الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ﴾ . في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ العُلَماءِ، وبَعْضُها يَشْهَدُ لِمَعْناهُ قُرْآنٌ. (p-٢٨٧)الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى: مَن كانَ مِنَ الكَفَرَةِ الحَسَدَةِ لَهُ ﷺ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أيْ: أنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ [الحج: ١٥]؛ أيْ: بِحَبْلٍ إلى السَّماءِ؛ أيْ سَماءِ بَيْتِهِ، والمُرادُ بِهِ السَّقْفُ: لِأنَّ العَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ ما عَلاكَ سَماءٌ كَما قالَ: ؎وَقَدْ يُسَمّى سَماءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ وإنَّما الفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ والقَمَرُ كَما أوْضَحْناهُ في سُورَةِ الحِجْرِ. والمَعْنى: فَلْيَعْقِدْ رَأْسَ الحَبْلِ في خَشَبَةِ السَّقْفِ ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ [الحج: ١٥]؛ أيْ: لِيَخْتَنِقْ بِالحَبْلِ، فَيَشُدُّهُ في عُنُقِهِ، ويَتَدَلّى مَعَ الحَبْلِ المُعَلَّقِ في السَّقْفِ حَتّى يَمُوتَ، وإنَّما أطْلَقَ القَطْعَ عَلى الِاخْتِناقِ؛ لِأنَّ الِاخْتِناقَ يَقْطَعُ النَّفَسَ بِسَبَبِ حَبْسِ مَجارِيهِ، ولِذا قِيلَ لِلْبُهْرِ وهو تَتابُعُ النَّفَسِ: قَطْعٌ، فَلْيَنْظُرْ إذا اخْتَنَقَ ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾؛ أيْ: هَلْ يُذْهِبُ فِعْلُهُ ذَلِكَ ما يَغِيظُهُ مَن نَصْرِ اللَّهِ نَبِيَّهُ ﷺ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. والمَعْنى: لا يُذْهِبُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ ذَلِكَ الكافِرُ الحاسِدُ ما يَغِيظُهُ ويُغْضِبُهُ مِن نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وسُمِّيَ فِعْلُهُ كَيْدًا؛ لِأنَّهُ وضَعَهُ مَوْضِعَ الكَيْدِ؛ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلى غَيْرِهِ، أوْ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكِدْ بِهِ مَحْسُودَهُ، إنَّما كادَ بِهِ نَفْسَهُ، والمُرادُ: لَيْسَ في يَدِهِ إلّا ما لَيْسَ بِمُذْهِبٍ لِما يَغِيظُهُ. اهـ مِنهُ. وَحاصِلُ هَذا القَوْلِ: أنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِحاسِدِيهِ ﷺ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوائِرَ، ويَظُنُّونَ أنَّ رَبَّهُ لَنْ يَنْصُرَهُ: مُوتُوا بِغَيْظِكم، فَهو ناصِرُهُ لا مَحالَةَ عَلى رَغْمِ أُنُوفِكم، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ: مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وعِكْرِمَةُ، وعَطاءٌ، وأبُو الجَوْزاءِ، وغَيْرُهم. كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وهو أظْهَرُها عِنْدِي. وَمِمّا يَشْهَدُ لِهَذا المَعْنى مِنَ القُرْآنِ: قَوْلُهُ تَعالى. ﴿وَإذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ . الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ المَعْنى: مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، والحالُ أنَّ النَّصْرَ يَأْتِيهِ ﷺ مِنَ السَّماءِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ فَيَرْتَقِي بِذَلِكَ السَّبَبِ، حَتّى يَصْعَدَ إلى السَّماءِ فَيَقْطَعَ نُزُولَ الوَحْيِ مِنَ السَّماءِ، فَيَمْنَعَ النَّصْرَ عَنْهُ ﷺ . والمَعْنى: أنَّهُ وإنْ غاظَهُ نَصْرُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ. فَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ، ولا قُدْرَةٌ عَلى مَنعِ النَّصْرِ؛ (p-٢٨٨)لِأنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ الِارْتِقاءَ إلى السَّماءِ ومَنعِ نُزُولِ النَّصْرِ مِنها عَلَيْهِ ﷺ: وعَلى هَذا القَوْلِ: فَصِيغَةُ الأمْرِ في قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ [الحج: ١٥]، وقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ لِلتَّعْجِيزِ فَلْيَنْظُرْ ذَلِكَ الحاسِدُ العاجِزُ عَنْ قَطْعِ النَّصْرِ عَنْهُ ﷺ: هَلْ يُذْهِبُ كَيْدُهُ إذا بَلَغَ غايَةَ جَهْدِهِ في كَيْدِ النَّبِيِّ ﷺ، ما يَغِيظُهُ مِن نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ . والمَعْنى: أنَّهُ إنْ أعْمَلَ كُلَّ ما في وُسْعِهِ مِن كَيْدِ النَّبِيِّ ﷺ، لِيَمْنَعَ عَنْهُ نَصْرَ اللَّهِ، فَإنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ، ولا يُذْهِبُ كَيْدُهُ ما يَغِيظُهُ مِن نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ . وَمِمّا يَشْهَدُ لِهَذا القَوْلِ مِنَ القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ لَهم مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزابِ﴾ [ص: ١٠ - ١١] وقَدْ أوْضَحْنا مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ الحِجْرِ. وَلِبَعْضِ أهْلِ العِلْمِ قَوْلٌ ثالِثٌ في مَعْنى الآيَةِ الكَرِيمَةِ: وهو أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿لَنْ يَنْصُرَهُ﴾ عائِدٌ إلى ”مَن“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن كانَ يَظُنُّ﴾ [الحج: ١٥] وأنَّ النَّصْرَ هُنا بِمَعْنى الرِّزْقِ، وأنَّ المَعْنى: مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أيْ: لَنْ يَرْزُقَهُ، فَلْيَخْتَنِقْ، ولْيَقْتُلْ نَفْسَهُ؛ إذْ لا خَيْرَ في حَياةٍ لَيْسَ فِيها رِزْقُ اللَّهِ وعَوْنُهُ، أوْ فَلْيَخْتَنِقْ ولْيَمُتْ غَيْظًا وغَمًّا، فَإنَّ ذَلِكَ لا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِمّا قَضاهُ اللَّهُ وقَدَّرَهُ، والَّذِينَ قالُوا هَذا القَوْلَ قالُوا: إنَّ العَرَبَ تُسَمِّي الرِّزْقَ نَصْرًا، وعَنْ أبِي عُبَيْدَةَ قالَ: وقَفَ عَلَيْنا سائِلٌ مِن بَنِي بَكْرٍ، فَقالَ: مَن يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ. يَعْنِي: مَن يُعْطِينِي أعْطاهُ اللَّهُ، قالُوا: ومِن ذَلِكَ قَوْلُ العَرَبِ: أرْضٌ مَنصُورَةٌ؛ أيْ: مَمْطُورَةٌ، ومِنهُ قَوْلُ رَجُلٍ مِن بَنِي فَقْعَسٍ: ؎وَإنَّكَ لا تُعْطِي امْرَءًا فَوْقَ حَقِّهِ ∗∗∗ ولا تَمْلِكُ الشِّقَّ الَّذِي الغَيْثُ ناصِرُهْ ؛ أيْ: مُعْطِيهِ. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا الله عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: وهَذا القَوْلُ الأخِيرُ ظاهِرُ السُّقُوطِ، كَما تَرى، والَّذِينَ قالُوا: إنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ راجِعٌ إلى الدِّينِ أوِ الكِتابِ، لا يُخالِفُ قَوْلُهم قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، لِأنَّ نَصْرَ الدِّينِ والكِتابِ هو نَصْرُهُ ﷺ كَما لا يَخْفى، ونَصْرُ اللَّهُ لَهُ ﷺ في الدُّنْيا بِإعْلائِهِ كَلِمَتَهُ، وقَهْرِهِ أعْداءَهُ، وإظْهارِ دِينِهِ، وفي الآخِرَةِ بِإعْلاءِ دَرَجَتِهِ، والِانْتِقامِ مِمَّنْ كَذَّبَهُ، ونَحْوِ ذَلِكَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ﴾ [غافر: ٥١] فَإنْ قِيلَ: قَرَّرْتُمْ أنَّ الضَّمِيرَ في ”يَنْصُرُهُ“ عائِدٌ إلَيْهِ ﷺ، وهو لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فَكَيْفَ قَرَّرْتُمْ رُجُوعَ (p-٢٨٩)الضَّمِيرِ إلى غَيْرِ مَذْكُورٍ ؟ فالجَوابُ هو ما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ، مِن أنَّهُ ﷺ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فالكَلامُ دالٌّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الإيمانَ في قَوْلِهِ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها: ﴿إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ﴾ الآيَةَ [الحج: ١٤] . هو الإيمانُ بِاللَّهِ وبِمُحَمَّدٍ ﷺ، والِانْقِلابُ عَنِ الدِّينِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ﴾ [الحج: ١١] انْقِلابٌ عَمّا جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ . وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ قَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، ووَرْشٌ عَنْ نافِعٍ بِكَسْرِ اللّامِ عَلى الأصْلِ في لامِ الأمْرِ، وقَرَأهُ الباقُونَ بِإسْكانِ اللّامِ تَخْفِيفًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب