الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهو الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذا عَذْبٌ فُراتٌ وهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ وجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخًا وحِجْرًا مَحْجُورًا﴾ . (p-٦٥)اعْلَمْ أنَّ لَفْظَةَ: مَرَجَ، تُطْلَقُ في اللُّغَةِ إطْلاقَيْنِ: الأوَّلُ: مَرَجَ بِمَعْنى: أرْسَلَ وخَلّى، مِن قَوْلِهِمْ: مَرَجَ دابَّتَهُ إذا أرْسَلَها إلى المَرَجِ، وهو المَوْضِعُ الَّذِي تَرْعى فِيهِ الدَّوابُّ؛ كَما قالَ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ؎وَكانَتْ لا يَزالُ بِها أنِيسٌ خِلالَ مُرُوجِها نَعَمٌ وشاءُ وَعَلى هَذا، فالمَعْنى: أرْسَلَ البَحْرَيْنِ وخَلّاهُما لا يَخْتَلِطُ أحَدُهُما بِالآخَرِ. والإطْلاقُ الثّانِي: مَرَجَ بِمَعْنى: خَلَطَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي أمْرٍ مَرِيجٍ﴾، أيْ: مُخْتَلِطٍ، فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ: فالمُرادُ بِالبَحْرَيْنِ الماءُ العَذْبُ في جَمِيعِ الدُّنْيا، والماءُ المِلْحُ في جَمِيعِها. وَقَوْلُهُ: ﴿هَذا عَذْبٌ فُراتٌ﴾، يَعْنِي: بِهِ ماءَ الآبارِ والأنْهارِ والعُيُونِ في أقْطارِ الدُّنْيا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ﴾، أيِ: البَحْرُ المِلْحُ، كالبَحْرِ المُحِيطِ وغَيْرِهِ مِنَ البِحارِ الَّتِي هي مِلْحٌ أُجاجٌ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ فَلا إشْكالَ. وَأمّا عَلى القَوْلِ الثّانِي بِأنَّ مَرَجَ بِمَعْنى خَلَطَ، فالمَعْنى: أنَّهُ يُوجَدُ في بَعْضِ المَواضِعِ اخْتِلاطُ الماءِ المِلْحِ والماءِ العَذْبِ في مَجْرًى واحِدٍ، ولا يَخْتَلِطُ أحَدُهُما بِالآخَرِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُما حاجِزٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا مُحَقَّقُ الوُجُودِ في بَعْضِ البِلادِ، ومِنَ المَواضِعِ الَّتِي هو واقِعٌ فِيها المَحَلُّ الَّذِي يَخْتَلِطُ فِيهِ نَهْرُ السِّنْغالِ بِالمُحِيطِ الأطْلَسِيِّ بِجَنْبِ مَدِينَةِ سانْ لُوِيسْ، وقَدْ زُرْتُ مَدِينَةَ سانْ لُوِيسْ عامَ سِتٍّ وسِتِّينَ وثَلاثِمِائَةٍ وألْفٍ هِجْرِيَّةً، واغْتَسَلْتُ مَرَّةً في نَهْرِ السِّنْغالِ، ومَرَّةً في المُحِيطِ، ولَمْ آتِ مَحَلَّ اخْتِلاطِهِما، ولَكِنْ أخْبَرَنِي بَعْضُ المُرافِقِينَ الثِّقاتِ أنَّهُ جاءَ إلى مَحَلِّ اخْتِلاطِهِما، وأنَّهُ جالِسٌ يَغْرِفُ بِإحْدى يَدَيْهِ عَذْبًا وفُراتًا، وبِالأُخْرى مِلْحًا أُجاجًا، والجَمِيعُ في مَجْرًى واحِدٍ، لا يَخْتَلِطُ أحَدُهُما بِالآخَرِ، فَسُبْحانَهُ جَلَّ وعَلا ما أعْظَمَهُ، وما أكْمَلَ قُدْرَتُهُ. وَهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ، جاءَ مُوَضَّحًا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ”فاطِرٍ“: ﴿وَما يَسْتَوِي البَحْرانِ هَذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ﴾ [فاطر: ١٢] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ﴾ ﴿بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ﴾ (p-٦٦)[الرحمن: ١٩ - ٢٠] أيْ: لا يَبْغِي أحَدُهُما عَلى الآخَرِ فَيَمْتَزِجَ بِهِ، وهَذا البَرْزَخُ الفاصِلُ بَيْنَ البَحْرِينِ المَذْكُورُ في سُورَةِ ”الفُرْقانِ“ و سُورَةِ ”الرَّحْمَنِ“، قَدْ بَيَّنَ تَعالى في سُورَةِ ”النَّمْلِ“ أنَّهُ حاجِزٌ حَجَزَ بِهِ بَيْنَهُما، وذَلِكَ في قَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿أمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرارًا وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا وجَعَلَ لَها رَواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجِزًا أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: ٦١] وهَذا الحاجِزُ هو اليُبْسُ مِنَ الأرْضِ الفاصِلُ بَيْنَ الماءِ العَذْبِ، والماءِ المِلْحِ عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ. وَأمّا عَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي: فَهو حاجِزٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لِلْبَشَرِ، وأكَّدَ شِدَّةَ حَجْزِهِ بَيْنَهُما بِقَوْلِهِ هُنا: ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ هُنا: حِجْرًا، أيْ: مَنعًا وحَرامًا قَدَرِيًّا، وأنْ مَحْجُورًا تَوْكِيدٌ لَهُ، أيْ: مَنعًا شَدِيدًا لِلِاخْتِلاطِ بَيْنَهُما، وقَوْلُهُ: هَذا عَذْبٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِن قَوْلِهِمْ: عَذُبَ الماءُ بِالضَّمِّ فَهو عَذْبٌ. وقَوْلُهُ: فُراتٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أيْضًا، مِن فَرُتَ الماءُ بِالضَّمِّ، فَهو فُراتٌ، إذا كانَ شَدِيدَ العُذُوبَةِ، وقَوْلُهُ: وهَذا مِلْحٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أيْضًا مِن قَوْلِهِمْ: مَلُحَ الماءُ بِالضَّمِّ والفَتْحِ، فَهو مِلْحٌ. قالَ الجَوْهَرِيُّ في ”صِحاحِهِ“: ولا يُقالُ مالِحٌ إلّا في لُغَةٍ رَدِيَّةٍ، اه. وَقَدْ أجازَ ذَلِكَ بَعْضُهم، واسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ القائِلِ: ؎وَلَوْ تَفَلَتْ في البَحْرِ والبَحْرُ مالِحٌ ∗∗∗ لَأصْبَحَ ماءُ البَحْرِ مِن رِيقِها عَذْبًا وَقَوْلُهُ: أُجاجٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أيْضًا، مِن قَوْلِهِمْ: أجَّ الماءُ يَؤُجُّ أُجُوجًا فَهو أُجاجٌ، أيْ: مِلْحٌ مُرٌّ، فالوَصْفُ بِكَوْنِهِ أُجاجًا يَدُلُّ عَلى زِيادَةِ المَرارَةِ عَلى كَوْنِهِ مِلْحًا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب