الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ فَإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وأضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ﴾ . الظّاهِرُ أنَّ الفِتْنَةَ المَذْكُورَةَ هي عِبادَتُهُمُ العِجْلَ. فَهي فِتْنَةُ إضْلالٍ. كَقَوْلِهِ: ﴿إنْ هي إلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَن تَشاءُ وتَهْدِي مَن تَشاءُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] . وهَذِهِ الفِتْنَةُ بِعِبادَةِ العِجْلِ جاءَتْ مُبَيَّنَةً في آياتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. كَقَوْلِهِ: ﴿وَإذْ واعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ [البقرة: ٥١] ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. قَوْلُهُ هُنا: ﴿وَأضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ﴾ أوْضَحَ كَيْفِيَّةَ إضْلالِهِ لَهم في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: ﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِن بَعْدِهِ مِن حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿اتَّخَذُوهُ وكانُوا ظالِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٨] أيِ: اتَّخَذُوهُ إلَهًا وقَدْ صَنَعَهُ السّامِرِيُّ لَهم مِن حُلِيِّ القِبْطِ فَأضَلَّهم بِعِبادَتِهِ. وقَوْلُهُ هُنا ﴿فَكَذَلِكَ ألْقى السّامِرِيُّ﴾ ﴿فَأخْرَجَ لَهم عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذا إلَهُكم وإلَهُ مُوسى فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] والسّامِرِيُّ: قِيلَ اسْمُهُ هارُونُ، وقِيلَ اسْمُهُ مُوسى بْنُ ظُفَرَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ مِن قَوْمٍ كانُوا يَعْبُدُونَ البَقَرَ. وقِيلَ: كانَ رَجُلًا مِنَ القِبْطِ. وكانَ جارًا لِمُوسى آمَنَ بِهِ وخَرَجَ مَعَهُ. وقِيلَ: كانَ عَظِيمًا مِن عُظَماءِ بَنِي إسْرائِيلَ مِن قَبِيلَةٍ تُعْرَفُ بِالسّامِرَةِ وهم مَعْرُوفُونَ بِالشّامِ. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كانَ مِن أهْلِ كَرْمانَ. والفِتْنَةُ أصْلُها في اللُّغَةِ: وضْعُ الذَّهَبِ في النّارِ لِيُتَبَيَّنَ أهْوَ خالِصٌ أمْ زائِفٌ. وقَدْ أُطْلِقَتْ في القُرْآنِ إطْلاقاتٍ مُتَعَدِّدَةً: (مِنها): الوَضْعُ في النّارِ، كَقَوْلِهِ ﴿يَوْمَ هم عَلى النّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: ١٣] أيْ: يُحْرَقُونَ بِها، وقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ الآيَةَ [البروج: ١٠] . أيْ: أحْرَقُوهم بِنارِ الأُخْدُودِ. (p-٧٩)(ومِنها): الِاخْتِبارُ وهو الأغْلَبُ في اسْتِعْمالِ الفِتْنَةِ. كَقَوْلِهِ ﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ الآيَةَ [التغابن: ١٥] وقَوْلِهِ ﴿وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا﴾ ﴿لِنَفْتِنَهم فِيهِ﴾ [الجن: ١٦ - ١٧] . (ومِنها): نَتِيجَةُ الِاخْتِبارِ إذا كانَتْ سَيِّئَةٌ. ومِن هُنا أُطْلِقَتِ الفِتْنَةُ عَلى الشِّرْكِ، كَقَوْلِهِ ﴿وَقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٣٩] وقَوْلِهِ هُنا ﴿فَإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ﴾ الآيَةَ [طه: ٨٥] . (ومِنها): الحُجَّةُ، كَقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] أيْ: لَمْ تَكُنْ حُجَّتُهم. وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَأضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ﴾ أسْنَدَ إضْلالَهم إلَيْهِ، لِأنَّهُ هو الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ بِصِياغَتِهِ لَهُمُ العِجْلَ مِن حُلِيِّ القِبْطِ ورَمْيِهِ عَلَيْهِ التُّرابَ الَّذِي مَسَّهُ حافِرُ الفَرَسِ الَّتِي جاءَ عَلَيْها جِبْرِيلُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ، كَما قالَ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿فَكَذَلِكَ ألْقى السّامِرِيُّ فَأخْرَجَ لَهم عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ﴾ وقالَ في ”الأعْرافِ“ ﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِن بَعْدِهِ مِن حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ﴾ [الأعراف: ١٤٨] . والخُوارُ: صَوْتُ البَقَرِ. قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: جَعَلَ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ ذَلِكَ الحُلِيَّ المَصُوغَ جَسَدًا مِن لَحْمٍ ودَمٍ، وهَذا هو ظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿عِجْلًا جَسَدًا﴾ . وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصُّورَةُ لَحْمًا، ولا دَمًا، ولَكِنْ إذا دَخَلَتْ فِيها الرِّيحُ صَوَّتَتْ كَخُوارِ العِجْلِ. والأوَّلُ أقْرَبُ لِظاهِرِ الآيَةِ، واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَجْعَلَ الجَمادَ لَحْمًا ودَمًا، كَما جَعَلَ آدَمَ لَحْمًا ودَمًا وكانَ طِينًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب