الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ . الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: فَيَذَرُها فِيهِ وجْهانِ مَعْرُوفانِ عِنْدَ العُلَماءِ: أحَدُهُما: أنَّهُ راجِعٌ إلى الأرْضِ وإنْ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ. ونَظِيرُ هَذا القَوْلِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]، وقَوْلُهُ: ﴿ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ﴾ [النحل: ١٦]، فالضَّمِيرُ فِيهِما راجِعٌ إلى الأرْضِ ولَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ. وقَدْ بَيَّنّا شَواهِدَ ذَلِكَ مِنَ العَرَبِيَّةِ، والقُرْآنِ بِإيضاحٍ في سُورَةِ ”النَّحْلِ“ فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا. والثّانِي: أنَّهُ راجِعٌ إلى مَنابِتِ الجِبالِ الَّتِي هي مَراكِزُها ومَقارُّها لِأنَّها مَفْهُومَةٌ مِن ذِكْرِ الجِبالِ. والمَعْنى: فَيَذَرُ مَواضِعَها الَّتِي كانَتْ مُسْتَقِرَّةً فِيها مِنَ الأرْضِ قاعًا صَفْصَفًا. والقاعُ: المُسْتَوِي مِنَ الأرْضِ. وقِيلَ: مُسْتَنْقَعُ الماءِ. والصَّفْصَفُ: المُسْتَوِي الأمْلَسُ (p-٩٩)الَّذِي لا نَباتَ فِيهِ، ولا بِناءَ، فَإنَّهُ عَلى صَفٍّ واحِدٍ في اسْتِوائِهِ. وأنْشَدَ لِذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الأعْشى: ؎وَكَمْ دُونَ بَيْتِكَ مِن صَفْصَفٍ ودَكْداكِ رَمْلٍ وأعْقادِها وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎وَمَلْمُومَةٌ شَهْباءُ لَوْ قَذَفُوا بِها ∗∗∗ شَمارِيخَ مِن رَضْوى إذًا عادَ صَفْصَفًا وَقَوْلُهُ: ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ [طه: ١٠٧]، أيْ: لا اعْوِجاجَ فِيها، ولا أمْتَ. والأمْتُ: النُّتُوءُ اليَسِيرُ. أيْ: لَيْسَ فِيها اعْوِجاجٌ، ولا ارْتِفاعٌ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، بَلْ هي مُسْتَوِيَةٌ، ومِن إطْلاقِ الأمْتِ بِالمَعْنى المَذْكُورِ قَوْلُ لَبِيَدٍ: ؎فاجْرَمَّزَتْ ثُمَّ سارَتْ وهي لاهِيَةٌ ∗∗∗ في كافِرٍ ما بِهِ أمْتٌ، ولا شَرَفٌ وَقَوْلُ الآخَرِ: ؎فَأبْصَرَتْ لَمْحَةً مِن رَأْسِ عِكْرِشَةٍ ∗∗∗ في كافِرٍ ما بِهِ أمْتٌ ولا عِوَجٌ والكافِرُ في البَيْتَيْنِ: قِيلَ اللَّيْلُ. وقِيلَ المَطَرُ، لِأنَّهُ يَمْنَعُ العَيْنَ مِن رُؤْيَةِ الِارْتِفاعِ، والِانْحِدارِ في الأرْضِ. وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: فَإنْ قُلْتَ: قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ العِوَجِ، والعَوَجِ فَقالُوا. العِوَجُ بِالكَسْرِ في المَعانِي، والعَوَجِ بِالفَتْحِ في الأعْيانِ. والأرْضُ عَيْنٌ، فَكَيْفَ صَحَّ فِيها المَكْسُورُ العَيْنِ ؟ قُلْتُ اخْتِيارُ هَذا اللَّفْظِ لَهُ مَوْقِعٌ حَسَنٌ بَدِيعٌ في وصْفِ الأرْضِ بِالِاسْتِواءِ، والمَلاسَةِ، ونَفْيِ الِاعْوِجاجِ عَنْها عَلى أبْلَغِ ما يَكُونُ. وذَلِكَ أنَّكَ لَوْ عَمَدْتَ إلى قِطْعَةِ أرْضٍ فَسَوَّيْتَها، وبالَغْتَ في التَّسْوِيَةِ عَلى عَيْنِكِ وعُيُونِ البُصَراءِ مِنَ الفِلاحَةِ، واتَّفَقْتُمْ عَلى أنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيها اعْوِجاجٌ قَطُّ، ثُمَّ اسْتَطْلَعْتَ رَأْيَ المُهَنْدِسِ فِيها، وأمَرْتَهُ أنْ يَعْرِضَ اسْتِواءَها عَلى المَقايِيسِ الهَنْدَسِيَّةِ لَعَثَرَ فِيها عَلى عِوَجٍ في غَيْرِ مَوْضِعٍ لا يُدْرَكُ ذَلِكَ بِحاسَّةِ البَصَرِ، ولَكِنْ بِالقِياسِ الهَنْدَسِيِّ، فَنَفى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ العِوَجَ الَّذِي دَقَّ ولَطُفَ عَنِ الإدْراكِ، اللَّهُمَّ إلّا بِالقِياسِ الَّذِي يَعْرِفُهُ صاحِبُ التَّقْدِيرِ، والهَنْدَسَةِ، وذَلِكَ الِاعْوِجاجُ لَمّا لَمْ يُدْرَكْ إلّا بِالقِياسِ دُونَ الإحْساسِ لَحِقَ بِالمَعانِي فَقِيلَ فِيهِ: عِوَجٌ بِالكَسْرِ، والأمْتُ: النُّتُوءُ اليَسِيرُ، يُقالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتّى ما فِيهِ أمْتٌ. انْتَهى مِنهُ. وقَدْ قَدَّمْنا في أوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ ما يُغْنِي عَنْ هَذا الكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب