الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهم بِالحَقِّ وأكْثَرُهم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾، أمِ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ هي المَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ بِأمِ المُنْقَطِعَةِ، وضابِطُها ألّا تَتَقَدَّمَ عَلَيْها هَمْزَةُ تَسْوِيَةٍ نَحْوَ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٦] أوْ هَمْزَةٌ مُغْنِيَةٌ، عَنْ لَفْظَةٍ، أيْ: كَقَوْلِكَ أزَيْدٌ عِنْدَكَ أمْ عَمْرٌو ؟ أيْ: أيُّهُما عِنْدَكَ فالمَسْبُوقَةُ (p-٣٤٠)بِإحْدى الهَمْزَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، هي المَعْرُوفَةُ عِنْدَهم بِأمِ المُتَّصِلَةِ، والَّتِي لَمْ تُسْبَقْ بِواحِدَةٍ مِنهُما هي المَعْرُوفَةُ بِالمُنْقَطِعَةِ كَما هُنا، وأمِ المُنْقَطِعَةُ تَأْتِي لِثَلاثَةِ مَعانٍ.
الأوَّلُ: أنْ تَكُونَ بِمَعْنى: بَلِ الإضْرابِيَّةِ.
الثّانِي: أنْ تَكُونَ بِمَعْنى هَمْزَةِ اسْتِفْهامِ الإنْكارِ.
الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ بِمَعْناهُما مَعًا فَتَكُونُ جامِعَةً بَيْنَ الإضْرابِ والإنْكارِ، وهَذا الأخِيرُ هو الأكْثَرُ في مَعْناها، خِلافًا لِابْنِ مالِكٍ في الخُلاصَةِ في اقْتِصارِهِ عَلى أنَّها بِمَعْنى: بَلْ في قَوْلِهِ:
؎وَبِانْقِطاعٍ وبِمَعْنى بَلْ وفَتْ إنْ تَكُ مِمّا قُيِّدَتْ بِهِ خَلَتْ
وَمُرادُهُ بِخُلُوِّها مِمّا قُيِّدَتْ بِهِ: ألّا تَسْبِقَها إحْدى الهَمْزَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، فَإنْ سَبَقَتْها إحْداهُما، فَهي المُتَّصِلَةُ كَما تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وعَلى ما ذَكَرْنا فَيَكُونُ المَعْنى مُتَضَمِّنًا لِلْإضْرابِ عَمّا قَبْلَهُ إضْرابًا انْتِقالِيًّا، مَعَ مَعْنى اسْتِفْهامِ الإنْكارِ، فَتَضَمُّنُ الآيَةِ الإنْكارَ عَلى الكُفّارِ في دَعْواهم: أنَّ نَبِيَّنا ﷺ بِهِ جِنَّةٌ أيْ: جُنُونٌ يَعْنُونَ: أنَّ هَذا الحَقَّ الَّذِي جاءَهم بِهِ هَذَيانُ مَجْنُونٍ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ ما أجْحَدَهم لِلْحَقِّ ! وما أكْفَرَهم ! ودَعْواهم عَلَيْهِ هَذِهِ أنَّهُ مَجْنُونٌ كَذَّبَها اللَّهُ هُنا بِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ جاءَهم بِالحَقِّ﴾ [المؤمنون: ٧٠] فالإضْرابُ بِبَلْ إبْطالِيٌّ.
والمَعْنى: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ بَلْ هو رَسُولٌ كَرِيمٌ جاءَكم بِالحَقِّ الواضِحِ، المُؤَيَّدِ بِالمُعْجِزاتِ الَّذِي يَعْرِفُ كُلُّ عاقِلٍ، أنَّهُ حَقٌّ، ولَكِنْ عانَدْتُمْ وكَفَرْتُمْ لِشِدَّةِ كَراهِيَتِكم لِلْحَقِّ، وما نَفَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن دَعْواهم عَلَيْهِ الجُنُونَ صَرَّحَ اللَّهُ بِنَفْيِهِ في مَواضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ﴾ [الطور: ٢٩] وهَذا الجُنُونُ الَّذِي افْتُرِيَ عَلى آخِرِ الأنْبِياءِ، افْتُرِيَ أيْضًا عَلى أوَّلِهِمْ، كَما قالَ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أنَّهم قالُوا فِيهِ: ﴿إنْ هو إلّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتّى حِينٍ﴾ [المؤمنون: ٢٥] وقَدْ بَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إلّا قالَ قَوْمُهُ: إنَّهُ ساحِرٌ، أوْ مَجْنُونٌ، كَأنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فَتَواصَوْا عَلى ذَلِكَ لِتَواطُؤِ أقْوالِهِمْ لِرُسُلِهِمْ عَلَيْهِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ ما أتى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ﴾ ﴿أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾ [الذاريات: ٥٢ - ٥٣] فَبَيَّنَ أنَّ سَبَبَ تَواطُئِهِمْ عَلى ذَلِكَ لَيْسَ التَّواصِي بِهِ؛ لِاخْتِلافِ أزْمِنَتِهِمْ، وأمْكِنَتِهِمْ، ولَكِنَّ الَّذِي جَمَعَهم عَلى ذَلِكَ هو مُشابَهَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ في الطُّغْيانِ، وقَدْ أوْضَحَ هَذا المَعْنى في سُورَةِ (p-٣٤١)البَقَرَةِ في قَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: ١١٨] فَهَذِهِ الآياتُ تَدُلُّ عَلى أنَّ سَبَبَ تَشابُهِ مَقالاتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ، هو تَشابُهُ قُلُوبِهِمْ في الكُفْرِ والطُّغْيانِ، وكَراهِيَةِ الحَقِّ وقَوْلُهُ: ﴿وَأكْثَرُهم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٠] ذَكَرَ نَحْوَ مَعْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَكم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ﴾ الآيَةَ [الحج: ٧٢] وذَلِكَ المُنْكَرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ في وُجُوهِهِمْ، إنَّما هو لِشِدَّةِ كَراهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، ومِنَ الآياتِ المُوَضِّحَةِ لِكَراهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، أنَّهم يَمْتَنِعُونَ مِن سَماعِهِ، ويَسْتَعْمِلُونَ الوَسائِلَ الَّتِي تَمْنَعُهم مِن أنْ يَسْمَعُوهُ، كَما قالَ تَعالى في قِصَّةِ أوَّلِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أرْسَلَهم بِتَوْحِيدِهِ والنَّهْيِ عَنِ الإشْراكِ بِهِ، وهو نُوحٌ: ﴿وَإنِّي كُلَّما دَعَوْتُهم لِتَغْفِرَ لَهم جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيابَهم وأصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا﴾ [نوح: ٧] وإنَّما جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ، واسْتَغْشَوْا ثِيابَهم خَوْفَ أنْ يَسْمَعُوا ما يَقُولُهُ لَهم نَبِيُّهم نُوحٌ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِنَ الحَقِّ، والدَّعْوَةِ إلَيْهِ، وقالَ تَعالى في أُمَّةِ آخِرِ الأنْبِياءِ ﷺ ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرْآنِ والغَوْا فِيهِ﴾ الآيَةَ [فصلت: ٢٦] فَتَرى بَعْضَهم يَنْهى بَعْضًا عَنْ سَماعِهِ، ويَأْمُرُهم بِاللَّغْوِ فِيهِ، كالصِّياحِ والتَّصْفِيقِ المانِعِ مِنَ السَّماعِ لِكَراهَتِهِمْ لِلْحَقِّ، ومُحاوَلَتِهِمْ أنْ يَغْلِبُوا الحَقَّ بِالباطِلِ.
وَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ سُؤالُ مَعْرُوفٍ وهو أنْ يُقالَ: قَوْلُهُ: ﴿وَأكْثَرُهم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٠] يُفْهَمُ مِن مَفْهُومِ مُخالَفَتِهِ، أنَّ قَلِيلًا مِنَ الكُفّارِ، لَيْسُوا كارِهِينَ لِلْحَقِّ، وهَذا السُّؤالُ وارِدٌ أيْضًا عَلى آيَةِ الزُّخْرُفِ الَّتِي ذَكَرْنا آنِفًا، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَكم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ [الزخرف: ٧٨] .
والجَوابُ عَنْ هَذا السُّؤالِ: هو ما أجابَ بِهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ بِأنَّ قَلِيلًا مِنَ الكُفّارِ، كانُوا لا يَكْرَهُونَ الحَقَّ، وسَبَبُ امْتِناعِهِمْ عَنِ الإيمانِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ لَيْسَ هو كَراهِيَتُهم لِلْحَقِّ، ولَكِنَّ سَبَبَهُ الأنَفَةُ والِاسْتِنْكافُ مِن تَوْبِيخِ قَوْمِهِمْ، وأنْ يَقُولُوا صَبَؤُوا وفارَقُوا دِينَ آبائِهِمْ، ومِن أمْثِلَةِ مَن وقَعَ لَهُ هَذا أبُو طالِبٍ فَإنَّهُ لا يَكْرَهُ الحَقَّ، الَّذِي جاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وقَدْ كانَ يَشُدُّ عَضُدَهُ في تَبْلِيغِهِ رِسالَتَهُ كَما قَدَّمْنا في شِعْرِهِ في قَوْلِهِ:
؎اصْدَعْ بِأمْرِكَ ما عَلَيْكَ غَضاضَةٌ
الأبْياتِ وقالَ فِيها: (p-٣٤٢)
؎وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ∗∗∗ مِن خَيْرِ أدْيانِ البَرِيَّةِ دِينًا
وَقالَ فِيهِ ﷺ أيْضًا:
؎لَقَدْ عَلِمُوا أنَّ ابْنَنا لا مُكَذَّبَ ∗∗∗ لَدَيْنا ولا يَعْنِي بِقَوْلِ الأباطِلِ
وَقَدْ بَيَّنَ أبُو طالِبٍ في شِعْرِهِ: أنَّ السَّبَبَ المانِعَ لَهُ مِنَ اعْتِناقِ الإسْلامِ لَيْسَ كَراهِيَةَ الحَقِّ، ولَكِنَّهُ الأنَفَةُ والخَوْفُ مِن مَلامَةِ قَوْمِهِ أوْ سَبِّهِمْ لَهُ كَما في قَوْلِهِ:
؎لَوْلا المَلامَةُ أوْ حَذارِ مَسَبَّةٍ ∗∗∗ لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذاكَ يَقِينًا
{"ayah":"أَمۡ یَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَاۤءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق