الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا زَكَرِيّا إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ حَذْفٌ دَلَّ المَقامُ عَلَيْهِ، وتَقْدِيرُهُ: فَأجابَ اللَّهُ دُعاءَهُ فَنُودِيَ: ﴿يازَكَرِيّا﴾ الآيَةَ [مريم: ٧]، وقَدْ أوْضَحَ جَلَّ وعَلا في مَوْضِعٍ آخَرَ هَذا الَّذِي أجْمَلَهُ هُنا، فَبَيَّنَ أنَّ الَّذِي ناداهُ بَعْضُ المَلائِكَةِ، وأنَّ النِّداءَ المَذْكُورَ وقَعَ وهو قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ أنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وسَيِّدًا وحَصُورًا ونَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [آل عمران: ٣٩]، وقَوْلُـهُ تَعالى: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ﴾، قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: أطْلَقَ المَلائِكَةَ وأرادَ جِبْرِيلَ، ومَثَّلَ بِهِ بَعْضُ عُلَماءِ الأُصُولِ العامَّ المُرادَ بِهِ الخُصُوصُ قائِلًا: إنَّهُ أرادَ بِعُمُومِ المَلائِكَةِ خُصُوصَ جِبْرِيلَ، وإسْنادُ الفِعْلِ لِلْمَجْمُوعِ مُرادًا بَعْضُهُ قَدْ بَيَّنّا فِيما مَضى مِرارًا. وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿اسْمُهُ يَحْيى﴾، يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي سَمّاهُ، ولَمْ يَكِلْ تَسْمِيَتَهُ إلى أبِيهِ، وفي هَذا مَنقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِيَحْيى. وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾، اعْلَمْ أوَّلًا أنَّ السَّمِيَّ يُطْلَقُ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ إطْلاقَيْنِ: الأوَّلُ قَوْلُهم: فُلانٌ سَمِيُّ فَلانٍ أيْ: مُسَمًّى بِاسْمِهِ، فَمَن كانَ اسْمُهُما واحِدًا فَكِلاهُما سَمِيُّ الآخَرِ، أيْ: مُسَمًّى بِاسْمِهِ. والثّانِي: إطْلاقُ السَّمِيِّ يَعْنِي المُسامِيَّ، أيِ: المُماثِلَ في السُّمُوِّ والرِّفْعَةِ (p-٣٦٨)والشَّرَفِ، وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ مِنَ السُّمُوِّ بِمَعْنى العُلُوِّ والرِّفْعَةِ، ويَكْثُرُ في اللُّغَةِ إتْيانُ الفَعِيلِ بِمَعْنى المُفاعِلِ، كالقَعِيدِ والجَلِيسِ بِمَعْنى المُقاعِدِ والمُجالِسِ، والأكِيلِ والشَّرِيبِ بِمَعْنى المُؤاكِلِ والمُشارِبِ، وكَذَلِكَ السَّمِيُّ بِمَعْنى المُسامِيِّ، أيِ: المُماثِلِ في السُّمُوِّ، فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ هُنا: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٧]، أيْ: لَمْ نَجْعَلْ مِن قَبْلِهِ أحَدًا يَتَسَمّى بِاسْمِهِ، فَهو أوَّلُ مَن كانَ اسْمُهُ يَحْيى، وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّ مَعْناهُ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ سَمِيًّا، أيْ: نَظِيرًا في السُّمُوِّ والرِّفْعَةِ غَيْرُ صَوابٍ لِأنَّهُ لَيْسَ بِأفْضَلَ مِن إبْراهِيمَ ومُوسى ونُوحٍ، فالقَوْلُ الأوَّلُ هو الصَّوابُ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ وابْنُ أسْلَمَ وغَيْرُهم، ويُرْوى القَوْلُ الثّانِي عَنْ مُجاهِدٍ وابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، وإذا عَلِمْتَ أنَّ الصَّوابَ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا﴾، أيْ: لَمْ نُسَمِّ أحَدًا بِاسْمِهِ قَبْلَهُ فاعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما فاعْبُدْهُ واصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥]، مَعْناهُ: أنَّهُ تَعالى لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ ولا مُماثِلٌ يُسامِيهِ في العُلُوِّ والعَظَمَةِ والكَمالِ عَلى التَّحْقِيقِ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾، هَلْ تَعْلَمُ أحَدًا يُسَمّى بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ جَلَّ وعَلا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب