِرٌ مَجْنُونٌ. * * * مَسْألَتانِ تَتَعَلَّقانِ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ. المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ثَبَتَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «لِأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِن أنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا»، رَواهُ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقَوْلُهُ في الحَدِيثِ: ”يَرِيهِ“ بِفَتْحِ المُثَنّاةِ التَّحْتِيَّةِ وكَسْرِ الرّاءِ بَعْدَها ياءٌ، مُضارِعُ ورى القَيْحُ جَوْفَهُ، يَرِيهِ، ورْيًا إذا أكَلَهُ وأفْسَدَهُ، والأظْهَرُ أنَّ أصْلَ وراهُ أصابَ رِئَتَهُ بِالإفْسادِ. واعْلَمْ أنَّ التَّحْقِيقَ لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ أنَّ الشِّعْرَ كَلامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وقَبِيحُهُ قَبِيحٌ. وَمِنَ الأدِلَّةِ القُرْآنِيَّةِ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَمَّ الشُّعَراءَ، بِقَوْلِهِ: ﴿يَتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ﴾ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّهم في كُلِّ وادٍ﴾ ﴿وَأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٤ - ٢٢٦] اسْتَثْنى مِن ذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، في قَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ الآيَةَ [الشعراء: ٢٢٧] . وَبِما ذَكَرْنا تَعْلَمُ أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ المُصَرِّحَ بِأنَّ امْتِلاءَ الجَوْفِ مِنَ القَيْحِ المُفْسِدِ لَهُ خَيْرٌ مِنِ امْتِلائِهِ مِنَ الشِّعْرِ، مَحْمُولٌ عَلى مَن أقْبَلَ عَلى الشِّعْرِ، واشْتَغَلَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ، وتِلاوَةِ القُرْآنِ، وطاعَةِ اللَّهِ تَعالى، وعَلى الشِّعْرِ القَبِيحِ المُتَضَمِّنِ لِلْكَذِبِ، والباطِلِ كَذِكْرِ الخَمْرِ ومَحاسِنِ النِّساءِ الأجْنَبِيّاتِ، ونَحْوِ ذَلِكَ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في الشّاعِرِ إذا اعْتَرَفَ في شِعْرِهِ بِما يَسْتَوْجِبُ حَدًّا، هَلْ يُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ ؟ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يُقامُ عَلَيْهِ لِأنَّهُ أقَرَّ بِهِ، والإقْرارُ تَثْبُتُ بِهِ الحُدُودُ. والثّانِي: أنَّهُ لا يُحَدُّ بِإقْرارِهِ في الشِّعْرِ؛ لِأنَّ كَذِبَ الشّاعِرِ في شِعْرِهِ أمْرٌ مَعْرُوفٌ مُعْتادٌ، واقِعٌ لا نِزاعَ فِيهِ. قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: أظْهَرُ القَوْلَيْنِ عِنْدِي: أنَّ الشّاعِرَ إذا أقَرَّ في شِعْرِهِ بِما يَسْتَوْجِبُ الحَدَّ، لا يُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ؛ لِأنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا صَرَّحَ هُنا بِكَذِبِهِمْ في شِعْرِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿وَأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾، فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدْرَأُ عَنْهُمُ الحَدَّ، (p-١٠٦)وَلَكِنَّ الأظْهَرَ أنَّهُ إنْ أقَرَّ بِذَلِكَ اسْتَوْجَبَ بِإقْرارِهِ بِهِ المَلامَ والتَّأْدِيبَ وإنْ كانَ لا يُحَدُّ بِهِ، كَما ذَكَرَهُ جَماعَةٌ مِن أهْلِ الأخْبارِ في قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المَشْهُورَةِ مَعَ النُّعْمانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: وقَدْ ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، ومُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ في ”الطَّبَقاتِ“، والزُّبَيْرِ بْنِ بَكّارٍ في كِتابِ الفُكاهَةِ: أنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ النُّعْمانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ عَلى مَيْسانَ مِن أرْضِ البَصْرَةِ، وكانَ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَقالَ: ؎ألا هَلْ أتى الحَسْناءَ أنَّ حَلِيلَها بِمَيْسانَ يُسْقى في زُجاجٍ وحَنْتَمِ ؎إذا شِئْتُ غَنَّتْنِي دَهاقِينُ قَرْيَةٍ ∗∗∗ ورَقّاصَةٌ تَجْذُو عَلى كُلِّ مَنسَمِ ؎فَإنْ كُنْتَ نَدْمانِي فَبِالأكْبَرِ اسْقِنِي ∗∗∗ ولا تُسْقِنِي بِالأصْغَرِ المُتَثَلِّمِ ؎لَعَلَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ∗∗∗ تَنادُمُنا بِالجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: إي واللَّهِ إنَّهُ لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ، ومَن لَقِيَهُ فَلْيُخْبِرْهُ أنِّي قَدْ عَزَلْتُهُ، وكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إلَهَ إلّا هو إلَيْهِ المَصِيرُ﴾ [غافر: ١ - ٣] أمّا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي قَوْلُكَ: ؎لَعَلَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ∗∗∗ تَنادُمُنا بِالجَوْسَقِ المُتَهَدِّمِ وايْمُ اللَّهِ إنَّهُ لَيَسُوءُنِي، وقَدْ عَزَلْتُكَ. فَلَمّا قَدِمَ عَلى عُمَرَ بَكَّتَهُ بِهَذا الشِّعْرِ، فَقالَ: واللَّهِ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ما شَرِبْتُها قَطُّ، وما ذَلِكَ الشِّعْرُ إلّا شَيْءٌ طَفَحَ عَلى لِسانِي، فَقالَ عُمَرُ: أظُنُّ ذَلِكَ، ولَكِنْ واللَّهِ لا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أبَدًا، وقَدْ قُلْتَ ما قُلْتَ، فَلَمْ يُذْكَرْ أنَّهُ حَدَّهُ عَلى الشَّرابِ، وقَدْ ضَمَّنَهُ شِعْرَهُ لِأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ولَكِنَّهُ ذَمَّهُ عُمَرُ ولامَهُ عَلى ذَلِكَ وعَزَلَهُ بِهِ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ ابْنِ كَثِيرٍ، وهَذِهِ القِصَّةُ يُسْتَأْنَسُ بِها لِما ذَكَرْنا. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُؤَرِّخِينَ أنَّ سُلَيْمانَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ، لَمّا سَمِعَ قَوْلَ الفَرَزْدَقِ: ؎فَبِتْنَ بِجانِبَيَّ مُصَرَّعاتٍ ∗∗∗ وبِتُّ أفُضُّ أغْلاقَ الخِتامِ قالَ لَهُ: قَدْ وجَبَ عَلَيْكَ الحَدُّ، فَقالَ الفَرَزْدَقُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأ اللَّهُ عَنِّي (p-١٠٧)الحَدَّ، بِقَوْلِهِ: ﴿وَأنَّهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ﴾، فَلَمْ يَحُدَّهُ مَعَ إقْرارِهِ بِمُوجِبِ الحَدِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب