الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذْ بَوَّأْنا لِإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ والقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾؛ أيِ اذْكُرْ حِينَ بَوَّأْنا، تَقُولُ العَرَبُ: بَوَّأْتُ لَهُ مَنزِلًا، وبَوَّأْتُهُ مَنزِلًا، وبَوَّأْتُهُ في مَنزِلٍ، بِمَعْنًى واحِدٍ، كُلُّها بِمَعْنى: هَيَّأْتُهُ لَهُ ومَكَّنْتُ لَهُ فِيهِ وأنْزَلْتُهُ فِيهِ، فَتَبَوَّأهُ؛ أيْ: نَزَلَهُ، وتَبَوَّأْتُ لَهُ مَنزِلًا أيْضًا: هَيَّأْتُهُ لَهُ وأنْزَلْتُهُ فِيهِ. فَـ ”بَوَّأهُ“ المُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهم مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا﴾ الآيَةَ [العنكبوت: ٥٨]، وقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهم في الدُّنْيا حَسَنَةً﴾ الآيَةَ [النحل: ٤٢] ومِنهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ:(p-٢٩٦) ؎كَمْ مِن أخٍ لِي ماجِدٍ بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدا ؛ أيْ: هَيَّأْتُهُ لَهُ وأنْزَلْتُهُ فِيهِ. وَبَوَّأْتُ لَهُ. كَقَوْلِهِ هُنا: ﴿وَإذْ بَوَّأْنا لِإبْراهِيمَ﴾ الآيَةَ [الحج: ٢٦] . وَبَوَّأْتُهُ فِيهِ. كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وَبُوِّئَتْ في صَمِيمِ مَعْشَرِها ∗∗∗ وتَمَّ في قَوْمِها مُبَوَّؤُها ؛ أيْ: نَزَلَتْ مِنَ الكَرَمِ في صَمِيمِ النَّسَبِ، وتَبَوَّأتْ لَهُ مَنزِلًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأوْحَيْنا إلى مُوسى وأخِيهِ أنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ [يونس: ٧٨] . وَتَبَوَّأهُ. • كَقَوْلِهِ: ﴿وَأوْرَثَنا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ﴾ الآيَةَ [الزمر: ٧٤]، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنها حَيْثُ يَشاءُ﴾ [يوسف: ٥٦]، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ والإيمانَ﴾ الآيَةَ [الحشر: ٩] . وَأصْلُ التَّبَوُّءِ مِنَ المَباءَةِ: وهي مَنزِلُ القَوْمِ في كُلِّ مَوْضِعٍ، فَقَوْلُهُ: ﴿بَوَّأْنا لِإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦]؛ أيْ: هَيَّأْناهُ لَهُ وعَرَّفْناهُ إيّاهُ؛ لِيَبْنِيَهُ بِأمْرِنا عَلى قَواعِدِهِ الأصْلِيَّةِ المُنْدَرِسَةِ، حِينَ أمَرْناهُ بِبِنائِهِ، كَما يُهَيَّأُ المَكانُ لِمَن يُرِيدُ النُّزُولَ فِيهِ. والمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: بَوَّأهُ لَهُ وأراهُ إيّاهُ بِسَبَبِ رِيحٍ تُسَمّى الخَجُوجَ كَنَسَتْ ما فَوْقَ الأساسِ، حَتّى ظَهَرَ الأساسُ الأوَّلُ الَّذِي كانَ مُنْدَرِسًا، فَبَناهُ إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ عَلَيْهِ. وقِيلَ: أرْسَلَ لَهُ مُزْنَةً فاسْتَقَرَّتْ فَوْقَهُ، فَكانَ ظِلُّها عَلى قَدْرِ مِساحَةِ البَيْتِ، فَحَفَرا عَنِ الأساسِ فَظَهَرَ لَهُما فَبَنَياهُ عَلَيْهِ. وهم يَقُولُونَ أيْضًا: إنَّهُ كانَ مُنْدَرِسًا مِن زَمَنِ طُوفانِ نُوحٍ، وأنَّ مَحَلَّهُ كانَ مَرْبِضَ غَنَمٍ لِرَجُلٍ مِن جُرْهُمَ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وَغايَةُ ما دَلَّ عَلَيْهِ القُرْآنُ: أنَّ اللَّهَ بَوَّأ مَكانَهُ لِإبْراهِيمَ، فَهَيَّأهُ لَهُ وعَرَّفَهُ إيّاهُ لِيَبْنِيَهُ في مَحَلِّهِ، وذَهَبَتْ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ أوَّلَ مَن بَناهُ إبْراهِيمُ ولَمْ يُبْنَ قَبْلَهُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ حِينَ تَرَكَ إسْماعِيلَ وهاجَرَ في مَكَّةَ ﴿رَبَّنا إنِّي أسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ مَبْنِيًّا وانْدَرَسَ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنا ﴿مَكانَ البَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦] لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهُ مَكانًا سابِقًا، كانَ مَعْرُوفًا. واللَّهُ أعْلَمُ. وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ﴾ الآيَةَ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وقَدْ دَلَّتْ عَلى تَقْدِيرِ المَحْذُوفِ المَذْكُورِ آيَةُ البَقَرَةِ؛ وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] فَدَلَّتْ آيَةُ البَقَرَةِ المَذْكُورَةُ عَلى أنَّ مَعْنى آيَةِ الحَجِّ هَذِهِ ﴿وَإذْ بَوَّأْنا لِإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ﴾ [الحج: ٢٦] وعَهِدْنا إلَيْهِ؛ أيْ: أوْصَيْناهُ، أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ، وزادَتْ آيَةُ (p-٢٩٧)البَقَرَةِ: أنَّ إسْماعِيلَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ أيْضًا مَعَ أبِيهِ إبْراهِيمَ، وإذا عَرَفْتَ أنَّ المَعْنى: وعَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ ألّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ الآيَةَ. فاعْلَمْ أنَّ في ”أنْ“ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها هي المُفَسِّرَةُ، وعَلَيْهِ فَتَطْهِيرُ البَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وغَيْرِهِ هو تَفْسِيرُ العَهْدِ إلى إبْراهِيمَ؛ أيْ: والعَهْدُ هو إيصاؤُهُ بِالتَّطْهِيرِ المَذْكُورِ. والثّانِي: أنَّها مَصْدَرِيَّةٌ بِناءً عَلى دُخُولِ ”أنْ“ المَصْدَرِيَّةِ عَلى الأفْعالِ الطَّلَبِيَّةِ. وَإنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ مُفَسِّرَةً لِلْعَهْدِ إلى إبْراهِيمَ، وهو غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنا ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ مَذْكُورٌ في سُورَةِ البَقَرَةِ في المَسْألَةِ بِعَيْنِها، والقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فالمَذْكُورُ هُناكَ كَأنَّهُ مَذْكُورٌ هُنا؛ لِأنَّ كَلامَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، والتَّطْهِيرُ هُنا في قَوْلِهِ: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ يَشْمَلُ التَّطْهِيرَ المَعْنَوِيَّ والحِسِّيَّ، فَيُطَهِّرُهُ الطَّهارَةَ الحِسِّيَّةَ مِنَ الأقْذارِ، والمَعْنَوِيَّةَ مِنَ الشِّرْكِ والمَعاصِي؛ ولِذا قالَ ﴿لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ [الحج: ٢٦] وكانَتْ قَبِيلَةُ جُرْهُمَ تَضَعُ عِنْدَهُ الأصْنامَ تَعْبُدُها مِن دُونِ اللَّهِ، وقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ الإسْراءِ الكَلامَ مُسْتَوْفًى فِيما كانَ عِنْدَ الكَعْبَةِ مِنَ الأصْنامِ عامَ الفَتْحِ، وطَهَّرَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن أنْجاسِ الأوْثانِ وأقْذارِها. كَما أمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ إبْراهِيمَ هُنا، وقالَ لِنَبِيِّنا ﷺ: ﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ الآيَةَ [النحل: ١٢٣] والمُرادُ بِالطّائِفِينَ في هَذِهِ الآيَةِ: الَّذِينَ يَطُوفُونَ حَوْلَ البَيْتِ، والمُرادُ بِالقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ: المُصَلُّونَ؛ أيْ: طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلْمُتَعَبِّدِينَ بِطَوافٍ أوْ صَلاةٍ، والرُّكَّعُ: جَمْعُ راكِعٍ، والسُّجُودُ: جَمْعُ ساجِدٍ. وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ لَفْظَةُ ”شَيْئًا“ مَفْعُولٌ بِهِ: لِـ ”لا تُشْرِكْ“؛ أيْ: لا تُشْرِكْ بِي مِنَ الشُّرَكاءِ كائِنًا ما كانَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ما نابَ عَنِ المُطْلَقِ مِن: لا تُشْرِكْ؛ أيْ: لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا مِنَ الشِّرْكِ، لا قَلِيلًا، ولا كَثِيرًا. فالمَعْنى عَلى هَذا: لا تُشْرِكْ بِي شِرْكًا قَلِيلًا، ولا كَثِيرًا، وقَرَأ نافِعٌ وعاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ، وابْنُ عامِرٍ في رِوايَةِ هِشامٍ: بَيْتِيَ بِفَتْحِ الياءِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِإسْكانِها. واعْلَمْ أنَّ المُؤَرِّخِينَ لَهم كَلامٌ كَثِيرٌ في قِصَّةِ بِناءِ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ لِلْبَيْتِ، ومِن جُمْلَةِ ما يَزْعُمُونَ، أنَّ البَيْتَ الحَرامَ رَفَعَهُ اللَّهُ إلى السَّماءِ أيّامَ الطُّوفانِ، وأنَّهُ كانَ مِن ياقُوتَةٍ حَمْراءَ، ودَرَجَ عَلى ذَلِكَ ناظِمُ عَمُودِ النَّسَبِ فَقالَ: ؎وَدَلَّتْ إبْراهِيمَ مُزْنَةٌ عَلَيْهِ ∗∗∗ فَهي عَلى قَدْرِ المِساحَةِ تُرِيهِ ؎(p-٢٩٨)وَقِيلَ دَلَّتْهُ خَجُوجٌ كَنَسَتْ ∗∗∗ ما حَوْلَهُ حَتّى بَدا ما أسَّسَتْ ؎قَبْلَ المَلائِكِ مِنَ البِناءِ ∗∗∗ قَبْلَ ارْتِفاعِهِ إلى السَّماءِ وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذا ونَحْوَهُ شَبِيهٌ بِالإسْرائِيلِيّاتِ لا يُصَدَّقُ مِنهُ إلّا ما قامَ دَلِيلٌ مِن كِتابٍ أوْ سُنَّةٍ عَلى صِدْقِهِ، ولِذَلِكَ نُقَلِّلُ مِن ذِكْرِ مِثْلِ ذَلِكَ في الغالِبِ. * * * * مَسْألَةٌ يُؤْخَذُ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُتْرَكَ عِنْدَ بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ قَذَرٌ مِنَ الأقْذارِ، ولا نَجَسٌ مِنَ الأنْجاسِ المَعْنَوِيَّةِ ولا الحِسِّيَّةِ، فَلا يُتْرَكُ فِيهِ أحَدٌ يَرْتَكِبُ ما لا يُرْضِي اللَّهَ، ولا أحَدٌ يُلَوِّثُهُ بِقَذَرٍ مِنَ النَّجاساتِ. وَلا شَكَّ أنَّ دُخُولَ المُصَوِّرِينَ في المَسْجِدِ الحَرامِ حَوْلَ بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ بِآلاتِ التَّصْوِيرِ يُصَوِّرُونَ بِها الطّائِفِينَ والقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ - أنَّ ذَلِكَ مُنافٍ لِما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِن تَطْهِيرِ بَيْتِهِ الحَرامِ لِلطّائِفِينَ والقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ، فانْتِهاكُ حُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ بِارْتِكابِ حُرْمَةِ التَّصْوِيرِ عِنْدَهُ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ تَصْوِيرَ الإنْسانِ دَلَّتِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلى أنَّهُ حَرامٌ، وظاهِرُها العُمُومُ في كُلِّ أنْواعِ التَّصْوِيرِ، ولا شَكَّ أنَّ ارْتِكابَ أيِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ مِنَ الأقْذارِ والأنْجاسِ المَعْنَوِيَّةِ الَّتِي يَلْزَمُ تَطْهِيرُ بَيْتِ اللَّهِ مِنها. وكَذَلِكَ ما يَقَعُ في المَسْجِدِ مِنَ الكَلامِ المُخِلِّ بِالدِّينِ والتَّوْحِيدِ لا يَجُوزُ إقْرارُ شَيْءٍ مِنهُ ولا تَرْكُهُ. وَنَرْجُو اللَّهَ لَنا ولِمَن ولّاهُ اللَّهُ أمْرَنا، ولِإخْوانِنا المُسْلِمِينَ التَّوْفِيقَ إلى ما يُرْضِيهِ في حَرَمِهِ، وسائِرِ بِلادِهِ، إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب