الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ قالَ لَهم هارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فاتَّبِعُونِي وأطِيعُوا أمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إلَيْنا مُوسى﴾ .
بَيَّنَ جَلَّ وعَلا في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ الكَرِيمَتَيْنِ: أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا فَتَنَهُمُ السّامِرِيُّ وأضَلَّهم بِعِبادَةِ العِجْلِ، نَصَحَهم نَبِيُّ اللَّهِ هارُونُ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبَيَّنَ لَهم أنَّ عِبادَتَهُمُ العِجْلَ فِتْنَةٌ فُتِنُوا بِها. أيْ: كُفْرٌ وضَلالٌ ارْتَكَبُوهُ بِذَلِكَ، وبَيَّنَ لَهم أنَّ رَبَّهُمُ الرَّحْمَنُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ جَلَّ وعَلا، وأنَّ عِجْلًا مُصْطَنَعًا مِن حُلِيٍّ لا يَعْبُدُهُ إلّا مَفْتُونٌ ضالٌّ كافِرٌ. وأمَرَهم بِاتِّباعِهِ في تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى، والوَفاءِ بِمَوْعِدِ مُوسى عَلَيْهِما وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنْ يُطِيعُوهُ في ذَلِكَ. فَصارَحُوهُ بِالتَّمَرُّدِ، والعِصْيانِ، والدَّيْمُومَةِ عَلى الكُفْرِ حَتّى يَرْجِعَ مُوسى. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ بَلَغَ مَعَهم غايَةَ جُهْدِهِ وطاقَتِهِ، وأنَّهُمُ اسْتَضْعَفُوهُ وتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ ولَمْ يُطِيعُوهُ.
وَقَدْ أوْضَحَ هَذا المَعْنى في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ في ”الأعْرافِ“: ﴿قالَ ابْنَ أُمَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٥٠]، . فَقَوْلُهُ عَنْهم في خِطابِهِمْ لَهُ ﴿لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى اسْتِضْعافِهِمْ لَهُ وتَمَرُّدِهِمْ عَلَيْهِ المُصَرَّحِ بِهِ في ”الأعْرافِ“ كَما بَيَّنّا. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآياتِ الكَرِيماتِ ما نَصُّهُ: وسُئِلَ الإمامُ أبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ: ما يَقُولُ سَيِّدُنا الفَقِيهُ في مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ ؟ واعْلَمْ حَرَسَ اللَّهُ مُدَّتَهُ: أنَّهُ اجْتَمَعَ جَماعَةٌ مِن رِجالٍ فَيُكْثِرُونَ مِن ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى وذِكْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ثُمَّ إنَّهم يُوقِعُونَ بِالقَضِيبِ عَلى شَيْءٍ مِنَ الأدِيمِ، ويَقُومُ بَعْضُهم يَرْقُصُ ويَتَواجَدُ حَتّى يَقَعَ مُغْشِيًّا عَلَيْهِ، ويُحْضِرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ. هَلَ الحُضُورُ مَعَهم جائِزٌ أمْ لا ؟ أفْتُونا مَأْجُورِينَ. وهَذا القَوْلُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ:
يا شَيْخُ كُفَّ عَنِ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ والزَّلَلْ(p-٨٨)
؎واعْمَلْ لِنَفْسِكَ صالِحًا ما دامَ يَنْفَعُكَ العَمَلْ
؎أمّا الشَّبابُ فَقَدْ مَضى ∗∗∗ ومَشِيبُ رَأْسِكَ قَدْ نَزَلْ
وَفِي مِثْلِ هَذا ونَحْوِهِ الجَوابُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ: مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ بَطالَةٌ وجَهالَةٌ وضَلالَةٌ، وما الإسْلامُ إلّا كِتابُ اللَّهِ وسُنَّةُ رَسُولِهِ ﷺ . وأمّا الرَّقْصُ، والتَّواجُدُ: فَأوَّلُ مَن أحْدَثَهُ أصْحابُ السّامِرِيِّ لَمّا اتَّخَذَ لَهم عِجَلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ، قامُوا يَرْقُصُونَ حَوالَيْهِ، ويَتَواجَدُونَ، فَهو دِينُ الكُفّارِ وعِبادَةُ العِجْلِ. وأمّا القَضِيبُ: فَأوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهُ الزَّنادِقَةُ لِيَشْغَلُوا بِهِ المُسْلِمِينَ عَنْ كِتابِ اللَّهِ تَعالى. وإنَّما كانَ يَجْلِسُ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ أصْحابِهِ كَأنَّما عَلى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ مِنَ الوَقارِ. فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطانِ ونُوّابِهِ أنْ يَمْنَعَهم مِن حُضُورِ المَساجِدِ، وغَيْرِها. ولا يَحِلُّ لِأحَدٍ أنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ، واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يَحْضُرَ مَعَهم، ولا أنْ يُعِينَهم عَلى باطِلِهِمْ. هَذا مَذْهَبُ مالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وغَيْرِهِمْ مِن أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهى مِنهُ بِلَفْظِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: قَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ ”مَرْيَمَ“ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ عَلى الحَقِّ. ولا شَكَّ أنَّ مِنهم مَن هو عَلى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ مِنَ العَمَلِ بِكِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وبِذَلِكَ عالَجُوا أمْراضَ قُلُوبِهِمْ وحَرَسُوها، وراقَبُوها وعَرَفُوا أحْوالَها، وتَكَلَّمُوا عَلى أحْوالِ القُلُوبِ كَلامًا مُفَصَّلًا كَما هو مَعْلُومٌ، كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، أوِ ابْنِ أحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ، أوِ ابْنِ عَسْكَرٍ أعْنِي أبا سُلَيْمانَ الدّارانِيَّ، وكَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كانَ يُقالُ لَهُ حَكَمُ الأُمَّةِ، وأضْرابِهِما، وكَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ، أبِي طالِبٍ المَكِّيِّ، وأبِي عُثْمانَ النَّيْسابُورِيِّ، ويَحْيى بْنِ مُعاذٍ الرّازِيِّ، والجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، ومَن سارَ عَلى مِنوالِهِمْ، لِأنَّهم عالَجُوا أمْراضَ أنْفُسِهِمْ بِكِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، ولا يَحِيدُونَ عَنِ العَمَلِ بِالكِتابِ، والسُّنَّةِ ظاهِرًا وباطِنًا، ولَمْ تَظْهَرْ مِنهم أشْياءٌ تُخالِفُ الشَّرْعَ. فالحُكْمُ بِالضَّلالِ عَلى جَمِيعِ الصُّوفِيَّةِ لا يَنْبَغِي، ولا يَصِحُّ عَلى إطْلاقِهِ، والمِيزانُ الفارِقُ بَيْنَ الحَقِّ، والباطِلِ في ذَلِكَ هو كِتابُ اللَّهِ وسُنَّةُ رَسُولِهِ ﷺ . فَمَن كانَ مِنهم مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ، وهَدْيِهِ وسَمْتِهِ، كَمَن ذَكَرْنا وأمْثالِهِمْ، فَإنَّهم مِن جُمْلَةِ العُلَماءِ العامِلِينَ، ولا يَجُوزُ الحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالضَّلالِ. وأمّا مَن كانَ عَلى خِلافِ ذَلِكَ فَهو الضّالُّ.
نَعَمْ، صارَ المَعْرُوفُ في الآوِنَةِ الأخِيرَةِ، وأزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ قَبْلَها بِالِاسْتِقْراءِ، أنَّ عامَّةَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّصَوُّفَ في أقْطارِ الدُّنْيا إلّا مَن شاءَ اللَّهُ مِنهم دَجاجِلَةٌ يَتَظاهَرُونَ بِالدِّينِ لِيُضِلُّوا العَوامَّ الجَهَلَةَ وضِعافَ العُقُولِ مِن طَلَبَةِ العِلْمِ، لِيَتَّخِذُوا بِذَلِكَ أتْباعًا وخَدَمًا، (p-٨٩)وَأمْوالًا وجاهًا، وهم بِمَعْزِلٍ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ الحَقِّ، لا يَعْمَلُونَ بِكِتابِ اللَّهِ، ولا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ، واسْتِعْمارُهم لِأفْكارِ ضِعافِ العُقُولِ أشَدُّ مِنِ اسْتِعْمارِ كُلِّ طَوائِفِ المُسْتَعْمِرِينَ. فَيَجِبُ التَّباعُدُ عَنْهم، والِاعْتِصامُ مِن ضَلالَتِهِمْ بِكِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ، ولَوْ ظَهَرَ عَلى أيْدِيهِمْ بَعْضُ الخَوارِقِ، ولَقَدْ صَدَقَ مَن قالَ:
؎إذا رَأيْتَ رَجُلًا يَطِيرُ ∗∗∗ وفَوْقَ ماءِ البَحْرِ قَدْ يَسِيرُ
؎وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرْعِ ∗∗∗ فَإنَّهُ مُسْتَدْرِجٌ أوْ بِدْعِي
والقَوْلُ الفَصْلُ في ذَلِكَ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ولا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ومَن أحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء: ١٢٣]، فَمَن كانَ عَمَلُهُ مُخالِفًا لِلشَّرْعِ كَمُتَصَوِّفَةِ آخِرِ الزَّمانِ فَهو الضّالُّ. ومَن كانَ عَمَلُهُ مُوافِقًا لِما جاءَ بِهِ نَبِيُّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَهو المُهْتَدِي. نَرْجُو اللَّهَ تَعالى أنْ يَهْدِيَنا وإخْوانَنا المُؤْمِنِينَ، وألّا يُزِيغَنا، ولا يُضِلَّنا عَنِ العَمَلِ بِكِتابِهِ وسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ الَّتِي هي مَحَجَّةٌ بَيْضاءُ، لَيْلُها كَنَهارِها، لا يَزِيغُ عَنْها إلّا هالِكٌ.
{"ayah":"وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَـٰرُونُ مِن قَبۡلُ یَـٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ فَٱتَّبِعُونِی وَأَطِیعُوۤا۟ أَمۡرِی"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











