الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهم إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم يَرْجُمُوكم أوْ يُعِيدُوكم في مِلَّتِهِمْ ولَنْ تُفْلِحُوا إذًا أبَدًا﴾ . ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَنْ أصْحابِ الكَهْفِ أنَّهم قالُوا إنَّ قَوْمَهُمُ الكُفّارَ الَّذِينَ فَرُّوا مِنهم بِدِينِهِمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ، أيْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِمْ ويَعْرِفُوا مَكانَهم، يَرْجُمُوهم بِالحِجارَةِ، وذَلِكَ مِن أشْنَعِ أنْواعِ القَتْلِ، وقِيلَ: يَرْجُمُوهم بِالشَّتْمِ والقَذْفِ، أوْ يُعِيدُوهم في مِلَّتِهِمْ، أيْ: يَرُدُّوهم إلى مِلَّةِ الكُفْرِ. وَهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنا مِن فِعْلِ الكُفّارِ مَعَ المُسْلِمِينَ مِنَ الأذى أوِ الرَّدِّ إلى الكُفْرِ ذَكَرَهُ (p-٢٥١)فِي مَواضِعَ أُخَرَ أنَّهُ هو فِعْلُ الكُفّارِ مَعَ الرُّسُلِ وأتْباعِهِمْ؛ • كَقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكم مِن أرْضِنا أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ [إبراهيم: ١٣]، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنا أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا قالَ أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾ ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ٨٨ - ٨٩]، • وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكم حَتّى يَرُدُّوكم عَنْ دِينِكم إنِ اسْتَطاعُوا﴾ [البقرة: ٢١٧]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. * * * * مَسْألَةٌ أخَذَ بَعْضُ العُلَماءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ العُذْرَ بِالإكْراهِ مِن خَصائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ عَنْ أصْحابِ الكَهْفِ: ﴿إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم يَرْجُمُوكم أوْ يُعِيدُوكم في مِلَّتِهِمْ﴾ [الكهف: ٢٠]، ظاهِرٌ في إكْراهِهِمْ عَلى ذَلِكَ وعَدَمِ طَواعِيَتِهِمْ، ومَعَ هَذا قالَ عَنْهم: ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أبَدًا﴾، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ ذَلِكَ الإكْراهَ لَيْسَ بِعُذْرٍ. ويَشْهَدُ لِهَذا المَعْنى حَدِيثُ طارِقِ بْنِ شِهابٍ في الَّذِي دَخَلَ النّارَ في ذُبابٍ قَرَّبَهُ مَعَ الإكْراهِ بِالخَوْفِ مِنَ القَتْلِ؛ لِأنَّ صاحِبَهُ الَّذِي امْتَنَعَ أنْ يُقَرِّبَ ولَوْ ذُبابًا قَتَلُوهُ. وَيَشْهَدُ لَهُ أيْضًا دَلِيلُ الخِطابِ، أيْ: مَفْهُومُ المُخالَفَةِ في قَوْلِهِ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ والنِّسْيانَ وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»؛ فَإنَّهُ يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ: ”تَجاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي“ أنَّ غَيْرَ أُمَّتِهِ مِنَ الأُمَمِ لَمْ يَتَجاوَزْ لَهم عَنْ ذَلِكَ، وهَذا الحَدِيثُ وإنْ أعَلَّهُ الإمامُ أحْمَدُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ فَقَدْ تَلَقّاهُ العُلَماءُ قَدِيمًا وحَدِيثًا بِالقَبُولِ، ولَهُ شَواهِدُ ثابِتَةٌ في القُرْآنِ العَظِيمِ والسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وقَدْ أوْضَحْنا هَذِهِ المَسْألَةَ في كِتابِنا ) دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ ( في سُورَةِ ”الكَهْفِ“، في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهم إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم يَرْجُمُوكُمْ﴾ الآيَةَ [الكهف: ٢٠]؛ ولِذَلِكَ اخْتَصَرْناها هُنا، أمّا هَذِهِ الأُمَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعالى بِعُذْرِهِمْ بِالإكْراهِ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ [النحل: ١٠٦]، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. ⁕ ⁕ ⁕ * قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب): (p-٣٣٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الكَهْفِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهم إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكم يَرْجُمُوكم أوْ يُعِيدُوكم في مِلَّتِهِمْ ولَنْ تُفْلِحُوا إذًا أبَدًا﴾ . هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ بِظاهِرِها عَلى أنَّ المُكْرَهَ عَلى الكُفْرِ لا يُفْلِحُ أبَدًا. وَقَدْ جاءَتْ آيَةٌ أُخْرى تَدُلُّ عَلى أنَّ المُكْرَهَ عَلى الكُفْرِ مَعْذُورٌ إذا كانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإيمانِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ ولَكِنْ مَن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا﴾ [النحل: ١٠٦] . والجَوابُ عَنْ هَذا مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ رَفْعَ المُؤاخَذَةِ مَعَ الإكْراهِ مِن خَصائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ فَهو داخِلٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، ويَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ والنِّسْيانَ، وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَهو يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلى خُصُوصِهِ بِأُمَّتِهِ ﷺ . وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ لِأنَّ مَناطَ التَّخْصِيصِ هو اتِّصافُهُ بِالأفْضَلِيَّةِ عَلى مَن قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، واتِّصافُ أُمَّتِهِ بِها عَلى مَن قَبْلَها مِنَ الأُمَمِ، والحَدِيثُ وإنْ أعَلَّهُ أحْمَدُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ فَقَدْ تَلَقّاهُ العُلَماءُ قَدِيمًا وحَدِيثًا بِالقَبُولِ، ومِن أصْرَحِ الأدِلَّةِ في أنَّ مَن قَبْلَنا لَيْسَ لَهم عُذْرٌ بِالإكْراهِ حَدِيثُ طارِقِ بْنِ شِهابٍ في الَّذِي دَخَلَ النّارَ في ذُبابٍ قَرَّبَهُ لِصَنَمٍ، مَعَ أُنَّهُ قَرَّبَهُ لِيَتَخَلَّصَ مِن شَرِّ عَبَدَةِ الصَّنَمِ، وصاحِبُهُ الَّذِي امْتَنَعَ مِن ذَلِكَ قَتَلُوهُ فَعَلِمَ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَقَتَلُوهُ كَما قَتَلُوا صاحِبَهُ، ولا إكْراهَ أكْبَرُ مِن خَوْفِ القَتْلِ، ومَعَ هَذا دَخَلَ النّارَ ولَمْ يَنْفَعْهُ الإكْراهُ، وظَواهِرُ الآياتِ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: ولَنْ تُفْلِحُوا إذًا أبَدًا. ظاهِرٌ في عَدَمِ فَلاحِهِمْ مَعَ الإكْراهِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَرْجُمُوكم أوْ يُعِيدُوكم في مِلَّتِهِمْ﴾، صَرِيحٌ في (p-٣٣١)الإكْراهِ، وقَوْلَهُ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦] مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ”قَدْ فَعَلْتُ“، كَما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، يَدُلُّ بِظاهِرِهِ عَلى أنَّ التَّكْلِيفَ بِذَلِكَ كانَ مَعْهُودًا قَبْلُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: ١١٥] مَعَ قَوْلِهِ: ﴿وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ﴾ [طه: ١٢١]، فَأسْنَدَ إلَيْهِ النِّسْيانَ والعِصْيانَ مَعًا، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا، وعَلى القَوْلِ بِأنَّ المُرادَ بِالنِّسْيانِ التَّرْكُ، فَلا دَلِيلَ في الآيَةِ. وَقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾، مَعَ قَوْلِهِ: ﴿كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، ويُسْتَأْنَسُ لِهَذا بِما ذَكَرَهُ البَغَوِيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنِ الكَلْبِيِّ مِن أنَّ المُؤاخَذَةَ بِالنِّسْيانِ كانَتْ مِنَ الإصْرِ عَلى مَن قَبْلَنا، وكانَ عِقابُها يُعَجَّلُ لَهم في الدُّنْيا فَيُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الطَّيِّباتِ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: إنَّ الإكْراهَ عُذْرٌ لِمَن قَبْلَنا، وعَلَيْهِ فالجَوابُ هو: الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الإكْراهَ عَلى الكُفْرِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِدْراجِ الشَّيْطانِ إلى اسْتِحْسانِهِ والِاسْتِمْرارِ عَلَيْهِ، كَما يُفْهَمُ مِن مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ [النحل: ١٠٦] وإلى هَذا الوَجْهِ جَنَحَ صاحِبُ رَوْحِ المَعانِي، والأوَّلُ أظْهَرُ عِنْدِي وأوْضَحُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب