الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ .
(p-١٧٠)قَوْلُهُ تَعالى: وداوُدَ [الأنبياء: ٧٨] مَنصُوبٌ بِـ ”اذْكُرْ“ مُقَدَّرًا. وقِيلَ: مَعْطُوفُ قَوْلِهِ: ﴿وَنُوحًا إذْ نادى مِن قَبْلُ﴾ [ ٢١ ] أيْ: واذْكُرْ نُوحًا إذا نادى مِن قَبْلُ ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ﴾ الآيَةَ
وَقَوْلُهُ: إذْ بَدَلٌ مِن ”داوُدَ وسُلَيْمانَ“ بَدَلُ اشْتِمالٍ كَما أوْضَحْنا في سُورَةِ ”مَرْيَمَ“ وذَكَرْنا بَعْضَ المُناقَشَةِ فِيهِ، وقَدْ قَدَّمْنا في تَرْجَمَةِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الَّتِي تَضَمَّنَها أنْ يَقُولَ بَعْضُ العُلَماءِ في الآيَةِ قَوْلًا ويَكُونُ في نَفْسِ الآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلى خِلافِ ذَلِكَ القَوْلِ. وذَكَرْنا في هَذا الكِتابِ مَسائِلَ كَثِيرَةً مِن ذَلِكَ. فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ جَماعَةً مِنَ العُلَماءِ قالُوا: إنَّ حُكْمَ داوُدَ وسُلَيْمانَ في الحَرْثِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ كانَ بِوَحْيٍ، إلّا أنَّ ما أُوحِيَ إلى سُلَيْمانَ كانَ ناسِخًا لِما أُوحِيَ إلى داوُدَ.
وَفِي الآيَةِ قَرِينَتانِ عَلى أنَّ حُكْمَهُما كانَ بِاجْتِهادٍ لا بِوَحْيٍ، وأنَّ سُلَيْمانَ أصابَ فاسْتَحَقَّ الثَّناءَ بِاجْتِهادِهِ وإصابَتِهِ، وأنَّ داوُدَ لَمْ يُصِبْ فاسْتَحَقَّ الثَّناءَ بِاجْتِهادِهِ، ولَمْ يَسْتَوْجِبْ لَوْمًا ولا ذَمًّا بِعَدَمِ إصابَتِهِ. كَما أثْنى عَلى سُلَيْمانَ بِالإصابَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] وأثْنى عَلَيْهِما في قَوْلِهِ: ﴿وَكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٨] فَدَلَّ قَوْلُهُ: إذْ يَحْكُمانِ عَلى أنَّهُما حَكَما فِيها مَعًا كُلٌّ مِنهُما بِحُكْمٍ مُخالِفٍ لِحُكْمِ الآخَرِ، ولَوْ كانَ وحْيًا لَما ساغَ الخِلافُ. ثُمَّ قالَ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَمْ يَفْهَمْها داوُدُ، ولَوْ كانَ حُكْمُهُ فِيها بِوَحْيٍ لَكانَ مُفْهَمًا إيّاها كَما تَرى. فَقَوْلُهُ: ﴿إذْ يَحْكُمانِ﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ الحُكْمَ لَمْ يَكُنْ بِوَحْيٍ بَلْ بِاجْتِهادٍ، وأصابَ فِيهِ سُلَيْمانُ دُونَ داوُدَ بِتَفْهِيمِ اللَّهِ إيّاهُ ذَلِكَ.
والقَرِينَةُ الثّانِيَةُ هي أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: فَفَهَّمْناها يَدُلُّ عَلى أنَّهُ فَهَّمَهُ إيّاها مِن نُصُوصِ ما كانَ عِنْدَهم مِنَ الشَّرْعِ. لا أنَّهُ أنْزَلَ عَلَيْهِ فِيها وحْيًا جَدِيدًا ناسِخًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: فَفَهَّمْناها ألْيَقُ بِالأوَّلِ مِنَ الثّانِي كَما تَرى.
* * *
مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ
المَسْألَةُ الأُولى:
اعْلَمْ أنَّ هَذا الَّذِي ذَكَرْنا أنَّ القَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ مِن أنَّهُما حَكَما فِيها بِاجْتِهادٍ، وأنَّ سُلَيْمانَ أصابَ في اجْتِهادِهِ - جاءَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِوُقُوعِ مِثْلِهِ مِنهُما في غَيْرِ هَذِهِ المَسْألَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى إمْكانِهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وقَدْ دَلَّتِ القَرِينَةُ القُرْآنِيَّةُ عَلى (p-١٧١)وُقُوعِهِ، قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ (بابُ إذا ادَّعَتِ المَرْأةُ ابْنًا) حَدَّثَنا أبُو اليَمانِ، أخْبَرْنا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنا أبُو الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «كانَتِ امْرَأتانِ مَعَهُما ابْناهُما، جاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إحْداهُما، فَقالَتْ لِصاحِبَتِها: إنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَقالَتِ الأُخْرى: إنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحاكَمَتا إلى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَضى بِهِ لِلْكُبْرى، فَخَرَجَتا عَلى سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَأخْبَرَتاهُ، فَقالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِينِ أشُقُّهُ بَيْنَهُما. فَقالَتِ الصُّغْرى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هو ابْنُها. فَقَضى بِهِ لِلصُّغْرى» . قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: واللَّهِ إنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِينِ قَطُّ إلّا يَوْمَئِذٍ، وما كُنّا نَقُولُ إلّا المُدْيَةُ ”انْتَهى مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ. وقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي شَبابَةُ، حَدَّثَنِي ورْقاءُ، عَنْ أبِي الزِّنادِ، عَنِ الأعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:“ «بَيْنَما امْرَأتانِ مَعَهُما ابْناهُما جاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إحْداهُما. فَقالَتْ هَذِهِ لِصاحِبَتِها: إنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ أنْتِ. وقالَتِ الأُخْرى: إنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحاكَمَتا إلى داوُدَ فَقَضى بِهِ لِلْكُبْرى، فَخَرَجَتا عَلى سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ فَأخْبَرَتاهُ، فَقالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِينِ أشُقُّهُ بَيْنَكُما، فَقالَتِ الصُّغْرى: لا، يَرْحَمُكَ اللَّهُ» انْتَهى مِنهُ فَهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّهُما قَضَيا مَعًا بِالِاجْتِهادِ في شَأْنِ الوَلَدِ المَذْكُورِ، وأنَّ سُلَيْمانَ أصابَ في ذَلِكَ، إذْ لَوْ كانَ قَضاءُ داوُدَ بِوَحْيٍ لَما جازَ نَقْضُهُ بِحالٍ. وقَضاءُ سُلَيْمانَ واضِحٌ أنَّهُ لَيْسَ بِوَحْيٍ؛ لِأنَّهُ أوْهَمَ المَرْأتَيْنِ أنَّهُ يَشُقُّهُ بِالسِّكِّينِ؛ لِيَعْرِفَ أُمَّهُ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، ويَعْرِفَ الكاذِبَةَ بِرِضاها بِشَقِّهِ لِتُشارِكَها أُمُّهُ في المُصِيبَةِ فَعَرَفَ الحَقَّ بِذَلِكَ. وهَذا شَبِيهٌ جِدًّا بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ حَسْبَما ذَكَرْنا وبَيَّنّا دَلالَةَ القَرِينَةِ القُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ. ومِمّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِن قَضائِهِما القِصَّةُ الَّتِي أوْرَدَها الحافِظُ أبُو القاسِمِ بْنُ عَساكِرَ في تَرْجَمَةِ سُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن تارِيخِهِ، مِن طَرِيقِ الحَسَنِ بْنِ سُفْيانَ، عَنْ صَفْوانَ بْنِ صالِحٍ، عَنِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ مُجاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً مُطَوَّلَةً، مُلَخَّصُها أنَّ امْرَأةً حَسْناءَ في زَمانِ بَنِي إسْرائِيلَ راوَدَها عَنْ نَفْسِها أرْبَعَةٌ مِن رُؤَسائِهِمْ، فامْتَنَعَتْ عَلى كُلٍّ مِنهم، فاتَّفَقُوا فِيما بَيْنَهم عَلَيْها. فَشَهِدُوا عِنْدَ داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّها مَكَّنَتْ مِن نَفْسِها كَلْبًا لَها، قَدْ عَوَّدَتْهُ ذَلِكَ مِنها، فَأمَرَ بِرَجْمِها، فَلَمّا كانَ عَشِيَّةُ ذَلِكَ اليَوْمِ جَلَسَ سُلَيْمانُ واجْتَمَعَ مَعَهُ ولْدانٌ مِثْلُهُ، فانْتَصَبَ حاكِمًا وتَزَيّا أرْبَعَةٌ مِنهم بِزِيٍّ أُولَئِكَ وآخَرُ بِزِيِّ المَرْأةِ، وشَهِدُوا عَلَيْها بِأنَّها مَكَّنَتْ مِن نَفْسِها كَلْبًا، فَقالَ سُلَيْمانُ: فَرَّقُوا بَيْنَهم. فَسَألَ أوَّلَهم: ما كانَ لَوْنُ الكَلْبِ ؟ فَقالَ: أسْوَدُ، فَعَزَلَهُ. واسْتَدْعى الآخَرَ فَسَألَهُ عَنْ لَوْنِهِ ؟ فَقالَ: أحْمَرُ. وقالَ (p-١٧٢)الآخَرُ: أغْبَشُ. وقالَ الآخَرُ: أبْيَضُ، فَأمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِمْ، فَحُكِيَ ذَلِكَ لِداوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فاسْتَدْعى مِن فَوْرِهِ بِأُولَئِكَ الأرْبَعَةِ فَسَألَهم مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ ذَلِكَ الكَلْبِ فاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَأمَرَ بِقَتْلِهِمْ. انْتَهى بِواسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ. وكُلُّ هَذا مِمّا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما فَسَّرْنا بِهِ الآيَةَ؛ لِدَلالَةِ القَرِينَةِ القُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ. ومِمَّنْ فَسَّرَها بِذَلِكَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ كَما ذَكَرَهُ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ عَنْهُ. قالَ البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في صَحِيحِهِ، بابُ مَتى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ القَضاءَ: وقالَ الحَسَنُ: أخَذَ اللَّهُ عَلى الحُكّامِ أنْ لا يَتَّبِعُوا الهَوى، ولا يَخْشَوُا النّاسَ ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] إلى أنْ قالَ - وقَرَأ ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٨ - ٧٩] فَحَمِدَ سُلَيْمانَ ولَمْ يَلُمْ داوُدَ. ولَوْلا ما ذَكَرَهُ اللَّهُ مِن أمْرِ هَذَيْنِ لَرَأيْتُ أنَّ القُضاةَ هَلَكُوا، فَإنَّهُ أثْنى عَلى هَذا بِعِلْمِهِ، وعَذَرَ هَذا بِاجْتِهادِهِ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ. وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ الحَسَنَ يَرى أنَّ مَعْنى الآيَةِ الكَرِيمَةِ كَما ذَكَرْنا، ويَزِيدُ هَذا إيضاحًا ما قَدَّمْناهُ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ مِنَ الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاصِ وأبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - «إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ» .
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ:
اعْلَمْ أنَّ الِاجْتِهادَ في الأحْكامِ في الشَّرْعِ دَلَّتْ عَلَيْهِ أدِلَّةٌ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، مِنها هَذا الَّذِي ذَكَرْنا هُنا. وقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ بَنِي ”إسْرائِيلَ“ طَرَفًا مِن ذَلِكَ، ووَعَدْنا بِذِكْرِهِ مُسْتَوْفًى في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ وسُورَةِ الحَشْرِ، وهَذا أوانُ الوَفاءِ بِذَلِكَ الوَعْدِ في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ. وقَدْ عَلِمْتَ مِمّا مَرَّ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ أنّا ذَكَرْنا طَرَفًا مِنَ الأدِلَّةِ عَلى الِاجْتِهادِ فَبَيَّنّا إجْماعَ العُلَماءِ عَلى العَمَلِ بِنَوْعِ الِاجْتِهادِ المَعْرُوفِ بِالإلْحاقِ بِنَفْيِ الفارِقِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الشّافِعِيُّ القِياسَ في مَعْنى الأصْلِ، وهو تَنْقِيحُ المَناطِ. وأوْضَحْنا أنَّهُ لا يُنْكِرُهُ إلّا مُكابِرٌ، وبَيَّنّا الإجْماعَ أيْضًا عَلى العَمَلِ بِنَوْعِ الِاجْتِهادِ المَعْرُوفِ بِتَحْقِيقِ المَناطِ، وأنَّهُ لا يُنْكِرُهُ إلّا مُكابِرٌ، وذَكَرْنا أمْثِلَةً لَهُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وذَكَرْنا أحادِيثَ دالَّةً عَلى الِاجْتِهادِ، مِنها الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ المُتَقَدِّمُ، ومِنها حَدِيثُ مُعاذٍ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ ﷺ إلى اليَمَنِ، وقَدْ وعَدْنا بِأنْ نَذْكُرَ طُرُقَهُ هُنا إلى آخَرِ ما ذَكَرْنا هُناكَ.
(p-١٧٣)اعْلَمْ أنَّ جَمِيعَ رِواياتِ هَذا الحَدِيثِ المَذْكُورَةِ في المُسْنَدِ والسُّنَنِ كُلُّها مِن طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أبِي عَوْنٍ، عَنِ الحارِثِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أخِي المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أُناسٍ مِن أصْحابِ مُعاذٍ، عَنْ مُعاذٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
أمّا الرِّوايَةُ المُتَّصِلَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنا سابِقًا عَنِ ابْنِ قُدامَةَ في (رَوْضَةِ النّاظِرِ) أنَّ عُبادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَواهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعاذٍ، فَهَذا الإسْنادُ وإنْ كانَ مُتَّصِلًا ورِجالُهُ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ، فَإنِّي لَمْ أقِفْ عَلى مَن خَرَّجَ هَذا الحَدِيثَ مِن هَذِهِ الطَّرِيقِ، إلّا ما ذَكَرَهُ العَلّامَةُ ابْنُ القَيِّمِ في (إعْلامِ المُوَقِّعِينَ) عَنْ أبِي بَكْرٍ الخَطِيبِ بِلَفْظِ: وقَدْ قِيلَ إنَّ عُبادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَواهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعاذٍ. ا هـ مِنهُ. ولَفْظَةُ ”قِيلَ“ صِيغَةُ تَمْرِيضٍ كَما هو مَعْرُوفٌ، وإلّا ما ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ في تارِيخِهِ، فَإنَّهُ لَمّا ذَكَرَهُ فِيهِ حَدِيثُ مُعاذٍ المَذْكُورُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنا بِالإسْنادِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِهِ الإمامُ أحْمَدُ قالَ: وأخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. وقالَ التِّرْمِذِيُّ: لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن هَذا الوَجْهِ، ولَيْسَ إسْنادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ. ثُمَّ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدْ رَواهُ ابْنُ ماجَهْ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، إلّا أنَّهُ مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسّانَ وهو المَصْلُوبُ أحَدُ الكَذّابِينَ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُعاذٍ بِهِ نَحْوَهُ.
واعْلَمْ أنَّ النُّسْخَةَ المَوْجُودَةَ بِأيْدِينا مِن تارِيخِ ابْنِ كَثِيرٍ الَّتِي هي مِنَ الطَّبْعَةِ الأُولى سَنَةَ (١٣٥١) فِيها تَحْرِيفٌ مَطْبَعِيٌّ في الكَلامِ الَّذِي ذَكَرْنا؛ فَفِيها مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَسّانَ، والصَّوابُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ لا سَعْدٍ. وفِيها: عَنْ عَيّاذِ بْنِ بِشْرٍ، والصَّوابُ عَنْ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ.
وَما ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِن إخْراجِ ابْنِ ماجَهْ لِحَدِيثِ مُعاذٍ المَذْكُورِ مِن طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ المَصْلُوبِ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وهو ابْنُ غَنْمٍ، عَنْ مُعاذٍ - لَمْ أرَهُ في سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ، والَّذِي في سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ بِالإسْنادِ المَذْكُورِ مِن حَدِيثِ مُعاذٍ غَيْرُ المَتْنِ المَذْكُورِ، وهَذا لَفْظُهُ: حَدَّثْنا الحَسَنُ بْنُ حَمّادٍ سَجّادَةُ، حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسّانَ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، «حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، قالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى اليَمَنِ، قالَ: ”لا تَقْضِيَنَّ، ولا تَفْصِلَنَّ إلّا بِما تَعْلَمُ، وإنْ أشْكَلَ عَلَيْكَ أمْرٌ فَقِفْ حَتّى تَبَيَّنَهُ أوْ تَكْتُبَ إلَيَّ فِيهِ“» ا هـ مِنهُ. وما أدْرِي أوَهِمَ الحافِظُ بْنُ كَثِيرٍ فِيما ذَكَرَ ؟ أوْ هو يَعْتَقِدُ أنَّ مَعْنى ”تَبَيَّنَهُ“ في الحَدِيثِ أيْ: تَعْلَمُهُ بِاجْتِهادِكَ في اسْتِخْراجِهِ مِنَ المَنصُوصِ، فَيَرْجِعُ إلى مَعْنى الحَدِيثِ المَذْكُورِ ؟ وعَلى كُلِّ حالٍ (p-١٧٤)فالرِّوايَةُ المَذْكُورَةُ مِن طَرِيقِ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعاذٍ، فِيها كَذّابٌ وهو مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ المَذْكُورُ الَّذِي قَتَلَهُ أبُو جَعْفَرٍ المَنصُورُ في الزَّنْدَقَةِ وصَلَبَهُ. وقالَ أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ: وضَعَ أرْبَعَةَ آلافِ حَدِيثٍ. فَإذا عَلِمْتَ بِهَذا انْحِصارَ طُرُقِ الحَدِيثِ المَذْكُورِ الَّذِي فِيهِ أنَّ مُعاذًا قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّهُ إنْ لَمْ يَجِدِ المَسْألَةَ في كِتابِ اللَّهِ، ولا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اجْتَهَدَ فِيها رَأْيَهُ، وأقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلى ذَلِكَ في الطَّرِيقَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ - عَلِمْتَ وجْهَ تَضْعِيفِ الحَدِيثِ مِمَّنْ ضَعَّفَهُ، وأنَّهُ يَقُولُ: طَرِيقُ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ لَمْ تُسْنِدُوها ثابِتَةً مِن وجْهٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ، والطَّرِيقُ الأُخْرى الَّتِي في المُسْنَدِ، والسُّنَنِ فِيها الحارِثُ بْنُ أخِي المُغِيرَةِ وهو مَجْهُولٌ، والرُّواةُ فِيها أيْضًا عَنْ مُعاذٍ مَجاهِيلُ - فَمِن أيْنَ قُلْتُمْ بِصِحَّتِها ؟ وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قالَ في مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ: إنَّ الطَّرِيقَةَ المَذْكُورَةَ في المُسْنَدِ، والسُّنَنِ بِإسْنادٍ جَيِّدٍ. وقُلْنا: لَعَلَّهُ يَرى أنَّ الحارِثَ المَذْكُورَ ثِقَةٌ، وقَدْ وثَّقَهُ ابْنُ حِبّانَ، وأنَّ أصْحابَ مُعاذٍ لا يُعْرَفُ فِيهِمْ كَذّابٌ، ولا مُتَّهَمٌ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: ويُؤَيِّدُ ما ذَكَرْنا عَنْ مُرادِ ابْنِ كَثِيرٍ بِجَوْدَةِ الإسْنادِ المَذْكُورِ ما قالَهُ العَلّامَةُ ابْنُ القِيَمِ في إعْلامِ المُوَقِّعِينَ، قالَ فِيهِ: وقَدْ أقَرَّ النَّبِيُّ ﷺ مُعاذًا عَلى اجْتِهادِ رَأْيِهِ فِيما لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا عَنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَقالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي أبُو عَوْنٍ عَنِ الحارِثِ بْنِ عَمْرٍو، «عَنْ أُناسٍ مِن أصْحابِ مُعاذٍ: أنَّ رَسُولَهُ ﷺ لَمّا بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ قالَ: ”كَيْفَ تَصْنَعُ إنْ عَرَضَ لَكَ قَضاءٌ“ ؟ قالَ: أقْضِي بِما في كِتابِ اللَّهِ. قالَ: ”فَإنْ لَمْ يَكُنْ في كِتابِ اللَّهِ“ ؟ قالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . قالَ ”فَإنْ لَمْ يَكُنْ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ“ ؟ قالَ: أجْتَهِدُ رَأْيِي، لا آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَدْرِي ثُمَّ قالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِما يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ“» . فَهَذا حَدِيثٌ إنْ كانَ عَنْ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ فَهم أصْحابُ مُعاذٍ، فَلا يَضُرُّهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى شُهْرَةِ الحَدِيثِ، وأنَّ الَّذِي حَدَّثَ لَهُ الحارِثُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ جَماعَةٍ مِن أصْحابِ مُعاذٍ، لا واحِدٍ مِنهم، وهَذا أبْلَغُ في الشُّهْرَةِ مِن أنْ يَكُونَ عَنْ واحِدٍ مِنهم ولَوْ سُمِّيَ، كَيْفَ وشُهْرَةُ أصْحابِ مُعاذٍ بِالعِلْمِ، والدِّينِ، والفَضْلِ، والصِّدْقِ بِالمَحَلِّ الَّذِي لا يَخْفى، ولا يُعْرَفُ في أصْحابِهِ مُتَّهَمٌ، ولا كَذّابٌ، ولا مَجْرُوحٌ، بَلْ أصْحابُهُ مِن أفاضِلِ المُسْلِمِينَ وخِيارِهِمْ، ولا يَشُكُّ أهْلُ العِلْمِ بِالنَّقْلِ في ذَلِكَ، كَيْفَ وشُعْبَةُ حامِلُ لِواءِ هَذا الحَدِيثِ ؟ وقالَ بَعْضُ أئِمَّةِ الحَدِيثِ: إذا رَأيْتَ شُعْبَةَ في إسْنادِ حَدِيثٍ فاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ. قالَ أبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ: وقَدْ قِيلَ: إنَّ عُبادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَواهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعاذٍ، وهَذا إسْنادٌ مُتَّصِلٌ، ورِجالُهُ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ عَلى أنَّ أهْلَ (p-١٧٥)العِلْمِ قَدْ نَقَلُوهُ واحْتَجُّوا بِهِ. فَوَقَفْنا بِذَلِكَ عَلى صِحَّتِهِ عِنْدَهم، كَما وقَفْنا بِذَلِكَ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ»، وقَوْلِهِ في البَحْرِ: «هو الطَّهُورُ ماؤُهُ، الحَلُّ مَيْتَتُهُ»، وقَوْلِهِ: «إذا اخْتَلَفَ المُتَبايِعانِ في الثَّمَنِ، والسِّلْعَةُ قائِمَةٌ تَحالَفا وتَرادّا البَيْعَ»، وقَوْلِهِ: «الدِّيَةُ عَلى العاقِلَةِ» . وإنَّ كانَتْ هَذِهِ الأحادِيثُ لا تَثْبُتُ مِن جِهَةِ الإسْنادِ ولَكِنْ لَمّا تَلَقَّتْها الكافَّةُ عَنِ الكافَّةِ غَنُوا بِصِحَّتِها عِنْدَهم عَنْ طَلَبِ الإسْنادِ لَها. فَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُعاذٍ لَمّا احْتَجُّوا بِهِ جَمِيعًا غَنُوا عَنْ طَلَبِ الإسْنادِ لَهُ. انْتَهى مِنهُ. وحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ العاصِ وأبِي هُرَيْرَةَ الثّابِتُ في الصَّحِيحَيْنِ شاهِدٌ لَهُ كَما قَدَّمْنا، ولَهُ شَواهِدُ غَيْرُ ذَلِكَ سَتَراها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ:
اعْلَمْ أنَّ الِاجْتِهادَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ أنْواعٌ مُتَعَدِّدَةٌ:
(مِنها): الِاجْتِهادُ في تَحْقِيقِ المَناطِ، وقَدْ قَدَّمْنا كَثِيرًا مِن أمْثِلَتِهِ في ”الإسْراءِ“ .
(ومِنها): الِاجْتِهادُ في تَنْقِيحِ المَناطِ، ومِن أنْواعِهِ: السَّبْرُ، والتَّقْسِيمُ، والإلْحاقُ بِنَفْيِ الفارِقِ.
واعْلَمْ أنَّ الِاجْتِهادَ بِإلْحاقِ المَسْكُوتِ عَنْهُ بِالمَنطُوقِ بِهِ قِسْمانِ:
الأوَّلُ: الإلْحاقُ بِنَفْيِ الفارِقِ، وهو قِسْمٌ مِن تَنْقِيحِ المَناطِ كَما ذَكَرْناهُ آنِفًا. ويُسَمّى عِنْدَ الشّافِعِيِّ القِياسَ في مَعْنى الأصْلِ، وهو بِعَيْنِهِ مَفْهُومُ المُوافَقَةِ، ويُسَمّى أيْضًا القِياسَ الجَلِيَّ.
والثّانِي مِن نَوْعَيِ الإلْحاقِ: هو القِياسُ المَعْرُوفُ بِهَذا الِاسْمِ في اصْطِلاحِ أهْلِ الأُصُولِ.
أمّا القِسْمُ الأوَّلُ الَّذِي هو الإلْحاقُ بِنَفْيِ الفارِقِ فَلا يُحْتاجُ فِيهِ إلى وصْفٍ جامِعٍ بَيْنَ الأصْلِ والفَرْعِ وهو العِلَّةُ. بَلْ يُقالُ فِيهِ: لَمْ يُوجَدْ بَيْنَ هَذا المَنطُوقِ بِهِ وهَذا المَسْكُوتِ عَنْهُ فَرْقٌ فِيهِ يُؤَثِّرُ في الحُكْمِ ألْبَتَّةَ، فَهو مِثْلُهُ في الحُكْمِ، وأقْسامُهُ أرْبَعَةٌ، لِأنَّ المَسْكُوتَ عَنْهُ إمّا أنْ يَكُونَ مُساوِيًا لِلْمَنطِقِ بِهِ في الحُكْمِ، أوْ أوْلى بِهِ مِنهُ، وفي كُلٍّ مِنهُما إمّا أنْ يَكُونَ نَفْيُ الفارِقِ بَيْنَهُما مَقْطُوعًا بِهِ أوْ مَظْنُونًا. فالمَجْمُوعُ أرْبَعَةٌ:
(الأوَّلُ مِنها): أنْ يَكُونَ المَسْكُوتُ عَنْهُ أوْلى بِالحُكْمِ مِنَ المَنطُوقِ بِهِ مَعَ القَطْعِ بِنَفْيِ (p-١٧٦)الفارِقِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ [الإسراء: ٢٣] فالضَّرْبُ المَسْكُوتُ عَنْهُ أوْلى بِالحُكْمِ الَّذِي هو التَّحْرِيمُ مِنَ التَّأْفِيفِ المَنطُوقِ بِهِ مَعَ القَطْعِ بِنَفْيِ الفارِقِ، وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢] فَشَهادَةُ أرْبَعَةٍ عُدُولٍ المَسْكُوتُ عَنْها أوْلى بِالحُكْمِ وهو القَبُولُ مِنَ المَنطُوقِ بِهِ، وهو شَهادَةُ العَدْلَيْنِ مَعَ القَطْعِ بِنَفْيِ الفارِقِ.
(والثّانِي مِنها): أنْ يَكُونَ المَسْكُوتُ عَنْهُ أوْلى بِالحُكْمِ مِنَ المَنطُوقِ بِهِ أيْضًا، إلّا أنَّ نَفْيَ الفارِقِ بَيْنَهُما لَيْسَ قَطْعِيًّا، بَلْ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا مُزاحِمًا لِلْيَقِينِ. ومِثالُهُ نَهْيُهُ ﷺ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالعَوْراءِ. فالتَّضْحِيَةُ بِالعَمْياءِ المَسْكُوتِ عَنْها أوْلى بِالحُكْمِ وهو المَنعُ مِنَ التَّضْحِيَةِ بِالعَوْراءِ المَنطُوقِ بِها، إلّا أنَّ نَفْيَ الفارِقِ بَيْنَهُما لَيْسَ قَطْعِيًّا بَلْ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا؛ لِأنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالعَوْراءِ كَوْنُها ناقِصَةً ذاتًا وثَمَنًا وقِيمَةً، وهَذا هو الظّاهِرُ، وعَلَيْهِ فالعَمْياءُ أنْقَصُ مِنها ذاتًا وقِيمَةً. وهُناكَ احْتِمالٌ آخَرُ: هو الَّذِي مَنَعَ مِنَ القَطْعِ بِنَفْيِ الفارِقِ، وهو احْتِمالُ أنْ تَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالعَوْراءِ أنَّ العَوَرَ مَظِنَّةُ الهُزالِ؛ لِأنَّ العَوْراءَ ناقِصَةُ البَصَرِ، وناقِصَةُ البَصَرِ تَكُونُ ناقِصَةَ الرَّعْيِ؛ لِأنَّها لا تَرى إلّا ما يُقابِلُ عَيْنًا واحِدَةً، ونَقْصُ الرَّعْيِ مَظِنَّةٌ لِلْهُزالِ. وعَلى هَذا الوَجْهِ فالعَمْياءُ لَيْسَتْ كالعَوْراءِ؛ لِأنَّ العَمْياءَ يُخْتارُ لَها أحْسَنُ العَلَفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِسِمَنِها.
(والثّالِثُ مِنها): أنْ يَكُونَ المَسْكُوتُ عَنْهُ مُساوِيًا لِلْمَنطُوقِ بِهِ في الحُكْمِ مَعَ القَطْعِ بِنَفْيِ الفارِقِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا﴾ الآيَةَ [النساء: ١٠] . فَإحْراقُ أمْوالِ اليَتامى وإغْراقُها المَسْكُوتُ عَنْهُ مُساوٍ لِلْأكْلِ المَنطُوقِ بِهِ في الحُكْمِ الَّذِي هو التَّحْرِيمُ، والوَعِيدُ بِعَذابِ النّارِ مَعَ القَطْعِ بِنَفْيِ الفارِقِ. (والرّابِعُ مِنها): أنْ يَكُونَ المَسْكُوتُ عَنْهُ مُساوِيًا لِلْمَنطُوقِ بِهِ في الحُكْمِ أيْضًا، إلّا أنَّ نَفْيَ الفارِقِ بَيْنَهُما مَظْنُونٌ ظَنًّا قَوِيًّا مُزاحِمًا لِلْيَقِينِ، ومِثالُهُ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ ”مَن أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ. .“ الحَدِيثُ المُتَقَدِّمُ في ”الإسْراءِ، والكَهْفِ“، فَإنَّ المَسْكُوتَ عَنْهُ وهو عِتْقُ بَعْضِ الأمَةِ مُساوٍ لِلْمَنطُوقِ بِهِ وهو عِتْقُ بَعْضِ العَبْدِ في الحُكْمِ الَّذِي هو سَرايَةُ العِتْقِ المُبَيَّنَةُ في الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ مِرارًا. إلّا أنَّ نَفْيَ الفارِقِ بَيْنَهُما مَظْنُونٌ ظَنًّا قَوِيًّا؛ لِأنَّ الذُّكُورَةَ والأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إلى العِتْقِ وصْفانِ طَرْدِيّانِ لا يُناطُ بِهِما حُكْمٌ مِن أحْكامِ العِتْقِ. كَما قَدَّمْناهُ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ ”مَرْيَمَ“ وهُناكَ احْتِمالٌ آخَرُ هو الَّذِي مَنَعَ مِنَ القَطْعِ بِنَفْيِ الفارِقِ، وهو احْتِمالُ أنْ يَكُونَ الشّارِعُ نَصَّ عَلى سَرايَةِ العِتْقِ في خُصُوصِ العَبْدِ الذَّكَرِ، مُخَصِّصًا لَهُ بِذَلِكَ الحُكْمِ دُونَ الأُنْثى؛ لِأنَّ عِتْقَ الذَّكَرِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الآثارِ الشَّرْعِيَّةِ ما لا يَتَرَتَّبُ عَلى عِتْقِ (p-١٧٧)الأُنْثى، كالجِهادِ، والإمامَةِ، والقَضاءِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ المَناصِبِ المُخْتَصَّةِ بِالذُّكُورِ دُونَ الإناثِ. وقَدْ أكْثَرْنا مِن أمْثِلَةِ هَذا النَّوْعِ الَّذِي هو الإلْحاقُ بِنَفْيِ الفارِقِ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ .
(وأمّا النَّوْعُ الثّانِي مِن أنْواعِ الإلْحاقِ): فَهو القِياسُ المَعْرُوفُ في الأُصُولِ، وهو المَعْرُوفُ بِقِياسِ التَّمْثِيلِ. وسَنُعَرِّفُهُ هُنا لُغَةً واصْطِلاحًا، ونَذْكُرُ أقْسامَهُ، وما ذَكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن أمْثِلَتِهِ في القُرْآنِ:
اعْلَمْ أنَّ القِياسَ في اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ والتَّسْوِيَةُ. يُقالُ: قاسَ الثَّوْبَ بِالذِّراعِ، وقاسَ الجُرْحَ بِالمِيلِ (بِالكَسْرِ) وهو المِرْوَدُ، إذا قَدَّرَ عُمْقَهُ بِهِ؛ ولِهَذا سُمِّيَ المِيلُ مِقْياسًا، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ البُعَيْثِ بْنِ بِشْرٍ يَصِفُ جِراحَةً أوْ شَجَّةً:
؎إذا قاسَها الآسِي النَّطاسِيُّ أدْبَرَتْ غَثِيثَتُها وازْدادَ وهْيًا هَزُومُها
فَقَوْلُهُ: ”قاسَها“ يَعْنِي قَدَّرَ عُمْقَها بِالمِيلِ.
والآسِي: الطَّبِيبُ، والنِّطاسِيُّ (بِكَسْرِ النُّونِ وفَتْحِها): الماهِرُ بِالطِّبِّ، والغَثِيثَةُ (بِثاءَيْنِ مُثَلَّثَتَيْنِ): مِدَّةُ الجُرْحِ وقَيْحُهُ، وما فِيهِ مِن لَحْمٍ مَيِّتٍ، والوَهْيُ: التَّخَرُّقُ والتَّشَقُّقُ، والهُزُومُ: غَمْزُ الشَّيْءِ بِاليَدِ فَيَصِيرُ فِيهِ حُفْرَةٌ كَما يَقَعُ في الوَرَمِ الشَّدِيدِ.
وَتَعْرِيفُ القِياسِ المَذْكُورِ في اصْطِلاحِ أهْلِ الأُصُولِ كَثُرَتْ فِيهِ عِباراتُ الأُصُولِيِّينَ مَعَ مُناقَشاتٍ مَعْرُوفَةٍ في تَعْرِيفاتِهِمْ لَهُ. واخْتارَ غَيْرُ واحِدٍ مِنهم تَعْرِيفَهُ بِأنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلى مَعْلُومٍ، أيْ: إلْحاقُهُ بِهِ في حُكْمِهِ لِمُساواتِهِ لَهُ في عِلَّةِ الحُكْمِ. وهَذا التَّعْرِيفُ إنَّما يَشْمَلُ القِياسَ الصَّحِيحَ دُونَ الفاسِدِ. والتَّعْرِيفُ الشّامِلُ لِلْفاسِدِ هو أنْ تَزِيدَ عَلى تَعْرِيفِ الصَّحِيحِ لَفْظَةُ عِنْدَ الحامِلِ، فَتَقُولُ: هو إلْحاقٌ مَعْلُومٌ في حُكْمِهِ لِمُساواتِهِ لَهُ في عِلَّةِ الحُكْمِ عِنْدَ الحامِلِ، فَيَدْخُلُ الفاسِدُ في الحَدِّ مَعَ الصَّحِيحِ، كَما أشارَ إلَيْهِ صاحِبُ مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ مُعَرِّفًا لِلْقِياسِ:
؎يُحْمَلُ مَعْلُومٌ عَلى ما قَدْ عُلِمْ ∗∗∗ لِلِاسْتِوا في عِلَّةِ الحُكْمِ وسَمْ
؎وَإنْ تُرِدْ شُمُولَهُ لِما فَسَدْ ∗∗∗ فَزِدْ لَدى الحامِلِ والزَّيْدُ أسَدْ
وَمَعْلُومٌ أنَّ أرْكانَ القِياسِ المَذْكُورِ أرْبَعَةٌ: وهي الأصْلُ المَقِيسُ عَلَيْهِ، والفَرْعُ المَقِيسُ، والعِلَّةُ الجامِعَةُ بَيْنَهُما، وحُكْمُ الأصْلِ المَقِيسِ عَلَيْهِ.
فَلَوْ قِسْنا النَّبِيذَ عَلى الخَمْرِ، فالأصْلُ: الخَمْرُ، والفَرْعُ: النَّبِيذُ، والعِلَّةُ: الإسْكارُ، (p-١٧٨)وَحُكْمُ الأصْلِ الَّذِي هو الخَمْرُ: التَّحْرِيمُ. وشُرُوطُ هَذِهِ الأرْكانِ الأرْبَعَةِ والبَحْثُ فِيها مُسْتَوْفًى في أُصُولِ الفِقْهِ، فَلا نُطِيلُ بِهِ الكَلامَ هُنا.
واعْلَمْ أنَّ القِياسَ المَذْكُورَ يَنْقَسِمُ بِالنَّظَرِ إلى الجامِعِ بَيْنَ الفَرْعِ والأصْلِ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ:
الأوَّلُ: قِياسُ العِلَّةِ.
والثّانِي: قِياسُ الدَّلالَةِ.
والثّالِثُ: قِياسُ الشَّبَهِ.
أمّا قِياسُ العِلَّةِ فَضابِطُهُ أنْ يَكُونَ الجَمْعُ بَيْنَ الفَرْعِ والأصْلِ بِنَفْسِ عِلَّةِ الحُكْمِ، فالجَمْعُ بَيْنَ النَّبِيذِ والخَمْرِ بِنَفْسِ العِلَّةِ الَّتِي هي الإسْكارُ، والقَصْدُ مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ؛ لِأنّا قَدْ قَدَّمْنا أنَّ قِياسَ النَّبِيذِ عَلى الخَمْرِ لا يَصِحُّ؛ لِوُجُودِ النَّصِّ عَلى أنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وأنَّ ما أسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرامٌ " . والقِياسُ لا يَصِحُّ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلى أنَّ حُكْمَ الفَرْعِ المَذْكُورِ كَحُكْمِ الأصْلِ، إلّا أنَّ المِثالَ يَصِحُّ بِالتَّقْدِيرِ والفَرْضِ، ومُطْلَقِ الِاحْتِمالِ كَما تَقَدَّمَ. وكالجَمْعِ بَيْنَ البُرِّ والذُّرَةِ بِنَفْسِ العِلَّةِ الَّتِي هي الكَيْلُ مَثَلًا عِنْدَ مَن يَقُولُ بِذَلِكَ، وإلى هَذا أشارَ في المَراقِي بِقَوْلِهِ:
؎وَما بِذاتِ عِلَّةٍ قَدْ جُمِعا ∗∗∗ فِيهِ فَقَيْسُ عِلَّةٍ قَدْ سُمِعا
وَأمّا قِياسُ الدَّلالَةِ فَضابِطُهُ أنْ يَكُونَ الجَمْعُ فِيهِ بِدَلِيلِ العِلَّةِ لا بِنَفْسِ العِلَّةِ، كَأنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الفَرْعِ والأصْلِ بِمَلْزُومِ العِلَّةِ أوْ أثَرِها أوْ حُكْمِها. فَمِثالُ الجَمْعِ بِمَلْزُومِ العِلَّةِ أنْ يُقالَ: النَّبِيذُ حَرامٌ كالخَمْرِ بِجامِعِ الشِّدَّةِ المُطْرِبَةِ، وهي مَلْزُومٌ لِلْإسْكارِ، بِمَعْنى أنَّها يَلْزَمُ مِن وُجُودِ الإسْكارِ. ومِثالُ الجَمْعِ بِأثَرِ العِلَّةِ أنْ يُقالَ: القَتْلُ بِالمُثْقَلِ يُوجِبُ القِصاصَ كالقَتْلِ بِمُحَدَّدٍ، بِجامِعِ الإثْمِ وهو أثَرُ العِلَّةِ وهي لِلْقَتْلِ العَمْدِ العُدْوانِ. ومِثالُ الجَمْعِ بِحُكْمِ العِلَّةِ أنْ يُقالَ: تُقْطَعُ الجَماعَةُ بِالواحِدِ كَما يُقْتَلُونَ بِهِ، بِجامِعِ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ حَيْثُ كانَ غَيْرَ عَمْدٍ، وهو حُكْمُ العِلَّةِ الَّتِي هي القِطَعُ مِنهم في الصُّورَةِ الأُولى، والقَتْلُ مِنهم في الثّانِيَةِ. وإلى تَعْرِيفِ قِياسِ الدَّلالَةِ المَذْكُورِ أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
؎جامِعُ ذِي الدَّلالَةِ الَّذِي لَزِمْ ∗∗∗ فَأثَّرَ فَحُكْمُها كَما رُسِمْ
وَقَوْلُهُ: ”الَّذِي لَزِمَ“ بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ يَعْنِي اللّازِمَ، وتَعْبِيرُهُ هُنا بِاللّازِمِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ غَلَطٌ مِنهُ ومِمَّنْ تَبِعَهُ هو؛ لِأنَّ وُجُودَ اللّازِمِ لا يَكُونُ دَلِيلًا عَلى وُجُودِ المَلْزُومِ بِإطْباقِ (p-١٧٩)العُقَلاءِ؛ لِاحْتِمالِ كَوْنِ اللّازِمِ أعَمَّ مِنَ المَلْزُومِ، ووُجُودُ الأعَمِّ لا يَقْتَضِي وُجُودَ الأخَصِّ كَما هو مَعْرُوفٌ. ولِذا أجْمَعَ النُّظّارُ عَلى أنَّ اسْتِثْناءَ عَيْنِ التّالِي في الشَّرْطِ المُتَّصِلِ لا يُنْتِجُ عَيْنَ المُقَدَّمِ؛ لِأنَّ وُجُودَ اللّازِمِ لا يَقْتَضِي وُجُودَ المَلْزُومِ، والصَّوابُ ما مَثَّلْنا بِهِ مِنَ الجَمْعِ بِمَلْزُومِ العِلَّةِ؛ لِأنَّ المَلْزُومَ هو الَّذِي يَقْتَضِي وُجُودُهُ وُجُودَ اللّازِمِ كَما هو مَعْرُوفٌ، فالشِّدَّةُ المُطْرِبَةُ والإسْكارُ مُتَلازِمانِ، ودَلالَةُ الشِّدَّةِ المُطْرِبَةِ عَلى الإسْكارِ إنَّما هي مِن حَيْثُ إنَّها مَلْزُومٌ لَهُ لا لازِمٌ، لِما عَرَفْتَ مِن أنَّ وُجُودَ اللّازِمِ لا يَقْتَضِي وُجُودَ المَلْزُومِ، واقْتِضاؤُهُ لَهُ هُنا إنَّما هو لِلْمُلازَمَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما لازِمٌ لِلْآخَرِ ومَلْزُومٌ لَهُ لِلْمُلازِمَةِ بَيْنَهُما مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَأمّا قِياسُ الشَّبَهِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِباراتُ أهْلِ الأُصُولِ، فَعَرَفَ بَعْضُهُمُ الشَّبَهَ بِأنَّهُ مَنزِلَةٌ بَيْنَ المُناسِبِ والطَّرْدِ، وعَرَّفَهُ بَعْضُهم بِأنَّهُ المُناسِبُ بِالتَّبَعِ بِالذّاتِ. ومَعْنى هَذا كَمَعْنى تَعْرِيفِ مَن عَرَّفَهُ بِأنَّهُ المُسْتَلْزِمِ لِلْمُناسِبِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: عِباراتُ أهْلِ الأُصُولِ في الشَّبَهِ الَّذِي هو المَسْلَكُ السّادِسُ مِن مَسالِكِ العِلَّةِ عِنْدَ المالِكِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ كُلُّها تَدُورُ حَوْلَ شَيْءٍ واحِدٍ، وهو أنَّ الوَصْفَ الجامِعَ في قِياسِ الشَّبَهِ يُشْبِهُ المُناسِبَ مِن وجْهِهِ، ويُشْبِهُ الوَصْفَ الطَّرْدِيَّ مِن جِهَةٍ أُخْرى.
وَقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ ”مَرْيَمَ“ أنَّ المُناسِبَ هو الوَصْفُ الَّذِي تَتَضَمَّنُ إناطَةُ الحُكْمِ بِهِ مَصْلَحَةً مِن جَلْبِ نَفْعٍ أوْ دَفْعِ ضُرٍّ، والطَّرْدِيُّ هو ما لَيْسَ كَذَلِكَ، إمّا في جَمِيعِ الأحْكامِ وإمّا في بَعْضِها، ولا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ الأُصُولِ في أنَّ ما يُسَمّى بِغَلَبَةِ الأشْباهِ لا يَخْرُجُ عَنْ قِياسِ الشَّبَهِ؛ لِأنَّ بَعْضَهم يَقُولُ: إنَّهُ داخِلٌ فِيهِ، وهو الظّاهِرُ، وبَعْضُهم يَقُولُ: هو بِعَيْنِهِ لا شَيْءٌ آخَرُ. وغَلَبَةُ الأشْياءِ هو إلْحاقُ فَرْعٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أصْلَيْنِ بِأكْثَرِهِما شَبَهًا بِهِ، كالعَبْدِ فَإنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أصْلَيْنِ لِشَبَهِهِ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، فَهو يُشْبِهُ المالَ لِكَوْنِهِ يُباعُ ويُشْتَرى ويُوهَبُ ويُورَثُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أحْوالِ المالِ، ويُشْبِهُ الحُرَّ مِن حَيْثُ إنَّهُ إنْسانٌ يَنْكِحُ ويُطَلِّقُ ويُثابُ ويُعاقَبُ، وتَلْزَمُهُ أوامِرُ الشَّرْعِ ونَواهِيهِ. وأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّ شَبَهَهُ بِالمالِ أكْثَرُ مِن شَبَهِهِ بِالحُرِّ؛ لِأنَّهُ يُشْبِهُ المالَ في الحُكْمِ والصِّفَةِ مَعًا أكْثَرَ مِمّا يُشْبِهُ الحُرَّ فِيهِما.
فَمِن شَبَهِهِ بِالمالِ في الحُكْمِ: كَوْنُهُ يُباعُ ويُشْتَرى ويُورَثُ، ويُوهَبُ ويُعارُ، ويُدْفَعُ في الصَّداقِ والخُلْعِ، ويُرْهَنُ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفاتِ المالِيَّةِ.
وَمِن شَبَهِهِ بِالمالِ في الصِّفَةِ: كَوْنُهُ تَتَفاوَتُ قِيمَتُهُ بِحَسَبِ تَفاوُتِ أوْصافِهِ جَوْدَةً (p-١٨٠)وَرَداءَةً كَسائِرِ الأمْوالِ. فَلَوْ قَتَلَ إنْسانٌ عَبْدًا لِآخَرَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ نَظَرًا إلى أنَّ شَبَهَهُ بِالمالِ أغْلَبُ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: تَلْزَمُهُ دِيَتُهُ كالحُرِّ زَعْمًا مِنهُ أنَّ شَبَهَهُ بِالحُرِّ أغْلَبُ، فَإنْ قِيلَ: بِأيِّ طَرِيقٍ يَكُونُ هَذا النَّوْعُ الَّذِي هو غَلَبَةُ الأشْباهِ مِنَ الشَّبَهِ؛ لِأنَّكم قَرَّرْتُمْ أنَّهُ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ المُناسِبِ والطَّرْدِيِّ، فَما وجْهُ كَوْنِهِ مَرْتَبَةً بَيْنَ المُناسِبِ والطَّرْدِيِّ ؟ فالجَوابُ أنَّ إيضاحَ ذَلِكَ فِيهِ أنَّ أوْصافَهُ المُشابِهَةَ لِلْمالِ كَكَوْنِهِ يُباعُ ويُشْتَرى. . إلخ طَرْدِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى لُزُومِ الدِّيَةِ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ كالمالِ لَيْسَ صالِحًا لِأنْ يُناطَ بِهِ لُزُومُ دِيَتِهِ إذا قُتِلَ، وكَذَلِكَ أوْصافُهُ المُشابِهَةُ لِلْحُرِّ كَكَوْنِهِ مُخاطَبًا يُثابُ ويُعاقَبُ إلخ. فَهي طَرْدِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى لُزُومِ القِيمَةِ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ كالحُرِّ لَيْسَ صالِحًا لِأنْ يُناطَ بِهِ لُزُومُ القِيمَةِ، فَهو مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ يُشْبِهُ الطَّرْدِيَّ كَما تَرى، أمّا تَرَتُّبُ القَيِّمَةِ عَلى أوْصافِهِ المُشابِهَةِ لِأوْصافِ المالِ فَهو مُناسِبٌ كَما تَرى، وكَذَلِكَ تَرَتُّبُ الدِّيَةِ عَلى أوْصافِهِ المُشابِهَةِ لِأوْصافِ الحُرِّ مُناسِبٌ، وبِهَذَيْنِ الِاعْتِبارَيْنِ يَتَّضِحُ كَوْنُهُ مَرْتَبَةً بَيْنَ المُناسِبِ والطَّرْدِيِّ.
وَمِن أمْثِلَةِ أنْواعِ الشَّبَهِ غَيْرِ غَلَبَةِ الأشْباهِ: الشَّبَهُ الَّذِي الوَصْفُ الجامِعُ فِيهِ لا يُناسِبُ لِذاتِهِ، ولَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ المُناسِبَ لِذاتِهِ، وقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ القَرِيبِ في جِنْسِ الحُكْمِ القَرِيبِ، كَقَوْلِكَ في الخَلِّ: مائِعٌ لا تُبْنى القَنْطَرَةُ عَلى جِنْسِهِ، فَلا يُرْفَعُ بِهِ الحَدَثُ ولا حُكْمُ الخَبَثِ - قِياسًا عَلى الدُّهْنِ. فَقَوْلُكَ: ”لا تُبْنى القَنْطَرَةُ عَلى جِنْسِهِ“ لَيْسَ مُناسِبًا في ذاتِهِ؛ لِأنَّ بِناءَ القَنْطَرَةِ عَلى المائِعِ في حَدِّ ذاتِهِ وصْفٌ طَرْدِيٌّ إلّا أنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُناسِبِ، لِأنَّ العادَةَ المُطَّرِدَةَ أنَّ القَنْطَرَةَ لا تُبْنى عَلى المائِعِ القَلِيلِ، بَلْ عَلى الكَثِيرِ كالأنْهارِ، والقِلَّةُ مُناسِبَةٌ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ المُتَّصِفِ بِها مِنَ المائِعاتِ لِلطَّهارَةِ العامَّةِ، فَإنَّ الشَّرْعَ العامَّ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ أسْبابُهُ عامَّةَ الوُجُودِ، أمّا تَكْلِيفُ الجَمِيعِ بِما لا يَجِدُهُ إلّا البَعْضُ فَبَعِيدٌ مِنَ القَواعِدِ، فَصارَ قَوْلُكَ: ”لا تُبْنى القَنْطَرَةُ عَلى جِنْسِهِ“ لَيْسَ بِمُناسِبٍ، وهو مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُناسِبِ. وقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِتَأْثِيرِ جِنْسِ القِلَّةِ، والتَّعَذُّرِ في عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهارَةِ، بِدَلِيلِ أنَّ الماءَ إذا قَلَّ واشْتَدَّتْ إلَيْهِ الحاجَةُ فَإنَّهُ يَسْقُطُ الأمْرُ بِالطَّهارَةِ بِهِ ويَنْتَقِلُ إلى التَّيَمُّمِ.
وَأمّا الشَّبَهُ الصُّورِيُّ فَقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ ”النَّحْلِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾ [النحل: ٦٦] وقَدْ قَدَّمْنا في أوَّلِ سُورَةِ ”بَراءَةَ“ كَلامَ ابْنِ العَرَبِيِّ الَّذِي قالَ فِيهِ: ألا تَرى إلى عُثْمانَ وأعْيانِ الصَّحابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا إلى قِياسِ النِّسْبَةِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، ورَأوْا أنَّ قِصَّةَ ”بَراءَةَ“ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ ”الأنْفالِ“ فَألْحَقُوها بِها، فَإذا كانَ القِياسُ (p-١٨١)يَدْخُلُ في تَأْلِيفِ القُرْآنِ، فَما ظَنُّكَ بِسائِرِ الأحْكامِ ؟ وإلى الشَّبَهِ المَذْكُورِ أشارَ في مَراقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
؎والشَّبَهُ المُسْتَلْزِمُ المُناسَبا ∗∗∗ مِثْلُ الوُضُو يَسْتَلْزِمُ التَّقَرُّبا
؎مَعَ اعْتِبارِ جِنْسِهِ القَرِيبِ ∗∗∗ في مِثْلِهِ لِلْحُكْمِ لا الغَرِيبِ
؎صَلاحُهُ لَمْ يَدْرِ دُونَ الشَّرْعِ ∗∗∗ ولَمْ يُنَطْ مُناسِبٌ بِالسَّمْعِ
؎وَحَيْثُما أمْكَنَ قَيْسُ العِلَّةِ ∗∗∗ فَتَرْكُهُ بِالِاتِّفاقِ أثْبَتُ
؎إلّا فَفي قَبُولِهِ تَرَدُّدْ ∗∗∗ غَلَبَةُ الأشْباهِ هو الأجْوَدْ
؎فِي الحُكْمِ والصِّفَةِ ثُمَّ الحُكْمِ ∗∗∗ فَصِفَةٌ فَقَطْ لَدى ذِي العِلْمِ
؎وابْنُ عُلَيَّةَ يَرى لِلصُّورِي ∗∗∗ كالقَيْسِ لِلْخَيْلِ عَلى الحَمِيرِ
واعْلَمْ أنَّ قِياسَ الطَّرْدِ يَصْدُقُ بِأمْرَيْنِ؛ لِأنَّ الطَّرْدَ يُطْلَقُ إطْلاقَيْنِ: يُطْلَقُ عَلى الوَصْفِ الطَّرْدِيِّ الَّذِي لا يَصْلُحُ لِإناطَةِ حُكْمٍ بِهِ لِخُلُوِّهِ مِنَ الفائِدَةِ. كَما لَوْ ظَنَّ بَعْضُ القائِلِينَ بِنَقْضِ الوُضُوءِ بِلَحْمِ الجَزُورِ أنَّ عِلَّةَ النَّقْضِ بِهِ الحَرارَةُ، فَألْحَقَ بِهِ لَحْمَ الظَّبْيِ قائِلًا: إنَّهُ يَنْقُضُ الوُضُوءَ قِياسًا عَلى لَحْمِ الجَزُورِ بِجامِعِ الحَرارَةِ، فَهَذا القِياسُ باطِلٌ؛ لِأنَّ الوَصْفَ الجامِعَ فِيهِ طَرْدِيٌّ. ومِثْلُهُ كُلُّ ما كانَ الوَصْفُ الجامِعُ فِيهِ طَرْدِيًّا وهو أحَدُ الأمْرَيْنِ لِلَّذِينِ يُطْلَقُ عَلَيْهِما قِياسُ الطَّرْدِ.
والأمْرُ الثّانِي: مِنهُما هو القِياسُ الَّذِي الوَصْفُ الجامِعُ فِيهِ مُسْتَنْبَطًا بِالمَسْلَكِ الثّامِنِ المَعْرُوفِ (بِالطَّرْدِ) وهو الدَّوْرِيُّ الوُجُودِيُّ، وإيضاحُهُ أنَّهُ مُقارَنَةُ الحُكْمِ لِلْوَصْفِ في جَمِيعِ صُوَرِهِ غَيْرَ الصُّورَةِ الَّتِي فِيها النِّزاعُ في الوُجُودِ فَقَطْ دُونَ العَدَمِ. والِاخْتِلافُ في إفادَتِهِ العِلَّةَ مَعْرُوفٌ في الأُصُولِ.
واعْلَمْ أنَّ القِياسَ وما يَتَعَلَّقُ بِهِ مُوَضَّحٌ في فَنِّ أُصُولِ الفِقْهِ، والأدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلى أنَّ الوَصْفَ المُعَيَّنَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ المُعَيَّنِ هي المَعْرُوفَةُ بِمَسالِكِ العِلَّةِ، وهي عَشْرَةٌ عِنْدَ مَن يَعُدُّ مِنها إلْغاءَ الفارِقِ، وتِسْعَةٌ عِنْدَ مَن لا يَعُدُّهُ مِنها، وهي: النَّصُّ، والإجْماعُ، والإيماءُ، والسَّبْرُ، والتَّقْسِيمُ، والمُناسَبَةُ، والشَّبَهُ، والدَّوَرانُ، والطَّرْدُ، وتَنْقِيحُ المَناطِ، وإلْغاءُ الفارِقِ. والتَّحْقِيقُ أنَّهُ نَوْعٌ مِن تَنْقِيحِ المَناطِ كَما قَدَّمْنا.
وَقَدْ نَظَّمَها بَعْضُهم بِقَوْلِهِ:
؎مَسالِكُ عِلَّةٍ رَتِّبْ فَنَصٌّ ∗∗∗ فَإجْماعٌ فَإيماءٌ فَسَبْرُ
؎مُناسَبَةٌ كَذا مُشْبِهٌ فَيَتْلُو ∗∗∗ لَهُ الدَّوَرانُ طَرْدٌ يَسْتَمِرُّ
؎فَتَنْقِيحُ المَناطِ فَألْغِ فَرْقًا ∗∗∗ وتِلْكَ لِمَن أرادَ الحَصْرَ عَشْرُ
(p-١٨٢)وَمَحَلُّ إيضاحِها فَنُّ أُصُولِ الفِقْهِ، وقَدْ أوْضَحْناها في غَيْرِ هَذا المَحَلِّ.
وَأمّا القَوادِحُ في الدَّلِيلِ مِن قِياسٍ وغَيْرِهِ فَهي مَعْرُوفَةٌ في فَنِّ الأُصُولِ، وقَدْ نَظَّمَها بِاخْتِصارٍ الشَّيْخِ عُمَرُ الفاسِيُّ بِقَوْلِهِ:
؎القَدْحُ بِالنَّقْضِ وبِالكَسْرِ مَعًا ∗∗∗ تَخْلُفُ العَكْسَ وبِالقَلْبِ اسْمَعا
؎وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ بِالوَصْفِ وفي ∗∗∗ أصْلٍ وفَرْعٍ ثُمَّ حُكْمٍ فاقْتَفِي
؎والمَنعُ والفَرْقُ وبِالتَّقْسِيمِ ∗∗∗ وبِاخْتِلافِ الضّابِطِ المَعْلُومِ
؎وَفَقْدُ الِانْضِباطِ والظُّهُورِ ∗∗∗ والخَدْشُ في تَناسُبِ المَذْكُورِ
؎وَكَوْنُ ذاكَ الحُكْمِ لا يُفْضِي إلى ∗∗∗ مَقْصُودِ ذِي الشَّرْعِ العَزِيزِ فاقْبَلا
؎والخَدْشُ في الوَضْعِ والِاعْتِبارِ ∗∗∗ والقَوْلُ بِالمُوجَبِ ذُو اعْتِبارِ
؎وابْدَأْ بِاسْتِفْسارٍ في الإجْمالِ ∗∗∗ أوِ الغَرابَةِ بِلا إشْكالِ
وَإنَّما لَمْ نُوَضِّحْ هُنا المَسالِكَ والقَوادِحَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلى الإطالَةِ المُمِلَّةِ، مَعَ أنَّ الجَمِيعَ مُوَضَّحٌ في أُصُولِ الفِقْهِ، وقَدْ أوْضَحْناهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، وقَصْدُنا هُنا التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ في الجُمْلَةِ مِن غَيْرِ تَفْصِيلٍ. فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ العَلّامَةَ ابْنَ القَيِّمِ تَعالى شَفى الغَلِيلَ بِما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ في هَذِهِ المَسائِلِ في كِتابِهِ إعْلامِ المُوَقِّعِينِ عَنْ رَبِّ العالَمِينَ، وسَنَذْكُرُ هُنا إنْ شاءَ اللَّهُ جُمَلًا وافِيَةً مُفِيدَةً مِن كَلامِهِ في هَذا المَوْضُوعِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ. قالَ في كَلامِهِ عَلى قَوْلِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رِسالَتِهِ المَشْهُورَةِ إلى أبِي مُوسى: (ثُمَّ الفَهْمَ الفَهْمَ فِيما أدْلى إلَيْكَ مِمّا ورَدَ عَلَيْكَ مِمّا لَيْسَ في قُرْآنٍ، ولا سُنَّةٍ، قايِسْ بَيْنَ الأُمُورِ عِنْدَ ذَلِكَ، واعْرِفِ الأمْثالَ، ثُمَّ اعْمَدْ فِيما تَرى إلى أحَبِّها إلى اللَّهِ، وأشْبَهِها بِالحَقِّ) ما نَصُّهُ:
هَذا أحَدُ ما اعْتَمَدَ عَلَيْهِ القِياسِيُّونَ في الشَّرِيعَةِ، قالُوا: هَذا كِتابُ عُمَرَ إلى أبِي مُوسى ولَمْ يُنْكِرْهُ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، بَلْ كانُوا مُتَّفِقِينَ عَلى القَوْلِ بِالقِياسِ وهو أحَدُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، ولا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فَقِيهٌ. وقَدْ أرْشَدَ اللَّهُ تَعالى عِبادَهُ إلَيْهِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ، فَقاسَ النَّشْأةَ الثّانِيَةَ عَلى النَّشْأةِ الأُولى في الإمْكانِ، وجَعَلَ النَّشْأةَ الأُولى أصْلًا والثّانِيَةَ فَرْعًا عَلَيْها، وقاسَ حَياةَ الأمْواتِ عَلى حَياةِ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها بِالنَّباتِ، وقاسَ الخَلْقَ الجَدِيدَ الَّذِي أنْكَرَهُ أعْداؤُهُ عَلى خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وجَعَلَهُ مِن قِياسِ الأوْلى، كَما جَعَلَ قِياسَ النَّشْأةِ الثّانِيَةِ عَلى الأُولى مِن قِياسِ الأوْلى، وقاسَ الحَياةَ بَعْدَ المَوْتِ عَلى اليَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، وضَرَبَ الأمْثالَ وصَرَّفَها في الأنْواعِ المُخْتَلِفَةِ، وكُلُّها أقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ يُنَبِّهُ بِها (p-١٨٣)عِبادَهُ عَلى أنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، فَإنَّ الأمْثالَ كُلَّها قِياساتٌ يُعْلَمُ مِنها حُكْمُ المُمَثَّلِ مِنَ المُمَثَّلِ بِهِ. وقَدِ اشْتَمَلَ القُرْآنُ عَلى بِضْعَةٍ وأرْبَعِينَ مَثَلًا تَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ، والتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُما في الحُكْمِ، وقالَ تَعالى: ﴿وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣] بِالقِياسِ في ضَرْبِ الأمْثالِ مِن خاصَّةِ العَقْلِ، وقَدْ رَكَّزَ اللَّهُ في فِطَرِ النّاسِ وعُقُولِهِمُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ وإنْكارَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُما، والفَرْقَ بَيْنَ المُخْتَلِفَيْنِ وإنْكارَ الجَمْعِ بَيْنَهُما، قالُوا: ومَدارُ الِاسْتِدْلالِ جَمْعِيَّةٌ عَلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ والفَرْقِ بَيْنَ المُخْتَلِفَيْنِ، فَإنَّهُ إمّا اسْتِدْلالٌ بِمُعَيَّنٍ عَلى مُعَيَّنٍ، أوْ بِمُعَيَّنٍ عَلى عامٍّ، أوْ بِعامٍّ عَلى مُعَيَّنٍّ، أوْ بِعامٍّ عَلى عامٍّ، فَهَذِهِ الأرْبَعَةُ هي مَجامِعُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلالِ. فالِاسْتِدْلالُ بِالمُعَيَّنِ عَلى المُعَيَّنِ هو الِاسْتِدْلالُ بِالمَلْزُومِ عَلى لازِمِهِ بِكُلِّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلى لازِمِهِ، فَإنْ كانَ التَّلازُمُ مِنَ الجانِبَيْنِ كانَ كُلٌّ مِنهُما دَلِيلًا عَلى الآخَرِ ومَدْلُولًا لَهُ. وهَذا النَّوْعُ ثَلاثَةُ أقْسامٍ: أحَدُها: الِاسْتِدْلالُ بِالمُؤَثِّرِ عَلى الأثَرِ، والثّانِي: الِاسْتِدْلالُ بِالأثَرِ عَلى المُؤَثِّرِ. والثّالِثُ: الِاسْتِدْلالُ بِأحَدِ الأثَرَيْنِ عَلى الآخَرِ. فالأوَّلُ كالِاسْتِدْلالِ بِالنّارِ عَلى الحَرِيقِ. والثّانِي: كالِاسْتِدْلالِ بِالحَرِيقِ عَلى النّارِ. والثّالِثُ: كالِاسْتِدْلالِ بِالحَرِيقِ عَلى الدُّخانِ. ومَدارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلى التَّلازُمِ، والتَّسْوِيَةُ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ هو الِاسْتِدْلالُ بِثُبُوتِ أحَدِ الأثَرَيْنِ عَلى الآخَرِ، وقِياسُ الفَرْقِ هو اسْتِدْلالٌ بِانْتِفاءِ أحَدِ الأثَرَيْنِ عَلى انْتِفاءِ الآخَرِ، أوْ بِانْتِفاءِ اللّازِمِ عَلى انْتِفاءِ مَلْزُومِهِ، فَلَوْ جازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ لانْسَدَّتْ طَرِيقُ الِاسْتِدْلالِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُهُ.
قالُوا: وأمّا الِاسْتِدْلالُ بِالمُعَيَّنِ عَلى العامِّ فَلا يَتِمُّ إلّا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ، إذْ لَوْ جازَ الفَرْقُ لَما كانَ هَذا المَعَيَّنُ دَلِيلًا عَلى الأمْرِ العامِّ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الأفْرادِ. ومِن هَذا أدِلَّةُ القُرْآنِ بِتَعْذِيبِ المُعَيَّنِينَ الَّذِينَ عَذَّبَهم عَلى تَكْذِيبِ رُسُلِهِ وعِصْيانِ أمْرِهِ، عَلى أنَّ هَذا الحُكْمَ عامٌّ شامِلٌ عَلى مَن سَلَكَ سَبِيلَهم، واتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ، وهو سُبْحانُهُ قَدْ نَبَّهَ عِبادَهُ عَلى نَفْسِ هَذا الِاسْتِدْلالِ، وتَعْدِيَةِ هَذا الخُصُوصِ إلى العُمُومِ، كَما قالَ تَعالى عَقِبَ إخْبارِهِ عَنْ عُقُوباتِ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ وما حَلَّ بِهِمْ: ﴿أكُفّارُكم خَيْرٌ مِن أُولَئِكم أمْ لَكم بَراءَةٌ في الزُّبُرِ﴾ [القمر: ٤٣] فَهَذا مَحْضُ تَعْدِيَةِ الحُكْمِ إلى مَن عَدا المَذْكُورِينَ بِعُمُومِ العِلَّةِ، وإلّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمَ مِثْلِهِ لَما لَزِمَتِ التَّعْدِيَةُ ولا تَمَّتِ الحُجَّةُ. ومِثْلُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى عُقَيْبَ إخْبارِهِ عَنْ عُقُوبَةِ قَوْمِ هُودٍ حِينَ رَأوُا العارِضَ في السَّماءِ: ﴿هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا﴾ [الأحقاف: ٢٤] فَقالَ تَعالى: ﴿بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ (p-١٨٤)تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّها فَأصْبَحُوا لا يُرى إلّا مَساكِنُهم كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٤] ثُمَّ قالَ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ وجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً فَما أغْنى عَنْهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن شَيْءٍ إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٦] فَتَأمَّلْ قَوْلَهُ: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ﴾ تَجِدُ المَعْنى أنَّ حُكْمَكم كَحُكْمِهِمْ، وأنّا إذا كُنّا قَدْ أهْلَكْناهم بِمَعْصِيَةِ رَسُولِنا ولَمْ يَدْفَعْ عَنْهم ما مُكِّنُوا فِيهِ مِن أسْبابِ العَيْشِ فَأنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ المُتَماثِلَيْنِ، وأنَّ هَذا مَحْضُ عَدْلِ اللَّهِ بَيْنَ عِبادِهِ. ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ولِلْكافِرِينَ أمْثالُها﴾ [محمد: ١٠] فَأخْبَرَ أنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ. وكَذَلِكَ كَلُّ مَوْضِعٍ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ فِيهِ بِالمَسِيرِ في الأرْضِ سَواءٌ كانَ السَّيْرَ الحِسِّيَّ عَلى الأقْدامِ والدَّوابِّ، أوِ السَّيْرَ المَعْنَوِيَّ بِالتَّفْكِيرِ والِاعْتِبارِ، أوْ كانَ اللَّفْظُ يَعُمُّهُما، وهو الصَّوابُ؛ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى الِاعْتِبارِ والحَذَرِ أنْ يَحِلَّ بِالمُخاطَبِينَ ما حَلَّ بِأُولَئِكَ؛ ولِهَذا أمَرَ سُبْحانَهُ أُولِي الأبْصارِ بِالِاعْتِبارِ بِما حَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ، ولَوْلا أنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ حَتّى تَعْبُرَ العُقُولُ مِنهُ إلَيْهِ لَما حَصَلَ الِاعْتِبارُ، وقَدْ نَفى اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْ حُكْمِهِ وحِكْمَتِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ المُخْتَلِفِينَ في الحُكْمِ، فَقالَ تَعالى: ﴿أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كالمُجْرِمِينَ ما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: ٣٥ - ٣٦] وأخْبَرَ أنَّ هَذا حُكْمٌ باطِلٌ في الفِطَرِ والعُقُولِ، لا تَلِيقُ نِسْبَتُهُ إلى سُبْحانَهُ. وقالَ تَعالى: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهم كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهم ومَماتُهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: ٢١] وقالَ تَعالى: ﴿أمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالمُفْسِدِينَ في الأرْضِ أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كالفُجّارِ﴾ [ص: ٢٨] أفَلا تَراهُ كَيْفَ ذَكَرَ العُقُولَ، ونَبَّهَ الفِطَرَ بِما أوْدَعَ فِيها مِن إعْطاءِ النَّظِيرِ حُكْمَ نَظِيرِهِ، وعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ ومُخالِفِهِ في الحُكْمِ. وكُلُّ هَذا مِنَ المِيزانِ الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتابِهِ، وجَعَلَهُ قَرِينَهُ ووَزِيرَهُ، فَقالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أنْزَلَ الكِتابَ بِالحَقِّ والمِيزانَ﴾ [الشورى: ١٧] وقالَ: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] وقالَ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ﴾ [الرحمن: ١ - ٢] فَهَذا الكِتابُ، ثُمَّ قالَ: ﴿والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ المِيزانَ﴾ [الرحمن: ٧] والمِيزانُ يُرادُ بِهِ العَدْلُ، والآلَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِها العَدْلُ وما يُضادُّهُ. والقِياسُ الصَّحِيحُ هو المِيزانُ، فالأوْلى تَسْمِيَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي سَمّاهُ اللَّهُ بِهِ؛ فَإنَّهُ (p-١٨٥)يَدُلُّ عَلى العَدْلِ، وهو اسْمُ مَدْحٍ واجِبٍ عَلى كُلِّ واحِدٍ في كُلِّ حالٍ بِحَسَبِ الإمْكانِ، بِخِلافِ اسْمِ القِياسِ، فَإنَّهُ يَنْقَسِمُ إلى حَقٍّ وباطِلٍ، ومَمْدُوحٍ ومَذْمُومٍ؛ ولِهَذا لَمْ يَجِئْ في القُرْآنِ مَدْحُهُ ولا ذَمُّهُ، ولا الأمْرُ بِهِ، ولا النَّهْيُ عَنْهُ، فَإنَّهُ مَوْرِدُ تَقْسِيمٍ إلى صَحِيحٍ وفاسِدٍ، فالصَّحِيحُ هو المِيزانُ الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتابِهِ، والفاسِدُ ما يُضادُّهُ كَقِياسِ الَّذِينَ قاسُوا البَيْعَ عَلى الرِّبا بِجامِعِ ما يَشْتَرِكانِ فِيهِ مِنَ التَّراضِي بِالمُعاوَضَةِ المالِيَّةِ، وقاسَ الَّذِينَ قاسُوا المَيْتَةَ عَلى المُذَكّى في جَوازِ أكْلِها بِجامِعِ ما يَشْتَرِكانِ فِيهِ مِن إزْهاقِ الرُّوحِ - هَذا بِسَبَبٍ مِنَ الآدَمِيِّينَ وهَذا بِفِعْلِ اللَّهِ - ولِهَذا تَجِدُ في كَلامِ السَّلَفِ ذَمَّ القِياسِ، وأنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وتَجِدُ في كَلامِهِمُ اسْتِعْمالَهُ، والِاسْتِدْلالَ بِهِ، وهَذا حَقٌّ وهَذا حَقٌّ، كَما سَنُبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
* * *
والأقْيِسَةُ المُسْتَعْمَلَةُ في الِاسْتِدْلالِ ثَلاثَةٌ: قِياسُ عِلَّةٍ، وقِياسُ دَلالَةٍ، وقِياسُ شَبَهٍ، وقَدْ ورَدَتْ كُلُّها في القُرْآنِ. فَأمّا قِياسُ العِلَّةِ فَقَدْ جاءَ في كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ في مَواضِعَ، مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩] فَأخْبَرَ تَعالى أنَّ عِيسى نَظِيرُ آدَمَ في التَّكْوِينِ، بِجامِعِ ما يَشْتَرِكانِ فِيهِ مِنَ المَعْنى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُ سائِرِ المَخْلُوقاتِ، وهو مَجِيئُها طَوْعًا لِمَشِيئَتِهِ وتَكْوِينِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ وُجُودَ عِيسى مِن غَيْرِ أبٍ مَن يُقِرُّ بِوُجُودِ آدَمَ مِن غَيْرِ أبٍ ولا أُمٍّ ووُجُودِ حَوّاءَ مِن غَيْرِ أمٍّ، فَآدَمُ وعِيسى نَظِيرانِ يَجْمَعُهُما الَّذِي يَصِحُّ تَعْلِيقُ الإيجادِ والخَلْقِ بِهِ.
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكم سُنَنٌ فَسِيرُوا في الأرْضِ فانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٧] أيْ: قَدْ كانَ مِن قَبْلِكم أُمَمٌ أمْثالُكم، فانْظُرُوا إلى عَواقِبِهِمُ السَّيِّئَةِ، واعْلَمُوا أنَّ سَبَبَ ذَلِكَ ما كانَ مِن تَكْذِيبِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ ورُسُلِهِ، وهُمُ الأصْلُ وأنْتُمُ الفَرْعُ، والعِلَّةُ الجامِعَةُ: التَّكْذِيبُ، والحُكْمُ: الهَلاكُ.
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ مَكَّنّاهم في الأرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكم وأرْسَلْنا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْرارًا وجَعَلْنا الأنْهارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأهْلَكْناهم بِذُنُوبِهِمْ وأنْشَأْنا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [الأنعام: ٦] فَذَكَرَ سُبْحانَهُ إهْلاكَ مَن قَبْلَنا مِنَ القُرُونِ، وبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ كانَ لِمَعْنى القِياسِ وهو ذُنُوبُهم، فَهُمُ الأصْلُ ونَحْنُ الفَرْعُ، والذُّنُوبُ العِلَّةُ الجامِعَةُ، والحُكْمُ: الهَلاكُ. فَهَذا مَحْضُ قِياسِ العِلَّةِ، وقَدْ أكَّدَهُ سُبْحانَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الأوْلى، (p-١٨٦)وَهُوَ أنَّ مَن قَبْلَنا كانُوا أقْوى مِنّا فَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهم قُوَّتُهم وشِدَّتُهم ما حَلَّ بِهِمْ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كالَّذِينَ مِن قَبْلِكم كانُوا أشَدَّ مِنكم قُوَّةً وأكْثَرَ أمْوالًا وأوْلادًا فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكم كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِخَلاقِهِمْ وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ [ ٩ ] وقَدِ اخْتُلِفَ في مَحَلِّ هَذا الكافِ وما يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَقِيلَ: هو رَفْعُ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: أنْتُمْ كالَّذِينِ مِن قَبْلِكم. وقِيلَ: نُصِبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم. والتَّشْبِيهُ عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ في أعْمالِ الَّذِينَ مِن قَبْلُ، وقِيلَ: التَّشْبِيهُ في العَذابِ. ثُمَّ قِيلَ: العامِلُ مَحْذُوفٌ، أيْ: لَعَنَهم وعَذَّبَهم كَما لَعَنَ [ الَّذِينَ ] مِن قَبْلِهِمْ. وقِيلَ بَلِ العامِلُ ما تَقَدَّمَ، أيْ: وعْدُ اللَّهِ المُنافِقِينَ كَوَعْدِ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم، ولَعْنُهم كَلَعْنِهِمْ، ولَهم عَذابٌ مُقِيمٌ كالعَذابِ الَّذِي لَهم.
والمَقْصُودُ أنَّهُ سُبْحانَهُ ألْحَقَهم بِهِمْ في الوَعِيدِ، وسَوّى بَيْنَهم فِيهِ كَما تَساوَوْا في الأعْمالِ، وكَوْنُهم كانُوا أشَدَّ مِنهم قُوَّةً وأكْثَرَ أمْوالًا وأوْلادًا فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَّقَ الحُكْمَ بِالوَصْفِ الجامِعِ المُؤَثِّرِ، وألْغى الوَصْفَ الفارِقَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلى أنَّ مُشارَكَتَهم في الأعْمالِ اقْتَضَتْ مُشارَكَتَهم في الجَزاءِ، فَقالَ: ﴿فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكم كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِخَلاقِهِمْ وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ [ ٩ ] فَهَذِهِ هي العِلَّةُ المُؤَثِّرَةُ والوَصْفُ الجامِعُ، وقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ هو الحُكْمُ، والَّذِينَ مِن قَبْلِهِمُ الأصْلُ، والمُخاطَبُونَ الفَرْعُ.
قالَ عَبْدُ الرَّزّاقِ في تَفْسِيرِهِ: أنا مَعْمَرٌ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿فاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ﴾ قالَ بِدِينِهِمْ، ويُرْوى عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ.
وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: اسْتَمْتَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ في الدُّنْيا. وقالَ آخَرُونَ: بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيا. وحَقِيقَةُ الأمْرِ أنَّ الخَلاقَ هو النَّصِيبُ والحَظُّ، كَأنَّهُ الَّذِي خُلِقَ لِلْإنْسانِ وقُدِّرَ لَهُ، كَما يُقالُ: قَسَمُهُ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، ونَصِيبُهُ الَّذِي نُصِبَ لَهُ أيْ: أُثْبِتَ، وقِطُّهُ الَّذِي قُطَّ لَهُ أيْ: قُطِعَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ [البقرة: ٢٠٠] وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّما يَلْبَسُ الحَرِيرَ في الدُّنْيا مَن لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ» . والآيَةُ تَتَناوَلُ ما ذِكْرَهُ السَّلَفَ كُلَّهُ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿كانُوا أشَدَّ مِنهم قُوَّةً﴾ [ ٩ ] فَبِتِلْكَ القُوَّةِ الَّتِي كانَتْ فِيهِمْ كانُوا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يَعْمَلُوا لِلدُّنْيا والآخِرَةِ، وكَذَلِكَ الأمْوالُ، والأوْلادُ، وتِلْكَ القُوَّةُ، (p-١٨٧)والأمْوالُ والأوْلادُ هي الخَلاقُ، فاسْتَمْتَعُوا بِقُوَّتِهِمْ وأمْوالِهِمْ في الدُّنْيا، ونَفْسُ الأعْمالِ الَّتِي عَمِلُوها بِهَذِهِ القُوَّةِ مِنَ الخَلاقِ الَّذِي اسْتَمْتَعُوا بِهِ.
وَلَوْ أرادُوا بِذَلِكَ اللَّهَ والدّارَ الآخِرَةَ لَكانَ لَهم خَلاقٌ في الآخِرَةِ، فَتَمَتُّعُهم بِها أخْذُ حُظُوظِهِمُ العاجِلَةِ، وهَذا حالُ مَن لَمْ يَعْمَلْ إلّا لِدُنْياهُ سَواءٌ كانَ عَمَلُهُ مِن جِنْسِ العِباداتِ أوْ غَيْرِها. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ حالَ الفُرُوعِ، فَقالَ: ﴿فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكم كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِخَلاقِهِمْ﴾ فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ حُكْمَهم حُكْمُهم، وأنَّهم يَنالُهم ما يَنالُهم؛ لِأنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ. ثُمَّ قالَ: ﴿وَخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ . فَقِيلَ ”الَّذِي“ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: كالمَخُوضِ الَّذِي خاضُوا، وقِيلَ: لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. أيْ: كَخَوْضِ القَوْمِ الَّذِي خاضُوا وهو فاعِلُ الخَوْضِ.
وَقِيلَ: ”الَّذِي“ مَصْدَرِيَّةٌ كَـ ”ما“ أيْ: كَخَوْضِهِمْ. وقِيلَ: هي مَوْضِعُ ”الَّذِينَ“ . والمَقْصُودُ أنَّهُ سُبْحانَهُ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِمْتاعِ بِالخَلاقِ وبَيْنَ الخَوْضِ بِالباطِلِ؛ لِأنَّ فَسادَ الدِّينِ إمّا أنْ يَقَعَ بِالِاعْتِقادِ بِالباطِلِ والتَّكَلُّمِ بِهِ وهو الخَوْضُ، أوْ يَقَعُ بِالعَمَلِ بِخِلافِ الحَقِّ، والصَّوابُ وهو الِاسْتِمْتاعُ بِالخَلاقِ. فالأوَّلُ البِدَعُ. والثّانِي اتِّباعُ الهَوى، وهَذانِ هُما أصْلُ كُلِّ شَرٍّ وفِتْنَةٍ وبَلاءٍ، وبِهِما كُذِّبَتِ الرُّسُلُ وعُصِيَ الرَّبُّ، ودُخِلَتِ النّارُ وحَلَّتِ العُقُوباتُ.
فالأوَّلُ مِن جِهَةِ الشُّبَهاتِ، والثّانِي مِن جِهَةِ الشَّهَواتِ؛ ولِهَذا كانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا مِنَ النّاسِ صِنْفَيْنِ: صاحِبَ هَوًى فَتَنَهُ هَواهُ، وصاحِبَ دُنْيا أعْجَبَتْهُ دُنْياهُ. وكانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ العالِمِ الفاجِرِ، والعابِدِ الجاهِلِ؛ فَإنَّ فِتْنَتَهُما فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، فَهَذا يُشْبِهُ المَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ ويَعْمَلُونَ بِخِلافِهِ، وهَذا يُشْبِهُ الضّالِّينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَفِي صِفَةِ الإمامِ أحْمَدَ عَنِ الدُّنْيا ما كانَ أصْبَرَهُ، وبِالماضِينَ ما كانَ أشْبَهَهُ أتَتْهُ البِدَعُ فَنَفاها، والدُّنْيا فَأباها. وهَذِهِ حالُ أئِمَّةِ المُتَّقِينَ، الَّذِينَ وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤] فَبِالصَّبْرِ تُتْرَكُ الشَّهَواتُ، وبِاليَقِينِ تُدْفَعُ الشُّبَهاتُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واذْكُرْ عِبادَنا إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي والأبْصارِ﴾ [ص: ٤٥] .
(p-١٨٨)وَفِي بَعْضِ المَراسِيلِ: " إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ البَصَرَ النّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبَهاتِ، ويُحِبُّ العَقْلَ الكامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَواتِ. فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ﴾ إشارَةٌ إلى اتِّباعِ الشَّهَواتِ، وهو داءُ العُصاةِ. وقَوْلِهِ: ﴿وَخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ إشارَةٌ إلى الشُّبَهاتِ، وهو داءُ المُبْتَدِعَةِ وأهْلِ الأهْواءِ والخُصُوماتِ، وكَثِيرًا ما يَجْتَمِعانِ، فَقَلَّ مَن تَجِدُهُ فاسِدَ الِاعْتِقادِ إلّا وفَسادُ اعْتِقادِهِ يَظْهَرُ في عَمَلِهِ. والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ أخْبَرَ أنَّ في هَذِهِ الأُمَّةِ مَن يَسْتَمْتِعُ بِخَلاقِهِ كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِ بِخَلاقِهِمْ، ويَخُوضُ كَخَوْضِهِمْ، وأنَّ لَهم مِنَ الذَّمِّ والوَعِيدِ كَما لِلَّذِينِ مِن قَبْلِهِمْ، ثُمَّ حَضَّهم عَلى القِياسِ والِاعْتِبارِ بِمَن قَبْلَهم، فَقالَ: ﴿ألَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ وقَوْمِ إبْراهِيمَ وأصْحابِ مَدْيَنَ والمُؤْتَفِكاتِ أتَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهم ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: ٧٠] فَتَأمَّلْ صِحَّةَ هَذا القِياسِ وإفادَتَهُ لِما عُلِّقَ عَلَيْهِ مِنَ الحُكْمِ، وأنَّ الأصْلَ والفَرْعَ قَدْ تَساوَيا في المَعْنى الَّذِي عُلِّقَ بِهِ العِقابُ، وأكَّدَهُ كَما تَقَدَّمَ بِضَرْبٍ مِنَ الأوْلى وهو شِدَّةُ القُوَّةِ وكَثْرَةُ الأمْوالِ والأوْلادِ، فَإذا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلى اللَّهِ عِقابُ الأقْوى مِنهم بِذَنْبِهِ فَكَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِقابُ مَن هو دُونَهُ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكم ما يَشاءُ كَما أنْشَأكم مِن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الأنعام: ١٣٣] فَهَذا قِياسٌ جَلِيٌّ، يَقُولُ سُبْحانَهُ: إنْ شِئْتُ أذْهَبْتُكم واسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكم، كَما أذْهَبْتُ مَن قَبْلَكم واسْتَخْلَفْتُكم، بِذِكْرِ أرْكانِ القِياسِ الأرْبَعَةِ: عِلَّةُ الحُكْمِ وهي عُمُومُ مَشِيئَتِهِ وكَمالِها، والحُكْمُ وهو إذْهابُهُ إيّاهم وإتْيانُهُ بِغَيْرِهِمْ، والأصْلُ وهو ما كانَ مِن قَبْلُ، والفَرْعُ وهُمُ المُخاطَبُونَ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ﴾ [يونس: ٣٩] فَأخْبَرَ أنَّ مَن قَبْلُ المُكَذِّبِينَ أصْلٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، والفَرْعُ نُفُوسُهم، فَإذا ساوَوْهم في المَعْنى ساوَوْهم في العاقِبَةِ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أرْسَلْنا إلَيْكم رَسُولًا شاهِدًا عَلَيْكم كَما أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأخَذْناهُ أخْذًا وبِيلًا﴾ [المزمل: ١٥ - ١٦] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ أرْسَلَ مُوسى إلى فِرْعَوْنَ، وأنَّ فِرْعَوْنَ عَصى رَسُولَهُ فَأخَذَهُ أخْذًا وبِيلًا. فَهَكَذا مَن عَصى مِنكم مُحَمَّدًا ﷺ وهَذا في القُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ فُتِحَ لَكَ بابُهُ.
* * *
* فَصْلٌ
وَأمّا قِياسُ الدَّلالَةِ فَهو الجَمْعُ بَيْنَ الأصْلِ والفَرْعِ، بِدَلِيلِ العِلَّةِ ومَلْزُومِها. ومِنهُ (p-١٨٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأرْضَ خاشِعَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: ٣٩] فَدَلَّ سُبْحانَهُ عِبادَهُ بِما أراهم مِنَ الإحْياءِ الَّذِي تَحَقَّقُوهُ وشاهَدُوهُ، عَلى الإحْياءِ الَّذِي اسْتَبْعَدُوهُ، وذَلِكَ قِياسُ إحْياءٍ عَلى إحْياءٍ، واعْتِبارُ الشَّيْءِ فَنَظِيرُهُ، والعِلَّةُ المُوجِبَةُ هي عُمُومُ قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ وكَمالُ حِكْمَتِهِ، وإحْياءُ الأرْضِ دَلِيلُ العِلَّةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الروم: ١٩] .
فَدَلَّ بِالنَّظِيرِ عَلى النَّظِيرِ، وقَرَّبَ أحَدَهُما مِنَ الآخَرِ جِدًّا بِلَفْظِ الإخْراجِ، أيْ: يُخْرَجُونَ مِنَ الأرْضِ أحْياءً كَما يَخْرُجُ الحَيُّ مِنَ المَيِّتِ ويَخْرُجُ المَيِّتُ مِنَ الحَيِّ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيَحْسَبُ الإنْسانُ أنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ ﴿ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾ ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ ﴿ألَيْسَ ذَلِكَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيِيَ المَوْتى﴾ [القيامة: ٣٦ - ٤٠] فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ كَيْفِيَّةَ الخَلْقِ واخْتِلافَ أحْوالِ الماءِ في الرَّحِمِ إلى أنْ صارَ مِنهُ الزَّوْجانِ: الذَّكَرَ والأُنْثى، وذَلِكَ أمارَةُ وُجُودِ صانِعٍ قادِرٍ عَلى ما يَشاءُ، ونَبَّهَ سُبْحانَهُ عِبادَهُ بِما أحْدَثَهُ في النُّطْفَةِ المَهِينَةِ الحَقِيرَةِ مِنَ الأطْوارِ، وسَوْقِها في مَراتِبِ الكَمالِ، مِن مَرْتَبَةٍ إلى مَرْتَبَةٍ أعْلى مِنها، حَتّى صارَتْ بَشَرًا سَوِيًّا في أحْسَنِ خِلْقَةٍ وتَقْوِيمٍ، عَلى أنَّهُ لا يَحْسُنُ بِهِ أنْ يَتْرُكَ هَذا البَشَرَ سُدًى مُهْمَلًا مُعَطَّلًا. لا يَأْمُرُهُ، ولا يَنْهاهُ، ولا يُقِيمُهُ في عُبُودِيَّتِهِ، وقَدْ ساقَهُ في مَراتِبِ الكَمالِ مِن حِينِ كانَ نُطْفَةً إلى أنْ صارَ بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَذَلِكَ يَسُوقُهُ في مَراتِبِ كَمالِهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وحالًا بَعْدَ حالٍ، إلى أنْ يَصِيرَ جارَهُ في دارِهِ يَتَمَتَّعُ بِأنْواعِ النَّعِيمِ، ويَنْظُرُ إلى وجْهِهِ، ويَسْمَعُ كَلامَهُ. . . إلى آخِرِ كَلامِ ابْنِ القَيِّمِ، فَإنَّهُ أطالَ في ذِكْرِ الأمْثِلَةِ عَلى النَّحْوِ المَذْكُورِ، ولَمْ نَذْكُرْ جَمِيعَ كَلامِهِ خَوْفًا مِنَ الإطالَةِ المُمِلَّةِ، وفِيما ذَكَرْنا مِن كَلامِهِ تَنْبِيهٌ عَلى ما لَمْ نَذْكُرْهُ، وقَدْ تَكَلَّمَ عَلى قِياسِ الشَّبَهِ، فَقالَ فِيهِ:
وَأمّا قِياسُ الشَّبَهِ فَلَمْ يَحْكِهِ اللَّهُ سُبْحانَهُ إلّا عَنِ المُبْطِلِينَ. فَمِنهُ قَوْلُهُ تَعالى إخْبارًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ أنَّهم قالُوا لَمّا وجَدُوا الصُّواعَ في رَحْلِ أخِيهِمْ: ﴿إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧] فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الفَرْعِ والأصْلِ بِعِلَّةٍ ولا دَلِيلِها، وإنَّما ألْحَقُوا أحَدَهُما بِالآخَرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ جامِعٍ سِوى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ الجامِعِ بَيْنَهُ وبَيْنَ يُوسُفَ، فَقالُوا هَذا مَقِيسٌ عَلى أخِيهِ بَيْنَهُما شَبَهٌ مِن وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ، وذَلِكَ قَدْ سَرَقَ فَكَذَلِكَ هَذا، وهَذا هو الجَمْعُ بِالشَّبَهِ الفارِغِ، والقِياسُ بِالصُّورَةِ المُجَرَّدَةِ عَنِ العِلَّةِ المُقْتَضِيَةِ لِلتَّساوِي، وهو قِياسٌ فاسِدٌ، والتَّساوِي في قَرابَةِ الأُخُوَّةِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلتَّساوِي في السَّرِقَةِ لَوْ كانَ حَقًّا، ولا دَلِيلَ عَلى (p-١٩٠)التَّساوِي فِيها، فَيَكُونُ الجَمْعُ لِنَوْعٍ شَبَهٍ خالٍ مِنَ العِلَّةِ ودَلِيلِها.
ثُمَّ ذَكَرَ لِقِياسِ الشَّبَهِ الفاسِدِ أمْثِلَةً أُخْرى في الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ الكُفّارَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بِقِياسِ الشَّبَهِ حَيْثُ شَبَّهُوهم بِالبَشَرِ، وزَعَمُوا أنَّ ذَلِكَ الشَّبَهَ مانِعٌ مِن رِسالَتِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعالى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم قالُوا: ﴿ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا﴾ [هود: ٢٧] وقَوْلِهِ تَعالى عَنْهم: ﴿ما هَذا إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنهُ﴾ الآيَةَ [المؤمنون: ٣٣] . إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. فالمُشابَهَةُ بَيْنَ الرُّسُلِ وغَيْرِهِمْ في كَوْنِ الجَمِيعِ بَشَرًا لا تَقْتَضِي المُساواةَ بَيْنَهم في انْتِقاءِ الرِّسالَةِ عَنْهم جَمِيعًا، ولَمّا قالُوا لِلرُّسُلِ: ﴿ما أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ [يس: ١٥] أجابُوهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنْ نَحْنُ إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم ولَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [إبراهيم: ١١] وقِياسُ الكُفّارِ الرُّسُلَ عَلى سائِرِ البَشَرِ في عَدَمِ الرِّسالَةِ قِياسٌ ظاهِرُ البُطْلانِ؛ لِأنَّ الواقِعَ مِنَ التَّخْصِيصِ والتَّفْضِيلِ، وجَعْلِ بَعْضِ البَشَرِ شَرِيفًا وبَعْضِهِ دَنِيًّا، وبَعْضِهِ مَرْءُوسًا وبَعْضِهِ رَئِيسًا، وبَعْضِهِ مَلِكًا وبَعْضِهِ سُوقًا - يُبْطِلُ هَذا القِياسَ. كَما أشارَ إلَيْهِ جَوابُ الرُّسُلِ المَذْكُورُ آنِفًا، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [ ٤٣ ] وهَذِهِ الأمْثِلَةُ مِن قِياسِ الشَّبَهِ لَيْسَ فِيها وصْفٌ مُناسِبٌ بِالذّاتِ ولا بِالتَّبَعِ. فَلِذَلِكَ كانَتْ باطِلَةً.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ أنَّ جَمِيعَ الأمْثالِ في القُرْآنِ كُلُّها قِياساتُ شَبَهٍ صَحِيحَةٌ؛ لِأنَّ حَقِيقَةَ المِثْلِ تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ في حُكْمِهِ، وتَقْرِيبُ المَعْقُولِ مِنَ المَحْسُوسِ أوْ أحَدِ المَحْسُوسِينَ مِنَ الآخَرِ واعْتِبارُ أحَدِهِما بِالآخَرِ. ثُمَّ سَرَدَ الأمْثالَ القُرْآنِيَّةَ ذَلِكَ فِيها واحِدًا واحِدًا، وأطالَ الكَلامَ في ذَلِكَ فَأجادَ وأفادَ.
وَقالَ في آخِرِ كَلامِهِ: قالُوا فَهَذا بَعْضُ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ مِنَ التَّمْثِيلِ، والقِياسِ، والجَمْعِ، والفَرْقِ، واعْتِبارِ العِلَلِ، والمَعانِي وارْتِباطِها بِأحْكامِها تَأْثِيرًا واسْتِدْلالًا. قالُوا: وقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الأمْثالَ، وصَرَّفَها قَدَرًا وشَرْعًا، ويَقَظَةً ومَنامًا، ودَلَّ عِبادَهُ عَلى الِاعْتِبارِ بِذَلِكَ، وعُبُورُهم مِنَ الشَّيْءِ إلى نَظِيرِهِ، واسْتِدْلالُهم بِالنَّظِيرِ عَلى النَّظِيرِ. بَلْ هَذا أصْلُ عِبارَةِ الرُّؤْيا الَّتِي هي جُزْءٌ مِن أجْزاءِ النُّبُوَّةِ، ونَوْعٌ مِن أنْواعِ الوَحْيِ، فَإنَّها مَبْنِيَّةٌ عَلى القِياسِ، والتَّمْثِيلِ، واعْتِبارِ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ.
ألا تَرى أنَّ الثِّيابَ في التَّأْوِيلِ كالقُمُصِ تَدُلُّ عَلى الدِّينِ فَما كانَ فِيها مِن طُولٍ أوْ (p-١٩١)قِصَرٍ، أوْ نَظافَةٍ أوْ دَنَسٍ فَهو في الدِّينِ. كَما أوَّلَ النَّبِيُّ ﷺ القَمِيصَ بِالدِّينِ والعِلْمِ، والقَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَهُما أنَّ كُلًّا مِنهُما يَسْتُرُ صاحِبَهُ ويُجَمِّلُهُ بَيْنَ النّاسِ.
وَمِن هَذا تَأْوِيلُ اللَّبَنِ بِالفِطْرَةِ؛ لِما في كُلٍّ مِنهُما مِنَ التَّغْذِيَةِ المُوجِبَةِ لِلْحَياةِ وكَمالِ النَّشْأةِ، وأنَّ الطِّفْلَ إذا خُلِّيَ وفِطْرَتَهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ اللَّبَنِ. فَهو مَفْطُورٌ عَلى إيثارِهِ عَلى ما سِواهُ، وكَذَلِكَ فِطْرَةُ الإسْلامِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْها النّاسَ.
وَمِن هَذا تَأْوِيلُ البَقَرِ بِأهْلِ الدِّينِ والخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمارَةُ الأرْضِ، كَما أنَّ البَقَرَ كَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ شَرِّها وكَثْرَةِ خَيْرِها، وحاجَةِ الأرْضِ وأهْلِها إلَيْها؛ ولِهَذا لَمّا رَأى النَّبِيُّ ﷺ بَقَرًا تُنْحَرُ كانَ ذَلِكَ نَحْرًا في أصْحابِهِ.
وَمِن ذَلِكَ تَأْوِيلُ الزَّرْعِ والحَرْثِ بِالعَمَلِ؛ لِأنَّ العامِلَ زارِعٌ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ، ولا بُدَّ أنْ يَخْرُجَ لَهُ ما بَذَرَهُ كَما يَخْرُجُ لِلْباذِرِ زَرْعُ ما بَذَرَهُ، فالدُّنْيا مَزْرَعَةٌ، والأعْمالُ البَذْرُ، ويَوْمُ القِيامَةِ يَوْمُ طُلُوعِ الزَّرْعِ وحَصادِهِ.
وَمِن ذَلِكَ تَأْوِيلُ الخَشَبِ المَقْطُوعِ المُتَسانِدِ بِالمُنافِقِينَ، والجامِعُ بَيْنَهُما أنَّ المُنافِقَ لا رُوحَ فِيهِ، ولا ظِلَّ، ولا ثَمَرَ، فَهو بِمَنزِلَةِ الخَشَبِ الَّذِي هو كَذَلِكَ؛ ولِهَذا شَبَّهَ تَعالى المُنافِقِينَ بِالخُشُبِ المُسَنَّدَةِ؛ لِأنَّهم أجْسامٌ خالِيَةٌ عَنِ الإيمانِ والخَيْرِ، وفي كَوْنِها مُسَنَّدَةً نُكْتَةٌ أُخْرى وهي أنَّ الخَشَبَ إذا انْتُفِعَ بِهِ جُعِلَ في سَقْفٍ أوْ جِدارٍ أوْ غَيْرِهِما مِن مَظانِّ الِانْتِفاعِ، وما دامَ مَتْرُوكًا فارِغًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ جُعِلَ مُسَنَّدًا بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ، فَشَبَّهَ المُنافِقِينَ بِالخُشُبِ في الحالَةِ الَّتِي لا يُنْتَفَعُ فِيها بِها. . . إلى آخِرِ كَلامِهِ. وقَدْ ذَكَرَ أشْياءَ كَثِيرَةً مِن عِبارَةِ الرُّؤْيا فَأجادَ وأفادَ، وكُلُّها راجِعَةٌ إلى اعْتِبارِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّ نَظِيرَ الحَقِّ حَقٌّ، ونَظِيرَ الباطِلِ باطِلٌ.
ثُمَّ قالَ ابْنُ القَيِّمِ: فَهَذا شَرْعُ اللَّهِ وقَدَرُهُ ووَحْيُهُ، وثَوابُهُ وعِقابُهُ، كُلُّهُ قائِمٌ بِهَذا الأصْلِ وهو إلْحاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، واعْتِبارُ المِثْلِ بِالمِثْلِ؛ ولِهَذا يَذْكُرُ الشّارِعُ العِلَلَ والأوْصافَ المُؤَثِّرَةَ، والمَعانِيَ المُعْتَبَرَةَ في الأحْكامِ القَدَرِيَّةِ، والشَّرْعِيَّةِ، والجَزائِيَّةِ؛ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلى تَعَلُّقِ الحُكْمِ بِها أيْنَ وجِدَتْ، واقْتِضائِها لِأحْكامِها، وعَدَمِ تَخَلُّفِها عَنْها إلّا لِمانِعٍ يُعارِضُ اقْتِضاءَها ويُوجِبُ تَخَلُّفَ آثارِها عَنْها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم شاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [الحشر: ٤] ﴿ذَلِكم بِأنَّهُ إذا دُعِيَ اللَّهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ [غافر: ١٢] ﴿ذَلِكم بِأنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ [الجاثية: ٣٥] ﴿ذَلِكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما (p-١٩٢)كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [ ٤٠ ] ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللَّهَ وكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ﴾ [محمد: ٢٨] ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكم في بَعْضِ الأمْرِ﴾ [محمد: ٢٦] ﴿وَذَلِكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكم أرْداكُمْ﴾ [ ٤١ ] .
وَقَدْ جاءَ التَّعْلِيلُ في الكِتابِ العَزِيزِ بِالباءِ تارَةً، وبِاللّامِ تارَةً، وبِـ ”أنَّ“ تارَةً، وبِمَجْمُوعِهِما تارَةً، وبِـ ”كَيْ“ تارَةً، و ”مِن أجْلِ“ تارَةً، وتَرْتِيبِ الجَزاءِ عَلى الشَّرْطِ تارَةً، وبِالفاءِ المُؤْذِنَةِ بِالسَّبَبِيَّةِ تارَةً، وتَرْتِيبِ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ المُقْتَضِي لَهُ تارَةً، وبِـ ”لَمّا“ تارَةً، وبِـ ”أنَّ“ المُشَدَّدَةَ تارَةً، وبِـ ”لَعَلَّ“ تارَةً، وبِالمَفْعُولِ لَهُ تارَةً. فالأوَّلُ كَما تَقَدَّمَ، واللّامُ كَقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [المائدة: ٩٧] و ”أنْ“ كَقَوْلِهِ: ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا﴾ [الأنعام: ١٥٦] ثُمَّ قِيلَ: التَّقْدِيرُ لِئَلّا تَقُولُوا، وقِيلَ: كَراهَةَ أنْ تَقُولُوا. و ”أنْ واللّامُ“ كَقَوْلِهِ: ﴿لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] وغالِبُ ما يَكُونُ هَذا النَّوْعُ في النَّفْيِ، فَتَأمَّلْهُ.
وَ ”كَيْ“
• كَقَوْلِهِ: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً﴾ [الحشر: ٧] والشَّرْطِ والجَزاءِ
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٢٠] والفاءِ
• كَقَوْلِهِ: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأهْلَكْناهُمْ﴾ [الشعراء: ١٣٩] ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأخَذَهم أخْذَةً رابِيَةً﴾ [الحاقة: ١٠] ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأخَذْناهُ أخْذًا وبِيلًا﴾ [المزمل: ١٦] وتَرْتِيبِ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ
• كَقَوْلِهِ: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ﴾ [المائدة: ١٥]
• وقَوْلِهِ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]
• وقَوْلِهِ: ﴿إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٠] ﴿وَلا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٦] ﴿وَأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٢] ولَمّا
• كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنهُمْ﴾ [ ٤٣ ] ﴿فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ [الأعراف: ١٦٦] وإنَّ المُشَدَّدَةَ
• كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأغْرَقْناهم أجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٧] ﴿إنَّهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ﴾ [ ٢١ ] ولَعَلَّ
• كَقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ [طه: ٤٤] ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ [ ٢ ] ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ [ ٢٤ ] والمَفْعُولِ لَهُ
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَما لِأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزى﴾ ﴿إلّا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلى﴾ ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضى﴾ [الليل: ١٩ - ٢١]
أيْ: لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ جَزاءَ نِعْمَةِ أحَدٍ مِنَ النّاسِ، وإنَّما فَعَلَهُ ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلى. و ”مِن أجْلِ“ كَقَوْلِهِ: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [ ٥ ] .
(p-١٩٣)وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ عِلَلَ الأحْكامِ، والأوْصافَ المُؤَثِّرَةَ فِيها؛ لِيَدُلَّ عَلى ارْتِباطِها بِها، وتَعَدِّيها بِتَعَدِّي أوْصافِها وعِلَلِها،
• كَقَوْلِهِ في نَبِيذِ التَّمْرِ: «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، وماءٌ طَهُورٌ»،
• وقَوْلِهِ: «إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذانُ مِن أجْلِ البَصَرِ»،
• وقَوْلِهِ: «إنَّما نَهَيْتُكم مِن أجْلِ الدّافَّةِ»،
• وقَوْلِهِ في الهِرَّةِ: «لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّها مِنَ الطَّوّافِينَ عَلَيْكم والطَّوّافاتِ»، ونَهْيِهِ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِ المُحْرِمِ الَّذِي وقَصَتْهُ ناقَتُهُ وتَقْرِيبِهِ الطِّيبَ،
• وقَوْلِهِ: «فَإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيامَةِ مُلَبِّيًا»،
• وقَوْلِهِ: «إنَّكم إذا فَعَلْتُمْ ذَلِكم قَطَّعْتُمْ أرْحامَكم» ذَكَرَهُ تَعْلِيلًا لِنَهْيِهِ عَنْ نِكاحِ المَرْأةِ عَلى عَمَّتِها وخالَتِها.
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هو أذًى فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾ [البقرة: ٢٢٢]
• وقَوْلِهِ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ: ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]
وقَوْلِهِ ﷺ وقَدْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ -: «أيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا جَفَّ ”؟ قالُوا نَعَمْ. فَنَهى عَنْهُ» . وقَوْلِهِ:“ «لا يَتَناجى اثْنانِ دُونَ الثّالِثِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» . وقَوْلِهِ: «إذا وقَعَ الذُّبابُ في إناءِ أحَدِكم فامْقُلُوهُ، فَإنَّ في أحَدِ جَناحَيْهِ داءً وفي الآخَرِ دَواءً، وإنَّهُ يَتَّقِي بِالجَناحِ الَّذِي فِيهِ الدّاءُ» وقَوْلِهِ: «إنَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ يَنْهَيانِكم عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ؛ فَإنَّها رِجْسٌ» «وَقالَ - وقَدْ سُئِلَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ هَلْ يَنْقُضُ الوُضُوءَ ”هَلْ هو إلّا بِضْعَةٌ مِنكَ»“، «وَقَوْلِهِ في ابْنَةِ حَمْزَةَ: ”إنَّها لا تَحِلُّ لِي؛ إنَّها ابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضاعَةِ»“، «وَقَوْلِهِ في الصَّدَقَةِ: ”إنَّها لا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ؛ إنَّما هي أوْساخُ النّاسِ»“ . وقَدْ قَرَّبَ النَّبِيُّ ﷺ الأحْكامَ لِأُمَّتِهِ بِذِكْرِ نَظائِرِها وأسْبابِها، وضَرَبَ لَها الأمْثالَ. . . إلى آخِرِ كَلامِهِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ أقْيِسَةٌ فَعَلَها النَّبِيُّ ﷺ مِنها قِياسُ القُبْلَةِ عَلى المَضْمَضَةِ في حَدِيثِ عُمَرَ المُتَقَدِّمِ، وقِياسُ دَيْنِ اللَّهِ عَلى دَيْنِ الآدَمِيِّ في وُجُوبِ القَضاءِ. وقَدْ قَدَّمْناهُ مُسْتَوْفًى كَما قَبْلَهُ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ .
وَمِنها قِياسُ العَكْسِ في حَدِيثِ: «أيَأْتِي أحَدُنا شَهْوَتَهُ ويَكُونُ لَهُ فِيها أجْرٌ ؟ قالَ: ”أرَأيْتُمْ وضْعَها في حَرامٍ، أيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ»“ وقَدْ قَدَّمْناهُ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ ”التَّوْبَةِ“ .
وَمِنها قِصَّةُ الَّذِي ولَدَتِ امْرَأتُهُ غُلامًا أسْوَدَ، وقَدْ قَدَّمْنا ذَلِكَ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ .
وَمِنها حَدِيثُ المُسْتَحاضَةِ الَّذِي قاسَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ دَمَ العِرْقِ الَّذِي هو دَمُ الِاسْتِحاضَةِ عَلى غَيْرِهِ مِن دِماءِ العُرُوقِ الَّتِي لا تَكُونُ حَيْضًا. وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ إلْحاقَ (p-١٩٤)النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنَ الشَّرْعِ، لا مُخالِفَ لَهُ كَما يَزْعُمُهُ الظّاهِرِيَّةُ ومَن تَبِعَهم.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"وَدَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَـٰهِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











