الباحث القرآني
(p-٣٥٩)﷽
سُورَةُ مَرْيَمَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كهيعص﴾ ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا﴾ ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ .
قَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ هُنا: ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١]، في سُورَةِ ”هُودٍ“ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا. وقَوْلُهُ: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٢]، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هَذا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وتَقْدِيرُهُ: فِيما يُتْلى عَلَيْكم ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، والأوَّلُ أظْهَرُ، والقَوْلُ بِأنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ ﴿كهيعص﴾ ظاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُما، وقَوْلُهُ: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ لَفْظَةُ ”ذِكْرُ“ مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى مَفْعُولِهِ، ولَفْظَةُ ”رَحْمَةٍ“ مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى فاعِلِهِ وهو ”رَبِّكَ“، وقَوْلُـهُ: عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هو ”رَحْمَةِ“ المُضافُ إلى فاعِلِهِ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ في الخُلاصَةِ:
وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وقَوْلُهُ: ”زَكَرِيّا“ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ ”عَبْدَهُ“ أوْ عَطْفُ بَيانٍ عَلَيْهِ، وقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ: أنَّ هَذا الَّذِي يُتْلى في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ هو ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِها عَبْدَهُ زَكَرِيّا حِينَ ناداهُ نِداءً خَفِيًّا أيْ: دَعاهُ في سِرٍّ وخُفْيَةٍ، وثَناؤُهُ جَلَّ وعَلا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلى أنَّ إخْفاءَ الدُّعاءِ أفْضَلُ مِن إظْهارِهِ وإعْلانِهِ، وهَذا المَعْنى المَفْهُومُ مِن هَذِهِ الآيَةِ جاءَ مُصَرَّحًا بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكم مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٦٣]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: ٥٥]، وإنَّما كانَ الإخْفاءُ أفْضَلَ مِنَ الإظْهارِ؛ لِأنَّهُ أقْرَبُ إلى الإخْلاصِ، وأبْعَدُ مِنَ الرِّياءِ، فَقَوْلُ مَن قالَ: إنَّ سَبَبَ إخْفائِهِ دُعاءَهُ أنَّهُ خَوَّفَهُ مِن قَوْمِهِ أنْ يَلُومُوهُ عَلى طَلَبِ الوَلَدِ، في حالَةٍ لا يُمْكِنُ فِيها الوَلَدُ عادَةً لِكِبَرِ (p-٣٦٠)سِنِّهِ وسِنِّ امْرَأتِهِ، وكَوْنِها عاقِرًا، وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُ أخْفاهُ؛ لِأنَّهُ طَلَبُ أمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَإنْ أجابَ اللَّهُ دُعاءَهُ فِيهِ نالَ ما كانَ يُرِيدُ، وإنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أحَدٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأقْوالِ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالأظْهَرِ، والأظْهَرُ أنَّ السِّرَّ في إخْفائِهِ هو ما ذَكَرْنا مِن كَوْنِ الإخْفاءِ أفْضَلَ مِنَ الإعْلانِ في الدُّعاءِ، ودُعاءُ زَكَرِيّا هَذا لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ في هَذا المَوْضِعِ مَكانَهُ ولا وقْتَهُ، ولَكِنَّهُ أشارَ إلى ذَلِكَ في سُورَةِ ”آلِ عِمْرانَ“ في قَوْلِهِ: ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يامَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ ﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: ٣٧ - ٣٨]، فَقَوْلُهُ ”هُنالِكَ“ أيْ: في ذَلِكَ المَكانِ الَّذِي وجَدَ فِيهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ عِنْدَ مَرْيَمَ.
وَقالَ بَعْضُهم: ”هُنالِكَ“ أيْ: في ذَلِكَ الوَقْتِ، بِناءً عَلى أنَّ هُنا رُبَّما أُشِيرَ بِها إلى الزَّمانِ، وقَوْلُهُ في دُعائِهِ هَذا:﴿رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: ٤]، أيْ: ضَعُفَ، والوَهْنُ: الضَّعْفُ، وإنَّما ذَكَرَ ضَعْفَ العَظْمِ؛ لِأنَّهُ عَمُودُ البَدَنِ وبِهِ قِوامُهُ، وهو أصْلُ بِنائِهِ فَإذا وهَنَ دَلَّ عَلى ضَعْفِ جَمِيعِ البَدَنِ؛ لِأنَّهُ أشَدُّ ما فِيهِ وأصْلَبُهُ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وهْنَ غَيْرِهِ مِنَ البَدَنِ.
الحَرْفُ المُنِيرُ \ سِحْرٌ \ أضْواءُ البَيانِ ج ٤ \ مِن ص ٢٠٤ - إلى ص ٢١٢ وقَوْلُـهُ: ﴿واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾، الألِفُ واللّامُ في ”الرَّأْسِ“ قاما مَقامَ المُضافِ إلَيْهِ، إذِ المُرادُ: واشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا، والمُرادُ بِاشْتِعالِ الرَّأْسِ شَيْبًا: انْتِشارُ بَياضِ الشَّيْبِ فِيهِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشّافِهِ: شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُواظِ النّارِ في بَياضِهِ وإنارَتِهِ وانْتِشارِهِ في الشِّعْرِ وفُشُوِّهِ فِيهِ، وأخْذِهِ مِنهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعالِ النّارِ، ثُمَّ أخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ، ثُمَّ أسْنَدَ الِاشْتِعالَ إلى مَكانِ الشَّعْرِ ومَنبَتِهِ وهو الرَّأْسُ، وأخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا، ولَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفاءً بِعِلْمِ المُخاطَبِ أنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيّا، فَمِن ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ وشُهِدَ لَها بِالبَلاغَةِ انْتَهى مِنهُ، والظّاهِرُ عِنْدَنا كَما بَيَّنّا مِرارًا: أنَّ مِثْلَ هَذا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشارِ بَياضِ الشَّيْبِ في الرَّأْسِ، بِاشْتِعالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِن أسالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحى جاءَ القُرْآنُ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎ضَيَّعْتُ حَزْمِي في إبْعادِي الأمَلا وما ارْعَوَيْتُ وشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلا
وَمِن هَذا القَبِيلِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ في مَقْصُورَتِهِ.
؎واشْتَعَلَ المِبْيَضُ في مُوَسَّدِهِ ∗∗∗ مِثْلَ اشْتِعالِ النّارِ في جَزْلِ الغَضا
(p-٣٦١)وَقَوْلُهُ ”شَيْبًا“ تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفاعِلِ في أظْهَرِ الأعارِيبِ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّهُ ما نابَ عَنِ المُطْلَقِ مِن قَوْلِهِ ”واشْتَعَلَ“ لِأنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنى شابَ، فَيَكُونُ ”شَيْبًا“ مَصْدَرًا مِنهُ في المَعْنى ومَن زَعَمَ أيْضًا أنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ في مَوْضِعِ الحالِ.
وَهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنا عَنْ زَكَرِيّا في دُعائِهِ مِن إظْهارِ الضَّعْفِ والكِبَرِ جاءَ في مَواضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ هُنا: ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [مريم: ٨]، وقَوْلِـهِ في ”آلِ عِمْرانَ“: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ٤٠]، وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنا مِن إظْهارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَنْبَغِي لِلدّاعِي إظْهارُ الضَّعْفِ والخَشْيَةِ والخُشُوعِ في دُعائِهِ.
وَقَوْلُـهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَلَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ [مريم: ٤]، أيْ: لَمْ أكُنْ بِدُعائِي إيّاكَ شَقِيًّا، أيْ: لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعائِي إذا دَعَوْتُكَ، يَعْنِي أنَّكَ عَوَّدْتَنِي الإجابَةَ فِيما مَضى، والعَرَبُ تَقُولُ: شَقِيَ بِذَلِكَ إذا تَعِبَ فِيهِ ولَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ، ورُبَّما أطْلَقْتَ الشَّقاءَ عَلى التَّعَبِ، كَقَوْلِهِ تَعالى:﴿إنَّ هَذا عَدُوٌّ لَكَ ولِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى﴾ [طه: ١١٧]، وأكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ في ضِدِّ السَّعادَةِ، ولا شَكَّ أنَّ إجابَةَ الدُّعاءِ مِنَ السَّعادَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ إجابَتِهِ مِنَ الشَّقاءِ.
{"ayah":"كۤهیعۤصۤ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق