الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ فَأقامَهُ﴾ ، هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِن أكْبَرِ الأدِلَّةِ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِها القائِلُونَ: بِأنَّ المَجازَ في القُرْآنِ زاعِمِينَ أنَّ إرادَةَ الجِدارِ الِانْقِضاضَ لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وإنَّما هي مَجازٌ، وقَدْ دَلَّتْ آياتٌ مِن كِتابِ اللَّهِ عَلى أنَّهُ لا مانِعَ مِن كَوْنِ إرادَةِ الجِدارِ حَقِيقَةً؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَعْلَمُ لِلْجَماداتِ إراداتٍ وأفْعالًا وأقْوالًا لا يُدْرِكُها الخَلْقُ كَما صَرَّحَ تَعالى بِأنَّهُ يَعْلَمُ مِن ذَلِكَ ما لا يَعْلَمُهُ خَلْقُهُ في قَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿وَإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤]، فَصَرَّحَ بِأنَّنا لا نَفْقَهُ تَسْبِيحَهم، وتَسْبِيحُهم واقِعٌ عَنْ إرادَةٍ لَهم يَعْلَمُها هو جَلَّ وعَلا ونَحْنُ لا نَعْلَمُها، وأمْثالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ. فَمِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ مِنها لَما يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٧٤]، فَتَصْرِيحُهُ تَعالى بِأنَّ بَعْضَ الحِجارَةِ يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ دَلِيلٌ واضِحٌ في ذَلِكَ؛ لِأنَّ تِلْكَ الخَشْيَةَ بِإدْراكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ ونَحْنُ لا نَعْلَمُهُ، وقَوْلُـهُ تَعالى: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وحَمَلَها الإنْسانُ﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٧٢]، فَتَصْرِيحُهُ جَلَّ وعَلا بِأنَّ السَّماءَ والأرْضَ والجِبالَ أبَتْ وأشْفَقَتْ، أيْ: خافَتْ، دَلِيلٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ واقِعٌ بِإرادَةٍ وإدْراكٍ يَعْلَمُهُ هو جَلَّ وعَلا ونَحْنُ لا نَعْلَمُهُ. وَمِنَ الأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ ما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنِّي لَأعْرِفُ حَجَرًا كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ بِمَكَّةَ» وما ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَنِينِ الجِذْعِ الَّذِي كانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ ﷺ جَزَعًا لِفِراقِهِ، فَتَسْلِيمُ ذَلِكَ الحَجَرِ، وحَنِينُ ذَلِكَ الجِذْعِ كِلاهُما بِإرادَةٍ وإدْراكٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ ونَحْنُ لا نَعْلَمُهُ، كَما صَرَّحَ بِمِثْلِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وزَعْمُ مَن لا عِلْمَ عِنْدِهِ أنَّ هَذِهِ الأُمُورَ لا حَقِيقَةَ لَها، وإنَّما هي ضَرْبُ أمْثالٍ، زَعْمٌ باطِلٌ؛ لِأنَّ نُصُوصَ الكِتابِ والسُّنَّةِ لا يَجُوزُ صَرْفُها عَنْ مَعْناها الواضِحِ المُتَبادَرِ إلّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وأمْثالُ هَذا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وبِذَلِكَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا مانِعَ مِن إبْقاءِ إرادَةِ الجِدارِ عَلى حَقِيقَتِها لِإمْكانِ أنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلِمَ مِنهُ إرادَةَ الِانْقِضاضِ، وإنْ لَمْ يَعْلَمْ خَلْقُهُ تِلْكَ الإرادَةَ، وهَذا واضِحٌ جِدًّا كَما تَرى، مَعَ أنَّهُ مِنَ الأسالِيبِ العَرَبِيَّةِ إطْلاقُ الإرادَةِ عَلى المُقارَبَةِ والمَيْلِ إلى الشَّيْءِ، كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ:(p-٣٤٠) ؎فِي مَهْمَهٍ قَلِقَتْ بِهِ هامَتُها قَلَقَ الفُئُوسِ إذا أرَدْنَ نُضُولا فَقَوْلُهُ: إذا أرَدْنَ نُضُولًا، أيْ قارَبْنَهُ. وقَوْلِ الآخَرِ: ؎يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أبِي بَراءٍ ∗∗∗ ويَعْدِلُ عَنْ دِماءِ بَنِي عَقِيلِ أيْ: يَمِيلُ إلى صَدْرِ أبِي بَراءٍ، وكَقَوْلِ راعِي نُمَيْرٍ: ؎إنَّ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ ∗∗∗ لَزَمانٌ يَهُمُّ بِالإحْسانِ فَقَوْلُهُ " لَزَمانٌ يَهُمُّ بِالإحْسانِ فِيهِ، وقَدْ بَيَّنّا في رِسالَتِنا المُسَمّاةُ ) مَنعُ جَوازِ المَجازِ في المَنزِلِ لِلتَّعَبُّدِ والإعْجازِ ( أنَّ جَمِيعَ الآياتِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أنَّها مَجازٌ أنَّ ذَلِكَ لا يَتَعَيَّنُ في شَيْءٍ مِنها، وبَيَّنّا أدِلَّةَ ذَلِكَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب