الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ الآيَةَ، لا يَخْفى أنَّ الواوَ في قَوْلِهِ: ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ﴾ مُحْتَمِلَةٌ في الحَرْفَيْنِ أنْ تَكُونَ عاطِفَةً عَلى ما قَبْلِها، وأنْ تَكُونَ اسْتِئْنافِيَّةً، ولَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ هُنا، ولَكِنْ بَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ قَوْلَهُ ﴿وَعَلى سَمْعِهِمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، وأنَّ قَوْلَهُ ﴿وَعَلى أبْصارِهِمْ﴾ اسْتِئْنافٌ، والجارُّ والمَجْرُورُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الَّذِي هو ﴿غِشاوَةٌ﴾ وسَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ فِيهِ اعْتِمادُها عَلى الجارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَها، ولِذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذا الخَبَرِ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي سَوَّغَ الِابْتِداءَ بِالمُبْتَدَأِ كَما عَقَدَهُ في [ الخُلاصَةِ ] بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ] ؎وَنَحْوَ عِنْدِي دِرْهَمٌ ولِي وطَرْ مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقُدُّمُ الخَبَرْ فَتَحَصَّلَ أنَّ الخَتْمَ عَلى القُلُوبِ والأسْماعِ، وأنَّ الغِشاوَةَ عَلى الأبْصارِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]، والخَتْمُ: الِاسْتِيثاقُ مِنَ الشَّيْءِ حَتّى لا يَخْرُجَ مِنهُ داخِلٌ فِيهِ ولا يَدْخُلَ فِيهِ خارِجٌ عَنْهُ، والغِشاوَةُ: الغِطاءُ عَلى العَيْنِ يَمْنَعُها مِنَ الرُّؤْيَةِ، ومِنهُ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ خالِدِ بْنِ العاصِ: [ الطَّوِيلُ ] ؎هَوَيْتُكِ إذْ عَيْنِي عَلَيْها غِشاوَةٌ ∗∗∗ فَلَمّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي ألُومُها وَعَلى قِراءَةِ مَن نَصَبَ ”غِشاوَةٌ“ فَهي مَنصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ ﴿وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣]، كَما في سُورَةِ ”الجاثِيَةِ“ وهو كَقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ] ؎عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا ∗∗∗ حَتّى شَتَتْ هَمّالَةً عَيْناها (p-١٣)وَقَوْلِ الآخَرِ: [ مُرَفَّلُ الكامِلِ ] ؎وَرَأيْتُ زَوْجَكِ في الوَغى ∗∗∗ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحا وَقَوْلِ الآخَرِ: [ الوافِرُ ] ؎إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ∗∗∗ وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعَيُونا كَما هو مَعْرُوفٌ في النَّحْوِ، وأجازَ بَعْضُهم كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلى مَحَلِّ المَجْرُورِ، فَإنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ الطَّبْعُ عَلى الأبْصارِ أيْضًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ النَّحْلِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ﴾ [ الآيَةَ ١٠٨ ] . فالجَوابُ: أنَّ الطَّبْعَ عَلى الأبْصارِ المَذْكُورَ في آيَةِ النَّحْلِ: هو الغِشاوَةُ المَذْكُورَةُ في سُورَةِ البَقَرَةِ والجاثِيَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ﴾ الآيَةَ. هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ بِظاهِرِها عَلى أنَّهم مَجْبُورُونَ لِأنَّ مَن خُتِمَ عَلى قَلْبِهِ وجُعِلَتِ الغِشاوَةُ عَلى بَصَرِهِ سُلِبَتْ مِنهُ القُدْرَةُ عَلى الإيمانِ، وقَدْ جاءَ في آياتٍ أُخَرَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ كُفْرَهم واقِعٌ بِمَشِيئَتِهِمْ وإرادَتِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] . وَكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى والعَذابَ بِالمَغْفِرَةِ﴾ [البقرة: ١٧٥] . وَكَقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ الآيَةَ [الكهف: ٢٩]، وكَقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ١٨٢] . وَكَقَوْلِهِ: ﴿لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهُمْ﴾ الآيَةَ [المائدة: ٨٠] . والجَوابُ أنَّ الخَتْمَ والطَّبْعَ والغِشاوَةَ المَجْعُولَةَ عَلى أسْماعِهِمْ وأبْصارِهِمْ وقُلُوبِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ عِقابٌ مِنَ اللَّهِ لَهم عَلى مُبادَرَتِهِمْ لِلْكُفْرِ وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِاخْتِيارِهِمْ ومَشِيئَتِهِمْ، فَعاقَبَهُمُ اللَّهُ بِعَدَمِ التَّوْفِيقِ جَزاءً وِفاقًا، كَما بَيَّنَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] . (p-٢٠٣)وَقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [المنافقون: ٣] . وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَنُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠] . وَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] . وَقَوْلِهِ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٠] . وَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب