الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما﴾ . ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ مُوسى وفَتاهُ نَصَبا حُوتَهُما لَمّا بَلَغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، ولَكِنَّهُ تَعالى أوْضَحَ أنَّ النِّسْيانَ واقِعٌ مِن فَتى مُوسى؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي كانَ تَحْتَ يَدِهِ الحُوتُ، وهو الَّذِي نَسِيَهُ، وإنَّما أسْنَدَ النِّسْيانَ إلَيْهِما؛ لِأنَّ إطْلاقَ المَجْمُوعِ مُرادًا بَعْضُهُ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ، وقَدْ أوْضَحْنا أنَّ مَن أظْهَرِ أدِلَّتِهِ قِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ: ﴿فَإنْ قاتَلُوكم فاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١]، مِنَ القَتْلِ في الفِعْلَيْنِ لا مِنَ القِتالِ، أيْ: فَإنْ قَتَلُوا بَعْضَكم فَلْيَقْتُلْهم بَعْضُكُمُ الآخَرُ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ النِّسْيانَ إنَّما وقَعَ مِن فَتى مُوسى دُونَ مُوسى قَوْلُهُ تَعالى عَنْهُما: ﴿فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ ﴿قالَ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنا إلى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ﴾ الآيَةَ [الكهف: ٦٢]؛ لِأنَّ قَوْلَ مُوسى: ﴿آتِنا غَداءَنا﴾ يَعْنِي بِهِ الحُوتَ فَهو يَظُنُّ أنَّ فَتاهُ لَمْ يَنْسَهُ، كَما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ، وقَدْ صَرَّحَ فَتاهُ: بِأنَّهُ نَسِيَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ﴾ الآيَةَ. وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ﴾، دَلِيلٌ عَلى أنَّ النِّسْيانَ مِنَ الشَّيْطانِ كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأنْساهم ذِكْرَ اللَّهِ﴾ الآيَةَ [المجادلة: ١٩] . وَفَتى مُوسى هو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِما﴾ [الكهف: ٦١]، عائِدٌ إلى ”البَحْرَيْنِ“ المَذْكُورَيْنِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ . الآيَةَ [الكهف: ٦٠]، والمَجْمَعُ: اسْمُ مَكانٍ عَلى القِياسِ، أيْ: مَكانَ اجْتِماعِهِما. والعُلَماءُ مُخْتَلِفُونَ في تَعْيِينِ ”البَحْرَيْنِ“ المَذْكُورَيْنِ، فَذَهَبَ أكْثَرُهم إلى أنَّهُما بَحْرُ (p-٣٢٢)فارِسَ مِمّا يَلِي المَشْرِقَ، وبَحْرُ الرُّومِ مِمّا يَلِي المَغْرِبَ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: ﴿مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ عِنْدَ طَنْجَةَ في أقْصى بِلادِ المَغْرِبِ ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ السُّدِّيِّ قالَ: هُما الكَرُّ والرَّأْسُ حَيْثُ يَصُبّانِ في البَحْرِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ﴾ ذِراعٌ في أرْضِ فارِسَ مِن جِهَةِ أذْرَبِيجانَ، يَخْرُجُ مِنَ البَحْرِ المُحِيطِ مِن شَمالِهِ إلى جَنُوبِهِ، وطَرَفَيْهِ مِمّا يَلِي بَرَّ الشّامِ، وقِيلَ: هُما بَحْرُ الأُرْدُنِ والقُلْزُمِ، وعَنِ ابْنِ المُبارَكِ قالَ: قالَ بَعْضُهم بَحْرُ أرْمِينِيَّةَ، وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: بِإفْرِيقِيَّةَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأقْوالِ، ومَعْلُومٌ أنَّ تَعْيِينَ ”البَحْرَيْنِ“ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي قَدَّمْنا أنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِن كِتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولَيْسَ في مَعْرِفَتِهِ فائِدَةٌ، فالبَحْثُ عَنْهُ تَعَبٌ لا طائِلَ تَحْتَهُ، ولَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وزَعَمَ بَعْضُ المَلاحِدَةِ الكَفَرَةِ المُعاصِرِينَ: أنَّ مُوسى لَمْ يُسافِرْ إلى مَجْمَعِ بَحْرَيْنِ، بِدَعْوى أنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ في تارِيخِهِ، زَعْمٌ في غايَةِ الكَذِبِ والبُطْلانِ، ويَكْفِي في القَطْعِ بِذَلِكَ أنَّهُ مُناقِضٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما﴾ الآيَةَ [الكهف: ٦١]، مَعَ التَّصْرِيحِ بِأنَّهُ سَفَرٌ فِيهِ مَشَقَّةٌ وتَعَبٌ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا في بَعِيدِ السَّفَرِ، ولِذا قالَ تَعالى عَنْ مُوسى: ﴿لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ [الكهف: ٦٢]، ومَعْلُومٌ أنَّ ما ناقَضَ القُرْآنَ فَهو باطِلٌ؛ لِأنَّ نَقِيضَ الحَقِّ باطِلٌ بِإجْماعِ العُقَلاءِ لِاسْتِحالَةِ صِدْقِ النَّقِيضَيْنِ مَعًا. وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ﴾، قَرَأهُ عامَّةُ القُرّاءِ ما عَدا حَفْصًا ”أنْسانِيهِ“ بِكَسْرِ الهاءِ، وقَرَأهُ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”أنْسانِيهُ“ بِضَمِّ الهاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب