الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ﴾ . (p-٢٨٤)ضَمِيرُ الفاعِلِ في قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ﴾ [الحج: ١٢] راجِعٌ إلى الكافِرِ المُشارِ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿وَإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ [الحج: ١١]؛ أيْ: يَدْعُو ذَلِكَ الكافِرُ المَذْكُورُ مِن دُونِ اللَّهِ، ما لا يَضُرُّهُ، إنْ تَرَكَ عِبادَتَهُ وكَفَرَ بِهِ، وما لا يَنْفَعُهُ إنْ عَبَدَهُ وزَعَمَ أنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ. وَما ذَكَرَهُ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن أنَّ الأوْثانَ لا تَضُرُّ مَن كَفَرَ بِها، ولا تَنْفَعُ مَن عَبَدَها بَيَّنَهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: ١٨]، وقَوْلِهِ تَعالى عَنْ نَبِيِّهِ إبْراهِيمَ: ﴿قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكم إذْ تَدْعُونَ أوْ يَنْفَعُونَكم أوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وجَدْنا آباءَنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: ٧٢ - ٧٤] . إذِ المَعْنى: أنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأنَّهم لا يَسْمَعُونَ ولا يَنْفَعُونَ ولا يَضُرُّونَ، ولَكِنَّهم عَبَدُوهم تَقْلِيدًا لِآبائِهِمْ. والآياتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. * * * * تَنْبِيهٌ فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِهِ تَعالى النَّفْعَ والضُّرَّ مَعًا عَنْ ذَلِكَ المَعْبُودِ مِن دُونِ اللَّهِ في قَوْلِهِ: ﴿ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ﴾ [الحج: ١٢] مَعَ إثْباتِهِما في قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ﴾؛ لِأنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ في قَوْلِهِ: ”أقْرَبُ“ دَلَّتْ عَلى أنَّ هُناكَ نَفْعًا وضَرًّا، ولَكِنَّ الضَّرَّ أقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ. فالجَوابُ: أنَّ لِلْعُلَماءِ أجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ: مِنها: ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قالَ: فَإنْ قُلْتَ: الضَّرُّ والنَّفْعُ مَنفَيّانِ عَنِ الأصْنامِ، مُثْبَتانِ لَها في الآيَتَيْنِ، وهَذا تَناقُضٌ. قُلْتُ: إذا حَصَلَ المَعْنى ذَهَبَ هَذا الوَهْمُ. وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى سَفَّهُ الكافِرَ بِأنَّهُ يَعْبُدُ جَمادًا لا يَمْلِكُ ضَرًّا، ولا نَفْعًا، وهو يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وضَلالِهِ أنَّهُ يَسْتَنْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ، ثُمَّ قالَ يَوْمَ القِيامَةِ: يَقُولُ هَذا الكافِرُ بِدُعاءٍ وصُراخٍ حِينَ يَرى اسْتِضْرارَهُ بِالأصْنامِ ودُخُولَهُ النّارَ بِعِبادَتِها، ولا يَرى أثَرَ الشَّفاعَةِ الَّتِي ادَّعاها لَها: ﴿لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العَشِيرُ﴾ [الحج: ١٣] (p-٢٨٥)وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأنَّهُ قالَ: يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قالَ لِمَن ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا: لَبِئْسَ المَوْلى، ولَبِئْسَ العَشِيرِ. ا هـ مِنهُ. وَلا يَخْفى أنَّ جَوابَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذا غَيْرُ مُقْنِعٍ؛ لِأنَّ المَعْبُودَ مِن دُونِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ البَتَّةَ، حَتّى يُقالَ فِيهِ: إنَّ ضَرَّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ، وقَدْ بَيَّنَ أبُو حَيّانَ عَدَمَ اتِّجاهِ جَوابِهِ المَذْكُورِ. وَمِنها: ما أجابَ بِهِ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ. وَحاصِلُهُ: أنَّ الآيَةَ الأوْلى في الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ، فالأصْنامُ لا تَنْفَعُ مَن عَبَدَها، ولا تَضُرُّ مَن كَفَرَ بِها؛ ولِذا قالَ فِيها: ﴿ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ﴾ والقَرِينَةُ عَلى أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ الأصْنامُ، هي التَّعْبِيرُ بِلَفْظَةِ ”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ﴾ [الحج: ١٢] لِأنَّ لَفْظَةَ ”ما“ تَأْتِي لِما لا يَعْقِلُ، والأصْنامُ لا تَعْقِلُ. أمّا الآيَةُ الأُخْرى فَهي في مَن عَبَدَ بَعْضَ الطُّغاةِ المَعْبُودِينَ مِن دُونِ اللَّهِ، كَفِرْعَوْنَ القائِلِ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: ٢٩]، ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤]، فَإنَّ فِرْعَوْنَ ونَحْوَهُ مِنَ الطُّغاةِ المَعْبُودِينَ قَدْ يُغْدِقُونَ نِعَمَ الدُّنْيا عَلى عابِدِيهِمْ؛ ولِذا قالَ لَهُ القَوْمُ الَّذِينَ كانُوا سَحَرَةً ﴿أئِنَّ لَنا لَأجْرًا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وإنَّكم إذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: ٤١ - ٤٢] فَهَذا النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إلى ما سَيُلاقُونَهُ مِنَ العَذابِ والخُلُودِ في النّارِ كَلا شَيْءٍ، فَضَرُّ هَذا المَعْبُودِ بِخُلُودِ عابِدِهِ في النّارِ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ زائِلٍ مِن حُطامِ الدُّنْيا، والقَرِينَةُ عَلى أنَّ المَعْبُودَ في هَذِهِ الآيَةِ الأخِيرَةِ بَعْضُ الطُّغاةِ الَّذِينَ هم مَن جِنْسِ العُقَلاءِ هي التَّعْبِيرُ بِـ ”مَن“ الَّتِي تَأْتِي لِمَن يَعْقِلُ في قَوْلِهِ: ﴿يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ﴾ [الحج: ١٣] هَذا هو خُلاصَةُ جَوابِ أبِي حَيّانَ، ولَهُ اتِّجاهٌ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. واعْلَمْ أنَّ اللّامَ في: ﴿يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ﴾ [الحج: ١٣] فِيها إشْكالٌ مَعْرُوفٌ. ولِلْعُلَماءِ عَنْ ذَلِكَ أجْوِبَةٌ. ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنها ثَلاثَةً: أحَدُها: أنَّ اللّامَ مُتَزَحْلِقَةٌ عَنْ مَحَلِّها الأصْلِيِّ، وأنَّ ذَلِكَ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِها القُرْآنُ، والأصْلُ: يَدْعُو مَن لَضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ، وعَلى هَذا فَـ ”مَن“ المَوْصُولَةُ (p-٢٨٦)فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ لِـ ”يَدْعُو“ واللّامُ مُوطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، داخِلَةٌ عَلى المُبْتَدَإ، الَّذِي هو وخَبَرُهُ صِلَةُ المَوْصُولِ، وتَأْكِيدُ المُبْتَدَإ في جُمْلَةِ الصِّلَةِ بِاللّامِ وغَيْرِها لا إشْكالَ فِيهِ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ وحُكِيَ عَنِ العَرَبِ سَماعًا: مِنها عِنْدِي لَما غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنهُ؛ أيْ: عِنْدِي ما لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنهُ، وأعْطَيْتُكَ لَما غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنهُ؛ أيْ: ما لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنهُ. والثّانِي مِنها: أنَّ قَوْلَهُ: يَدْعُو تَأْكِيدٌ لِـ ”يَدْعُوَ“ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها، وعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: ﴿لَمَن ضَرُّهُ﴾ في مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وجُمْلَةُ ﴿ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ﴾ [الحج: ١٣] صِلَةُ المَوْصُولِ الَّذِي هو ”مِن“ والخَبَرُ هو جُمْلَةُ: ﴿لَبِئْسَ المَوْلى﴾ . وهَذا المَعْنى كَقَوْلِ العَرَبِ: لَما فَعَلْتَ لَهو خَيْرٌ لَكَ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ لَمّا ذَكَّرَ هَذا الوَجْهَ: واللّامُ الثّانِيَةُ في: ﴿لَبِئْسَ المَوْلى﴾ جَوابُ اللّامِ الأُولى: قالَ: وهَذا القَوْلُ عَلى مَذْهَبِ أهْلِ العَرَبِيَّةِ أصَحُّ، والأوَّلُ إلى مَذْهَبِ أهْلِ التَّأْوِيلِ أقْرَبُ. اهـ. والثّالِثُ مِنها أنَّ مَن في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ ”يَدْعُو“ وأنَّ اللّامَ دَخَلَتْ عَلى المَفْعُولِ بِهِ، وقَدْ عَزا هَذا لِبَعْضِ البَصْرِيِّينَ مَعَ نَقْلِهِ عَمَّنْ عَزاهُ إلَيْهِ أنَّهُ شاذٌّ. وأقْرَبُها عِنْدِي الأوَّلُ. وَقالَ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ولَمْ يَرَ مِنهُ نَفْعًا أصْلًا، ولَكِنَّهُ قالَ ﴿ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ﴾ [الحج: ١٣] تَرْفِيعًا لِلْكَلامِ: كَقَوْلِهِ: ﴿وَإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبإ: ٢٤] وباقِي الأقْوالِ في اللّامِ المَذْكُورَةِ تَرَكْناهُ، لِعَدَمِ اتِّجاهِهِ في نَظَرِنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب