الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ ، ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ غَفُورٌ، أيْ: كَثِيرُ المَغْفِرَةِ، وأنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ يَرْحَمُ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيامَةِ، ويَرْحَمُ الخَلائِقَ في الدُّنْيا. وَبَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ: أنَّ هَذِهِ المَغْفِرَةَ شامِلَةٌ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وعَلا إلّا الشِّرْكَ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، وقَوْلِـهِ: ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ﴾ [المائدة: ٧٢] . وَبَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: أنَّ رَحْمَتَهُ واسِعَةٌ، وأنَّهُ سَيَكْتُبُها لِلْمُتَّقِينَ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وَرَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] . وَبَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ سِعَةَ مَغْفِرَتِهِ ورَحْمَتِهِ: كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغْفِرَةِ﴾ [النجم: ٣٢]، وقَوْلِـهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣]، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَبَيَّنَ في مَواضِعَ أُخَرَ أنَّهُ مَعَ سِعَةِ رَحْمَتِهِ ومَغْفِرَتِهِ شَدِيدُ العِقابِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وإنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ﴾ [الرعد: ٦]، وقَوْلِـهِ: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ﴾ [غافر: ٣]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿نَبِّئْ عِبادِي أنِّي أنا الغَفُورُ الرَّحِيمُ وأنَّ عَذابِي هو العَذابُ الألِيمُ﴾ [الحجر: ٤٩ - ٥٠]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ يُؤاخِذُهم بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ﴾ ، بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ لَوْ يُؤاخِذُ النّاسَ بِما كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ كالكُفْرِ والمَعاصِي لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ لِشَناعَةِ ما يَرْتَكِبُونَهُ، ولَكِنَّهُ حَلِيمٌ لا يُعَجِّلُ بِالعُقُوبَةِ، فَهو يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ. وَأوْضَحَ هَذا المَعْنى في مَواضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ﴾ [النحل: ٦١]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]، وقَدْ قَدَّمْنا هَذا في سُورَةِ ”النَّحْلِ“ مُسْتَوْفًى. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ لَهم مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ . بَيَّنَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، أنَّهُ وإنْ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ العَذابَ في الحالِ فَلَيْسَ غافِلًا عَنْهم ولا تارِكًا (p-٣١٧)عَذابَهم، بَلْ هو تَعالى جاعِلٌ لَهم مَوْعِدًا يُعَذِّبُهم فِيهِ، لا يَتَأخَّرُ العَذابُ عَنْهُ ولا يَتَقَدَّمُ. وَبَيَّنَ هَذا في مَواضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ في ”النَّحْلِ“: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ ولَكِنْ يُؤَخِّرُهم إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: ٦١]، وقَوْلِـهِ في آخِرِ سُورَةِ ”فاطِرٍ“: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ ولَكِنْ يُؤَخِّرُهم إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَإذا جاءَ أجَلُهم فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: ٤٥]، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إنَّما يُؤَخِّرُهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصارُ﴾ [إبراهيم: ٤٢]، وكَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْلا أجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ العَذابُ﴾ [العنكبوت: ٥٣] . وَقَدْ دَلَّتْ آياتٌ كَثِيرَةٌ عَلى أنَّ اللَّهَ لا يُؤَخِّرُ شَيْئًا عَنْ وقْتِهِ الَّذِي عُيِّنَ لَهُ ولا يُقَدِّمُهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاءَ أجَلُها﴾ [المنافقون: ١١]، وقَوْلِـهِ: ﴿فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿إنَّ أجَلَ اللَّهِ إذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ﴾ الآيَةَ [نوح: ٤]، وقَوْلِـهِ: ﴿لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ [الرعد: ٣٨]، وقَوْلِـهِ: ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ﴾ [الأنعام: ٦٧]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿لَنْ يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ [الكهف: ٥٧]، أيْ: مَلْجَأً يَلْجَئُونَ إلَيْهِ فَيَعْتَصِمُونَ بِهِ مِن ذَلِكَ العَذابِ المَجْعُولِ لَهُ المَوْعِدُ المَذْكُورُ، وهو اسْمُ مَكانٍ، مِن وألَ يَئِلُ وأْلًا ووُءُولًا بِمَعْنى لَجَأ، ومَعْلُومٌ في فَنِّ الصَّرْفِ أنَّ واوِيَّ الفاءِ مِنَ الثُّلاثِيِّ يَنْقاسُ مَصْدَرُهُ المِيمِيُّ واسْمُ مَكانِهِ وزَمانِهِ عَلى المَفْعِلِ بِكَسْرِ العَيْنِ كَما هُنا، ما لَمْ يَكُنْ مُعْتَلَّ اللّامِ فالقِياسُ فِيهِ الفَتْحُ كالمَوْلى، والعَرَبُ تَقُولُ: لا وألَتْ نَفْسُهُ، أيْ: لا وجَدَتْ مَنجًى تَنْجُو بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لا وألَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَها لِلْعامِرِيَّيْنِ ولَمْ تُكْلَمِ وَقالَ الأعْشى: ؎وَقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ ∗∗∗ وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثُمَّ ما يَئِلُ أيْ ما يَنْجُو. وَأقْوالُ المُفَسِّرِينَ في ”المَوْئِلِ“ راجِعَةٌ إلى ما ذَكَرْنا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: مَوْئِلًا مَحِيصًا، وقَوْلِ بَعْضِهِمْ مَنجًى، وقَوْلِ بَعْضِهِمْ مُحْرِزًا، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّهُ بِمَعْنى ما ذَكَرْنا. (p-٣١٨)وَقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿وَتِلْكَ القُرى أهْلَكْناهم لَمّا ظَلَمُوا وجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾، بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ القُرى الماضِيَةَ لَمّا ظَلَمَتْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ والعِنادِ واللَّجاجِ في الكُفْرِ والمَعاصِي أهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَهَذا الإجْمالُ في تَعْيِينِ هَذِهِ القُرى وأسْبابِ هَلاكِها، وأنْواعِ الهَلاكِ الَّتِي وقَعَتْ بِها جاءَ مُفَصَّلًا في آياتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَما جاءَ في القُرْآنِ مِن قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ، وقَوْمِ هُودٍ، وقَوْمِ صالِحٍ، وقَوْمِ شُعَيْبٍ، وقَوْمِ مُوسى، كَما تَقَدَّمَ بَعْضُ تَفاصِيلِهِ، والقُرى: جَمْعُ قَرْيَةٍ عَلى غَيْرِ قِياسٍ؛ لِأنَّ جَمْعَ التَّكْسِيرِ عَلى ”فُعَلٍ“ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ لا يَنْقاسُ إلّا في جَمْعِ ”فُعْلَةٍ“ بِالضَّمِّ اسْمًا كَغُرْفَةٍ وقِرْبَةٍ، أوْ ”فُعْلى“ إذا كانَتْ أُنْثى الأفْعَلِ خاصَّةً، كالكُبْرى والكُبَرِ، كَما أشارَ لِذَلِكَ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَفُعَلٌ جَمْعًا لِفِعْلَةٍ عُرِفْ ونَحْوُ كُبْرى. . . إلَخْ أيْ: وأمّا في غَيْرِ ذَلِكَ فَسَماعٌ يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عَلَيْهِ، وزادَ في التَّسْهِيلِ نَوْعًا ثالِثًا يَنْقاسُ فِيهِ ”فُعَلٌ“ بِضَمٍّ فَفَتَحَ، وهو الفُعُلَةُ بِضَمَّتَيْنِ إنْ كانَ اسْمًا كَجُمُعَةٍ وجُمَعٍ، واسْمُ الإشارَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وَتِلْكَ القُرى﴾ [الكهف: ٥٩]، إنَّما أُشِيرُ بِهِ لَهم لِأنَّهم يَمُرُّونَ عَلَيْها في أسْفارِهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٧ - ١٣٨]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَإنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: ٧٦]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَإنَّهُما لَبِإمامٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: ٧٩]، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَقَوْلُـهُ ”وَتِلْكَ“ مُبْتَدَأٌ و ”القُرى“ صِفَةٌ لَهُ، أوْ عَطْفُ بَيانٍ، وقَوْلُـهُ: ”أهْلَكْناهم“ هو الخَبَرُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ هو ”القُرى“ وجُمْلَةُ ”أهْلَكْناهم“ في مَحَلِّ حالٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهم خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا﴾ [النمل: ٥٢]، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ”وَتِلْكَ“ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ العامِلُ المُشْتَغِلُ بِالضَّمِيرِ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ في الخُلاصَةِ: ؎إنْ مُضْمَرُ اسْمٍ سابِقٍ فِعْلًا شَغَلْ ∗∗∗ عَنْهُ بِنَصْبِ لَفْظِهِ أوِ المَحَلْ ؎فالسّابِقَ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرا ∗∗∗ حَتْمًا مُوافِقٌ لِما قَدْ أُظْهِرا وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: ٥٩]، قَرَأهُ عامَّةُ السَّبْعَةِ ما عَدا عاصِمًا بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِ اللّامِ عَلى صِيغَةِ اسْمِ المَفْعُولِ، وهو مُحْتَمَلٌ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، أيْ: جَعَلْنا لِإهْلاكِهِمْ مَوْعِدًا، وأنْ يَكُونَ اسْمَ زَمانٍ، أيْ: (p-٣١٩)وَجَعَلْنا لِوَقْتِ إهْلاكِهِمْ مَوْعِدًا، وقَدْ تَقَرَّرَ في فَنِّ الصَّرْفِ أنَّ كُلَّ فِعْلٍ زادَ ماضِيهِ عَلى ثَلاثَةِ أحْرُفٍ مُطْلَقًا فالقِياسُ في مَصْدَرِهِ المِيمِيِّ واسْمِ مَكانِهِ واسْمِ زَمانِهِ أنْ يَكُونَ الجَمِيعُ بِصِيغَةِ اسْمِ المَفْعُولِ، والمُهْلِكُ بِضَمِّ المِيمِ مَن أهْلَكَهُ الرُّباعِيُّ، وقَرَأهُ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”لِمَهْلِكِهِمْ“ بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ اللّامِ، وقَرَأهُ شُعْبَةُ عَنْ عاصِمٍ ”لِمَهْلَكِهِمْ“ بِفَتْحِ المِيمِ واللّامِ مَعًا، والظّاهِرُ أنَّهُ عَلى قِراءَةِ حَفْصٍ اسْمُ زَمانٍ، أيْ: وجَعَلْنا لِوَقْتِ هَلاكِهِمْ مَوْعِدًا؛ لِأنَّهُ مِن هَلَكَ يَهْلِكُ بِالكَسْرِ، وما كانَ ماضِيهِ عَلى ”فَعَلَ“ بِالفَتْحِ ومُضارِعُهُ ”يَفْعِلُ“ بِالكَسْرِ كَهَلَكَ يَهْلِكُ، وضَرَبَ يَضْرِبُ، ونَزَلَ يَنْزِلُ فالقِياسُ في اسْمِ مَكانِهِ وزَمانِهِ ”المَفْعِلُ“ بِالكَسْرِ، وفي مَصْدَرِهِ المِيمِيِّ المَفْعَلُ بِالفَتْحِ، تَقُولُ هَذا مَنزِلُهُ بِالكَسْرِ أيْ: مَكانُ نُزُولِهِ أوْ وقْتُ نُزُولِهِ، وهَذا ”مَنزَلُهُ“ بِفَتْحِ الزّايِ، أيْ: نُزُولُهُ، وهَكَذا، مِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أإنْ ذَكَّرَتْكَ الدّارُ مَنزَلَها جُمْلُ ∗∗∗ بَكَيْتَ فَدَمْعُ العَيْنِ مُنْحَدِرٌ سَجْلُ فَقَوْلُهُ: ”مَنزَلَها جُمْلُ“ بِالفَتْحِ، أيْ: نُزُولٌ جُمْلُ إيّاها وبِهِ تَعْلَمُ أنَّهُ عَلى قِراءَةِ شُعْبَةَ ”لِمَهْلَكِهِمْ“ بِفَتْحِ المِيمِ واللّامِ أنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أيْ: وجَعَلْنا لِهَلاكِهِمْ مَوْعِدًا، والمَوْعِدُ: الوَقْتُ المُحَدَّدُ لِوُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِ. * * * * تَنْبِيهٌ لَفْظَةُ ”لَمّا“ تَرِدُ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ عَلى ثَلاثَةِ أنْواعٍ: الأوَّلُ: لَمّا النّافِيَةُ الجازِمَةُ لِلْمُضارِعِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَأْتِكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٤]، وقَوْلِـهِ: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنكُمْ﴾ الآيَةَ [آل عمران: ١٤٢]، وهَذِهِ حَرْفٌ بِلا خِلافٍ، وهي مُخْتَصَّةٌ بِالمُضارِعِ، والفَوارِقُ المَعْنَوِيَّةُ بَيْنَها وبَيْنَ لَمِ النّافِيَةِ مَذْكُورَةٌ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، ومِمَّنْ أوْضَحَها ابْنُ هِشامٍ وغَيْرُهُ. الثّانِي: أنْ تَكُونَ حَرْفَ اسْتِثْناءٍ بِمَعْنى إلّا، فَتَدْخُلُ عَلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ﴾ [الطارق: ٤]، في قِراءَةِ مَن شَدَّدَ ”لَمّا“ أيْ: ما كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها حافِظٌ، ومِن هَذا النَّوْعِ قَوْلُ العَرَبِ: أنْشُدُكَ اللَّهَ لَمّا فَعَلْتَ؛ أيْ: ما أسْألُكَ إلّا فِعْلَكَ، ومِنهُ قَوْلُ الرّاجِزِ: ؎قالَتْ لَهُ بِاللَّهِ يا ذا البُرْدَيْنِ لَمّا غَنِثْتَ نَفَسًا أوْ نَفَسَيْنِ (p-٣٢٠)فَقَوْلُها ”غَنِثْتَ“ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ ونُونٍ مَكْسُورَةٍ وثاءٍ مُثَلَّثَةٍ مُسْنَدًا لِتاءِ المُخاطَبِ، والمُرادُ بِقَوْلِها ”غَنِثْتَ“ تَنَفَّسْتَ في الشُّرْبِ، كَنَتَ بِذَلِكَ عَنِ الجِماعِ، تُرِيدُ عَدَمَ مُتابَعَتِهِ لِذَلِكَ، وأنْ يَتَنَفَّسَ بَيْنَ ذَلِكَ، وهَذا النَّوْعُ حَرْفٌ أيْضًا بِلا خِلافٍ، وبَعْضُ أهْلِ العِلْمِ يَقُولُ: إنَّهُ لُغَةُ هُذَيْلٍ. الثّالِثُ مِن أنْواعِ ”لَمّا“ هو النَّوْعُ المُخْتَصُّ بِالماضِي المُقْتَضِي جُمْلَتَيْنِ، تُوجَدُ ثانِيَتُهُما عِنْدَ وُجُودِ أُولاهُما، كَقَوْلِهِ: ﴿لَمّا ظَلَمُوا﴾، أيْ: لَمّا ظَلَمُوا أهْلَكْناهم، فَما قَبْلَها دَلِيلٌ عَلى الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، وهَذا النَّوْعُ هو الغالِبُ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ، ”وَلَمّا“ هَذِهِ الَّتِي تَقْتَضِي رَبْطَ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ اخْتَلَفَ فِيها النَّحْوِيُّونَ: هَلْ هي حِرَفٌ، أوِ اسْمٌ، وخِلافُهم فِيها مَشْهُورٌ، ومِمَّنِ انْتَصَرَ لِأنَّها حَرْفٌ ابْنُ خَرُوفٍ وغَيْرُهُ، ومِمَّنِ انْتَصَرَ لِأنَّها اسْمٌ ابْنُ السَّرّاجِ والفارِسِيُّ وابْنُ جِنِّيٍّ وغَيْرُهم، وجَوابُ ”لَمّا“ هَذِهِ يَكُونُ فِعْلًا ماضِيًا بِلا خِلافٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا نَجّاكم إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ﴾ الآيَةَ [الإسراء: ٦٧]، ويَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مَقْرُونَةً بِـ ”إذا“ الفُجائِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ إذا هم يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥]، أوْ مَقْرُونَةً بِالفاءِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ فَمِنهم مُقْتَصِدٌ﴾ الآيَةَ [لقمان: ٣٢]، ويَكُونُ جَوابُها فِعْلًا مُضارِعًا كَما قالَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْراهِيمَ الرَّوْعُ وجاءَتْهُ البُشْرى يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾ الآيَةَ [هود: ٧٤]، وبَعْضُ ما ذَكَرْنا لا يَخْلُو مِن مُناقَشَةٍ عِنْدَ عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ، ولَكِنَّهُ هو الظّاهِرُ. هَذِهِ الأنْواعُ الثَّلاثَةُ، هي الَّتِي تَأْتِي لَها ”لَمّا“ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ. أمّا ”لَمّا“ المُتَرَكِّبَةُ مِن كَلِماتٍ أوْ كَلِمَتَيْنِ فَلَيْسَتْ مِن ”لَمّا“ الَّتِي كَلامُنا فِيها؛ لِأنَّها غَيْرُها، فالمُرَكَّبَةُ مِن كَلِماتٍ كَقَوْلِ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنَّ كُلًّا لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهم رَبُّكَ﴾ [هود: ١١١]، في قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وحَمْزَةَ وحَفْصٍ عَنْ عاصِمٍ بِتَشْدِيدِ نُونِ ”إنَّ“ ومِيمِ ”لَمّا“ عَلى قَوْلِ مَن زَعَمَ أنَّ الأصْلَ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ: لَمِن ما بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ، وما بِمَعْنى مِن، أيْ: وإنَّ كُلًّا لَمِن جُمْلَةِ ما يُوَفِّيهِمْ رَبُّكَ أعْمالَهم، فَأُبْدِلَتْ نُونُ ”مِن“ مِيمًا وأُدْغِمَتْ في ما، فَلَمّا كَثُرَتِ المِيماتُ حُذِفَتِ الأُولى فَصارَ لَمًّا، وعَلى هَذا القَوْلِ: فَـ ”لَمّا“ مُرَكَّبَةٌ مِن ثَلاثِ كَلِماتٍ: الأوْلى الحَرْفُ الَّذِي هو اللّامُ، والثّانِيَةُ مِن، والثّالِثَةُ ما، وهَذا القَوْلُ وإنْ قالَ بِهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ لا يَخْفى ضَعْفُهُ وبُعْدُهُ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ حَمْلُ القُرْآنِ عَلَيْهِ، وقَصْدُنا مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ لِـ ”لَمّا“ المُرَكَّبَةِ مِن كَلِماتٍ عَلى (p-٣٢١)قَوْلِ مَن قالَ بِذَلِكَ، وأمّا المُرَكَّبَةُ مِن كَلِمَتَيْنِ فَكَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎لَمّا رَأيْتُ أبا يَزِيدَ مُقاتِلًا ∗∗∗ أدَعُ القِتالَ وأشْهَدُ الهَيْجاءَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ”لَمّا“ في هَذا البَيْتِ، مُرَكَّبَةٌ مِن ”لَنِ“ النّافِيَةِ النّاصِبَةِ لِلْمُضارِعِ و ”ما“ المَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، أيْ: لَنْ أدَعَ القِتالَ ما رَأيْتُ أبا يَزِيدَ مُقاتِلًا، أيْ: مُدَّةَ رُؤْيَتِي لَهُ مُقاتِلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب