الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا﴾ ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ .
المَعْنى: قُلْ لَهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: هَلْ نُنَبِّئُكم، أيْ: نُخْبِرُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا، أيْ: بِالَّذِينَ هم أخْسَرُ النّاسِ أعْمالًا وأضْيَعُها، فالأخْسَرُ صِيَغَةُ تَفْضِيلٍ مِنَ الخُسْرانِ وأصْلُهُ نَقْصُ مالِ التّاجِرِ، والمُرادُ بِهِ في القُرْآنِ غَبْنُهم بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمْ في حُظُوظِهِمْ مِمّا عِنْدَ اللَّهِ لَوْ أطاعُوهُ، وقَوْلُـهُ: ﴿أعْمالًا﴾ مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ:
فَإنْ قِيلَ: نَبِّئْنا بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا مَن هم ؟
كانَ الجَوابُ: هُمُ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وبِهِ تَعْلَمُ أنَّ ”الَّذِينَ“ مِن قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ [الكهف: ١٠٤]، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ جَوابًا لِلسُّؤالِ المَفْهُومِ مِنَ المَقامِ، ويَجُوزُ نَصْبُهُ عَلى الذَّمِّ، وجَرُّهُ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الأخْسَرِينَ، أوْ نَعْتٌ لَهُ، وقَوْلُهُ: ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾، أيْ: بَطَلَ عَمَلُهم وحَبِطَ، فَصارَ كالهَباءِ وكالسَّرابِ وكالرَّمادِ ! كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣]، (p-٣٥٠)وَقَوْلِـهِ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ﴾ الآيَةَ [النور: ٣٩]، وقَوْلِـهِ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعْمالُهم كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨]، ومَعَ هَذا فَهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ عَمَلَهم حَسَنٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ.
والتَّحْقِيقُ: أنَّ الآيَةَ نازِلَةٌ في الكُفّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أنَّ كُفْرَهم صَوابٌ وحَقٌّ، وأنَّ فِيهِ رِضا رَبِّهِمْ، كَما قالَ عَنْ عَبَدَةِ الأوْثانِ: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزمر: ٣]، وقالَ عَنْهم: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨]، وقالَ عَنِ الرُّهْبانِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلى اللَّهِ عَلى غَيْرِ شَرْعٍ صَحِيحٍ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ﴾ ﴿عامِلَةٌ ناصِبَةٌ﴾ ﴿تَصْلى نارًا حامِيَةً﴾ الآيَةَ [الغاشية: ٢ - ٤]، عَلى القَوْلِ فِيها بِذَلِكَ، وقَوْلُـهُ تَعالى في الكُفّارِ: ﴿إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ٣٠]، وقَوْلُـهُ: ﴿وَإنَّهم لَيَصُدُّونَهم عَنِ السَّبِيلِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٣٧]، والدَّلِيلُ عَلى نُزُولِها في الكُفّارِ تَصْرِيحُهُ تَعالى بِذَلِكَ في قَوْلِهِ بَعْدَهُ يَلِيهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ فَحَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ الآيَةَ [الكهف: ١٠٥]، فَقَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُمُ الكُفّارُ، وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُمُ الرُّهْبانُ، وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّهم أهْلُ الكِتابِ الكافِرُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ كُلُّ ذَلِكَ تَشْمَلُهُ هَذِهِ الآيَةُ، وقَدْ رَوى البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ سَألَهُ ابْنُهُ مُصْعَبٌ عَنِ ”الأخْسَرِينَ أعْمالًا“ في هَذِهِ الآيَةِ هَلْ هُمُ الحَرُورِيَّةُ ؟ فَقالَ لا، هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، أمّا اليَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وأمّا النَّصارى فَكَفَرُوا بِالجَنَّةِ، وقالُوا لا طَعامَ فِيها، ولا شَرابَ، والحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ، وكانَ سَعِيدٌ يُسَمِّيهِمُ الفاسِقِينَ، ا هـ مِنَ البُخارِيِّ، وما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِن أنَّهم أهْلُ حَرُوراءَ المَعْرُوفُونَ بِالحَرُورِيِّينَ مَعْناهُ أنَّهم يَكُونُ فِيهِمْ مِن مَعْنى الآيَةِ بِقَدْرِ ما فَعَلُوا؛ لِأنَّهم يَرْتَكِبُونَ أُمُورًا شَنِيعَةً مِنَ الضَّلالِ، ويَعْتَقِدُونَ أنَّها هي مَعْنى الكِتابِ والسُّنَّةِ، فَقَدْ ضَلَّ سَعْيُهم وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وإنْ كانُوا في ذَلِكَ أقَلَّ مِنَ الكُفّارِ المُجاهِرِينَ؛ لِأنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ الألْفاظِ لا بِخُصُوصِ الأسْبابِ كَما قَدْ قَدَّمَنا إيضاحَهُ وأدِلَّتَهُ.
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ [الكهف: ١٠٤]، أيْ: بَطَلَ واضْمَحَلَّ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ الضَّلالَ يُطْلَقُ في القُرْآنِ واللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ ثَلاثَةَ إطْلاقاتٍ:
الأوَّلُ: الضَّلالُ بِمَعْنى الذَّهابِ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ إلى طَرِيقِ الباطِلِ، كالذَّهابِ عَنْ (p-٣٥١)الإسْلامِ إلى الكُفْرِ، وهَذا أكْثَرُ اسْتِعْمالاتِهِ في القُرْآنِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧]، وقَوْلُـهُ: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا أهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ ٥ [المائدة: ٧٧] .
الثّانِي: الضَّلالُ بِمَعْنى الهَلاكِ والغَيْبَةِ والِاضْمِحْلالِ، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ: ضَلَّ السَّمْنُ في الطَّعامِ إذا اسْتَهْلَكَ فِيهِ وغابَ فِيهِ، ومِنهُ بِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٤]، أيْ: غابَ واضْمَحَلَّ، وقَوْلُـهُ هُنا: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ [الكهف: ١٠٤]، أيْ: بَطَلَ واضْمَحَلَّ، وقَوْلُ الشّاعِرِ:
؎ألَمْ تَسْألْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيارُ عَنِ الحَيِّ المُضَلَّلِ أيْنَ سارُوا
أيْ: عَنِ الحَيِّ الَّذِي غابَ واضْمَحَلَّ، ومِن هُنا سُمِّيَ الدَّفْنُ إضْلالًا؛ لِأنَّ مَآلَ المَيِّتِ المَدْفُونِ إلى أنْ تَخْتَلِطَ عِظامُهُ بِالأرْضِ، فَيَضِلَّ فِيها كَما يَضِلُّ السَّمْنُ في الطَّعامِ، ومِن إطْلاقِ الضَّلالِ عَلى الدَّفْنِ قَوْلُ نابِغَةَ ذُبْيانَ:
؎فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ∗∗∗ وغُودِرَ بِالجَوَلانِ حَزْمٍ ونائِلِ
فَقَوْلُهُ ”مُضِلُّوهُ“ يَعْنِي دافِنِيهِ في قَبْرِهِ، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالُوا أئِذا ضَلَلْنا في الأرْضِ أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ الآيَةَ [السجدة: ١٠]، فَمَعْنى ﴿ضَلَلْنا في الأرْضِ﴾ أنَّهُمُ اخْتَلَطَتْ عِظامُهُمُ الرَّمِيمُ بِها فَغابَتْ واسْتَهْلَكَتْ فِيها.
الثّالِثُ: الضَّلالُ بِمَعْنى الذَّهابِ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الأمْرِ المُطابِقَةِ لِلْواقِعِ، ومِنهُ بِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى﴾ [الضحى: ٧]، أيْ: ذاهِبًا عَمّا تَعْلَمُهُ الآنَ مِنَ العُلُومِ والمَعارِفِ الَّتِي لا تُعْرَفُ إلّا بِالوَحْيِ فَهَداكَ إلى تِلْكَ العُلُومِ والمَعارِفِ بِالوَحْيِ، وحَدَّدَ هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى عَنْ أوْلادِ يَعْقُوبَ: ﴿قالُوا تاللَّهِ إنَّكَ لَفي ضَلالِكَ القَدِيمِ﴾ [يوسف: ٩٥]، أيْ: ذَهابُكَ عَنِ العِلْمِ بِحَقِيقَةِ أمْرِ يُوسُفَ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ تَطْمَعُ في رُجُوعِهِ إلَيْكَ؛ وذَلِكَ لا طَمَعَ فِيهِ عَلى أظْهَرِ التَّفْسِيراتِ، وقَوْلُـهُ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ [البقرة: ٢٨٢]، أيْ: تَذْهَبُ عَنْ حَقِيقَةِ عِلْمِ المَشْهُودِ بِهِ بِنِسْيانٍ أوْ نَحْوِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وقَوْلِـهِ تَعالى: ﴿قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي في كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى﴾ [طه: ٥٢]، ومِن هَذا المَعْنى قَوْلُ الشّاعِرِ:(p-٣٥٢)
؎وَتَظُنُّ سَلْمى أنَّنِي أبْغِي بِها ∗∗∗ بَدَلًا أُراها في الضَّلالِ تَهِيمُ
فَقَوْلُهُ ”أُراها في الضَّلالِ“: أيْ: الذَّهابِ عَنْ عَلَمِ حَقِيقَةِ الأمْرِ حَيْثُ تَظُنُّنِي أبْغِي بِها بَدَلًا، والواقِعُ بِخِلافِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وَهم يَحْسَبُونَ﴾، أيْ: يَظُنُّونَ، وقَرَأهُ بَعْضُ السَّبْعَةِ بِكَسْرِ السِّينِ، وبَعْضُهم بِفَتْحِها كَما قَدَّمْنا مِرارًا في جَمِيعِ القُرْآنِ، ومَفْعُولا ”حَسِبَ“ هُما المُبْتَدَأُ والخَبَرُ اللَّذانِ عَمِلَتْ فِيهِما ”أنَّ“ والأصْلُ ويَحْسَبُونَ أنْفُسَهم مُحْسِنِينَ صُنْعَهم، وقَوْلُـهُ ”صُنْعًا“ أيْ: عَمَلًا وبَيْنَ قَوْلِهِ ”يَحْسَبُونَ، ويُحْسِنُونَ“ الجِناسُ المُسَمّى عِنْدَ أهْلِ البَدِيعِ ”تَجْنِيسَ التَّصْحِيفِ“ وهو أنْ يَكُونَ النَّقْطُ فَرْقًا بَيْنَ الكَلِمَتَيْنِ، كَقَوْلِ البُحْتُرِيِّ:
؎وَلَمْ يَكُنِ المُغْتَرُّ بِاللَّهِ إذْ سَرى ∗∗∗ لِيُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بِاللَّهِ طالِبُهُ
فَبَيْنَ ”المُغْتَرِّ والمُعْتَزِّ“ الجِناسُ المَذْكُورُ.
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ فَحَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ الآيَةَ [الكهف: ١٠٥]، نَصٌّ في أنَّ الكُفْرَ بِآياتِ اللَّهِ ولِقائِهِ يُحْبِطُ العَمَلَ، والآياتُ الدّالَّةُ عَلى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعالى في ”العَنْكَبُوتِ“ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ ولِقائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَحْمَتِي وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [العنكبوت: ٢٣]، والآياتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وسَيَأْتِي بَعْضُ أمْثِلَةٍ لِذَلِكَ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ.
وَقَوْلُـهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾ [الكهف: ١٠٥]، فِيهِ لِلْعُلَماءِ أوْجُهٌ:
أحَدُها: أنَّ المَعْنى أنَّهم لَيْسَ لَهم حَسَناتٌ تُوزَنُ في الكِفَّةِ الأُخْرى في مُقابَلَةِ سَيِّئاتِهِمْ، بَلْ لَمْ يَكُنْ إلّا السَّيِّئاتُ، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَهو في النّارِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَمَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم في جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وهم فِيها كالِحُونَ﴾، [المؤمنون: ١٠٣ - ١٠٤]، وقالَ: ﴿والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ ﴿مَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾ ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ﴾ الآيَةَ [الأعراف: ٨ - ٩]، وقالَ: وأمّا مَن ﴿خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾ ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ ﴿وَما أدْراكَ ما﴾ ﴿نارٌ حامِيَةٌ﴾ [القارعة: ٨ - ١٠]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: مَعْنى (p-٣٥٣)﴿فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾: أنَّهم لا قَدْرَ لَهم عِنْدَ اللَّهِ لِحَقارَتِهِمْ، وهو أنَّهم بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَنْهم: ﴿سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠]، أيْ: صاغِرِينَ أذِلّاءَ حَقِيرِينَ، وقَوْلِـهِ: ﴿قُلْ نَعَمْ وأنْتُمْ داخِرُونَ﴾ [الصافات: ١٨]، وقَوْلِـهِ: ﴿قالَ اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى هَوانِهِمْ وصَغارِهِمْ وحَقارَتِهِمْ.
وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلى أنَّ مَعْنى الآيَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الكافِرُ السَّمِينُ العَظِيمُ البَدَنِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ، أخْبَرَنا المُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أبُو الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيامَةِ لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ وقالَ اقْرَءُوا ﴿فَلا نُقِيمُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ وزْنًا﴾» وعَنْ يَحْيى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي الزِّنادِ مِثْلُهُ ا هـ، مِنَ البُخارِيِّ.
وَهَذا الحَدِيثُ أخْرَجَهُ أيْضًا مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ نَفْسَ الكافِرِ العَظِيمِ السَّمِينِ لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى وزْنِ الأشْخاصِ، وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الآيَةَ بَعْدَ أنْ أشارَ إلى حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ المَذْكُورِ ما نَصُّهُ: وفي هَذا الحَدِيثِ مِنَ الفِقْهِ ذَمُّ السِّمَنِ لِمَن تَكَلَّفَهُ، لِما في ذَلِكَ مِن تَكَلُّفِ المَطاعِمِ والِاشْتِغالِ بِها عَنِ المَكارِمِ، بَلْ يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ الأكْلِ الزّائِدِ عَلى قَدْرِ الكِفايَةِ، المُبْتَغى بِهِ التَّرَفُّهُ والسِّمَنُ، وقَدْ قالَ ﷺ: «إنَّ أبْغَضَ الرِّجالِ إلى اللَّهِ تَعالى الحَبْرُ السَّمِينُ» ومِن حَدِيثِ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «خَيْرُكم قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم» قالَ عِمْرانُ، فَلا أدْرِي أذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أوْ ثَلاثَةً «ثُمَّ إنَّ مِن بَعْدِكم قَوْمًا يَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، ويَنْذُرُونَ ولا يُوفُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» وهَذا ذَمٌّ، وسَبَبُ ذَلِكَ: أنَّ السِّمَنَ المُكْتَسَبَ إنَّما هو مِن كَثْرَةِ الأكْلِ والشَّرَهِ والدَّعَةِ والرّاحَةِ والأمْنِ، والِاسْتِرْسالِ مَعَ النَّفْسِ عَلى شَهَواتِها، فَهو عَبْدُ نَفْسِهِ لا عَبْدُ رَبِّهِ، ومَن كانَ هَذا حالُهُ وقَعَ لا مَحالَةَ في الحَرامِ، وكُلُّ لَحْمٍ تَوَلَّدَ مِن سُحْتٍ فالنّارُ أوْلى بِهِ، وقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعالى الكُفّارَ بِكَثْرَةِ الأكْلِ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ويَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأنْعامُ والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: ١٢]، فَإذا كانَ المُؤْمِنُ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، ويَتَنَعَّمُ تَنَعُّمَهم في كُلِّ أحْوالِهِ وأزْمانِهِ، فَأيْنَ حَقِيقَةُ الإيمانِ والقِيامِ بِوَظائِفِ الإسْلامِ، ومَن كَثُرَ أكْلُهُ وشُرْبُهُ كَثُرَ نَهَمُهُ وحِرْصُهُ، وزادَ (p-٣٥٤)بِاللَّيْلِ كَسَلُهُ ونَوْمُهُ، فَكانَ نَهارَهُ هائِمًا، ولَيْلَهُ نائِمًا ا هـ، مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ القُرْطُبِيِّ، وما تَضَمَّنَهُ كَلامُهُ مِنَ الجَزْمِ بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الحَبْرَ السَّمِينَ» فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا، وقَدْ حَسَّنَهُ البَيْهَقِيُّ مِن كَلامِ كَعْبٍ، وما ذُكِرَ مِن ذَمِّ كَثْرَةِ الأكْلِ والشُّرْبِ والسِّمَنِ المُكْتَسَبِ ظاهِرٌ وأدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ ”وَحَسْبُ المُؤْمِنِ لُقَيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ“ .
{"ayah":"قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











