الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ في الدُّنْيا خِزْيٌ ونُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ﴾ . قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: الآيَةُ الأُولى الَّتِي هي ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: ٣] نازِلَةٌ في الأتْباعِ الجَهَلَةِ الَّذِينَ يُجادِلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، اتِّباعًا لِرُؤَسائِهِمْ، مِن شَياطِينِ الإنْسِ والجِنِّ، وهَذِهِ الآيَةُ الأخِيرَةُ في الرُّؤَساءِ الدُّعاةِ إلى الضَّلالِ المَتْبُوعِينَ في ذَلِكَ، ويَدُلُّ لِهَذا أنَّهُ قالَ في الأُولى: ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ﴾ [الحج: ٣] وقالَ في هَذِهِ: ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٩] فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّهُ مُضِلٌّ لِغَيْرِهِ، مَتْبُوعٌ في الكُفْرِ والضَّلالِ، عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِضَمِّ ياءِ ”يُضِلُّ“ وأمّا عَلى قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وأبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الياءِ، فَلَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى ذَلِكَ، وقَدْ قَدَّمْنا مَعْنى جِدالِ الكَفَرَةِ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ في قَوْلِهِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الحج: ٨]؛ أيْ: بِدُونِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ، حاصِلٍ لَهم بِما يُجادِلُونَ بِهِ ﴿وَلا هُدًى﴾؛ أيْ اسْتِدْلالٍ ونَظَرٍ عَقْلِيٍّ، يَهْتَدِي بِهِ العَقْلُ لِلصَّوابِ ﴿وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾؛ أيْ: وحْيٍ نَيِّرٍ واضِحٍ، يَعْلَمُ بِهِ ما يُجادِلُ بِهِ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ ولا عِلْمٌ مُكْتَسَبٌ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ العَقْلِيِّ، ولا عِلْمٌ مِن وحْيٍ، فَهو جاهِلٌ مَحْضٌ مِن جَمِيعِ الجِهاتِ، وقَوْلُهُ: ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: ٩] حالٌ مِن ضَمِيرِ الفاعِلِ المُسْتَكِنِّ في: يُجادِلُ؛ أيْ: يُخاصِمُ بِالباطِلِ في حالِ كَوْنِهِ ثانِيَ عِطْفِهِ؛ أيْ: لاوِي عُنُقِهِ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ اسْتِكْبارًا وإعْراضًا. فَقَوْلُهُ: (ثانِيَ) اسْمُ فاعِلِ ثَنى الشَّيْءَ: إذا لَواهُ، وأصْلُ العِطْفِ: الجانِبُ، وعِطْفا الرَّجُلِ: جانِباهُ مِن لَدُنْ رَأْسِهِ إلى وِرْكَيْهِ، تَقُولُ العَرَبُ: ثَنى فُلانٌ عَنْكَ عِطْفَهُ، تَعْنِي أعْرَضَ عَنْكَ. وإنَّما عَبَّرَ العُلَماءُ هُنا بِالعُنُقِ فَقالُوا: ثانِيَ عِطْفِهِ: لاوِي عُنُقِهِ، مَعَ أنَّ العِطْفَ يَشْمَلُ العُنُقَ وغَيْرَها؛ لِأنَّ أوَّلَ ما يَظْهَرُ فِيهِ الصُّدُودُ عُنُقُ الإنْسانِ، يَلْوِيها ويَصْرِفُ وجْهَهُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَيِّها. والمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إنَّ اللّامَ في قَوْلِهِ: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٩] ونَحْوِها مِنَ الآياتِ مِمّا لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ (p-٢٨١)العِلَّةُ الغائِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا﴾ . ونَحْوِ ذَلِكَ - لامُ العاقِبَةِ، والبَلاغِيُّونَ يَزْعُمُونَ أنَّ في ذَلِكَ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً، في مَعْنى الحَرْفِ. وقَدْ وعَدْنا بِإيضاحِ ذَلِكَ في سُورَةِ القَصَصِ.
وَنَقُولُ هُنا: إنَّ الظّاهِرَ في ذَلِكَ أنَّ الصَّوابَ فِيهِ غَيْرُ ما ذَكَرُوا، وأنَّ اللّامَ في الجَمِيعِ لامُ التَّعْلِيلِ، والمَعْنى واضِحٌ لا إشْكالَ فِيهِ كَما نَبَّهَ عَلَيْهِ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في مَواضِعَ مِن تَفْسِيرِهِ.
وَإيضاحُ ذَلِكَ: أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي قَدَّرَ عَلى الكافِرِ في أزَلِهِ أنْ يُجادِلَ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في حالِ كَوْنِهِ لاوِيَ عُنُقِهِ إعْراضًا عَنِ الحَقِّ، واسْتِكْبارًا. وقَدْ قَدَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِيَجْعَلَهُ ضالًّا مُضِلًّا. ولَهُ الحِكْمَةُ البالِغَةُ في ذَلِكَ،
• كَقَوْلِهِ: ﴿إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ﴾؛ أيْ: لِئَلّا يَفْقَهُوهُ. وكَذَلِكَ ﴿فالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ الآيَةَ [القصص: ٨]؛ أيْ: قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أنْ يَلْتَقِطُوهُ؛ لِأجْلِ أنْ يَجْعَلَهُ لَهم عَدُوًّا وحَزَنًا. وهَذا واضِحٌ لا إشْكالَ فِيهِ كَما تَرى. وما ذَكَرَهُ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ مِن إعْراضِ بَعْضِ الكُفّارِ عَنِ الحَقِّ واسْتِكْبارِهِمْ أوْضَحَهُ في آياتٍ أُخَرَ مِن كِتابِ اللَّهِ،
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا ولّى مُسْتَكْبِرًا كَأنْ لَمْ يَسْمَعْها﴾ [لقمان: ٧]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكم رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهم ورَأيْتَهم يَصُدُّونَ وهم مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون: ٥]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللَّهُ وإلى الرَّسُولِ رَأيْتَ المُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: ٦١]،
• وقَوْلِهِ تَعالى عَنْ لُقْمانَ في وصِيَّتِهِ لِابْنِهِ ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ﴾ الآيَةَ [لقمان: ١٨]؛ أيْ: لا تُمِلْ وجْهَكَ عَنْهُمُ اسْتِكْبارًا عَلَيْهِمْ.
• وقَوْلِهِ تَعالى عَنْ فِرْعَوْنَ ﴿وَفِي مُوسى إذْ أرْسَلْناهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ﴾ [الذاريات: ٣٨ - ٣٩] فَقَوْلُهُ: ﴿فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ﴾ بِمَعْنى: ثَنى عِطْفَهُ.
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا أنْعَمْنا عَلى الإنْسانِ أعْرَضَ ونَأى بِجانِبِهِ﴾ الآيَةَ [الإسراء: ٨٣]
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿لَهُ في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ [الحج: ٩]؛ أيْ: ذُلٌّ وإهانَةٌ. وقَدْ أذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ جادَلُوا في اللَّهِ بِغَيْرِ عَلَمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ؛ كَأبِي جَهْلِ بْنِ هِشامٍ، والنَّضْرِ بْنِ الحارِثِ بِالقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَيُفْهَمُ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ مَن ثَنى عِطْفَهُ اسْتِكْبارًا عَنِ الحَقِّ وإعْراضًا عَنْهُ عامَلَهُ (p-٢٨٢)اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَأذَلَّهُ وأهانَهُ. وذَلِكَ الذُّلُّ والإهانَةُ نَقِيضُ ما كانَ يُؤَمِّلُهُ مِنَ الكِبْرِ والعَظَمَةِ.
وَهَذا المَفْهُومُ مِن هَذِهِ الآيَةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ أُخَرُ
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ في صُدُورِهِمْ إلّا كِبْرٌ ما هم بِبالِغِيهِ﴾ [غافر: ٥٦]،
• وقَوْلِهِ في إبْلِيسَ لَمّا اسْتَكْبَرَ ﴿فاهْبِطْ مِنها فَما يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٣] والصَّغارُ: الذُّلُّ والهَوانُ، عِياذًا بِاللَّهِ مِن ذَلِكَ، كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ.
• وقَوْلِهِ: ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ﴾ [الحج: ٩]؛ أيْ: نَحْرِقُهُ بِالنّارِ، ونُذِيقُهُ ألَمَ حَرِّها يَوْمَ القِيامَةِ. وسُمِّيَ يَوْمَ القِيامَةِ؛ لِأنَّ النّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ لَهُ جَلَّ وعَلا، كَما قالَ تَعالى: ﴿ألا يَظُنُّ أُولَئِكَ أنَّهم مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المطففين: ٤ - ٦] .
{"ayah":"وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یُجَـٰدِلُ فِی ٱللَّهِ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ وَلَا هُدࣰى وَلَا كِتَـٰبࣲ مُّنِیرࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق