الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ . ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ زَكَرِيّا لَمّا بُشِّرَ بِيَحْيى قالَ: ﴿رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وكانَتِ امْرَأتِي عاقِرًا وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: ٨]، وهَذا الَّذِي ذَكَرَ أنَّهُ قالَهُ هُنا ذَكَرُهُ أيْضًا في ”آلِ عِمْرانَ“ في قَوْلِهِ: ﴿قالَ رَبِّ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وامْرَأتِي عاقِرٌ﴾ [آل عمران: ٤٠]، وقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: ٨]، قَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”عِتِيًّا“ بِكَسْرِ العَيْنِ اتِّباعًا لِلْكَسْرَةِ الَّتِي بَعْدَها، ومُجانَسَةً لِلْياءِ وقَرَأهُ الباقُونَ ”عُتِيًّا“ بِضَمِّها عَلى الأصْلِ. ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾، أنَّهُ بَلَغَ غايَةَ الكِبَرِ في السِّنِّ، حَتّى نُحِلَّ عَظْمُهُ ويَبِسَ، قالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: يَقُولُ وقَدْ عَتَوْتُ مِنَ الكِبَرِ فَصِرْتُ نَحِيلَ العِظامِ يابِسَها، يُقالُ مِنهُ لِلْعُودِ اليابِسِ: عُودٌ عاتٍ وِعاسٍ، وقَدْ عَتا يَعْتُو عُتُوًّا وعِتِيًّا، وعَسا يَعْسُو عِسِيًّا وعُسُوًّا، وكُلُّ مُتَناهٍ إلى غايَةٍ في كِبَرٍ أوْ فَسادٍ أوْ كُفْرٍ فَهو عاتٍ وعاسٍ. * * * (p-٣٦٩)تَنْبِيهٌ فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ اسْتِفْهامِ زَكَرِيّا في قَوْلِهِ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾، مَعَ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ. فالجَوابُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ قَدْ ذَكَرْناها في كِتابِنا ( دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عِنْدَ آياتِ الكِتابِ ( في سُورَةِ ”آلِ عِمْرانَ“ وواحِدٌ مِنها فِيهِ بُعْدٌ وإنْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ والسُّدِّيِّ وغَيْرِهِما. الأوَّلُ: أنَّ اسْتِفْهامَ زَكَرِيّا اسْتِفْهامُ اسْتِخْبارٍ واسْتِعْلامٍ؛ لِأنَّهُ لا يَعْلَمُ هَلِ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِالوَلَدِ مِن زَوْجَةِ العَجُوزِ عَلى كِبَرِ سِنِّهِما عَلى سَبِيلِ خَرْقِ العادَةِ، أوْ يَأْمُرُهُ بِأنْ يَتَزَوَّجَ شابَّةً، أوْ يَرُدُّهُما شابَّيْنِ ؟ فاسْتَفْهَمَ عَنِ الحَقِيقَةِ لِيَعْلَمَها، ولا إشْكالَ في هَذا، وهو أظْهَرُها. الثّانِي: أنَّ اسْتِفْهامَهُ اسْتِفْهامُ تَعَجُّبٍ مِن كَمالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى. الثّالِثُ: وهو الَّذِي ذَكَرْنا أنَّ فِيهِ بُعْدًا هو ما ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ والسُّدِّيِّ: مِن أنَّ زَكَرِيّا لَمّا نادَتْهُ المَلائِكَةُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، قالَ لَهُ الشَّيْطانُ: لَيْسَ هَذا نِداءُ المَلائِكَةِ، وإنَّما هو نِداءُ الشَّيْطانِ، فَداخَلَ زَكَرِيّا الشَّكُّ في أنَّ النِّداءَ مِنَ الشَّيْطانِ، فَقالَ عِنْدَ ذَلِكَ الشَّكِّ النّاشِئِ عَنْ وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ قَبْلَ أنْ يَتَيَقَّنَ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ: ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ [مريم: ٨]، ولِذا طَلَبَ الآيَةَ مِنَ اللَّهِ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ الآيَةَ [مريم: ١٠]، وإنَّما قُلْنا: إنَّ هَذا القَوْلَ فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّهُ لا يَلْتَبِسُ عَلى زَكَرِيّا نِداءُ المَلائِكَةِ بِنِداءِ الشَّيْطانِ. وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿عِتِيًّا﴾ أصْلُهُ عُتُوًّا، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، ومِن إطْلاقِ العِتِيِّ الكِبَرِ المُتَناهِي قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎إنَّما يُعْذَرُ الوَلِيدُ ولا يُعْ ذَرُ مَن كانَ في الزَّمانِ عِتِيًّا وَقِراءَةُ ”عِسِيًّا“ بِالسِّينِ شاذَّةٌ لا تَجُوزُ القِراءَةُ بِها، وقالَ القُرْطُبِيُّ: وبِها قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وهي كَذَلِكَ في مُصْحَفِ أُبَيٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب