الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبالَ وتَرى الأرْضَ بارِزَةً وحَشَرْناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنهم أحَدًا﴾ .
قَوْلُهُ: ويَوْمَ [الكهف: ٤٧]، مَنصُوبٌ بِاذْكُرْ مُقَدَّرًا. أوْ بِفِعْلِ القَوْلِ المَحْذُوفِ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى﴾ [الأنعام: ٩٤]، أيْ: قُلْنا لَهم يَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبالَ: لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى، وقَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّ العامِلَ فِيهِ ”خَيْرٌ“ يَعْنِي والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ يَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبالَ بَعِيدٌ جِدًّا كَما تَرى.
وَما ذَكَرَهُ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: مِن أنَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَخْتَلُّ فِيهِ نِظامُ هَذا العامِ الدُّنْيَوِيِّ، فَتُسَيَّرُ جِبالُهُ، وتَبْقى أرْضُهُ بارِزَةً لا حَجَرَ فِيها ولا شَجَرَ، ولا بِناءَ ولا وادِيَ ولا عَلَمَ، ذَكَرَهُ في مَواضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، فَذَكَرَ أنَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ الأرْضَ والجِبالَ مِن أماكِنِهِما، ويَدُكُّهُما دَكَّةً واحِدَةً، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ﴾ ﴿وَحُمِلَتِ الأرْضُ والجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً﴾ ﴿فَيَوْمَئِذٍ وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾ . . الآيَةَ [الحاقة: ١٣ - ١٥] .
وَما ذَكَرَهُ مِن تَسْيِيرِ الجِبالِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ذَكَرَهُ أيْضًا في مَواضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْرًا﴾ ﴿وَتَسِيرُ الجِبالُ سَيْرًا﴾ [الطور: ٩ - ١٠]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَسُيِّرَتِ الجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا﴾ [النبإ: ٢٠]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَإذا الجِبالُ سُيِّرَتْ﴾ [التكوير: ٣]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ الآيَةَ [النمل: ٨٨] .
ثُمَّ ذَكَرَ في مَواضِعَ أُخَرَ أنَّهُ جَلَّ وعَلا يُفَتِّتُها حَتّى تَذْهَبَ صَلابَتُها الحَجَرِيَّةُ وتَلِينَ، فَتَكُونَ في عَدَمِ صَلابَتِها ولِينِها كالعِهْنِ المَنفُوشِ، وكالرَّمْلِ المُتَهايِلِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كالمُهْلِ﴾ ﴿وَتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ﴾ [المعارج: ٨ - ٩]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النّاسُ كالفَراشِ المَبْثُوثِ﴾ ﴿وَتَكُونُ الجِبالُ كالعِهْنِ المَنفُوشِ﴾ [القارعة: ٤ - ٥]، والعِهْنُ: الصُّوفُ، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ والجِبالُ وكانَتِ الجِبالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ [المزمل: ١٤]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿وَبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ [الواقعة: ٥]، أيْ: فُتِّتَتْ حَتّى صارَتْ كالبَسِيسَةِ، وهي دَقِيقٌ مَلْتُوتٌ بِسَمْنٍ، عَلى أشْهَرِ التَّفْسِيراتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ جَلَّ وعَلا أنَّهُ يَجْعَلُها هَباءً وسَرابًا. قالَ: ﴿وَبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ ﴿فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا﴾ [الواقعة: ٥، ٦]، وقالَ: ﴿وَسُيِّرَتِ الجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا﴾ [النبإ: ٢٠] .
وَبَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ السَّرابَ عِبارَةٌ عَنْ لا شَيْءَ؛ وهو قَوْلُهُ: (p-٢٨٣)﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ﴾، إلى قَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [النور: ٣٩] .
وَقَوْلُـهُ: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبالَ﴾، قَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: ”تُسَيَّرُ الجِبالُ“ بِالتّاءِ المُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةُ وفَتْحِ الياءِ المُشَدَّدَةِ مِن قَوْلِهِ: ”تُسَيَّرُ“ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، و الجِبالُ بِالرَّفْعِ نائِبُ فاعِلِ تُسَيَّرُ والفاعِلُ المَحْذُوفُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى اللَّهِ جَلَّ وعَلا، وقَرَأهُ باقِي السَّبْعَةِ ”نُسَيِّرُ“ بِالنُّونِ وكَسْرِ الياءِ المُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، و ”الجِبالَ“ مَنصُوبٌ مَفْعُولٌ بِهِ، والنُّونُ في قَوْلِهِ ”نُسَيِّرُ“ لِلتَّعْظِيمِ.
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَتَرى الأرْضَ بارِزَةً﴾، البُرُوزُ: الظُّهُورُ، أيْ: تَرى الأرْضَ ظاهِرَةً مُنْكَشِفَةً لِذَهابِ الجِبالِ والظِّرابِ والآكامِ، والشَّجَرِ والعِماراتِ الَّتِي كانَتْ عَلَيْها. وهَذا المَعْنى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنا بَيَّنَهُ أيْضًا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ الجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا﴾ ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ [طه: ١٠٥ - ١٠٦]، وأقْوالُ العُلَماءِ في مَعْنى ذَلِكَ راجِعَةٌ إلى شَيْءٍ واحِدٍ، وهو أنَّها أرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ لا نَباتَ فِيها، ولا بِناءَ ولا ارْتِفاعَ ولا انْحِدارَ. وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّ مَعْنى ﴿وَتَرى الأرْضَ بارِزَةً﴾، أيْ: بارِزًا ما كانَ في بَطْنِها مِنَ الأمْواتِ والكُنُوزِ بَعِيدٌ جِدًّا كَما تَرى، وبُرُوزُ ما في بَطْنِها مِنَ الأمْواتِ والكُنُوزِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا الأرْضُ مُدَّتْ﴾ ﴿وَألْقَتْ ما فِيها وتَخَلَّتْ﴾ [الإنشقاق: ٣ - ٤]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿أفَلا يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما في القُبُورِ﴾ ﴿وَحُصِّلَ ما في الصُّدُورِ﴾ [العاديات: ٩]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَأخْرَجَتِ الأرْضُ أثْقالَها﴾ [الزلزلة: ٢]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَإذا القُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ [الإنفطار: ٤] .
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: وحَشَرْناهم، أيْ: جَمَعْناهم لِلْحِسابِ والجَزاءِ، وهَذا الجَمْعُ المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالحَشْرِ هُنا جاءَ مَذْكُورًا في آياتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ﴾ ﴿لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الواقعة: ٤٩ - ٥٠]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ [النساء: ٨٧]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكم لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ﴾ [التغابن: ٩]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: ١٠٣]، وقَوْلِـهِ: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهم جَمِيعًا﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٢٢]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَبَيَّنَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ هَذا الحَشْرَ المَذْكُورَ شامِلٌ لِلْعُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ مِن أجْناسِ المَخْلُوقاتِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: (p-٢٨٤)﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أمْثالُكم ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] .
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿فَلَمْ نُغادِرْ مِنهم أحَدًا﴾ [الكهف: ٤٧]، أيْ: لَمْ نَتْرُكْ، والمُغادَرَةُ: التَّرْكُ، ومِنهُ الغَدْرُ؛ لِأنَّهُ تَرْكُ الوَفاءِ والأمانَةِ، وسُمِّيَ الغَدِيرُ مِنَ الماءِ غَدِيرًا؛ لِأنَّ السَّيْلَ ذَهَبَ وتَرَكَهُ، ومِنَ المُغادَرَةِ بِمَعْنى التَّرْكِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ في مَطْلَعِ مُعَلَّقَتِهِ:
؎هَلْ غادَرَ الشُّعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ أمْ هَلْ عَرَفْتِ الدّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
وَقَوْلُهُ أيْضًا:
؎غادَرْتُهُ مُتَعَفِّرًا أوْصالُهُ ∗∗∗ والقَوْمُ بَيْنَ مُجَرَّحٍ ومُجَدَّلِ
وَما ذَكَرَهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن أنَّهُ حَشَرَهم ولَمْ يَتْرُكْ مِنهم أحَدًا جاءَ مُبَيَّنًا في مَواضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهم جَمِيعًا﴾ الآيَةَ [الأنعام: ٢٢]، ونَحْوِها مِنَ الآياتِ؛ لِأنَّ حَشْرَهم جَمِيعًا هو مَعْنى أنَّهُ لَمْ يُغادِرْ مِنهم أحَدًا.
{"ayah":"وَیَوۡمَ نُسَیِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةࣰ وَحَشَرۡنَـٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











