الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ بَلْ ألْقُوا﴾. ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ نَبِيَّهُ مُوسى عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا خَيَّرَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ أنْ يُلْقِيَ قَبْلَهم أوْ يُلْقُوا قَبْلَهُ قالَ لَهم: ألْقُوا يَعْنِي ألْقُوا (p-٣٤)ما أنْتُمْ مُلْقُونَ كَما صَرَّحَ بِهِ في ”الشُّعَراءِ“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ لَهم مُوسى ألْقُوا ما أنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ [الشعراء: ٤٣] وذَلِكَ هو المُرادُ أيْضًا بِقَوْلِهِ في ”الأعْرافِ“ ﴿قالَ ألْقُوا فَلَمّا ألْقَوْا سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦] . * تَنْبيهٌ قَوْلُ مُوسى لِلسَّحَرَةِ: ألْقُوا المَذْكُورُ في ”الأعْرافِ، وطه، والشُّعَراءِ“ فِيهِ سُؤالٌ مَعْرُوفٌ، وهو أنْ يُقالَ: كَيْفَ قالَ هَذا النَّبِيُّ الكَرِيمُ لِلسَّحَرَةِ ألْقُوا. أيْ: ألْقُوا حِبالَكم وعِصِيَّكم، يَعْنِي اعْمَلُوا السِّحْرَ وعارِضُوا بِهِ مُعْجِزَةَ اللَّهِ الَّتِي أيَّدَ بِها رَسُولَهُ، وهَذا أمْرٌ بِمُنْكَرٍ ؟، والجَوابُ: هو أنَّ قَصْدَ مُوسى بِذَلِكَ قَصْدٌ حَسَنٌ يَسْتَوْجِبُهُ المَقامُ، لِأنَّ إلْقاءَهم قَبْلَهُ يَسْتَلْزِمُ إبْرازَ ما مَعَهم مِن مَكائِدِ السِّحْرِ، واسْتِنْفادِ أقْصى طُرُقِهِمْ ومَجْهُودِهِمْ. فَإذا فَعَلُوا ذَلِكَ كانَ في إلْقائِهِ عَصاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وابْتِلاعِها لِجَمِيعِ ما ألْقَوْا مِن إظْهارِ الحَقِّ وإبْطالِ الباطِلِ ما لا جِدالَ بَعْدَهُ في الحَقِّ لِأدْنى عاقِلٍ. ولِأجْلِ هَذا قالَ لَهم: ألْقُوا، فَلَوَ ألْقى قَبْلَهم وألْقَوْا بَعْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ ما ذَكَرْنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا حِبالُهم وعِصِيُّهم يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعى﴾. قَرَأ هَذا الحَرْفَ ابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ ”تُخَيَّلُ“ بِالتّاءِ، أيْ: تُخَيَّلُ هي أيِ: الحِبالُ، والعِصِيُّ أنَّها تَسْعى. والمَصْدَرُ في ”أنَّها تَسْعى“ بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ الحِبالِ، والعِصِيُّ الَّذِي هو نائِبُ فاعِلٍ لِـ ”تُخَيَّلُ“ بَدَلُ اشْتِمالٍ. وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ. والمَصْدَرُ في سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعى نائِبُ فاعِلٍ لِـ ”تُخَيَّلُ“ . وَفِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ حَذْفٌ دَلَّ المَقامُ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: قالَ بَلْ ألْقُوا فَألْقَوْا حِبالَهم وعِصِيَّهم، فَإذا حِبالُهم وعِصِيُّهم يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعى. وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ الفاءَ في قَوْلِهِ فَإذا حِبالُهم عاطِفَةٌ عَلى مَحْذُوفٍ كَما أشارَ لِنَحْوِ ذَلِكَ ابْنُ مالِكٍ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ: ؎وَحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدا هُنا اسْتَبِحْ وَ ”إذا“ هي الفُجائِيَّةُ، وقَدْ قَدَّمْنا كَلامَ العُلَماءِ فِيها فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا. والحِبالُ: جَمْعُ حَبْلٍ، وهو مَعْرُوفٌ. و ”العِصِيُّ“ جَمْعُ عَصا، وألِفُ العَصا مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ، ولِذا تُرَدُّ إلى أصْلِها في التَّثْنِيَةِ: ومِنهُ قَوْلُ غَيْلانَ ذِي الرُّمَّةِ:(p-٣٥) ؎فَجاءَتْ بِنَسْجِ العَنْكَبُوتِ كَأنَّهُ ∗∗∗ عَلى عَصَوَيْها سابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ وَأصْلُ العِصِيِّ عُصُوو عَلى وزْنِ فُعُولٍ جَمْعُ عَصا. فَأُعِلَّ بِإبْدالِ الواوِ الَّتِي في مَوْضِعِ الَّلامِ ياءً فَصارَ عُصُويًا، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ في الياءِ، فالياءانِ أصْلُهُما واوانِ. وإلى جَوازِ هَذا النَّوْعِ مِنَ الإعْلالِ في واوَيِ اللّامِ مِمّا جاءَ عَلى فَعَوْلٍ أشارَ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ: ؎كَذاكَ ذا وجْهَينِ جا الفُعُولُ مِن ∗∗∗ ذِي الواوِ لامُ جَمْعٍ أوْ فَرْدٍ يَعِنْ وَضَمَّةُ الصّادِ في وعِصِيُّهم أُبْدِلَتْ كَسْرَةً لِمُجانَسَةِ الياءِ، وضَمَّةُ عَيْنِ ”عِصِيِّهِمْ“ أُبْدِلَتْ كَسْرَةً لِاتِّباعِ كَسْرَةِ الصّادِ. والتَّخَيُّلُ في قَوْلِهِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعى هو إبْداءُ أمْرٍ لا حَقِيقَةَ لَهُ، ومِنهُ الخَيالُ. وهو الطَّيْفُ الطّارِقُ في النَّوْمِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎ألا يا لِقَوْمِي لِلْخَيالِ المُشَوِّقِ ∗∗∗ ولِلدّارِ تَنْأى بِالحَبِيبِ ونَلْتَقِي وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أنَّها تَسْعى﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ السِّحْرَ الَّذِي جاءَ بِهِ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ تَخْيِيلٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ في نَفْسِ الأمْرِ. وهَذا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ ”طه“ هَذِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ ”الأعْرافِ“ وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا ألْقَوْا سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦]، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم خَيَّلُوا لِأعْيُنِ النّاظِرِينَ أمْرًا لا حَقِيقَةَ لَهُ. وبِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ احْتَجَّ المُعْتَزِلَةُ ومَن قالَ بِقَوْلِهِمْ عَلى أنَّ السِّحْرَ خَيالٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ. والتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ جَماهِيرُ العُلَماءِ مِنَ المُسْلِمِينَ: أنَّ السِّحْرَ مِنهُ ما هو أمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ لا مُطْلَقَ تَخْيِيلٍ لا حَقِيقَةَ لَهُ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ مِنهُ ما لَهُ حَقِيقَةٌ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ﴾ [البقرة: ١٠٢] فَهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ لَهُ حَقِيقَةٌ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وامْرَأتِهِ وقَدْ عَبَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِما المَوْصُولَةِ وهي تَدُلُّ عَلى أنَّهُ شَيْءٌ لَهُ وُجُودٌ حَقِيقِيٌّ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَدِ﴾ [الفلق: ٤] يَعْنِي السَّواحِرَ اللّاتِي يَعْقِدْنَ في سِحْرِهِنَّ ويَنْفُثْنَ في عُقَدِهِنَّ. فَلَوْلا أنَّ السِّحْرَ حَقِيقَةٌ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِالِاسْتِعاذَةِ مِنهُ. وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ أنَّ السِّحْرَ أنْواعٌ: مِنها ما هو أمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ، ومِنها ما هو تَخْيِيلٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ. وبِذَلِكَ يَتَّضِحُ عَدَمُ التَّعارُضِ بَيْنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ لَهُ حَقِيقَةً، والآياتُ الدّالَّةُ عَلى أنَّهُ خَيالٌ. (p-٣٦)فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ في ”طه“: ﴿يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ﴾ [طه: ٦٦]، وقَوْلُهُ في ”الأعْرافِ“: ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦] الدّالّانِ عَلى أنَّ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ خَيالٌ لا حَقِيقَةَ لَهُ، يُعارِضُهُما قَوْلُهُ في ”الأعْرافِ“: ﴿وَجاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ١١٦] لِأنَّ وصْفَ سِحْرِهِمْ بِالعِظَمِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ خَيالٍ. فالَّذِي يَظْهَرُ في الجَوابِ، واللَّهُ أعْلَمُ أنَّهم أخَذُوا كَثِيرًا مِنَ الحِبالِ، والعِصِيِّ، وخَيَّلُوا بِسِحْرِهِمْ لِأعْيُنِ النّاسِ أنَّ الحِبالَ، والعِصِيَّ تَسْعى وهي كَثِيرَةٌ. فَظَنَّ النّاظِرُونَ أنَّ الأرْضَ مُلِئَتْ حَيّاتٍ تَسْعى، لِكَثْرَةِ ما ألْقَوْا مِنَ الحِبالِ، والعِصِيِّ فَخافُوا مِن كَثْرَتِها، وبِتَخْيِيلِ سَعْيِ ذَلِكَ العَدَدِ الكَثِيرِ وصَفَ سِحْرَهم بِالعِظَمِ. وهَذا ظاهِرٌ لا إشْكالَ فِيهِ. وقَدْ قالَ غَيْرُ واحِدٍ: إنَّهم جَعَلُوا الزِّئْبَقَ عَلى الحِبالِ، والعِصِيِّ، فَلَمّا أصابَها حُرُّ الشَّمْسِ تَحَرَّكَ الزِّئْبَقُ فَحَرَّكَ الحِبالَ، والعِصِيَّ، فَخُيِّلَ لِلنّاظِرِينَ أنَّها تَسْعى. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهم كانُوا اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ ساحِرًا، مَعَ كُلِّ ساحِرٍ مِنهم حِبالٌ وعِصِيٌّ. وقِيلَ: كانُوا أرْبَعَمِائَةٍ. وقِيلَ كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا. وقِيلَ أرْبَعَةَ عَشَرَ ألْفًا. وقالَ ابْنُ المُنْكَدِرِ: كانُوا ثَمانِينَ ألْفًا. وقِيلَ: كانُوا مُجْمِعِينَ عَلى رَئِيسٍ يُقالُ لَهُ شَمْعُونُ. وقِيلَ: كانَ اسْمُهُ يُوحَنّا مَعَهُ اثْنا عَشَرَ نَقِيبًا، مَعَ كُلِّ نَقِيبٍ عِشْرُونَ عَرِيفًا، مَعَ كُلِّ عَرِيفٍ ألْفُ ساحِرٍ. وقِيلَ: كانُوا ثَلاثَمِائَةِ ألْفِ ساحِرٍ مِنَ الفَيُّومِ، وثَلاثَمِائَةِ ألْفِ ساحِرٍ مِنَ الصَّعِيدِ وثَلاثَمِائَةِ ألْفِ ساحِرٍ مِنَ الرِّيفِ فَصارُوا تِسْعَمِائَةِ ألْفٍ، وكانَ رَئِيسُهم أعْمى ا ه. وهَذِهِ الأقْوالُ مِنَ الإسْرائِيلِيّاتِ، ونَحْنُ نَتَجَنَّبُها دائِمًا، ونُقَلِّلُ مِن ذِكْرِها، ورُبَّما ذَكَرْنا قَلِيلًا مِنها مُنَبِّهِينَ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب