الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْناهم لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ أحْصى لِما لَبِثُوا أمَدًا﴾ .
ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ مِن حِكَمِ بَعْثِهِ لِأصْحابِ الكَهْفِ بَعْدَ هَذِهِ النَّوْمَةِ الطَّوِيلَةِ أنْ يُبَيِّنَ لِلنّاسِ أيُّ الحِزْبَيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ في مُدَّةِ لُبْثِهِمْ أحْصى لِذَلِكَ وأضْبَطُ لَهُ، ولَمْ يُبَيِّنْ هُنا شَيْئًا عَنِ الحِزْبَيْنِ المَذْكُورَيْنِ.
وَأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ أحَدَ الحِزْبَيْنِ هم أصْحابُ الكَهْفِ، والحِزْبَ الثّانِي هم أهْلُ المَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الفِتْيَةُ عَلى عَهْدِهِمْ حِينَ كانَ عِنْدَهُمُ التّارِيخُ بِأمْرِ الفِتْيَةِ، وقِيلَ: هُما حِزْبانِ مِن أهْلِ المَدِينَةِ المَذْكُورَةِ، كانَ مِنهم مُؤْمِنُونَ وكافِرُونَ، وقِيلَ: هُما حِزْبانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ في زَمَنِ أصْحابِ الكَهْفِ. اخْتَلَفُوا في مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، قالَهُ الفَرّاءُ: وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: المُلُوكُ الَّذِينَ تَداوَلُوا مُلْكَ المَدِينَةِ حِزْبٌ، وأصْحابُ الكَهْفِ حِزْبٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأقْوالِ.
والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ: أنَّ الحِزْبَيْنِ كِلَيْهِما مِن أصْحابِ الكَهْفِ، وخَيْرُ ما يُفَسَّرُ بِهِ القُرْآنُ القُرْآنُ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْناهم لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهم قالَ قائِلٌ مِنهم كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكم أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ﴾ [الكهف: ١٩]، وكَأنَّ الَّذِينَ (p-٢٠٩)قالُوا: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ﴾ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا أنَّ لُبْثَهم قَدْ تَطاوَلَ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ عَنْهم: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يُحْصُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَقَدْ يُجابُ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّ رَدَّ العِلْمِ إلى اللَّهِ لا يُنافِي العِلْمَ، بِدَلِيلِ أنَّ اللَّهَ أعْلَمَ نَبِيَّهُ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿وَلَبِثُوا في كَهْفِهِمْ﴾ الآيَةَ [الأنفال: ٢٥]، ثُمَّ أمَرَهُ بِرَدِّ العِلْمِ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ أعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ الآيَةَ [الكهف: ٢٦] .
وَقَوْلُهُ: ﴿بَعَثْناهُمْ﴾ أيْ مِن نَوْمَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ، والبَعْثُ: التَّحْرِيكُ مِن سُكُونٍ، فَيَشْمَلُ بَعْثَ النّائِمِ والمَيِّتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ بَيَّنّا في تَرْجَمَةِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ: أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الَّتِي تَضَمَّنَها أنْ يَذْكُرَ اللَّهُ جَلَّ وعَلا حِكْمَةً لِشَيْءٍ في مَوْضِعٍ، ويَكُونَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ حِكَمٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ في مَواضِعَ أُخْرى، فَإنّا نُبَيِّنُها، ومَثَّلْنا لِذَلِكَ، وذَكَرْنا مِنهُ أشْياءَ مُتَعَدِّدَةً في هَذا الكِتابِ المُبارَكِ.
وَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى هُنا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَيَّنَ مِن حِكَمِ بَعْثِهِمْ إظْهارَهُ لِلنّاسِ: أيُّ الحِزْبَيْنِ أحْصى لِما لَبِثُوا أمَدًا، وقَدْ بَيَّنَ لِذَلِكَ حِكَمًا أُخَرَ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
مِنها أنْ يَتَساءَلُوا عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْناهم لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ الآيَةَ [الكهف: ١٩] .
وَمِنها إعْلامُ النّاسِ أنَّ البَعْثَ حَقٌّ، وأنَّ السّاعَةَ حَقٌّ لِدَلالَةِ قِصَّةِ أصْحابِ الكَهْفِ عَلى ذَلِكَ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ أعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وأنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها﴾ الآيَةَ [الكهف: ٢١] .
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ﴿ثُمَّ بَعَثْناهم لِنَعْلَمَ﴾ الآيَةَ، لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِذَلِكَ قَبْلَ بَعْثِهِمْ، وإنَّما عَلِمَ بَعْدَ بَعْثِهِمْ، كَما زَعَمَهُ بَعْضُ الكَفَرَةِ المَلاحِدَةِ، بَلْ هو جَلَّ وعَلا عالِمٌ بِكُلِّ ما سَيَكُونُ قَبْلَ أنْ يَكُونَ، لا يَخْفى عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ، والآياتُ الدّالَّةُ عَلى ذَلِكَ لا تُحْصى كَثْرَةً.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ مِن أصْرَحِ الأدِلَّةِ عَلى أنَّهُ جَلَّ وعَلا لا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبارِ والِابْتِلاءِ عِلْمًا جَدِيدًا سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَوْلُهُ تَعالى في آلِ عِمْرانَ: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما في صُدُورِكم ولِيُمَحِّصَ ما في قُلُوبِكم واللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: ١٥٤]، فَقَوْلُهُ: (p-٢١٠)﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ﴾ دَلِيلٌ واضِحٌ في ذَلِكَ.
وَإذا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَمَعْنى ﴿لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ أيْ نَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا يُظْهِرُ الحَقِيقَةَ لِلنّاسِ، فَلا يُنافِي أنَّهُ كانَ عالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ دُونَ خَلْقِهِ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في قَوْلِهِ: أحْصى فَذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّهُ فِعْلٌ ماضٍ و ”أمَدًا“ مَفْعُولُهُ، و ”ما“ في قَوْلِهِ: ”لِما لَبِثُوا“ مَصْدَرِيَّةٌ، وتَقْرِيرُ المَعْنى عَلى هَذا: لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ ضَبَطَ أمَدًا لِلُبْثِهِمْ في الكَهْفِ.
وَمِمَّنِ اخْتارَ أنَّ أحْصى فِعْلٌ ماضٍ: الفارِسِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ، وغَيْرُهم.
وَذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ أحْصى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، و ”أمَدًا“ تَمْيِيزٌ، ومِمَّنِ اخْتارَهُ الزَّجّاجُ والتِّبْرِيزِيُّ، وغَيْرُهُما. وجَوَّزَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ الوَجْهَيْنِ.
والَّذِينَ قالُوا: إنَّ أحْصى فِعْلٌ ماضٍ، قالُوا: لا يَصِحُّ فِيهِ أنْ يَكُونَ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، لِأنَّها لا يَصِحُّ بِناؤُها هي ولا صِيغَةُ فِعْلِ التَّعَجُّبِ قِياسًا إلّا مِنَ الثُّلاثِيِّ، و ”أحْصى“ رُباعِيٌّ فَلا تُصاغُ مِنهُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ ولا التَّعَجُّبِ قِياسًا، قالُوا: وقَوْلُهم: ما أعْطاهُ وما أوْلاهُ لِلْمَعْرُوفِ، وأعْدى مِنَ الجَرَبِ، وأفْلَسَ مِنَ ابْنِ المُذَلَّقِ - شاذٌّ لا يُقاسُ عَلَيْهِ، فَلا يَجُوزُ حَمْلُ القُرْآنِ عَلَيْهِ.
واحْتَجَّ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ أيْضًا لِأنَّ أحْصى لَيْسَتْ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ بِأنَّ أمَدًا لا يَخْلُو: إمّا أنْ يَنْتَصِبَ بِـ ”أفْعَلَ“ فَـ ”أفْعَلُ“ لا يَعْمَلُ، وإمّا أنْ يَنْتَصِبَ بِـ لَبِثُوا فَلا يَسُدُّ عَلَيْهِ المَعْنى أنْ لا يَكُونَ سَدِيدًا عَلى ذَلِكَ القَوْلِ، وقالَ: فَإنْ زَعَمْتَ نَصْبَهُ بِإضْمارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أحْصى كَما أُضْمِرُ في قَوْلِهِ:
؎وَأضْرَبَ مِنّا بِالسُّيُوفِ القَوانِسا
أيْ نَضْرِبُ القَوانِسَ - فَقَدْ أبْعَدْتَ المُتَناوَلَ وهو قَرِيبٌ؛ حَيْثُ أبَيْتَ أنْ يَكُونَ أحْصى فِعْلًا، ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إلى تَقْدِيرِهِ وإضْمارِهِ. انْتَهى كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَأُجِيبُ مِن جِهَةِ المُخالِفِينَ عَنْ هَذا كُلِّهِ، قالُوا: لا نُسَلِّمُ أنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ لا تُصاغُ مِن غَيْرِ الثُّلاثِيِّ، ولا نُسَلِّمُ أيْضًا لِأنَّها لا تَعْمَلُ.
وَحاصِلُ تَحْرِيرِ المَقامِ في ذَلِكَ أنَّ في كَوْنِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ تُصاغُ مِن ”أفْعَلَ“ كَما (p-٢١١)هُنا، أوْ لا تُصاغُ مِنهُ - ثَلاثَةَ مَذاهِبَ لِعُلَماءِ النَّحْوِ:
الأوَّلُ: جَوازُ بِنائِها مِن ”أفْعَلَ“ مُطْلَقًا، وهو ظاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ، وهو مَذْهَبُ أبِي إسْحاقَ كَما نَقَلَهُ عَنْهُ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ.
والثّانِي: لا يُبْنى مِنهُ مُطْلَقًا، وما سُمِعَ مِنهُ فَهو شاذٌّ يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عَلَيْهِ، وهو الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ مالِكٍ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
؎وَبِالنُّدُورِ احْكم لِغَيْرِ ما ذُكِرْ ∗∗∗ ولا تَقِسْ عَلى الَّذِي مِنهُ أُثِرْ
كَما قَدَّمْناهُ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَهُوَ في الآخِرَةِ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٢] .
الثّالِثُ: تُصاغُ مِن ”أفْعَلَ“ إذا كانَتْ هَمْزَتُها لِغَيْرِ النَّقْلِ خاصَّةً؛ كَـ ”أظْلَمَ اللَّيْلُ“ و: ”أشْكَلَ الأمْرُ“ لا إنْ كانَتِ الهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلا تُصاغُ مِنها، وهَذا هو اخْتِيارُ أبِي الحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ، وهَذِهِ المَذاهِبُ مَذْكُورَةٌ بِأدِلَّتِها في كُتُبِ النَّحْوِ، وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَأفْعَلُ لا يَعْمَلُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَعْمَلُ في التَّمْيِيزِ بِلا خِلافٍ، وعَلَيْهِ دَرَجَ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
؎والفاعِلَ المَعْنى انْصِبَنْ بِأفْعَلا ∗∗∗ مُفَضِّلًا كَأنْتَ أعْلى مَنزِلا
وَ أمَدًا تَمْيِيزٌ كَما تَقَدَّمَ؛ فَنَصْبُهُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لا إشْكالَ فِيهِ.
وَذَهَبَ الطَّبَرَيُّ إلى أنَّ: أمَدًا مَنصُوبٌ بِـ لَبِثُوا، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ.
وَقالَ أبُو حَيّانَ: قَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الأمَدَ هو الغايَةُ، ويَكُونُ عِبارَةً عَنِ المُدَّةِ مِن حَيْثُ إنَّ المُدَّةَ غايَةٌ. و ما بِمَعْنى الَّذِي، و ﴿أمَدًا﴾ مُنْتَصِبٌ عَلى إسْقاطِ الحَرْفِ؛ أيْ لِما لَبِثُوا مِن أمَدٍ، أيْ مُدَّةٍ، ويَصِيرُ ”مِن أمَدٍ“ تَفْسِيرًا لِما انْبَهَمَ في لَفْظِ ما لَبِثُوا كَقَوْلِهِ: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦]، ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ﴾ [فاطر: ٢]، ولَمّا سَقَطَ الحَرْفُ وصَلَ إلَيْهِ الفِعْلُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: إطْلاقُ الأمَدِ عَلى الغايَةِ مَعْرُوفٌ في كَلامِ العَرَبِ، ومِنهُ قَوْلُ نابِغَةِ ذُبْيانَ:
؎إلّا لِمِثْلِكَ أوْ مَن أنْتَ سابِقُهُ ∗∗∗ سَبْقَ الجَوادِ إذا اسْتَوْلى عَلى الأمَدِ
(p-٢١٢)وَقَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ ”النِّساءِ“ أنَّ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمانَ الأخْفَشَ الصَّغِيرَ أجازَ النَّصْبَ بِنَزْعِ الخافِضِ عِنْدَ أمْنِ اللَّبْسِ مُطْلَقًا، ولَكِنْ نَصْبُ قَوْلِهِ: أمَدًا بِقَوْلِهِ: لَبِثُوا غَيْرُ سَدِيدٍ كَما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ، وكَما لا يَخْفى. اهـ.
وَأجازَ الكُوفِيُّونَ نَصْبَ المَفْعُولِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وأعْرَبُوا قَوْلَ العَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ السُّلَمِيِّ:
؎فَلَمْ أرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيًّا مُصَبِّحًا ∗∗∗ ولا مِثْلَنا يَوْمَ التَقَيْنا فَوارِسا
؎أكَرَّ وأحْمى لِلْحَقِيقَةِ مِنهُمُ ∗∗∗ وأضْرَبَ مِنّا بِالسُّيُوفِ القَوانِسا
بِأنَّ ”القَوانِسَ“ مَفْعُولٌ بِهِ لِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ الَّتِي هي ”أضْرَبَ“ قالُوا: ولا حاجَةَ لِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، ومِن هُنا قالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إنَّ مَن في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ رَبَّكَ هو أعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١١٧]، مَنصُوبٌ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ قَبْلَهُ نَصْبَ المَفْعُولِ بِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: ومَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ هَذا أجْرى عِنْدِي عَلى المَعْنى المَعْقُولِ؛ لِأنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِيها مَعْنى المَصْدَرِ الكامِنِ فِيها، فَلا مانِعَ مِن عَمَلِها عَمَلَهُ؛ ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ: وأضْرَبَ مِنّا بِالسُّيُوفِ القَوانِسا، مَعْناهُ: يَزِيدُ ضَرْبُنا بِالسُّيُوفِ القَوانِسِ عَلى ضَرْبِ غَيْرِنا، كَما هو واضِحٌ. وعَلى هَذا الَّذِي قَرَّرْنا فَلا مانِعَ مِن كَوْنِ أمَدًا مَنصُوبٌ بِـ أحْصى نَصْبَ المَفْعُولِ بِهِ عَلى أنَّهُ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وإنْ كانَ القائِلُونَ بِأنَّ أحْصى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أعْرَبُوا أمَدًا بِأنَّهُ تَمْيِيزٌ.
* تَنْبِيهٌ
فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ رَفْعِ أيُّ مِن قَوْلِهِ: ﴿لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ أحْصى﴾ الآيَةَ، مَعَ أنَّهُ في مَحَلِّ نَصْبٍ لِأنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ ؟ فالجَوابُ أنَّ لِلْعُلَماءَ في ذَلِكَ أجْوِبَةٌ، مِنها، أنَّ أيُّ فِيها مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، والِاسْتِفْهامُ يُعَلِّقُ الفِعْلَ عَنْ مَفْعُولَيْهِ كَما قالَ ابْنُ مالِكٍ في الخُلاصَةِ عاطِفًا عَلى ما يُعَلِّقُ الفِعْلَ القَلْبِيَّ عَنْ مَفْعُولَيْهِ:
؎وَإنْ ولا لامُ ابْتِداءٍ أوْ قَسَمْ ∗∗∗ كَذا والِاسْتِفْهامُ ذا لَهُ انْحَتَمْ
وَمِنها ما ذَكَرَهُ الفَخْرُ الرّازِيُّ وغَيْرُهُ: مِن أنَّ الجُمْلَةَ بِمَجْمُوعِها مُتَعَلَّقُ العِلْمِ، ولِذَلِكَ السَّبَبِ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ في لَفْظَةِ أيُّ بَلْ بَقِيَتْ عَلى ارْتِفاعِها، ولا يَخْفى عَدَمُ اتِّجاهِ هَذا القَوْلِ كَما تَرى.
(p-٢١٣)قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: أظْهَرُ أوْجُهِ الأعارِيبِ عِنْدِي في الآيَةِ: أنَّ لَفْظَةَ أيُّ مَوْصُولَةٌ اسْتِفْهامِيَّةٌ. و أيُّ مَبْنِيَّةٌ لِأنَّها مُضافَةٌ، وصَدْرُ صِلَتِها مَحْذُوفٌ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ في الخُلاصَةِ:
؎أيُّ كَما وأُعْرِبَتْ ما لَمْ تُضَفْ ∗∗∗ وصَدْرُ وصْلِها ضَمِيرٌ انْحَذَفْ
وَلِبِنائِها لَمْ يَظْهَرْ نَصْبُها، وتَقْدِيرُ المَعْنى عَلى هَذا: لِنَعْلَمَ الحِزْبَ الَّذِي هو أحْصى لِما لَبِثُوا أمَدًا ونُمَيِّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، و أحْصى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ كَما قَدَّمْنا تَوْجِيهَهُ؛ نَعَمْ، لِلْمُخالِفِ أنْ يَقُولَ: إنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَقْتَضِي بِدَلالَةِ مُطابَقَتِها الِاشْتِراكَ بَيْنَ المُفَضَّلِ والمُفَضَّلِ عَلَيْهِ في أصْلِ الفِعْلِ، وأحَدُ الحِزْبَيْنِ لَمْ يُشارِكِ الآخَرَ في أصْلِ الإحْصاءِ لِجَهْلِهِ بِالمُدَّةِ مِن أصْلِها، وهَذا مِمّا يُقَوِّي قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ أحْصى فِعْلٌ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
فَإنْ قِيلَ: أيُّ فائِدَةٍ مُهِمَّةٍ في مَعْرِفَةِ النّاسِ لِلْحِزْبِ المُحْصِي أمَدَ اللُّبْثِ مِن غَيْرِهِ، حَتّى يَكُونَ عِلَّةً غائِيَّةً لِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ بَعَثْناهم لِنَعْلَمَ﴾ الآيَةَ، وأيُّ فائِدَةٍ مُهِمَّةٍ في مُساءَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، حَتّى يَكُونَ عِلَّةً غائِيَّةً لِقَوْلِهِ: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْناهم لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ ؟ .
فالجَوابُ أنّا لَمْ نَرَ مَن تَعَرَّضَ لِهَذا، والَّذِي يَظْهَرُ لَنا واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنَّ ما ذُكِرَ مِن إعْلامِ النّاسِ بِالحِزْبِ الَّذِي هو أحْصى أمَدًا لِما لَبِثُوا، ومُساءَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ، يَلْزَمُهُ أنْ يَظْهَرَ لِلنّاسِ حَقِيقَةُ أمْرِ هَؤُلاءِ الفِتْيَةِ، وأنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلى آذانِهِمْ في الكَهْفِ ثَلاثَمِائَةٍ سِنِينَ وازْدادُوا تِسْعًا، ثُمَّ بَعَثَهم أحْياءَ طَرِيَّةً أبْدانُهم، لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهم حالٌ، وهَذا مِن غَرِيبِ صُنْعِهِ جَلَّ وعَلا الدّالِّ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ، وعَلى البَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، ولِاعْتِبارِ هَذا اللّازِمِ جَعَلَ ما ذَكَرْنا عِلَّةً غائِيَّةً، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayah":"ثُمَّ بَعَثۡنَـٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَیُّ ٱلۡحِزۡبَیۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوۤا۟ أَمَدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق