الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ . اللّامُ في قَوْلِهِ: لِيَشْهَدُوا [الحج: ٢٨]: هي لامُ التَّعْلِيلِ: وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ الآيَةَ [الحج: ٢٧]: أيْ إنْ تُؤَذِّنْ فِيهِمْ يَأْتُوكَ مُشاةً ورُكْبانًا، لِأجْلِ أنْ يَشْهَدُوا: أيْ يَحْضُرُوا مَنافِعَ لَهم، والمُرادُ بِحُضُورِهِمُ المَنافِعَ: حُصُولُها لَهم.
(p-١١١)وَقَوْلُهُ: مَنافِعَ جَمْعُ مَنفَعَةٍ، ولَمْ يُبَيِّنْ هُنا هَذِهِ المَنافِعَ ما هي. وقَدْ جاءَ بَيانُ بَعْضِها في بَعْضِ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ، وأنَّ مِنها ما هو دُنْيَوِيٌّ، وما هو أُخْرَوِيٌّ، أمّا الدُّنْيَوِيٌّ فَكَأرْباحِ التِّجارَةِ، إذا خَرَجَ الحاجُّ بِمالِ تِجارَةٍ مَعَهُ، فَإنَّهُ يُحْصُلُ لَهُ الرِّبْحُ غالِبًا، وذَلِكَ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ.
وَقَدْ أطْبَقَ عُلَماءُ التَّفْسِيرِ عَلى أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] أنَّهُ لَيْسَ عَلى الحاجِّ إثْمٌ ولا حَرَجٌ، إذا ابْتَغى رِبْحًا بِتِجارَةٍ في أيّامِ الحَجِّ، إنْ كانَ ذَلِكَ لا يَشْغَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، مِن أداءِ مَناسِكِهِ، كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ.
فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ فِيهِ بَيانٌ لِبَعْضِ المَنافِعِ المَذْكُورَةِ في آيَةِ ”الحَجِّ“ هَذِهِ وهَذا نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ.
وَمِنَ المَنافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ ما يُصِيبُونَهُ مِنَ البُدْنِ والذَّبائِحِ، كَما يَأْتِي تَفْصِيلُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ قَرِيبًا؛ كَقَوْلِهِ في البُدْنِ: ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ عَلى أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَكُلُوا مِنها﴾ في المَوْضِعَيْنِ، وكُلُّ ذَلِكَ نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ، وفي ذَلِكَ بَيانٌ أيْضًا لِبَعْضِ المَنافِعِ المَذْكُورَةِ في آيَةِ ”الحَجِّ“ هَذِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَتْ آيَةُ ”البَقَرَةِ“ عَلى ما فَسَّرَها بِهِ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ ومَن بَعْدَهم، واخْتارَهُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ، ووَجَّهَ اخْتِيارَهُ لَهُ، بِكَثْرَةِ الأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ: أنَّ مِنَ المَنافِعِ المَذْكُورَةِ في آيَةِ ”الحَجِّ“ غُفْرانَ ذُنُوبِ الحاجِّ، حَتّى لا يَبْقى عَلَيْهِ إثْمٌ إنْ كانَ مُتَّقِيًا رَبَّهُ في حَجِّهِ بِامْتِثالِ ما أُمِرَ بِهِ، واجْتِنابِ ما نُهِيَ عَنْهُ.
وَذَلِكَ أنَّهُ قالَ: إنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٢٠٣] أنَّ الحاجَّ يَرْجِعُ مَغْفُورًا لَهُ، ولا يَبْقى عَلَيْهِ إثْمٌ، سَواءٌ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ، أوْ تَأخَّرَ إلى الثّالِثِ، ولَكِنَّ غُفْرانَ ذُنُوبِهِ هَذا مَشْرُوطٌ بِتَقْواهُ رَبَّهُ في حَجِّهِ، كَما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾ الآيَةَ: أيْ وهَذا الغُفْرانُ لِلذُّنُوبِ، وحَطُّ الآثامِ إنَّما هو لِخُصُوصِ مَنِ اتَّقى.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ فِيها أوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ غَيْرُ هَذا.
وَمِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ مَعْناها: أنَّهُ يَغْفِرُ لِلْحاجِّ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ، سَواءٌ تَعَجَّلَ في (p-١١٢)يَوْمَيْنِ، أوْ تَأخَّرَ: عَلِيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ عُمَرَ، ومُجاهِدٌ، وإبْراهِيمُ، وعامِرٌ، ومُعاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ.
وَلَمّا ذَكَرَ أقْوالَ أهْلِ العِلْمِ فِيها قالَ: وأوْلى هَذِهِ الأقْوالِ بِالصِّحَّةِ قَوْلُ مَن قالَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَمَن تَعَجَّلَ مِن أيّامِ مِنًى الثَّلاثَةِ، فَنَفَرَ في اليَوْمِ الثّانِي، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ، يَحُطُّ اللَّهُ ذُنُوبَهُ إنْ كانَ قَدِ اتَّقى في حَجِّهِ، فاجْتَنَبَ فِيهِ ما أمَرَ اللَّهُ بِاجْتِنابِهِ، وفَعَلَ فِيهِ ما أمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهِ، وأطاعَهُ بِأدائِهِ عَلى ما كَلَّفَهُ مِن حُدُودِهِ، ومَن تَأخَّرَ إلى اليَوْمِ الثّالِثِ مِنهُنَّ، فَلَمْ يَنْفِرْ إلى النَّفْرِ الثّانِي، حَتّى نَفَرَ مِن غَدِ النَّفْرِ الأوَّلِ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ، لِتَكْفِيرِ اللَّهِ ما سَلَفَ مِن آثامِهِ، وإجْرامِهِ إنْ كانَ اتَّقى اللَّهَ في حَجِّهِ بِأدائِهِ بِحُدُودِهِ.
وَإنَّما قُلْنا: إنَّ ذَلِكَ أوْلى تَأْوِيلاتِهِ: لِتَظاهُرِ الأخْبارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ» وأنَّهُ قالَ: «تابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ فَإنَّهُما يَنْفِيانِ الذُّنُوبَ كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ» . وساقَ ابْنُ جَرِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأسانِيدِهِ أحادِيثَ دالَّةً عَلى ذَلِكَ فَفي لَفْظٍ لَهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «تابَعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فَإنَّهُما يَنْفِيانِ الفَقْرَ والذُّنُوبَ كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ ولَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوابٌ دُونَ الجَنَّةِ» . وفي لَفْظٍ لَهُ عَنْ عُمَرَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «تابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فَإنَّ المُتابَعَةَ بَيْنَهُما تَنْفِي الفَقْرَ والذُّنُوبَ كَما يَنْفِي الكِيرُ الخَبَثَ، أوْ خَبَثَ الحَدِيدِ» . وفي لَفْظٍ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا قَضَيْتَ حَجَّكَ فَأنْتَ مِثْلُ ما ولَدَتْكَ أُمُّكَ»، وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأخْبارِ الَّتِي يَطُولُ بِذِكْرِ جَمِيعِها الكِتابُ مِمّا يُنْبِئُ عَنْ أنَّ مَن حَجَّ، فَقَضاهُ بِحُدُودِهِ عَلى ما أمَرَهُ اللَّهُ، فَهو خارِجٌ مِن ذُنُوبِهِ كَما قالَ جَلَّ ثَناؤُهُ ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى﴾ اللَّهَ في حَجِّهِ، فَكانَ في ذَلِكَ مِن قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما يُوَضِّحُ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ جَلَّ وعَزَّ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ أنَّهُ خارِجٌ مِن ذُنُوبِهِ، مَحْطُوطَةً عَنْهُ آثامُهُ، مَغْفُورَةً أجْرامُهُ إلى آخِرِ كَلامِهِ الطَّوِيلِ في المَوْضُوعِ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِيهِ أنَّهُ لا وجْهَ لِقَوْلِ مَن قالَ: إنَّ المَعْنى لا إثْمَ عَلَيْهِ في تَعَجُّلِهِ، ولا إثْمَ عَلَيْهِ في تَأخُّرِهِ؛ لِأنَّ التَّأخُّرَ إلى اليَوْمِ الثّالِثِ، لا يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ فِيهِ إثْمٌ، حَتّى يُقالَ فِيهِ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾، وأنَّ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ سَبَبَ النُّزُولِ أنْ بَعْضَهم كانَ يَقُولُ: التَّعَجُّلُ لا يَجُوزُ، وبَعْضُهم يَقُولُ: التَّأخُّرُ لا يَجُوزُ.
(p-١١٣)فَمَعْنى الآيَةِ: النَّهْيُ عَنْ تَخْطِئَةِ المُتَأخِّرِ المُتَعَجِّلِ كَعَكْسِهِ: أيْ لا يُؤَثِّمَنَّ أحَدُهُما الآخَرَ، أنَّ هَذا القَوْلَ خَطَأٌ، لِمُخالَفَتِهِ لِقَوْلِ جَمِيعِ أهْلِ التَّأْوِيلِ.
والحاصِلُ: أنَّهُ أعْنِي الطَّبَرِيَّ بَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الأدِلَّةِ عَلى أنَّ مَعْنى الآيَةِ: هو ما ذَكَرَ مِن أنَّ الحاجَّ يَخْرُجُ مَغْفُورًا لَهُ، كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ، لا إثْمَ عَلَيْهِ، سَواءٌ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ، أوْ تَأخَّرَ، وقَدْ يَظْهَرُ لِلنّاظِرِ أنَّ رَبْطَ نَفْيِ الإثْمِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ بِالتَّعَجُّلِ والتَّأخُّرِ في الآيَةِ، رَبْطَ الجَزاءِ بِشَرْطِهِ يَتَبادَرُ مِنهُ أنَّ نَفْيَ الإثْمِ إنَّما هو في التَّعَجُّلِ والتَّأخُّرِ، ولَكِنَّ الأدِلَّةَ الَّتِي أقامَها أبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، عَلى المَعْنى الَّذِي اخْتارَ فِيها فِيهِ مَقْنَعٌ، وتَشْهَدُ لَها أحادِيثُ كَثِيرَةٌ، وخَيْرُ ما يُفَسَّرُ بِهِ القُرْآنُ بَعْدَ القُرْآنِ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ .
فَقَوْلُهُ في آيَةِ البَقَرَةِ هَذِهِ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾، هو مَعْنى قَوْلِهِ ﷺ: «رَجَعَ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ»، وقَوْلُهُ: ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾، هو مَعْنى قَوْلِهِ ﷺ: «مَن حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ»؛ لِأنَّ مَن لَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، هو الَّذِي اتَّقى.
وَمِن كَلامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي أشَرْنا إلَيْهِ أنَّهُ قالَ ما نَصُّهُ: فَإنْ قالَ قائِلٌ: ما الجالِبُ لِلّامِ في قَوْلِهِ: ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾ وما مَعْناها ؟
قِيلَ: الجالِبُ لَها مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾؛ لِأنَّ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ مَعْنى: حَطَطْنا ذُنُوبَهُ، وكَفَّرْنا آثامَهُ، فَكانَ في ذَلِكَ مَعْنى: جَعَلْنا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ لِمَنِ اتَّقى في اللَّهِ حَجَّهُ، وتَرَكَ ذِكْرَ ”جَعَلْنا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ“ اكْتِفاءً بِدَلالَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾، وقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي البَصْرَةِ أنَّهُ كَأنَّهُ إذا ذَكَرَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ، فَقَدْ أخْبَرَ عَنْ أمْرٍ فَقالَ: ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾ أيْ هَذا لِمَنِ اتَّقى، وأنْكَرَ بَعْضُهم ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ: وقَدْ زَعَمَ أنَّ الصِّفَةَ لا بُدَّ لَها مِن شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأنَّها لا تَقُومُ بِنَفْسِها، ولَكِنَّها فِيما زَعَمَ مِن صِلَةِ قَوْلٍ مَتْرُوكٍ.
فَكانَ مَعْنى الكَلامِ عِنْدَهُ ما قُلْنا: مِن أنَّ مَن تَأخَّرَ لا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى، وقامَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَن تَأخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ مَقامَ القَوْلِ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَعَلى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِأنَّ مَعْنى ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ في المَوْضِعَيْنِ: أنَّ الحاجَّ يُغْفَرُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ، فَلا يَبْقى عَلَيْهِ إثْمٌ، فَغُفْرانُ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ هَذا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذا التَّفْسِيرُ مِن أكْبَرِ المَنافِعِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ وعَلَيْهِ فَقَدْ بَيَّنَتْ آيَةُ ”البَقَرَةِ“ هَذِهِ بَعْضَ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ ”الحَجِّ“، وقَدْ أوْضَحَتِ السُّنَّةُ هَذا البَيانَ بِالأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ذَكَرْنا؛ كَحَدِيثِ: «مَن حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ (p-١١٤)وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» . وحَدِيثِ: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزاءٌ إلّا الجَنَّةُ»، ومِن تِلْكَ المَنافِعِ الَّتِي لَمْ يُبَيِّنْها القُرْآنُ حَدِيثُ: «إنَّ اللَّهَ يُباهِي بِأهْلِ عَرَفَةَ أهْلَ السَّماءِ» الحَدِيثَ، كَما تَقَدَّمَ. ومِن تِلْكَ المَنافِعِ الَّتِي لَمْ يُبَيِّنْها القُرْآنُ تَيَسُّرُ اجْتِماعِ المُسْلِمِينَ مِن أقْطارِ الدُّنْيا في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ، في أماكِنَ مُعَيَّنَةٍ لِيَشْعُرُوا بِالوَحْدَةِ الإسْلامِيَّةِ، ولِتُمْكِنَ اسْتِفادَةُ بَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ، فِيما يَهُمُّ الجَمِيعَ مِن أُمُورِ الدُّنْيا والدِّينِ، وبِدُونِ فَرِيضَةِ الحَجِّ، لا يُمْكِنُ أنْ يَتَسَنّى لَهم ذَلِكَ، فَهو تَشْرِيعٌ عَظِيمٌ مِن حَكِيمٍ خَبِيرٍ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾ .
قَوْلُهُ: ويَذْكُرُوا مَنصُوبٌ بِحَذْفِ النُّونِ؛ لِأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى المَنصُوبِ بِـ ”أنِ“ المُضْمَرَةِ بَعْدَ لامِ التَّعْلِيلِ، أعْنِي قَوْلَهُ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ .
وَإيضاحُ المَعْنى: وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ مُشاةً ورُكْبانًا؛ لِأجْلِ أنْ يَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهم، ولِأجْلِ أنْ يَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِإراقَةِ دِماءِ ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، مَعَ ذِكْرِهِمُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها عِنْدَ النَّحْرِ والذَّبْحِ، وظاهِرُ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا التَّقَرُّبَ بِالنَّحْرِ في هَذِهِ الأيّامِ المَعْلُوماتِ، إنَّما هو الهَدايا لا الضَّحايا؛ لِأنَّ الضَّحايا لا يُحْتاجُ فِيها إلى الأذانِ بِالحَجِّ، حَتّى يَأْتِيَ المُضَحُّونَ مُشاةً ورُكْبانًا، وإنَّما ذَلِكَ في الهَدايا عَلى ما يَظْهَرُ، ومِن هُنا ذَهَبَ مالِكٌ، وأصْحابُهُ إلى أنَّ الحاجَّ بِمِنًى لا تَلْزَمُهُ الأُضْحِيَةُ ولا تُسَنُّ لَهُ، وكُلُّ ما يَذْبَحُ في ذَلِكَ المَكانِ والزَّمانِ، فَهو يَجْعَلُهُ هَدْيًا لا أُضْحِيَةً.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ﴾ أيْ عَلى نَحْرِ وذَبْحِ ما رَزَقَهم ﴿مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾؛ لِيَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِدِمائِها؛ لِأنَّ ذَلِكَ تَقْوى مِنهم، فَهو يَصِلُ إلى رَبِّهِمْ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧]، وقَدْ بَيَّنَ في بَعْضِ المَواضِعِ أنَّهُ لا يَجُوزُ الأكْلُ مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنها؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ . وقَوْلِهِ: ﴿وَما لَكم ألّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩]، وقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ جَعَلَ الحَرَمَ المَكِّيَّ مَنسَكًا تُراقُ فِيهِ الدِّماءُ تَقْرُّبًا إلى اللَّهِ، ويُذْكَرُ عَلَيْها عِنْدَ تَذْكِيَتِها اسْمُ اللَّهِ، ولَمْ يُبَيِّنْ في هَذِهِ الآيَةِ، هَلْ وقَعَ مِثْلُ هَذا لِكُلِّ أُمَّةٍ أوْ لا، ولَكِنَّهُ بَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: أنَّهُ جَعَلَ مِثْلَ هَذا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: (p-١١٥)﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾ [الحج: ٣٤] .
وَإذا عَلِمْتَ أنَّ مِن حِكَمِ الأذانِ في النّاسِ بِالحَجِّ، لِيَأْتُوا مُشاةً، ورُكْبانًا تَقَرُّبَهم إلى رَبِّهِمْ بِدِماءِ الأنْعامِ، ذاكِرِينَ عَلَيْها اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ تَذْكِيَتِها، وأنَّ الآيَةَ أقْرَبُ إلى إرادَةِ الهَدْيِ مِن إرادَةِ الأُضْحِيَةِ، فَدُونَكَ تَفْصِيلَ أحْكامِ الهَدايا الَّتِي دَعَوْا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهم مِنها.
اعْلَمْ أوَّلًا: أنَّ الهَدْيَ قِسْمانِ: هَدْيٌ واجِبٌ، وهَدْيٌ غَيْرُ واجِبٍ، بَلْ تَطَوَّعَ بِهِ صاحِبُهُ تَقَرُّبًا بِاللَّهِ تَعالى، والأيّامُ المَعْلُوماتُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّهُ يُذْبَحُ فِيها، ويُذْكَرُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ فِيها - لِلْعُلَماءِ فِيها أقْوالٌ كَثِيرَةٌ. والتَّحْقِيقُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى: أنَّ غَيْرَ اثْنَيْنِ مِن تِلْكَ الأقْوالِ الكَثِيرَةِ باطِلٌ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وأنَّ المُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنها اثْنانِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّ الأيّامَ المَعْلُوماتِ هي أيّامُ النَّحْرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾ وذِكْرُهُمُ اللَّهَ عَلَيْها يَعْنِي: التَّسْمِيَةَ عِنْدَ تَذْكِيَتِها. فاتَّضَحَ أنَّها أيّامُ النَّحْرِ، ويَوْمانِ بَعْدَهُ، وعَلَيْهِ فَلا يَذْبَحُ الهَدْيَ، ولا الأُضْحِيَةَ في اليَوْمِ الأخِيرِ مِن أيّامِ مِنًى، الَّذِي هو اليَوْمُ الثّالِثَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ.
قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: وهَذا القَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ أحْمَدُ، وقالَ: وهو عَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ورَواهُ الأثْرَمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ مالِكٌ والثَّوْرِيُّ، ويُرْوى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: أيّامُ النَّحْرِ: يَوْمُ الأضْحى، وثَلاثَةُ أيّامٍ بَعْدَهُ. وبِهِ قالَ الحَسَنُ، وعَطاءٌ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: اخْتَلَفُوا كَمْ أيّامُ النَّحْرِ. فَقالَ مالِكٌ: ثَلاثَةٌ، يَوْمُ النَّحْرِ ويَوْمانِ بَعْدَهُ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، وأحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وأنَسِ بْنِ مالِكٍ، مِن غَيْرِ اخْتِلافٍ عَنْهُما.
وَقالَ الشّافِعِيُّ: أرْبَعَةُ أيّامٍ، يَوْمُ النَّحْرِ، وثَلاثَةٌ بَعْدَهُ، وبِهِ قالَ الأوْزاعِيُّ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - . ورُوِيَ عَنْهم أيْضًا مِثْلُ قَوْلِ مالِكٍ وأحْمَدَ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَقالَ أيْضًا: قالَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يَوْمُ (p-١١٦)أضْحى. وأجْمَعُوا عَلى أنْ لا أضْحى بَعْدَ انْسِلاخِ ذِي الحِجَّةِ، ولا يَصِحُّ عِنْدِي في هَذِهِ إلّا قَوْلانِ:
أحَدُهُما: قَوْلُ مالِكٍ والكُوفِيِّينَ.
والآخَرُ: قَوْلُ الشّافِعِيِّ، والشّامِيِّينَ، وهَذانِ القَوْلانِ مَرْوِيّانِ عَنِ الصَّحابَةِ، فَلا مَعْنى لِلِاشْتِغالِ بِما خالَفَهُما؛ لِأنَّ ما خالَفَهُما لا أصْلَ لَهُ في السُّنَّةِ، ولا في قَوْلِ الصَّحابَةِ، وما خَرَجَ عَنْ هَذَيْنَ فَمَتْرُوكٌ لَهُما، ا هـ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: في وقْتِ ذَبْحِ الهَدْيِ طَرِيقانِ: أصَحُّهُما وبِهِ قَطَعَ العِراقِيُّونَ وغَيْرُهم: أنَّهُ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ وأيّامِ التَّشْرِيقِ، والثّانِي: فِيهِ وجْهانِ أصَحُّهُما: هَذا، والثّانِي: لا يَخْتَصُّ بِزَمانٍ كَدِماءِ الجُبْرانِ. فَعَلى الصَّحِيحِ لَوْ أخَّرَ الذَّبْحَ، حَتّى مَضَتْ هَذِهِ الأيّامُ، فَإنْ كانَ الهَدْيُ واجِبًا: لَزِمَهُ ذَبْحُهُ، ويَكُونُ قَضاءً، وإنْ كانَ تَطَوُّعًا فَقَدْ فاتَ الهَدْيُ.
قالَ الشّافِعِيُّ والأصْحابُ: فَإنْ ذَبَحَهُ كانَ شاةَ لَحْمٍ لا نُسُكًا. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ عَنِ الرّافِعِيِّ: أنَّهُ في بَعْضِ المَواضِعِ مِن كِتابِهِ في بابِ صِفَةِ الحَجِّ، جَزَمَ بِأنَّهُ لا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ، وأيّامِ التَّشْرِيقِ، وأنَّهُ ذَكَرَ المَسْألَةَ عَلى الصَّوابِ في بابِ الهَدْيِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: القَوْلُ بِعَدَمِ الِاخْتِصاصِ بِيَوْمِ النَّحْرِ ويَوْمَيْنِ أوْ ثَلاثَةٍ بَعْدَهُ ظاهِرُ البُطْلانِ؛ لِأنَّ عَدَمَ الِاخْتِصاصِ يَجْعَلُ زَمَنَ النَّحْرِ مُطْلَقًا، لَيْسَ مُقَيَّدًا بِزَمانٍ، وهَذا يَرُدُّهُ صَرِيحُ قَوْلِهِ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾، فَجَعْلُ ظَرْفِهِ أيّامًا مَعْلُوماتٍ يَرُدُّ الإطْلاقَ في الزَّمَنِ رَدًّا لا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ كَما تَرى.
وَقالَ النَّوَوِيُّ أيْضًا في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: اتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى أنَّ الأيّامَ المَعْدُوداتِ هي: أيّامُ التَّشْرِيقِ، وهي ثَلاثَةُ أيّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، ا هـ.
وَلا وجْهَ لِلْخِلافِ في ذَلِكَ، مَعَ أنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى مُتَّصِلًا بِهِ: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ، والمُرادُ بِذَلِكَ: أيّامُ الرَّمْيِ الَّتِي هي أيّامُ التَّشْرِيقِ كَما تَرى، ثُمَّ قالَ النَّوَوِيُّ: وأمّا الأيّامُ المَعْلُوماتُ فَمَذْهَبُنا: أنَّها العَشْرُ الأوائِلُ مِن ذِي الحِجَّةِ إلى آخَرِ يَوْمِ النَّحْرِ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ. وعَزا ابْنُ كَثِيرٍ هَذا القَوْلَ لِابْنِ عَبّاسٍ قالَ: وعَلَّقَهُ عَنْهُ البُخارِيُّ بِصِيغَةِ الجَزْمِ، ونَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أيْضًا عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ، (p-١١٧)وَعَطاءٍ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والحَسَنِ، والضَّحّاكِ، وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ، وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ، قالَ: وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، والمَشْهُورُ عَنْ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ الأحادِيثَ الدّالَّةَ عَلى فَضْلِ الأيّامِ العَشَرَةِ الأُوَلِ مِن ذِي الحِجَّةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: تَفْسِيرُ الأيّامِ المَعْلُوماتِ في آيَةِ الحَجِّ هَذِهِ: بِأنَّها العَشْرُ الأُوَلُ مِن ذِي الحِجَّةِ إلى آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ، لا شَكَّ في عَدَمِ صِحَّتِهِ، وإنْ قالَ بِهِ مِن أجِلّاءِ العُلَماءِ، وبَعْضِ أجِلّاءِ الصَّحابَةِ مَن ذَكَرْنا.
والدَّلِيلُ الواضِحُ عَلى بُطْلانِهِ أنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أنَّها أيّامُ النَّحْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾ وهو ذِكْرُهُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَيْها عِنْدَ ذَبْحِها تَقَرُّبًا إلَيْهِ كَما لا يَخْفى، والقَوْلُ بِأنَّها العَشَرَةُ المَذْكُورَةُ، يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ العَشَرَةُ كُلُّها أيّامَ نَحْرٍ، وأنَّهُ لا نَحْرَ بَعْدَها، وكِلا الأمْرَيْنِ باطِلٌ كَما تَرى؛ لِأنَّ النَّحْرَ في التِّسْعَةِ الَّتِي قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لا يَجُوزُ والنَّحْرُ في اليَوْمَيْنِ بَعْدَهُ جائِزٌ. وكَذَلِكَ الثّالِثُ عِنْدَ مَن ذَكَرْنا، فَبُطْلانُ هَذا القَوْلِ واضِحٌ كَما تَرى. ثُمَّ قالَ النَّوَوِيُّ مُتَّصِلًا بِكَلامِهِ الأوَّلِ، وقالَ مالِكٌ: هي ثَلاثَةُ أيّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ، ويَوْمانِ بَعْدَهُ فالحادِيَ عَشَرَ، والثّانِيَ عَشَرَ عِنْدَهُ مِنَ المَعْلُوماتِ، والمَعْدُوداتِ.
وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: المَعْلُوماتُ ثَلاثَةُ أيّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ والنَّحْرِ والحادِيَ عَشَرَ. وقالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المَعْلُوماتُ أرْبَعَةٌ: يَوْمُ عَرَفَةَ والنَّحْرِ ويَوْمانِ بَعْدَهُ.
وَفائِدَةُ الخِلافِ: أنَّ عِنْدَنا يَجُوزُ ذَبْحُ الهَدايا والضَّحايا في أيّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّها، وعِنْدَ مالِكٍ لا يَجُوزُ في اليَوْمِ الثّالِثِ. هَذا كَلامُ صاحِبِ البَيانِ، انْتَهى مِنَ النَّوَوِيِّ. وقَدْ سَكَتَ عَلى كَلامِ صاحِبِ ”البَيانِ“: وهو باطِلٌ بُطْلانًا واضِحًا؛ لِأنَّ القَوْلَ بِأنَّ الأيّامَ المَعْلُوماتِ هي العَشَرَةُ الأُوَلُ، لا يَدُلُّ عَلى جَوازِ الذَّبْحِ فِيما بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأنَّهُ آخِرُها، وقَدْ يَدُلُّ عَلى جَوازِ الذَّبْحِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ في جَمِيعِ التِّسْعَةِ الأُوَلِ؛ لِأنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّ الأيّامَ المَعْلُوماتِ، هي ظَرْفُ الذَّبْحِ؛ كَما بَيَّنّا مِرارًا فَإنْ كانَتْ هي العَشَرَةُ كانَتِ العَشَرَةُ هي ظَرْفُ الذَّبْحِ. فَلا يَجُوزُ فِيما قَبْلَها ولا ما بَعْدَها، ولَكِنَّهُ يَجُوزُ في جَمِيعِها، وبُطْلانُ هَذا واضِحٌ كَما تَرى، ثُمَّ قالَ النَّوَوِيُّ مُتَّصِلًا بِكَلامِهِ السّابِقِ.
وَقالَ العَبْدَرِيُّ: فائِدَةُ وصْفِهِ بِأنَّهُ مَعْلُومٌ جَوازُ النَّحْرِ فِيهِ، وفائِدَةُ وصْفِهِ بِأنَّهُ مَعْدُودٌ انْقِطاعُ الرَّمْيِ فِيهِ. وقالَ: وبِمَذْهَبِنا قالَ أحْمَدُ، وداوُدُ، وقالَ الإمامُ أبُو إسْحاقَ الثَّعْلَبِيُّ في تَفْسِيرِهِ: قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: الأيّامُ المَعْلُوماتُ هي عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ. قالَ: وإنَّما قِيلَ (p-١١٨)لَها مَعْلُوماتٌ لِلْحِرْصِ عَلى عِلْمِها مِن أجْلِ أنَّ وقْتَ الحَجِّ في آخِرِها.
قالَ: وقالَ مُقاتِلٌ: المَعْلُوماتُ أيّامُ التَّشْرِيقِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: المَعْلُوماتُ والمَعْدُوداتُ واحِدٌ.
قُلْتُ: وكَذا نَقَلَ القاضِي أبُو الطَّيْبِ والعَبْدَرِيُّ، وخَلائِقُ - إجْماعَ العُلَماءِ عَلى أنَّ المَعْدُوداتِ هي أيّامُ التَّشْرِيقِ. وأمّا ما نَقَلَهُ صاحِبُ البَيانِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فَخِلافُ المَشْهُورِ عَنْهُ.
فالصَّحِيحُ المَعْرُوفُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ المَعْلُوماتِ أيّامُ العَشْرِ كُلِّها كَمَذْهَبِنا، وهو مِمّا احْتَجَّ بِهِ أصْحابُنا، كَما سَأذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ. واحْتَجَّ لِأبِي حَنِيفَةَ، ومالِكٍ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهم ويَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾، وأرادَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ في الأيّامِ المَعْلُوماتِ: تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعالى عَلى الذَّبْحِ، فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعالى في جَمِيعِ المَعْلُوماتِ، وعَلى قَوْلِ الشّافِعِيِّ: لا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا في يَوْمٍ واحِدٍ مِنها، وهو يَوْمُ النَّحْرِ. واحْتَجَّ أصْحابُنا بِما رَواهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: الأيّامُ المَعْلُوماتُ أيّامُ العَشْرِ، والمَعْدُوداتُ أيّامُ التَّشْرِيقِ. رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ.
واسْتَدَلُّوا أيْضًا بِما اسْتَدَلَّ بِهِ المُزَنِيُّ في مُخْتَصَرِهِ: وهو أنَّ اخْتِلافَ الأسْماءِ يَدُلُّ عَلى اخْتِلافِ المُسَمَّياتِ، فَلَمّا خُولِفَ بَيْنَ المَعْدُوداتِ والمَعْلُوماتِ في الِاسْمِ دَلَّ عَلى اخْتِلافِهِما، وعَلى ما يَقُولُ المُخالِفُونَ يَتَداخَلانِ في بَعْضِ الأيّامِ، والجَوابُ عَنِ الآيَةِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: جَوابُ المُزَنِيِّ: أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن سِياقِ الآيَةِ: وُجُودُ الذَّبْحِ في الأيّامِ المَعْلُوماتِ، بَلْ يَكْفِي وُجُودُهُ في آخِرِها وهو يَوْمُ النَّحْرِ.
قالَ المُزَنِيُّ والأصْحابُ: ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ [نوح: ١٦]، ولَيْسَ هو نُورًا في جَمِيعِها، بَلْ في بَعْضِها.
الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالذِّكْرِ في الآيَةِ الذِّكْرُ عَلى الهَدايا، ونَحْنُ نَسْتَحِبُّ لِمَن رَأى هَدْيًا أوْ شَيْئًا مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ في العَشْرِ أنْ يُكَبِّرَ، واللَّهُ أعْلَمُ. انْتَهى كَلامُ النَّوَوِيِّ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ: أنَّ مَذْهَبَ الشّافِعِيَّةِ في الأيّامِ المَعْلُوماتِ خِلافُ الصَّوابِ، وإنْ قالَ بِهِ مَن قالَ مِن أجِلّاءِ العُلَماءِ، (p-١١٩)وَأنَّ الأجْوِبَةَ الَّتِي أجابُوا بِها عَنِ الِاعْتِراضاتِ الوارِدَةِ عَلَيْهِ، لا يَنْهَضُ شَيْءٌ مِنها لِما قَدَّمْنا مِن أنَّ اللَّهَ بَيَّنَ في كِتابِهِ، أنَّ الأيّامَ المَعْلُوماتِ هي ظَرْفُ الذَّبْحِ والنَّحْرِ، فَتَفْسِيرُها بِأنَّها العَشَرَةُ الأُوَلُ، يَلْزَمُهُ جَوازُ الذَّبْحِ في جَمِيعِها، وعَدَمُ جَوازِهِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ اليَوْمِ العاشِرِ، وهَذا كُلُّهُ باطِلٌ كَما تَرى.
وَزَعْمُ المُزَنِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنَّ الآيَةَ كَقَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ - ظاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ كَوْنَ القَمَرِ كَوْكَبًا واحِدًا والسَّماواتِ سَبْعًا طِباقًا - قَرِينَةٌ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ في واحِدَةٍ مِنها دُونَ السِّتِّ الأُخْرى.
وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ﴾، فَظاهِرُهُ المُتَبادِرُ مِنهُ أنَّ جَمِيعَ الأيّامِ المَعْلُوماتِ ظَرْفٌ لِذِكْرِ اللَّهِ عَلى الذَّبائِحِ، ولَيْسَ هُنا قَرِينَةٌ تُخَصِّصُهُ بِبَعْضِها دُونَ بَعْضٍ. فَلا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِبَعْضِها، إلّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، ولَيْسَ مَوْجُودًا هُنا. وتَفْسِيرُهم ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْها، بِأنَّ مَعْناهُ: أنَّ مَن رَأى هَدْيًا أوْ شَيْئًا مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ في العَشْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ أنْ يُكَبِّرَ، وأنَّ ذَلِكَ التَّكْبِيرَ هو ذِكْرُ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ - ظاهِرُ السُّقُوطِ كَما تَرى؛ لِأنَّهُ مُخالِفٌ لِتَفْسِيرِ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ لِلْآيَةِ الكَرِيمَةِ، والتَّحْقِيقُ في تَفْسِيرِها ما هو مَشْهُورٌ عِنْدَ عامَّةِ أهْلِ التَّفْسِيرِ، وهو ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْها عِنْدَ التَّذْكِيَةِ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ مُقْتَرِنًا بِهِ: ﴿فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ﴾ الآيَةَ [الحج: ٢٨] . وقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٢١] .
وَقَوْلُهُ: ﴿وَما لَكم ألّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ [الأنعام: ١٠٩]، وتَداخُلُ الأيّامِ لا يَمْنَعُ مِن مُغايَرَتِها؛ لِأنَّ الأعَمَّيْنِ مِن وجْهٍ مُتَغايِرانِ إجْماعًا مَعَ تَداخُلِهِما في بَعْضِ الصُّوَرِ.
وَمِمّا يُبْطِلُ القَوْلَ بِأنَّ الأيّامَ المَعْلُوماتِ هي العَشَرَةُ المَذْكُورَةُ: أنَّ كَوْنَها العَشَرَةَ المَذْكُورَةَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوازِ الذَّبْحِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ اليَوْمِ العاشِرِ، وهو خِلافُ الواقِعِ لِجَوازِ الذَّبْحِ في الحادِيَ عَشَرَ والثّانِيَ عَشَرَ، بَلْ والثّالِثَ عَشَرَ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ. والتَّحْقِيقُ إنْ شاءَ اللَّهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ: أنَّ الأيّامَ المَعْدُوداتِ هي أيّامُ التَّشْرِيقِ الَّتِي هي أيّامُ رَمْيِ الجَمَراتِ. وحَكى عَلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ الإجْماعَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى مُتَّصِلًا بِهِ: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٠٣]، وأنَّ الأيّامَ المَعْلُوماتِ هي أيّامُ النَّحْرِ، فَيَدْخُلُ فِيها يَوْمُ النَّحْرِ واليَوْمانِ بَعْدَهُ، والخِلافُ في الثّالِثَ عَشَرَ، هَلْ هو مِنها كَما مَرَّ تَفْصِيلُهُ، وقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أنَّ الثّالِثَ عَشَرَ مِنها. ورَجَّحَ بَعْضُهم: أنَّهُ لَيْسَ مِنها.
(p-١٢٠)وَقَدْ قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ في تَرْجِيحِ القَوْلِ بِأنَّهُ لَيْسَ مِنها ما نَصُّهُ: ولَنا «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنِ الأكْلِ مِنَ النُّسُكِ، فَوْقَ ثَلاثٍ» وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ الذَّبْحُ مَشْرُوعًا في وقْتٍ يَحْرُمُ فِيهِ الأكْلُ، ثُمَّ نُسِخَ تَحْرِيمُ الأكْلِ، وبَقِيَ وقْتُ الذَّبْحِ بِحالِهِ، ولِأنَّ اليَوْمَ الرّابِعَ لا يَجِبُ فِيهِ الرَّمْيُ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الذَّبْحُ كالَّذِي بَعْدَهُ.
وَمِمّا رَجَّحَ بِهِ بَعْضُهم أنَّ اليَوْمَ الرّابِعَ مِنها: أنَّهُ يُؤَدِّي فِيهِ بَعْضَ المَناسِكِ: وهو الرَّمْيُ، إذا لَمْ يَتَعَجَّلْ فَهو كَسابِقِيهِ مِن أيّامِ التَّشْرِيقِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَمِمّا يُوَضِّحُ أنَّ الأيّامَ المَعْلُوماتِ هي أيّامُ النَّحْرِ، سَواءٌ قُلْنا إنَّها ثَلاثَةٌ، أوْ أرْبَعَةٌ: أنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلى أنَّها هي الَّتِي يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللَّهِ: أيْ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ، عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ.
* * *
وَإذا عَرَفْتَ كَلامَ أهْلِ العِلْمِ في الأيّامِ المَعْلُوماتِ، الَّتِي هي زَمَنُ الذَّبْحِ.
فاعْلَمْ: أنَّ العُلَماءَ اخْتَلَفُوا في لَيالِيها، هَلْ يَجُوزُ فِيها الذَّبْحُ ؟ فَذَهَبَ مالِكٌ، وأصْحابُهُ: إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ ذَبْحُ النُّسُكِ لَيْلًا، فَإنْ ذَبَحَهُ لَيْلًا لَمْ يُجْزِ، وتَصِيرُ شاةَ لَحْمٍ لا نُسُكٍ، وهو رِوايَةٌ عَنْ أحْمَدَ، وهي ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ. وذَهَبَ الشّافِعِيُّ، وأصْحابُهُ: إلى جَوازِ الذَّبْحِ لَيْلًا قالَ النَّوَوِيُّ: وبِهِ قالَ: أبُو حَنِيفَةَ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ والجُمْهُورُ وهو الأصَحُّ عَنْ أحْمَدَ.
وَحُجَّةُ مَن قالَ لا يَجُوزُ الذَّبْحُ لَيْلًا: أنَّ اللَّهَ خَصَّصَهُ بِلَفْظِ الأيّامِ في قَوْلِهِ: ﴿فِي أيّامٍ مَعْلُوماتٍ﴾ قالُوا: وذِكْرُ اليَوْمِ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَحُجَّةُ مَن أجازَهُ: أنَّ الأيّامَ تُطْلَقُ لُغَةً عَلى ما يَشْمَلُ اللَّيالِيَ، وتَخْصِيصُهُ بِالأيّامِ أحْوَطُ، لِمُطابَقَةِ لَفْظِ القُرْآنِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
وَإذا عَلِمْتَ وقْتَ نَحْرِ الهَدْيِ، وأنَّ الهَدْيَ نَوْعانِ: واجِبٌ، وغَيْرُ واجِبٍ، وهو هَدْيُ التَّطَوُّعِ، فَهَذِهِ تَفاصِيلُ أحْكامِ كُلٍّ مِنهُما.
أمّا الهَدْيُ الواجِبُ: فَهو بِالتَّقْسِيمِ الأوَّلِ نَوْعانِ:
أحَدُهُما: هَدْيٌ واجِبٌ بِالنَّذْرِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ، إنْ شاءَ اللَّهُ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩]، وهَدْيٌ واجِبٌ بِغَيْرِ النَّذْرِ، وهو أيْضًا يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ:
(p-١٢١)أحَدُهُما: الهَدْيُ المَنصُوصُ عَلَيْهِ.
والثّانِي: الهَدْيُ المَسْكُوتُ عَنْهُ، ولَكِنَّ العُلَماءَ قاسُوهُ عَلى الهَدْيِ المَنصُوصِ عَلَيْهِ.
أمّا المَنصُوصُ عَلَيْهِ فَهو أرْبَعَةُ أقْسامٍ:
الأوَّلُ: هَدْيُ التَّمَتُّعِ، ويَدْخُلُ فِيهِ القِرانُ؛ لِأنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - جاءَ عَنْهُمُ التَّصْرِيحُ، بِأنَّ اسْمَ التَّمَتُّعِ في الآيَةِ صادِقٌ بِالقِرانِ، كَما قَدَّمْناهُ واضِحًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وعِمْرانِ بْنِ حُصَيْنٍ، وغَيْرِهِما، والصَّحابَةُ هم أعْلَمُ النّاسِ بِلُغَةِ العَرَبِ وبِدَلالَةِ القُرْآنِ.
وَهَدْيُ التَّمَتُّعِ المَذْكُورُ مَنصُوصٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] .
الثّانِي: دَمُ الإحْصارِ المَنصُوصُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] .
الثّالِثُ: دَمُ جَزاءِ الصَّيْدِ المَنصُوصُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكم مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٩٥] .
الرّابِعُ: دَمُ فِدْيَةِ الأذى المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦]، وهَذِهِ الدِّماءُ الأرْبَعَةُ اثْنانِ مِنها عَلى التَّخْيِيرِ، وهُما: دَمُ الفِدْيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ. والثّانِي: جَزاءُ الصَّيْدِ، فَهو عَلى التَّخْيِيرِ أيْضًا، كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ مُسْتَوْفًى في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامًا﴾ الآيَةَ [المائدة: ٩٥] .
وَقَدْ أوْضَحْنا الكَلامَ عَلى التَّخْيِيرِ فِيهِما غايَةَ الإيضاحِ بِما أغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا، وواحِدٌ مِنَ الدِّماءِ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ عَلى التَّرْتِيبِ إجْماعًا، وهو دَمُ التَّمَتُّعِ الشّامِلِ لِلْقِرانِ؛ لِأنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أنَّهُ عَلى التَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] ثُمَّ قالَ مُبَيِّنًا التَّرْتِيبَ: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٩٦] .
والرّابِعُ: مِنَ الدِّماءِ المَذْكُورَةِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمَن قالَ: لَهُ بَدَلٌ عِنْدَ العَجْزِ عَنْهُ قالَ: هو عَلى التَّرْتِيبِ، ومَن قالَ: لا بَدَلَ لَهُ فالأمْرُ عَلى قَوْلِهِ واضِحٌ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ هُناكَ تَعَدُّدٌ، (p-١٢٢)يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ أوْ عَدَمَهُ، وهَذا القِسْمُ هو دَمُ الإحْصارِ وقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] .
والحاصِلُ: أنَّ ثَلاثَةً مِنَ الدِّماءِ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، قَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنها، بِغايَةِ الإيضاحِ، والِاسْتِيفاءِ، فَدَمُ الفِدْيَةِ قَدَّمْناهُ في مَباحِثِ آيَةِ ”الحَجِّ“ الَّتِي هي: ﴿وَأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ﴾ [الحج: ٢٧] . في جُمْلَةِ مَسائِلِ الحَجِّ، الَّتِي ذَكَرْنا في الكَلامِ عَلَيْها.
وَدَمُ جَزاءِ الصَّيْدِ قَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى في ”المائِدَةِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامًا﴾ [المائدة: ٩٥] .
وَدَمُ الإحْصارِ، قَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى في ”البَقَرَةِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ .
وَأمّا هَدْيُ التَّمَتُّعِ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَنا فِيهِ إيضاحٌ، وسَنُبَيِّنُهُ الآنَ.
أمّا التَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ فَمَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَمَرَ في أشْهُرِ الحَجِّ، ثُمَّ حَلَّ مَن عُمْرَتِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِن عامِهِ، ولَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ أنَّهُ مُتَمَتِّعٌ.
وَقَدْ بَيَّنّا أنَّ الصَّحابَةَ بَيَّنُوا أنَّهُ يَشْمَلُ القِرانَ مِن حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنهُما عُمْرَةٌ في أشْهُرِ الحَجِّ مَعَ الحَجِّ، وإنْ كانَ بَيْنَ حَقِيقَتَيْهِما اخْتِلافٌ كَما هو واضِحٌ.
اعْلَمْ أوَّلًا: أنَّ العُلَماءَ اشْتَرَطُوا لِوُجُوبِ هَدْيِ التَّمَتُّعِ شُرُوطًا:
مِنها: ما هو مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَمِنها: ما هو مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
الأوَّلُ: أنْ يَعْتَمِرَ في أشْهُرِ الحَجِّ، فَإنِ اعْتَمَرَ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ في أشْهُرِ الحَجِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ كالمُفْرِدِ، ولا يَخْفى سُقُوطُ قَوْلِ طاوُسٍ: إنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، كَما لا يَخْفى سُقُوطُ قَوْلِ الحَسَنِ: إنَّ مَنِ اعْتَمَرَ بَعْدَ النَّحْرِ فَهو مُتَمَتِّعٌ.
وَقالَ ابْنُ المُنْذِرِ: لا نَعْلَمُ أحَدًا قالَ بِواحِدٍ مِن هَذَيْنَ القَوْلَيْنِ:
قالَهُ في ”المُغْنِي“ فَإنْ أحْرَمَ بِها في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ، ولَكِنَّهُ أتى بِأفْعالِها في أشْهُرِ الحَجِّ، فَفي ذَلِكَ لِلْعُلَماءِ قَوْلانِ:
(p-١٢٣)أحَدُهُما: يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ نَظَرًا إلى أفْعالِ العُمْرَةِ الواقِعَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ.
والثّانِي: لا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ نَظَرًا إلى وُقُوعِ الإحْرامِ قَبْلَ أشْهُرِ الحَجِّ، وهو نُسُكٌ لا تَتِمُّ العُمْرَةُ بِدُونِهِ، ولِكِلَيْهِما وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، ولا نَصَّ فِيهِما، ومِمَّنْ قالَ بِأنَّهُ لا دَمَ عَلَيْهِ، وأنَّهُ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ الإمامُ أحْمَدُ.
قالَ في ”المُغْنِي“: ونُقِلَ مَعْنى ذَلِكَ عَنْ جابِرٍ، وأبِي عِياضٍ. وهو قَوْلُ إسْحاقَ، وأحَدُ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ، وقالَ طاوُسٍ: عُمْرَتُهُ في الشَّهْرِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الحَرَمَ. وقالَ الحَسَنُ، والحَكَمُ، وابْنَ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ: عُمْرَتُهُ في الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ. وقالَ عَطاءٌ: عُمْرَتُهُ في الشَّهْرِ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ، وهو قَوْلُ مالِكٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إنْ طافَ لِلْعُمْرَةِ أرْبَعَةَ أشْواطٍ، قَبْلَ أشْهُرِ الحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، وإنْ طافَ الأرْبَعَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ، فَهو مُتَمَتِّعٌ؛ لِأنَّ العُمْرَةَ صَحَّتْ في أشْهُرِ الحَجِّ، بِدَلِيلِ أنَّهُ لَوْ وطِئَ أفْسَدَها، فَأشْبَهَ إذا أحْرَمَ بِها في أشْهُرِ الحَجِّ. قالَهُ في ”المُغْنِي“ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
الشَّرْطُ الثّانِي: أنْ يَحُجَّ في نَفْسِ تِلْكَ السَّنَةِ، الَّتِي اعْتَمَرَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِنها. أمّا إذا كانَ حَجُّهُ في سَنَةٍ أُخْرى: فَلا دَمَ عَلَيْهِ.
قالَ صاحِبُ ”المُهَذَّبِ“: وذَلِكَ لِما رَوى سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ قالَ: كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَعْتَمِرُونَ في أشْهُرِ الحَجِّ فَإذا لَمْ يَحُجُّوا مِن عامِهِمْ ذَلِكَ، لَمْ يُهْدُوا، قالَ: ولِأنَّ الدَّمَ إنَّما يَجِبُ لِتَرْكِ الإحْرامِ بِالحَجِّ مِنَ المِيقاتِ، وهَذا لَمْ يَتْرُكِ الإحْرامَ بِالحَجِّ مِنَ المِيقاتِ، فَإنَّهُ إنْ أقامَ بِمَكَّةَ صارَتْ مَكَّةُ مِيقاتَهُ، وإنْ رَجَعَ إلى بَلَدِهِ، وعادَ فَقَدْ أحْرَمَ مِنَ المِيقاتِ. وقالَ النَّوَوِيُّ في ”الأثَرِ المَذْكُورِ“: المَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ حَسَنٌ، رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادٍ حَسَنٍ، ولا يَخْفى سُقُوطُ قَوْلِ الحَسَنِ: إنَّهُ مُتَمَتِّعٌ وإنْ لَمْ يَحُجَّ مِن عامِهِ.
الشَّرْطُ الثّالِثُ: أنْ لا يَعُودَ إلى بَلَدِهِ، أوْ ما يُماثِلُهُ في المَسافَةِ. وقالَ بَعْضُهم: يَكْفِي في هَذا الشَّرْطِ أنْ يَرْجِعَ إلى مِيقاتِهِ فَيُحْرِمَ بِالحَجِّ مِنهُ، وبَعْضُهم يَكْتَفِي بِمَسافَةِ القَصْرِ بَعْدَ العُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمُ لِلْحَجِّ مِن مَسافَةِ القَصْرِ.
والحاصِلُ: أنَّ الأئِمَّةَ الأرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ السَّفَرَ بَعْدَ العُمْرَةِ، والإحْرامَ بِالحَجِّ مِن مُنْتَهى ذَلِكَ السَّفَرِ مُسْقِطٌ لِدَمِ التَّمَتُّعِ، إلّا أنَّهم مُخْتَلِفُونَ في قَدْرِ المَسافَةِ، فَمِنهم مَن يَقُولُ: لا بُدَّ أنْ يَرْجِعَ بَعْدَ العُمْرَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ إلى المَحَلِّ الَّذِي جاءَ مِنهُ، ثُمَّ يُنْشِئَ سَفَرًا لِلْحَجِّ ويُحْرِمَ مِنَ المِيقاتِ. وبَعْضُهم يَقُولُ: يَكْفِيهِ أنْ يَرْجِعَ إلى بَلَدِهِ أوْ يُسافِرَ مَسافَةً (p-١٢٤)مُساوِيَةً لِمَسافَةِ بَلَدِهِ، وبَعْضُهم يَكْفِي عِنْدَهُ سَفَرُ مَسافَةِ القَصْرِ، وبَعْضُهم يَقُولُ: يَكْفِيهِ أنْ يَرْجِعَ لِإحْرامِ الحَجِّ إلى مِيقاتِهِ، وقَدْ قَدَّمْنا أقْوالَهم مُفَصَّلَةً، ودَلِيلُهم في ذَلِكَ ما فَهِمُوهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩٦] قالُوا: لا فَرْقَ بَيْنَ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، وبَيْنَ غَيْرِهِمْ، إلّا أنَّ غَيْرَهم تَرَفَّهُوا بِإسْقاطِ أحَدِ السَّفَرَيْنِ الَّذِي هو السَّفَرُ لِلْحَجِّ، بَعْدَ السَّفَرِ لِلْعُمْرَةِ، وإنْ سافَرَ لِلْحَجِّ بَعْدَ العُمْرَةِ زالَ السَّبَبُ، فَسَقَطَ الدَّمُ بِزَوالِهِ، وعَضَّدُوا ذَلِكَ بِآثارٍ رَوَوْها، عَنْ عُمَرَ وابْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - وقَدْ قَدَّمْنا قَوْلَيِ العُلَماءِ في الشَّيْءِ الَّذِي تَرْجِعُ إلَيْهِ الإشارَةُ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩٦] وناقَشْنا أدِلَّتَهُما، وبَيَّنّا أنَّهُ عَلى القَوْلِ الَّذِي يَراهُ البُخارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومَن وافَقَهُ: أنَّ الإشارَةَ راجِعَةٌ إلى نَفْسِ التَّمَتُّعِ وأنَّ أهْلَ مَكَّةَ لا مُتْعَةَ لَهم أصْلًا، فَلا دَلِيلَ في الآيَةِ عَلى أقْوالِ الأئِمَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا، وعَلى القَوْلِ الآخَرِ أنَّ الإشارَةَ راجِعَةٌ إلى حُكْمِ التَّمَتُّعِ، وهو لُزُومُ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ والصَّوْمِ عِنْدَ العَجْزِ عَنْهُ، لا نَفْسُ التَّمَتُّعِ، فاسْتِدْلالُ الأئِمَّةِ بِها عَلى الأقْوالِ المَذْكُورَةِ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَما تَرى.
والحاصِلُ أنَّ اسْتِدْلالَهم بِها إنَّما يَصِحُّ عَلى أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ في مَرْجِعِ الإشارَةِ في الآيَةِ، وقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى.
والأحْوَطُ عِنْدِي: إراقَةُ دَمِ التَّمَتُّعِ، ولَوْ سافَرَ؛ لِعَدَمِ صَراحَةِ دَلالَةِ الآيَةِ في إسْقاطِهِ، ولِلِاحْتِمالِ الآخَرِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ البُخارِيُّ والحَنَفِيَّةُ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ. ومِمَّنْ قالَ بِذَلِكَ الحَسَنُ، واخْتارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ لِعُمُومِ الآيَةِ، قالَهُ في ”المُغْنِي“ . والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
الشَّرْطُ الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ مِن غَيْرِ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، فَأمّا إذا كانَ مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ فَلا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ .
وَأظْهَرُ أقْوالِ أهْلِ العِلْمِ عِنْدِي في المُرادِ بِحاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ: أنَّهم أهْلُ الحَرَمِ ومَن بَيْنَهُ وبَيْنَهُ مَسافَةٌ لا تُقْصَرُ فِيها الصَّلاةُ؛ لِأنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ، قَدْ يُطْلَقُ كَثِيرًا ويُرادُ بِهِ الحَرَمُ كُلُّهُ. ومَن عَلى مَسافَةٍ دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ، فَهو كالحاضِرِ، ولِذا تُسَمّى صَلاتُهُ إنْ سافَرَ مِنَ الحَرَمِ، إلى تِلْكَ المَسافَةِ صَلاةَ حاضِرٍ، فَلا يَقْصُرُها، لا صَلاةَ مُسافِرٍ، حَتّى يُشْرَعَ لَهُ قَصْرُها فَظَهَرَ دُخُولُهُ في اسْمِ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، بِناءً عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ جَمِيعُ الحَرَمِ، وهو الأظْهَرُ خِلافًا لِمَن خَصَّهُ بِمَكَّةَ، ومَن خَصَّهُ بِالحَرَمِ، ومَن عَمَّمَهُ في كُلِّ ما دُونُ المِيقاتِ، (p-١٢٥)وَقَدْ عَلِمْتَ أنَّ هَذا الشَّرْطَ إنَّما يَتَمَشّى عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ في الآيَةِ.
الشَّرْطُ الخامِسُ: ما قالَ بِهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: مِن أنَّهُ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ بِالحَجِّ إلى العُمْرَةِ عِنْدَ الإحْرامِ بِالعُمْرَةِ. قالَ: لِأنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عِبادَتَيْنِ في وقْتِ إحْداهُما، فافْتَقَرَ إلى نِيَّةِ الجَمْعِ كالجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، وعَلى الِاشْتِراطِ المَذْكُورِ فَمَحِلُّ نِيَّةِ التَّمَتُّعِ هو وقْتُ الإحْرامِ بِالعُمْرَةِ.
وَقالَ بَعْضُهم: لَهُ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ، ما لَمْ يَفْرَغْ مِن أعْمالِ العُمْرَةِ كالخِلافِ في وقْتِ نِيَّةِ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فَقالَ بَعْضُهم: يَنْوِي عِنْدَ ابْتِداءِ الأُولى مِنهُما، وقالَ بَعْضُهم: لَهُ نِيَّتُهُ ما لَمْ يَفْرَغْ مِنَ الصَّلاةِ الأُولى، هَكَذا قالَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وعَلَيْهِ فَلَوِ اعْتَمَرَ في أشْهُرِ الحَجِّ، وهو لا يَنْوِي الحَجَّ في تِلْكَ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعْدَ الفَراغِ مِنَ العُمْرَةِ بَدا لَهُ أنْ يَحُجَّ في تِلْكَ السَّنَةِ، فَلا دَمَ تَمَتُّعٍ عَلَيْهِ، واشْتِراطُ النِّيَّةِ المَذْكُورُ عَزاهُ صاحِبُ ”الإنْصافِ“ لِلْقاضِي، وأكْثَرِ الحَنابِلَةِ، وحَكى عَدَمَ الِاشْتِراطِ بِـ ”قِيلَ“ ثُمَّ قالَ: واخْتارَهُ ”المُصَنِّفُ“، و ”الشّارِحُ“، وقَدَّمَهُ في ”المُحَرَّرِ والفائِقِ“، والظّاهِرُ سُقُوطُ هَذا الشَّرْطِ، وأنَّهُ مَتى حَجَّ بَعْدَ أنِ اعْتَمَرَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِن تِلْكَ السَّنَةِ فَعَلَيْهِ الهَدْيُ، لِظاهِرِ عُمُومِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، فَتَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ، بَلْ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ: ويُؤَيِّدُهُ أنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدَّمِ: أنَّهُ تَرَفَّهَ بِإسْقاطِ سَفَرِ الحَجِّ، وتِلْكَ العِلَّةُ مَوْجُودَةٌ في هَذِهِ الصُّورَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
الشَّرْطُ السّادِسُ: هو ما اشْتَرَطَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن كَوْنِ الحَجِّ والعُمْرَةِ المَذْكُورَيْنِ عَنْ شَخْصٍ واحِدٍ، كَأنْ يَعْتَمِرُ بِنَفْسِهِ ويَحُجُّ بِنَفْسِهِ، وكُلُّ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لا عَنْ غَيْرِهِ أوْ يَحُجُّ شَخْصٌ، ويَعْتَمِرُ عَنْ شَخْصٍ واحِدٍ. أمّا إذا حَجَّ عَنْ شَخْصٍ، واعْتَمَرَ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ، أوِ اعْتَمَرَ عَنْ شَخْصٍ، وحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أوِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وحَجَّ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ، فَهَلْ يَلْزَمُ دَمُ التَّمَتُّعِ نَظَرًا إلى أنَّ مُؤَدِّيَ النُّسُكَيْنِ شَخْصٌ واحِدٌ أوْ لا يَلْزَمُ نَظَرًا إلى أنَّ الحَجَّ وقَعَ عَنْ شَخْصٍ والعُمْرَةَ وقَعَتْ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ فَهو كَما لَوْ فَعَلَهُ شَخْصانِ فَحَجَّ أحَدُهُما، واعْتَمَرَ الآخَرُ، وإذًا فَلا تَمَتُّعَ عَلى أحَدِهِما، وكِلاهُما لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الشّافِعِيَّةِ: هو عَدَمُ اشْتِراطِ هَذا الشَّرْطِ نَظَرًا إلى اتِّحادِ فاعِلِ النُّسُكِ، ومُقابِلُهُ المَرْجُوحُ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ نَظَرًا إلى أنَّ الحَجَّ عَنْ شَخْصٍ، والعُمْرَةَ عَنْ آخَرَ، ومَذْهَبُ مالِكٍ في هَذا قَرِيبٌ مِن مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ في وُجُودِ الخِلافِ وتَرْجِيحِ عَدَمِ الِاشْتِراطِ.
قالَ الشَّيْخُ المَوّاقُ في شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ، في عِدَّةِ شُرُوطِ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ، وفي شَرْطِ كَوْنِهِما عَنْ واحِدٍ تَرَدَّدٌ، ما نَصُّهُ: ذَكَرَ ابْنُ شاسٍ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَكُونُ (p-١٢٦)بِها مُتَمَتِّعًا: أنْ يَقَعَ النُّسُكانِ عَنْ شَخْصٍ واحِدٍ: ابْنُ عَرَفَةَ لا أعْرِفُ هَذا، بَلْ في كِتابِ مُحَمَّدٍ مَنِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِن عامِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَتَمَتُّعٌ. وقالَ الشَّيْخُ الحَطّابُ في شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ المَذْكُورِ ما نَصُّهُ: أشارَ بِالتَّرَدُّدِ لِتَرَدُّدِ المُتَأخِّرِينَ في النَّقْلِ، فالَّذِي نَقَلَهُ صاحِبُ النَّوادِرِ وابْنُ يُونُسَ واللَّخْمِيُّ عَدَمُ اشْتِراطِ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ الحاجِبِ: الأشْهَرُ اشْتِراطُ كَوْنِهِما عَنْ واحِدٍ، وحَكى ابْنُ شاسٍ في ذَلِكَ قَوْلَيْنِ قالَ في ”التَّوْضِيحِ“: لَمْ يَعْزُهُما ولَمْ يُعَيِّنِ المَشْهُورَ مِنهُما، ولَمْ يَحْكِ صاحِبُ النَّوادِرِ وابْنُ يُونُسَ، إلّا ما وقَعَ في المُوازِيَةِ أنَّهُ تَمَتُّعٌ. انْتَهى. وقالَ في مَناسِكِهِ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ كَلامَ ابْنِ الحاجِبِ خَلِيلٍ: ولَمْ أرَ في ابْنِ يُونُسَ وغَيْرِهِ، إلّا القَوْلَ بِوُجُوبِ الدَّمِ.
وَقالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وشَرْطُ ابْنِ شاشٍ كَوْنُهُما عَنْ واحِدٍ، ونَقَلَ ابْنُ حاجِبٍ: لا أعْرِفُهُ، بَلْ في كِتابِ مُحَمَّدٍ مَنِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِن عامِهِ عَنْ غَيْرِهِ مُتَمَتِّعٌ فَما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ مِنَ التَّرَدُّدِ صَحِيحٌ. لَكِنَّ المَعْرُوفَ عَدَمُ اشْتِراطِ ذَلِكَ وعادَتُهُ أنْ يُشِيرَ بِالتَّرَدُّدِ لِما لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيحٌ.
وَقالَ ابْنُ جَماعَةَ الشّافِعِيُّ في مَنسِكِهِ الكَبِيرِ: لا يُشْتَرَطُ أنْ يَقَعَ النُّسُكانِ عَنْ واحِدٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الشّافِعِيَّةِ، وهو قَوْلُ الحَنَفِيَّةِ ورِوايَةُ ابْنِ المَوّازِ، عَنْ مالِكٍ، وعَلى ذَلِكَ جَرى جَماعَةٌ مِن أئِمَّةِ المالِكِيَّةِ مِنهُمُ الباجِيُّ، والطَّرْطُوشِيُّ، ومِنَ الشّافِعِيَّةِ مَن شَرَطَ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ الحاجِبِ: إنَّهُ الأشْهَرُ مِن مَذْهَبٍ مالِكٍ، وتَبِعَ ابْنَ الحاجِبِ في اشْتِراطِ ذَلِكَ صاحِبُ الجَواهِرِ، وقَوْلُهُ: إنَّهُ الأشْهَرُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإنَّ القَرافِيَّ في الذَّخِيرَةِ ذَكَرَ ما سِوى هَذا الشَّرْطِ، وقالَ: إنَّ صاحِبَ الجَواهِرِ زادَ هَذا الشَّرْطَ، ولَمْ يَعْزُهُ لِغَيْرِهِ. انْتَهى كَلامُ الحَطّابِ، والظّاهِرُ مِنَ النُّقُولِ الَّتِي نَقَلَها أنَّ عَدَمَ اشْتِراطِ كَوْنِ النُّسُكَيْنِ عَنْ واحِدٍ: هو المَعْرُوفُ في مَذْهَبِ مالِكٍ، وهو كَذَلِكَ، ومَذْهَبُ أحْمَدَ قَرِيبٌ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ والشّافِعِيِّ، فَفِيهِ خِلافٌ أيْضًا، هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ النُّسُكَيْنِ عَنْ واحِدٍ أوْ لا يُشْتَرَطُ ؟ وعَدَمُ اشْتِراطِهِ عَلَيْهِ الأكْثَرُ مِنَ الحَنابِلَةِ، وعَزاهُ في ”الإنْصافِ“ لِبَعْضِ الأصْحابِ، قالَ مِنهُمُ المُنْصِفُ، والمَجْدُ، قالَهُ: الزَّرْكَشِيُّ، واقْتَصَرَ عَلَيْهِ في الفُرُوعِ، وعَزا مُقابِلَهُ لِصاحِبِ ”التَّلْخِيصِ“، وقَدْ قَدَّمْنا في كَلامِ ابْنِ جَماعَةَ الشّافِعِيِّ أنَّ عَدَمَ اشْتِراطِ كَوْنِ النُّسُكَيْنِ، عَنْ شَخْصٍ واحِدٍ هو مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ أيْضًا، فَظَهَرَ أنَّ المَشْهُورَ في المَذاهِبِ الأرْبَعَةِ عَدَمُ اشْتِراطِ هَذا الشَّرْطِ، وقَوْلُ مَنِ اشْتَرَطَهُ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
الشَّرْطُ السّابِعُ: أنْ يُحِلَّ مِنَ العُمْرَةِ قَبْلَ إحْرامِهِ بِالحَجِّ، فَإنْ أحْرَمَ قَبْلَ حَلِّهِ مِنها صارَ (p-١٢٧)قارِنًا، كَما وقَعَ لِعائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في حَجَّةِ الوَداعِ عَلى التَّحْقِيقِ كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ.
* * *
الشَّرْطُ الثّامِنُ: هو ما اشْتَرَطَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن كَوْنِهِ لا يُعَدُّ مُتَمَتِّعًا، حَتّى يُحْرِمَ بِالعُمْرَةِ مِنَ المِيقاتِ، فَإنْ أحْرَمَ بِها مِن دُونِ المِيقاتِ صارَ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ؛ لِأنَّهُ كَأنَّهُ مِن حاضِرِي المَسْجِدُ الحَرامِ، ولا يَخْفى سُقُوطُ هَذا الشَّرْطِ.
قالَ صاحِبُ ”الإنْصافِ“: لَمّا ذُكِرَ هَذا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ أبُو الفَرَجِ والحُلْوانِيُّ وجَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ في التَّذْكِرَةِ، وقَدَّمَهُ في الفُرُوعِ. وقالَ القاضِي وابْنُ عَقِيلٍ: وجَزَمَ بِهِ في المُسْتَوْعِبِ والتَّلْخِيصِ والرِّعايَةِ وغَيْرِهِمْ: إنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَكَّةَ مَسافَةُ قَصْرٍ، فَأحْرَمَ مِنهُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ المُتْعَةِ؛ لِأنَّهُ مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، بَلْ دَمُ مُجاوَزَةِ المِيقاتِ. واخْتارَ المُصَنِّفُ والشّارِحُ وغَيْرُهُما، أنَّهُ إذا أحْرَمَ بِالعُمْرَةِ مِن دُونِ المِيقاتِ: يَلْزَمُهُ دَمانِ، دَمُ المُتْعَةِ ودَمُ الإحْرامِ مِن دُونِ المِيقاتِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُقِمْ ولَمْ يَنْوِها بِهِ، ولَيْسَ بِساكِنٍ، ورَدُّوا ما قالَهُ القاضِي. انْتَهى مِنهُ، وهَذا الأخِيرُ هو الظّاهِرُ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَقالَ صاحِبُ الإنْصافِ بَعْدَ كَلامِهِ هَذا مُتَّصِلًا بِهِ.
قالَ المُصَنِّفُ والشّارِحُ: ولَوْ أحْرَمَ الآفاقِيُّ بِعُمْرَةٍ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ ثُمَّ أقامَ بِمَكَّةَ واعْتَمَرَ مِنَ التَّنْعِيمِ، فَهو مُتَمَتِّعٌ نُصَّ عَلَيْهِ، وفي نَصِّهِ عَلى هَذِهِ الصُّورَةِ تَنْبِيهٌ عَلى إيجابِ الدَّمِ في الصُّورَةِ الأوْلى بِطَرِيقِ الأوْلى. انْتَهى مِنهُ. ولا يَنْبَغِي أنْ يَخْتَلِفَ في واحِدَةٍ مِنهُما لِدُخُولِهِما صَرِيحًا في عُمُومِ آيَةِ التَّمَتُّعِ، كَما تَرى. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
واعْلَمْ أنَّ مَن يُعْتَدُّ بِهِ مِن أهْلِ العِلْمِ: أجْمَعُوا عَلى أنَّ القارِنَ يَلْزَمُهُ ما يَلْزَمُ المُتَمَتِّعِ مِنَ الهَدْيِ، والصَّوْمِ عِنْدَ العَجْزِ عَنِ الهَدْيِ، وقَدْ قَدَّمْنا الرِّواياتِ الصَّحِيحَةَ الثّابِتَةَ عَنْ بَعْضِ أجِلّاءِ الصَّحابَةِ، بِأنَّ القِرانَ داخِلٌ في اسْمِ التَّمَتُّعِ، وعَلى هَذا فَهو داخِلٌ في عُمُومِ الآيَةِ، وكِلا النُّسُكَيْنِ فِيهِ تَمَتُّعٌ لُغَةً؛ لِأنَّ التَّمَتُّعَ مِنَ المَتاعِ أوِ المُتْعَةِ، وهو الِانْتِفاعُ أوِ النَّفْعُ ومِنهُ قَوْلُهُ:
؎وَقَفْتُ عَلى قَبْرٍ غَرِيبٍ بِقَفْرَةٍ مَتاعٌ قَلِيلٌ مِن حَبِيبٍ مُفارِقِ
جَعَلَ اسْتِئْناسَهُ بِقَبْرِهِ مَتاعًا لِانْتِفاعِهِ بِذَلِكَ الِاسْتِئْناسِ، وكُلٌّ مِنَ القارِنِ والمُتَمَتِّعِ، انْتَفَعَ بِإسْقاطِ أحَدِ السَّفَرَيْنِ وانْتَفَعَ القارِنُ عِنْدَ الجُمْهُورِ بِانْدِراجِ أعْمالِ العُمْرَةِ في الحَجِّ.
وَقالَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: إنَّ القِرانَ لَمْ يَدْخُلْ في عُمُومِ الآيَةِ بِحَسْبِ مَدْلُولِ لَفْظِها، وهو الأظْهَرُ؛ لِأنَّ الغايَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ تَدُلُّ عَلى (p-١٢٨)ذَلِكَ، والَّذِينَ قالُوا هَذا قالُوا: هو مُلْحَقٌ بِهِ في حُكْمِهِ؛ لِأنَّهُ في مَعْناهُ. وعَلى أنَّ القارِنَ يَلْزَمُهُ ما يَلْزَمُ المُتَمَتِّعَ، عامَّةُ العُلَماءِ، مِنهُمُ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ، إلّا مَن شَذَّ شُذُوذًا لا عِبْرَةَ بِهِ. ولَيْسَ كُلُّ خِلافٍ جاءَ مُعْتَبَرًا إلّا خِلافًا لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ
قالَ في ”الإنْصافِ“: وسَألَهُ - يَعْنِي الإمامَ أحْمَدَ - ابْنُ مُشَيْشٍ: القارِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ وُجُوبًا ؟ فَقالَ: كَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ وُجُوبًا، وإنَّما شَبَّهُوهُ بِالمُتَمَتِّعِ، قالَ في الفُرُوعِ، فَتَتَوَجَّهُ مِنهُ رِوايَةُ لا يَلْزَمُهُ دَمٌ. انْتَهى مِنهُ.
وَلا يَخْفى أنَّ مَذْهَبَ أحْمَدَ مُخالِفٌ لِما زَعَمُوهُ رِوايَةً، وأنَّ القارِنَ كالمُتَمَتِّعِ في الحُكْمِ. وقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: ولا نَعْلَمُ في وُجُوبِ الدَّمِ عَلى القارِنِ خِلافًا إلّا ما حُكِيَ عَنْ داوُدَ أنَّهُ لا دَمَ عَلَيْهِ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طاوُسٍ. وحَكى ابْنُ المُنْذِرِ أنَّ ابْنَ داوُدَ لَمّا دَخَلَ مَكَّةَ، سُئِلَ عَنِ القارِنِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ ؟ فَقالَ: لا، فَجَرَّ بِرِجْلِهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى شُهْرَةِ الأمْرِ بَيْنَهم. انْتَهى مِنهُ. وذَكَرَ النَّوَوِيُّ أنَّ العَبْدَرِيَّ حَكى هَذا القَوْلَ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرَيْجٍ. والتَّحْقِيقُ خِلافُهُ، وأنَّهُ يَلْزَمُهُ ما يَلْزَمُ المُتَمَتِّعَ.
وَمِنَ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ. حَدِيثُ عائِشَةَ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وفِيهِ: «فَدَخَلَ عَلَيْنا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ: ما هَذا ؟ فَقِيلَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أزْواجِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قالَ المَجْدُ في ”المُنْتَقى“: وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى الأكْلِ مِن دَمِ القِرانِ؛ لِأنَّ عائِشَةَ كانَتْ قارِنَةً. انْتَهى مِنهُ. وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ القارِنَ عَلَيْهِ دَمٌ. واللَّهُ أعْلَمُ.
وَمِن أصْرَحِ الأدِلَّةِ في ذَلِكَ: ما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، عَنْ جابِرٍ بِلَفْظِ: «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ عائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ» ومَعْلُومٌ أنَّها كانَتْ قارِنَةً، عَلى التَّحْقِيقِ فَتِلْكَ البَقَرَةُ دَمُ قِرانٍ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى لُزُومِهِ، وما ذَكَرَهُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“، مِن أنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وعُمْرَتِهِ فَلْيُهْرِقْ دَمًا» لَمْ أعْرِفْ لَهُ أصْلًا، والظّاهِرُ أنَّهُ لا يَصِحُّ مَرْفُوعًا. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ: عَلى أنَّ القارِنَ إنْ كانَ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، أنَّهُ لا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أوْ في حُكْمِ المُتَمَتِّعِ، واللَّهُ يَقُولُ: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ .
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ. وقالَ ابْنُ الماجِشُونَ: عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أسْقَطَ الدَّمَ عَنِ المُتَمَتِّعِ، وهَذا لَيْسَ مُتَمَتِّعًا، ولَيْسَ هَذا بِصَحِيحٍ، فَإنَّنا (p-١٢٩)ذَكَرْنا أنَّهُ مُتَمَتِّعٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، فَهو مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ، ووُجُوبُ الدَّمِ عَلى القارِنِ، إنَّما كانَ بِمَعْنى النَّصِّ عَلى التَّمَتُّعِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُخالِفَ الفَرْعُ أصْلَهُ. انْتَهى مِنهُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: حاصِلُ هَذا الكَلامِ أنَّ القارِنَ كالمُتَمَتِّعِ في أنَّ كُلًّا مِنهُما إنْ كانَ مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، لا دَمَ عَلَيْهِ، وذَكَرَ صاحِبُ ”المُغْنِي“ أنَّ ابْنَ الماجِشُونِ خالَفَ في ذَلِكَ، وقالَ: عَلَيْهِ دَمٌ، ولَهُ وجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ: أنَّهُ يَكْفِيهِ طَوافٌ واحِدٌ وسَعْيٌ واحِدٌ لِحَجِّهِ وعُمْرَتِهِ. فَقَدِ انْتَفَعَ بِإسْقاطِ عَمَلِ أحَدِ النُّسُكَيْنِ، ولُزُومُ الدَّمِ في مُقابِلِ ذَلِكَ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَما تَرى.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: قالَ أصْحابُنا: ولا يَجِبُ عَلى حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ دَمُ القِرانِ، كَما لا يَجِبُ عَلى المُتَمَتِّعِ، هَذا هو المَذْهَبُ، وبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ. وحَكى الحَنّاطِيُّ والرّافِعِيُّ وجْهًا: أنَّهُ يَلْزَمُهُ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ. وهَذا الوَجْهُ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ هو قَوْلُ ابْنِ الماجِشُونِ مِنَ المالِكِيَّةِ، كَما ذَكَرَهُ صاحِبُ ”المُغْنِي“، ومَذْهَبُ مالِكٍ، وأصْحابِهِ، كَمَذْهَبِ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ، في أنَّ القارِنَ إنْ كانَ مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، لا دَمَ عَلَيْهِ، وحاضِرُوا المَسْجِدِ عِنْدَ مالِكٍ وأصْحابِهِ أهْلُ مَكَّةَ، وذِي طَوًى.
قالَ الشَّيْخُ الحَطّابُ في شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ: وشَرْطُ دَمِهِما عَدَمُ إقامَتِهِ بِمَكَّةَ أوْ ذِي طُوًى. . . إلَخْ، ما نَصُّهُ: وذُو طُوًى هو ما بَيْنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ مِنها إلى مَقْبَرَةِ مَكَّةَ المُسَمّاةِ بِالمَعْلاةِ، والثَّنِيَّةُ الأُخْرى الَّتِي إلى جِهَةِ الزّاهِرِ وتُسَمّى عِنْدَ أهْلِ مَكَّةَ بَيْنَ الحَجُونَيْنِ انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ مَذْهَبَ أبِي حَنِيفَةَ، وأصْحابِهِ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ ونَحْوَهم مِمَّنْ دُونَ المِيقاتَ: لا تُشْرَعُ لَهُمُ العُمْرَةَ أصْلًا فَلا تَمَتُّعَ لَهم ولا قِرانَ، بِناءً عَلى رُجُوعِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ لِنَفْسِ التَّمَتُّعِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ، مَعَ أنَّهم يَقُولُونَ: إنَّهم إنْ تَمَتَّعُوا أوْ قَرَنُوا أساءُوا وانْعَقَدَ إحْرامُهم، ولَزِمَهم دَمُ الجَبْرِ، وهَذا الدَّمُ عِنْدَهم دَمُ جِنايَةٍ لا يَأْكُلُ صاحِبُهُ مِنهُ، بِخِلافِ دَمِ التَّمَتُّعِ والقِرانِ مِن غَيْرِ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، فَهو عِنْدَهم دَمُ نُسُكٍ، يَجُوزُ لِصاحِبِهِ الأكْلُ مِنهُ، ونَقَلَ بَعْضُ الحَنَفِيَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ لا مُتْعَةَ لَهم. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ رَأْيُ البُخارِيِّ.
واعْلَمْ أنّا قَدَّمْنا أنَّ مِن شُرُوطِ وُجُوبِ دَمِ التَّمَتُّعِ: ألّا يَرْجِعَ بَعْدَ العُمْرَةِ إلى بَلَدِهِ أوْ مَسافَةِ مِثْلِهِ، أوْ يُسافِرَ مَسافَةَ القَصْرِ عَلى ما بَيَّنّا هُناكَ مِن أقْوالِ الأئِمَّةِ في ذَلِكَ، وأرَدْنا أنْ (p-١٣٠)نَذْكُرَ هُنا حُكْمَ القارِنِ إذا أتى بِأفْعالِ العُمْرَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلى بَلَدِهِ، ثُمَّ حَجَّ مِن عامِهِ، أوْ سافَرَ مَسافَةَ القَصْرِ، ثُمَّ أحْرَمَ بِالحَجِّ مِنَ المِيقاتِ، هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِذَلِكَ كالتَّمَتُّعِ أوْ لا ؟ . ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ الدَّمَ لا يَسْقُطُ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ إلى بَلَدِهِ بَعْدَ إتْيانِهِ بِأفْعالِ العُمْرَةِ، إنْ رَجَعَ وحَجَّ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَزَلْ قارِنًا.
وَقالَ صاحِبُ ”الإنْصافِ“ في الكَلامِ عَلى القارِنِ: لا يَلْزَمُ الدَّمُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، كَما قالَ المُصَنِّفُ: وقالَهُ في الفُرُوعِ وغَيْرِهِ، وقالَ: والقِياسُ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مَن سافَرَ سَفَرَ قَصْرٍ أوْ إلى المِيقاتِ، إنْ قُلْنا بِهِ، كَظاهِرِ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ، وكَلامُهم يَقْتَضِي لُزُومَهُ؛ لِأنَّ اسْمَ القِرانِ باقٍ بَعْدِ السَّفَرِ، بِخِلافِ التَّمَتُّعِ انْتَهَـى مِنهُ.
وَحاصِلُ كَلامِهِ أنَّ ظاهِرَ كَلامِ الحَنابِلَةِ أنَّ السَّفَرَ بَعْدَ وُصُولِ مَكَّةَ، لا يُسْقِطُ دَمَ القِرانِ، وأنَّ مُقْتَضى القِياسِ أنَّهُ يُسْقِطُهُ إلْحاقًا لَهُ بِالتَّمَتُّعِ، وقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: لَوْ دَخَلَ القارِنُ مَكَّةَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ عادَ إلى المِيقاتِ، فالمَذْهَبُ: أنَّهُ لا دَمَ عَلَيْهِ في الإمْلاءِ، وقَطَعَ بِهِ كَثِيرُونَ أوِ الأكْثَرُونَ، وصَحَّحَهُ الحَنّاطِيُّ وآخَرُونَ. وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ: إنْ قُلْنا المُتَمَتِّعُ إذا أحْرَمَ بِالحَجِّ ثُمَّ عادَ إلَيْهِ لا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فَهُنا أوْلى، وإلّا فَوَجْهانِ: والفَرْقُ أنَّ اسْمَ القِرانِ لا يَزُولُ بِالعَوْدِ، بِخِلافِ التَّمَتُّعِ، ولَوْ أحْرَمَ بِالعُمْرَةِ مِنَ المِيقاتِ، ودَخَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى المِيقاتِ قَبْلَ طَوافِهِ فَأحْرَمَ بِالحَجِّ، فَهو قارِنٌ.
قالَ الدّارِمِيُّ في آخِرِ بابِ الفَواتِ: إنْ قُلْنا إذا أحْرَمَ بِهِما جَمِيعًا، ثُمَّ رَجَعَ سَقَطَ الدَّمُ فَهُنا أوْلى، وإلّا فَوَجْهانِ. انْتَهى مِنهُ.
وَظاهِرُ كَلامِ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ المالِكِيِّ أنَّ السَّفَرَ لا يُسْقِطُ دَمَ القِرانِ والحاصِلُ: أنّا بَيَّنّا اخْتِلافَ أهْلِ العِلْمِ في السَّفَرِ بَعْدَ أفْعالِ العُمْرَةِ أوْ بَعْدَ دُخُولِ مَكَّةَ، هَلْ يُسْقِطُ دَمَ القِرانِ أوْ لا ؟ وبَيَّنّا قَوْلَ صاحِبِ ”الإنْصافِ“ أنَّ سُقُوطَهُ بِالسَّفَرِ، هو مُقْتَضى قِياسِهِ عَلى التَّمَتُّعِ.
وَأقْرَبُ الأقْوالِ عِنْدِي لِلصَّوابِ أنَّ دَمَ القِرانِ لا يُسْقِطُهُ السَّفَرُ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ الأحْوَطَ عِنْدَنا أنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ لا يُسْقِطُهُ السَّفَرُ؛ لِتَصْرِيحِ القُرْآنِ بِوُجُوبِ الهَدْيِ عَلى المُتَمَتِّعِ، وعَدَمِ صَراحَةِ الآيَةِ في سُقُوطِهِ بِالسَّفَرِ. وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ لُزُومَ الدَّمِ لِلْقارِنِ الَّذِي هو مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ؛ لِأنَّهُ اكْتَفى عَنِ النُّسُكَيْنِ بِعَمَلِ أحَدِهِما عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، كَما تَقَدَّمَ.
(p-١٣١)وَأظْهَرُ قَوْلَيْ أهْلِ العِلْمِ عِنْدَنا أنَّ المَكِّيَّ إذا أرادَ الإحْرامَ بِالقِرانِ، أحْرَمَ بِهِ مِن مَكَّةَ؛ لِأنَّهُ يَخْرُجُ في حَجِّهِ إلى عَرَفَةَ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الحِلِّ والحَرَمِ، خِلافًا لِمَن قالَ: يَلْزَمُ المَكِّيَّ إنْشاءُ إحْرامِهِ مِن أدْنى الحِلِّ وكَذَلِكَ الآفاقِيُّ، إذا كانَ في مَكَّةَ، وأرادَ أنْ يُحْرِمَ قارِنًا، فالأظْهَرُ أنَّهُ يُحْرِمُ بِالقِرانِ مِن مَكَّةَ، خِلافًا لِمَن قالَ: يُحْرِمُ بِهِ مِن أدْنى الحِلِّ لِما بَيَّنّا. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
وَإذا عَرَفْتَ الشُّرُوطَ الَّتِي بِها يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ والقِرانِ، فاعْلَمْ أنا أرَدْنا هُنا أنْ نُبَيِّنَ ما يُجْزِئُ فِيهِ، فالتَّحْقِيقُ أنَّهُ ما تَيَسَّرَ مِنَ الهَدْيِ، وأقَلُّهُ شاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً، وأعْلاهُ بَدَنَةٌ، وأوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، والتَّحْقِيقُ أنَّ سُبْعَ بَدَنَةٍ أوْ بَقَرَةٍ يَكْفِي، فَلَوِ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ مِنَ المُتَمَتِّعِينَ في بَدَنَةٍ أوْ بَقَرَةٍ وذَبَحُوها أجْزَأتْ عَنْهم، لِلنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ؛ كَحَدِيثِ جابِرٍ الثّابِتِ في الصَّحِيحِ قالَ: «أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ نَشْتَرِكَ في الإبِلِ والبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنّا في بَدَنَةٍ» وفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ قالَ: ”«اشْتَرَكْنا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في الحَجِّ والعُمْرَةِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنّا في بَدَنَةٍ“، فَقالَ رَجُلٌ لِجابِرٍ: أيُشْتَرَكُ في البَقَرَةِ ما يُشْتَرَكُ في الجَزُورِ ؟ فَقالَ: ما هي إلّا مِنَ البُدْنِ» .
قالَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا مالِكٌ (ح)، وحَدَّثَنا يَحْيى بْنُ يَحْيى. واللَّفْظُ لَهُ، قالَ: قَرَأْتُ عَلى مالِكٍ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: «نَحَرْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عامَ الحُدَيْبِيَةِ البَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ والبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . وفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جابِرٍ قالَ: «خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ، فَأمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ نَشْتَرِكَ في الإبِلِ والبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنّا في بَدَنَةٍ» وفي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أيْضًا، قالَ: «حَجَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَحَرْنا البَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ والبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . وفي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أيْضًا قالَ: «اشْتَرَكْنا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في الحَجِّ والعُمْرَةِ، كُلُّ سَبْعَةٍ في بَدَنَةٍ ”فَقالَ رَجُلٌ لِجابِرٍ: أيُشْتَرَكُ في البَدَنَةِ ما يُشْتَرَكُ في الجَزُورِ ؟ قالَ: ما هي إلّا مِنَ البُدْنِ»، وحَضَرَ جابِرٌ الحُدَيْبِيَةَ، قالَ:“ نَحَرْنا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَدَنَةً اشْتَرَكْنا كُلُّ سَبْعَةٍ في بَدَنَةٍ ”. وفي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ، وهو يُحَدِّثُ عَنْ حُجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:“ «فَأمَرَنا إذا أحْلَلْنا أنْ نُهْدِيَ ويَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنّا في الهَدِيَّةِ»؛ وذَلِكَ حِينَ أمَرَهم أنَّ يُحِلُّوا مِن حَجِّهِمْ في هَذا الحَدِيثِ. وفي لَفْظٍ لَهُ عَنْهُ أيْضًا قالَ: «كُنّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَذْبَحُ البَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ نَشْتَرِكُ فِيها» . انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
وَهَذِهِ الرِّواياتُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ: عَلى أنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ يَكْفِي فِيهِ الِاشْتِراكُ بِالسَّبْعِ في بَدَنَةٍ، أوْ بَقَرَةٍ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ داخِلٌ فِيما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ. أمّا الشّاةُ والبَدَنَةُ كامِلَةً (p-١٣٢)فَإجْزاءُ كُلٍّ مِنهُما لا إشْكالَ فِيهِ. وقالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، أخْبَرَنا النَّضْرُ، أخْبَرَنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنا أبُو جَمْرَةَ قالَ: سَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - عَنِ المُتْعَةِ ؟ فَأمَرَنِي بِها، وسَألْتُهُ عَنِ الهَدْيِ فَقالَ: فِيها جَزُورٌ أوْ بَقَرَةٌ، أوْ شاةٌ، أوْ شِرْكٌ في دَمٍ. الحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ: أوْ شِرْكٌ في دَمٍ: يَعْنِي بِهِ ما بَيَّنَتْهُ الرِّواياتُ المَذْكُورَةُ الصَّحِيحَةُ. عَنْ جابِرٍ أنَّ البَدَنَةَ والبَقَرَةَ كِلْتاهُما تَكْفِي عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ المُتَمَتِّعِينَ، وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في شَرْحِ هَذا الحَدِيثِ: وهَذا مُوافِقٌ لِما رَواهُ مُسْلِمٌ عَنْ جابِرٍ قالَ: «خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ فَأمَرَنا أنْ نَشْتَرِكَ في الإبِلِ والبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنّا في بَدَنَةٍ»، ثُمَّ قالَ وبِهَذا قالَ الشّافِعِيُّ والجُمْهُورُ، سَواءٌ كانَ الهَدْيُ تَطَوُّعًا أوْ واجِبًا، وسَواءٌ كانُوا كُلُّهم مُتَقَرِّبِينَ بِذَلِكَ، أوْ كانَ بَعْضُهم يُرِيدُ التَّقَرُّبَ، وبَعْضُهم يُرِيدُ اللَّحْمَ. وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ في الِاشْتِراطِ أنْ يَكُونُوا كُلُّهم مُتَقَرِّبِينَ بِالهَدْيِ، وعَنْ زُفَرَ مِثْلُهُ بِزِيادَةٍ: أنْ تَكُونَ أسْبابُهم واحِدَةً، وعَنْ داوُدَ وبَعْضِ المالِكِيَّةِ: يَجُوزُ في هَدْيِ التَّطَوُّعِ، دُونَ الواجِبِ، وعَنْ مالِكٍ: لا يَجُوزُ مُطْلَقًا انْتَهى مِنهُ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ سُبْعَ البَدَنَةِ وسُبْعَ البَقَرَةِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَقُومُ مَقامَ الشّاةِ، ويَدْخُلُ في عُمُومِ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، والرِّواياتُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنا حُجَّةٌ عَلى كُلِّ مَن خالَفَ ذَلِكَ كَمالِكٍ ومَن وافَقَهُ، وما احْتَجَّ بِهِ إسْماعِيلُ القاضِي لِمالِكٍ، مِن أنَّ الِاشْتِراكَ في الهَدْيِ، لا يَصِحُّ مِن أنَّ حَدِيثَ جابِرٍ، إنَّما كانَ بِالحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ كانُوا مُحْصَرِينَ. وأنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ خالَفَ فِيهِ أبُو جَمْرَةَ عَنْهُ ثِقاتِ أصْحابِهِ، فَرَوَوْا عَنْهُ أنَّ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ: شاةٌ، ثُمَّ ساقَ ذَلِكَ عَنْهم بِأسانِيدَ صَحِيحَةٍ مَرْدُودَةٍ. أمّا دَعْوى أنَّ حَدِيثَ جابِرٍ إنَّما كانَ بِالحُدَيْبِيَةِ، حَيْثُ كانُوا مُحْصَرِينَ، فَهي مَرْدُودَةٌ، بِما ثَبَتَ في الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ في مُسْلِمٍ الَّتِي سُقْناها بِألْفاظِها: أنَّهُمُ اشْتَرَكُوا الِاشْتِراكَ المَذْكُورَ مَعَهُ ﷺ أيْضًا في حَجِّهِ، ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ بِحَجِّهِ حَجَّةُ الوَداعِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الهِجْرَةِ حَجَّةً غَيْرَها. وفي بَعْضِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ، عِنْدَ مُسْلِمٍ الَّتِي سُقْناها بِألْفاظِها آنِفًا التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ الِاشْتِراكِ في الحَجَّةِ المَذْكُورَةِ، كَما هو واضِحٌ مِن ألْفاظِ مُسْلِمٍ الَّتِي ذَكَرْناها. وأمّا دَعْوى مُخالَفَةِ أبِي جَمْرَةَ في ذِكْرِهِ الِاشْتِراكَ المَذْكُورَ ثِقاتِ أصْحابِ ابْنِ عَبّاسٍ، فَهي مَرْدُودَةٌ أيْضًا، بِما ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“، حَيْثُ قالَ: ولَيْسَ بَيْنَ رِوايَةِ أبِي جَمْرَةَ، ورِوايَةِ غَيْرِهِ مُنافاةٌ؛ لِأنَّهُ زادَ عَلَيْهِمْ ذِكْرَ الِاشْتِراكِ، ووافَقَهم عَلى ذِكْرِ الشّاةِ، وإنَّما أرادَ ابْنُ عَبّاسٍ بِالِاقْتِصارِ عَلى الشّاةِ الرَّدَّ عَلى مَن زَعَمَ اخْتِصاصَ الهَدْيِ بِالإبِلِ والبَقَرِ. وذَلِكَ واضِحٌ فِيما سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذا، إلى (p-١٣٣)أنْ قالَ: وبِهَذا تَجْتَمِعُ الأخْبارُ، وهو أوْلى مِنَ الطَّعْنِ في رِوايَةِ مَن أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى تَوْثِيقِهِ، وهو أبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ كانَ لا يَرى التَّشْرِيكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لَمّا بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ، وذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ رُجُوعَ ابْنِ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، عَنْ أحْمَدَ بِسَنَدِهِ مِن طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَأظْهَرُ قَوْلَيْ أهْلِ العِلْمِ عِنْدِي أنَّ البَدَنَةَ لا تُجْزِئُ عَنْ أكْثَرِ مِن سَبْعَةٍ، وذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ: أنَّها تُجْزِئُ عَنْ عَشَرَةٍ. قالَ: وبِهِ قالَ إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ، وابْنُ خُزَيْمَةَ مِنَ الشّافِعِيَّةِ. واحْتَجَّ لِذَلِكَ في صَحِيحِهِ، وقَوّاهُ واحْتَجَّ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِحَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «أنَّهُ ﷺ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ»، الحَدِيثَ. وهو في الصَّحِيحَيْنِ.
وَأجْمَعُوا عَلى أنَّ الشّاةَ: لا يَصِحُّ الِاشْتِراكُ فِيها، وقَوْلُهُ: ”أوْ شاةٌ“ هو قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ. ورَواهُ الطَّبَرِيُّ وابْنُ أبِي حاتِمٍ بِأسانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهم، ورُوِيا بِإسْنادٍ قَوِيٍّ عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عائِشَةَ، وابْنِ عُمَرَ: أنَّهُما كانا لا يَرَيانِ ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾: إلّا مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ، ووافَقَهُما القاسِمُ، وطائِفَةٌ. قالَ إسْماعِيلُ القاضِي في الأحْكامِ لَهُ: أظُنُّ أنَّهم ذَهَبُوا إلى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ﴾ [الحج: ٣٦] فَذَهَبُوا إلى تَخْصِيصِ ما يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ البُدْنِ، قالَ: ويَرُدُّ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ في الظَّبْيِ شاةٌ، فَوَقَعَ عَلَيْها اسْمُ هَدْيٍ.
قُلْتُ: قَدِ احْتَجَّ بِذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ، فَأخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الهَدْيُ شاةٌ. فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقالَ: أنا أقْرَأُ عَلَيْكم مِن كِتابِ اللَّهِ ما تُقِرُّونَ بِهِ، ما في الظَّبْيِ ؟ قالُوا: شاةٌ، قالَ: فَإنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ . اهـ مِن فَتْحِ البارِي.
وَقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ ”البَقَرَةِ“: أنَّهُ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ: «أهْدى ﷺ مَرَّةً غَنَمًا»، وهو نَصٌّ صَحِيحٌ عَنْها صَرِيحٌ في تَسْمِيَةِ الغَنَمِ هَدْيًا كَما تَرى.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّهُ هو الصَّوابُ في هَدْيِ التَّمَتُّعِ، الَّذِي نَصَّ اللَّهُ في كِتابِهِ عَلى أنَّهُ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ: أنَّهُ شاةٌ، أوْ بَدَنَةٌ، أوْ بَقَرَةٌ. ويَكْفِي في ذَلِكَ سُبْعُ البَدَنَةِ وسُبْعُ البَقَرَةِ، عَنِ المُتَمَتِّعِ الواحِدِ، وتَكْفِي البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةِ مُتَمَتِّعِينَ لِثُبُوتِ الرِّواياتِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ، ولَمْ يَقُمْ مِن كِتابِ اللَّهِ، ولا سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ نَصٌّ (p-١٣٤)صَرِيحٌ في مَحَلِّ النِّزاعِ يُقاوِمُها، ورِوايَةُ جابِرٍ أنَّ البَدَنَةَ تَكْفِي في الهَدْيِ، عَنْ سَبْعَةٍ أخَصُّ في مَحَلِّ النِّزاعِ مِن حَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «أنَّهُ ﷺ جَعَلَ البَعِيرَ في القِسْمَةِ يَعْدِلُ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ»؛ لِأنَّ هَذا في القِسْمَةِ، وحَدِيثُ جابِرٍ في خُصُوصِ الهَدْيِ، والأخَصُّ في مَحَلِّ النِّزاعِ مُقَدَّمٌ عَلى الأعَمِّ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَمِمّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ ما ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”الفَتْحِ“ في شَرْحِ حَدِيثِ رافِعٍ المَذْكُورِ، وقَدْ أوْرَدَهُ البُخارِيُّ في كِتابِ الذَّبائِحِ، عَنْ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بِلَفْظٍ، قالَ: «كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بِذِي الحُلَيْفَةِ فَأصَبْنا إبِلًا وغَنَمًا، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ في أُخْرَياتِ النّاسِ فَعَجَّلُوا فَنَصَبُوا القُدُورَ، فَدَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ إلَيْهِمْ فَأمَرَ بِالقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَّمَ فَعَدَلَ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ فَنَّدَ مِنها بَعِيرٌ»، الحَدِيثَ.
وَنَصُّ كَلامِ ابْنِ حَجَرٍ في هَذا الحَدِيثِ: وهَذا مَحْمُولٌ عَلى أنَّ هَذا كانَ قِيمَةَ الغَنَمِ إذْ ذاكَ، فَلَعَلَّ الإبِلَ كانَتْ قَلِيلَةً، أوْ نَفِيسَةً، والغَنَمُ كانَتْ كَثِيرَةً، أوْ هَزِيلَةً بِحَيْثُ كانَتْ قِيمَةُ البَعِيرِ عَشْرَ شِياهٍ، ولا يُخالِفُ ذَلِكَ القاعِدَةَ في الأضاحِيِّ، مِن أنَّ البَعِيرَ يُجْزِئُ عَنْ سَبْعِ شِياهٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ هو الغالِبُ في قِيمَةِ الشّاةِ والبَعِيرِ المُعْتَدِلَيْنِ. وأمّا هَذِهِ القِسْمَةُ، فَكانَتْ واقِعَةَ عَيْنٍ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّعْدِيلُ لِما ذُكِرَ مِن نَفاسَةِ الإبِلِ، دُونَ الغَنَمِ.
وَحَدِيثُ جابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ صَرِيحٌ في الحُكْمِ، حَيْثُ قالَ فِيهِ: «أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ نَشْتَرِكَ في الإبِلِ والبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنّا في بَدَنَةٍ» والبَدَنَةُ تُطْلَقُ عَلى النّاقَةِ، والبَقَرَةِ.
وَأمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ: «كُنّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في سَفَرٍ فَحَضَرَ الأضْحى فاشْتَرَكْنا في البَقَرَةِ تِسْعَةٌ، وفي البَدَنَةِ عَشَرَةٌ» فَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ، وعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ هَذا. والَّذِي يَتَحَرَّرُ في هَذا أنَّ الأصْلَ أنَّ البَعِيرَ بِسَبْعٍ ما لَمْ يَعْرِضْ عارِضٌ مِن نَفاسَةٍ، ونَحْوِها، فَيَتَغَيَّرُ الحُكْمُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وبِهَذا تَجْتَمِعُ الأخْبارُ الوارِدَةُ في ذَلِكَ، ثُمَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ القِسْمَةِ المَذْكُورَةِ، أنَّها وقَعَتْ فِيما عَدا ما طُبِخَ وأُرِيقَ مِنَ الإبِلِ والغَنَمِ، الَّتِي كانُوا غَنِمُوها، ويُحْتَمَلُ إنْ كانَتِ الواقِعَةُ تَعَدَّدَتْ أنْ تَكُونَ القِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَها ابْنُ عَبّاسٍ، أُتْلِفَ فِيها اللَّحْمُ لِكَوْنِهِ كانَ قُطِّعَ لِلطَّبْخِ، والقِصَّةُ الَّتِي في حَدِيثِ رافِعٍ طُبِخَتِ الشِّياهُ صِحاحًا مَثَلًا، فَلَمّا أُرِيقَ مَرَقُها ضُمَّتْ إلى الغَنَمِ لِتُقَسَّمَ، ثُمَّ يَطْبُخُها مَن وقَعَتْ في سَهْمِهِ، ولَعَلَّ هَذا هو النُّكْتَةُ في انْحِطاطِ قِيمَةِ الشِّياهِ، عَنِ العادَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ.
(p-١٣٥)وَكَوْنُ اللَّحْمِ رُدَّ لِيَطْبُخَهُ مَن وقَعَ في سَهْمِهِ مَرَّةً أُخْرى، غَيْرُ ظاهِرٍ عِنْدِي، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَحَدِيثُ رافِعٍ المَذْكُورُ: أخْرَجَهُ أيْضًا مُسْلِمٌ في كِتابِ: الصَّيْدِ والذَّبائِحِ، ولَفْظُ المُرادِ مِنهُ عَنْ رافِعٍ قالَ: «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِذِي الحُلَيْفَةِ مِن تِهامَةَ فَأصَبْنا غَنَمًا وإبِلًا فَعَجِلَ القَوْمُ فَأغْلُوا بِها القُدُورَ فَأمَرَ بِها فَكُفِئَتْ، ثُمَّ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ بِجَزُورٍ» .
والحاصِلُ أنَّ أخَصَّ شَيْءٍ في مَحَلِّ النِّزاعِ وأصْرَحَهُ فِيهِ، وأوْضَحَهُ فِيهِ حَدِيثُ جابِرٍ، الَّذِي ذَكَرْنا رِوايَتَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ. أمّا حَدِيثُ رافِعٍ، فَهو في قِسْمَةِ الغَنِيمَةِ لا في الهَدْيِ. وأمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ، فَظاهِرُهُ أنَّهُ في الضَّحايا، وعَلى كُلِّ حالٍ: فَحَدِيثُ جابِرٍ أصَحُّ مِنهُ، فالَّذِي يَظْهَرُ أنَّ المُتَمَتِّعَ يَكْفِيهِ سُبْعُ بَدَنَةٍ، وأنَّ النَّصَّ الصَّرِيحَ الوارِدَ بِذَلِكَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ، عَلى أنَّهُ يَكْفِيهِ عُشْرُ بَدَنَةٍ، وقَدْ رَأيْتُ أدِلَّةَ القَوْلَيْنِ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"لِّیَشۡهَدُوا۟ مَنَـٰفِعَ لَهُمۡ وَیَذۡكُرُوا۟ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِیۤ أَیَّامࣲ مَّعۡلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِیمَةِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِۖ فَكُلُوا۟ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُوا۟ ٱلۡبَاۤىِٕسَ ٱلۡفَقِیرَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق