الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْواءَهم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ﴾، اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بِالحَقِّ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ بَعْضُهم: الحَقُّ: هو اللَّهُ تَعالى، ومَعْلُومٌ أنَّ الحَقَّ مِن أسْمائِهِ الحُسْنى، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ المُبِينُ﴾ [النور: ٢٥] وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ﴾ [الحج: ٦] وكَوْنُ المُرادِ بِالحَقِّ في الآيَةِ: هو اللَّهَ عَزاهُ القُرْطُبِيُّ لِلْأكْثَرِينَ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ: مُجاهِدٌ وابْنُ جُرَيْجٍ، وأبُو صالِحٍ، والسُّدِّيُّ، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، وغَيْرِهِمْ. وَعَلى هَذا القَوْلِ فالمَعْنى لَوْ أجابَهُمُ اللَّهُ إلى تَشْرِيعِ ما أحَبُّوا تَشْرِيعَهُ وإرْسالِ مَنِ اقْتَرَحُوا إرْسالَهُ، بِأنْ جَعَلَ أمْرَ التَّشْرِيعِ وإرْسالِ الرُّسُلِ ونَحْوِ ذَلِكَ تابِعًا لِأهْوائِهِمُ الفاسِدَةِ، لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ، ومَن فِيهِنَّ؛ لِأنَّ أهْواءَهُمُ الفاسِدَةَ وشَهَواتِهِمُ الباطِلَةَ، لا يُمْكِنُ أنْ تَقُومَ عَلَيْها السَّماءُ والأرْضُ وذَلِكَ لِفَسادِ أهْوائِهِمْ، واخْتِلافِها. فالأهْواءُ الفاسِدَةُ المُخْتَلِفَةُ لا يُمْكِنُ أنْ يَقُومَ عَلَيْها نِظامُ السَّماءِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، بَلْ لَوْ كانَتْ هي المُتَّبَعَةَ لَفَسَدَ الجَمِيعُ. وَمِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ أهْواءَهم لا تَصْلُحُ؛ لِأنْ تَكُونَ مُتَّبَعَةً قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]؛ لِأنَّ القُرْآنَ لَوْ أُنْزِلَ عَلى أحَدِ الرَّجُلَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، وهو كافِرٌ يَعْبُدُ الأوْثانَ فَلا فَسادَ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، وقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ الآيَةَ [الزخرف: ٣٢]، وقالَ تَعالى: ﴿قُلْ لَوْ أنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إذًا لَأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفاقِ وكانَ الإنْسانُ قَتُورًا﴾ [الأعراف: ١٠٠] وقالَ تَعالى: ﴿أمْ لَهم نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فَإذًا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ٥٣] قالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَفي هَذا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ العِبادِ، واخْتِلافُ آرائِهِمْ وأهْوائِهِمْ، وأنَّهُ تَعالى هو (p-٣٤٣)الكامِلُ في جَمِيعِ صِفاتِهِ وأقْوالِهِ وأفْعالِهِ وشَرْعِهِ وقَدَرِهِ وتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمِمّا يُوَضِّحُ أنَّ الحَقَّ لَوِ اتَّبَعَ الأهْواءَ الفاسِدَةَ المُخْتَلِفَةَ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ . القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالحَقِّ في الآيَةِ: الحَقُّ الَّذِي هو ضِدُّ الباطِلِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ قَبْلَهُ: ﴿وَأكْثَرُهم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٠] وهَذا القَوْلُ الأخِيرُ اخْتارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وأنْكَرَ الأوَّلَ. وَعَلى هَذا القَوْلِ فالمَعْنى: أنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنَ الحَقِّ مُتَّبِعًا لِأهْوائِهِمْ، الَّتِي هي الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وادِّعاءُ الأوْلادِ، والأنْدادِ لَهُ ونَحْوُ ذَلِكَ لَفَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ؛ لِأنَّ هَذا الفَرْضَ يَصِيرُ بِهِ الحَقُّ، هو أبْطَلُ الباطِلِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَقُومَ نِظامُ السَّماءِ والأرْضِ عَلى شَيْءٍ، هو أبْطَلُ الباطِلِ؛ لِأنَّ اسْتِقامَةَ نِظامِ هَذا العالَمِ لا تُمْكِنُ إلّا بِقُدْرَةِ وإرادَةِ إلَهٍ هو الحَقُّ مُنْفَرِدٌ بِالتَّشْرِيعِ، والأمْرِ والنَّهْيِ كَما لا يَخْفى عَلى عاقِلٍ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ أتَيْناهم بِذِكْرِهِمْ فَهم عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾، اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الذِّكْرِ في الآيَةِ فَمِنهم مَن قالَ: ذِكْرُهم: فَخْرُهم، وشَرَفُهم؛ لِأنَّ نُزُولَ هَذا الكِتابِ عَلى رَجُلٍ مِنهم فِيهِ لَهم أكْبَرُ الفَخْرِ والشَّرَفِ، وعَلى هَذا، فالآيَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] عَلى تَفْسِيرِ الذِّكْرِ بِالفَخْرِ والشَّرَفِ، وقالَ بَعْضُهم: الذِّكْرُ في الآيَةِ: الوَعْظُ والتَّوْصِيَةُ، وعَلَيْهِ فالآيَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ﴾ [آل عمران: ٥٨] وقالَ بَعْضُهم: الذِّكْرُ هو ما كانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ في قَوْلِهِ: ﴿لَوْ أنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿لَكُنّا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٦٨ - ١٦٩] وعَلَيْهِ، فالآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهم نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أهْدى مِن إحْدى الأُمَمِ﴾ [فاطر: ٤٢] وعَلى هَذا القَوْلِ فَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا جاءَهم نَذِيرٌ ما زادَهم إلّا نُفُورًا﴾ الآيَةَ [فاطر: ٤٢] كَقَوْلِهِ هُنا، فَهم عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ، وكَقَوْلِهِ: ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٧] والآياتُ بِمِثْلِ هَذا عَلى القَوْلِ الأخِيرِ كَثِيرَةٌ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب