﴿إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ وَیُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرࣰا كَبِیرࣰا﴾ [الإسراء ٩]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾الآيَةَ، ذَكَرَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ هَذا القُرْآنَ العَظِيمَ الَّذِي هو أعْظَمُ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ، وأجْمَعُها لِجَمِيعِ العُلُومِ، وآخِرُها عَهْدًا بِرَبِّ العالَمِينَ جَلَّ وعَلا، يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ؛ أيِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي هي أسَدُّ وأعْدَلُ وأصْوَبُ. فَ الَّتِي نَعْتٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. عَلى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مالِكٍ في الخُلاصَةِ:
وَما مِنَ المَنعُوتِ والنَّعْتِ عُقِلْ يَجُوزُ حَذْفُهُ وفي النَّعْتِ يَقِلْ
وَقالَ الزَّجّاجُ والكَلْبِيُّ والفَرّاءُ: لِلْحالِ الَّتِي هي أقْوَمُ الحالاتِ، وهي تَوْحِيدُ اللَّهِ والإيمانُ بِرُسُلِهِ.
وَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ أجْمَلَ اللَّهُ جَلَّ وعَلا فِيها جَمِيعَ ما في القُرْآنِ مِنَ الهُدى إلى خَيْرِ الطَّرْقِ وأعْدَلِها وأصْوَبِها، فَلَوْ تَتَبَّعْنا تَفْصِيلَها عَلى وجْهِ الكَمالِ لَأتَيْنا عَلى جَمِيعِ القُرْآنِ العَظِيمِ لِشُمُولِها لِجَمِيعِ ما فِيهِ مِنَ الهُدى إلى خَيْرِي الدُّنْيا والآخِرَةِ. ولَكِنَّنا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى سَنَذْكُرُ جُمَلًا وافِرَةً في جِهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِن هُدى القُرْآنِ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هي أقْوَمُ بَيانًا لِبَعْضِ ما أشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ، تَنْبِيهًا بِبَعْضِهِ عَلى كُلِّهِ مِنَ المَسائِلِ العِظامِ، والمَسائِلِ الَّتِي أنْكَرَها المُلْحِدُونَ مِنَ الكُفّارِ، وطَعَنُوا بِسَبَبِها في دِينِ الإسْلامِ، لِقُصُورِ إدْراكِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ حِكَمِها البالِغَةِ.
فَمِن ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللَّهِ جَلَّ وعَلا، فَقَدْ هَدى القُرْآنُ فِيهِ لِلطَّرِيقِ الَّتِي هي أقْوَمُ الطُّرُقِ وأعْدَلُها، وهي تَوْحِيدُهُ جَلَّ وعَلا في رُبُوبِيَّتِهِ، وفي عِبادَتِهِ، وفي أسْمائِهِ وصِفاتِهِ. وقَدْ دَلَّ اسْتِقْراءُ القُرْآنِ العَظِيمِ عَلى أنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ يَنْقَسِمُ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ:
الأوَّلُ: تَوْحِيدُهُ في رُبُوبِيَّتِهِ، وهَذا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ جُبِلَتْ عَلَيْهِ فِطْرُ العُقَلاءِ، قالَ تَعالى:
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ الآيَةَ
[الزخرف: ٨٧]، وقالَ:
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنَ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٣١]، وإنْكارُ فِرْعَوْنَ لِهَذا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ في قَوْلِهِ:
﴿قالَ فِرْعَوْنُ وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] تَجاهُلٌ عَنْ عارِفٍ أنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلّا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ﴾ الآيَةَ
[الإسراء: ١٠٢]، وقَوْلُهُ:
﴿وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤]، وهَذا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ لا يَنْفَعُ إلّا بِإخْلاصِ العِبادَةِ لِلَّهِ، كَما قالَ تَعالى:
﴿وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلّا وهم مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦]، والآياتُ الدّالَّةُ عَلى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جَدًّا.
الثّانِي: تَوْحِيدُهُ جَلَّ وعَلا في عِبادَتِهِ، وضابِطُ هَذا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ هو تَحْقِيقُ مَعْنى ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ وهي مُتَرَكِّبَةٌ مِن نَفْيٍ وإثْباتٍ، فَمَعْنى النَّفْيِ مِنها: خَلْعُ جَمِيعِ أنْواعِ المَعْبُوداتِ غَيْرَ اللَّهِ كائِنَةً ما كانَتْ في جَمِيعِ أنْواعِ العِباداتِ كائِنَةً ما كانَتْ. ومَعْنى الإثْباتِ مِنها: إفْرادُ اللَّهِ جَلَّ وعَلا وحْدَهُ بِجَمِيعِ أنْواعِ العِباداتِ بِإخْلاصٍ، عَلى الوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وأكْثَرُ آياتِ القُرْآنِ في هَذا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وهو الَّذِي فِيهِ المَعارِكُ بَيْنَ الرُّسُلِ وأُمَمِهِمْ
﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ [ص: ٥] .
وَمِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى هَذا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ الآيَةَ
[محمد: ١٩]، وقَوْلُهُ:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦]، وقَوْلُهُ:
﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]، وقَوْلُهُ:
﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعَلْنا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥]، وقَوْلُهُ:
﴿قُلْ إنَّما يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٨]، فَقَدْ أمَرَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنْ يَقُولَ: إنَّما أُوحِيَ إلَيْهِ مَحْصُورٌ في هَذا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ، لِشُمُولِ كَلِمَةِ: ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ لِجَمِيعِ ما جاءَ في الكُتُبِ؛ لِأنَّها تَقْتَضِي طاعَةَ اللَّهِ بِعِبادَتِهِ وحْدَهُ. فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ العَقائِدِ والأوامِرِ والنَّواهِي، وما يَتْبَعُ ذَلِكَ مِن ثَوابٍ وعِقابٍ، والآياتُ في هَذا النَّوْعِ مِنَ التَّوْحِيدِ كَثِيرَةٌ.
النَّوْعُ الثّالِثُ: تَوْحِيدُهُ جَلَّ وعَلا في أسْمائِهِ وصِفاتِهِ. وهَذا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ يَنْبَنِي عَلى أصْلَيْنِ:
الأوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وعَلا عَنْ مُشابَهَةِ المَخْلُوقِينَ في صِفاتِهِمْ، كَما قالَ تَعالى:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] .
والثّانِي: الإيمانُ بِما وصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، أوْ وصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ عَلى الوَجْهِ اللّائِقِ بِكَمالِهِ وجَلالِهِ، كَما قالَ بَعْدَ قَوْلِهِ:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ مَعَ قَطْعِ الطَّمَعِ عَنْ إدْراكِ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصافِ، قالَ تَعالى:
﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]، وقَدْ قَدَّمْنا هَذا المَبْحَثَ مُسْتَوْفًى مُوَضَّحًا بِالآياتِ القُرْآنِيَّةِ ”في سُورَةِ الأعْرافِ“ .
وَيَكْثُرُ في القُرْآنِ العَظِيمِ الِاسْتِدْلالُ عَلى الكُفّارِ بِاعْتِرافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وعَلا عَلى وُجُوبِ تَوْحِيدٍ في عِبادَتِهِ؛ ولِذَلِكَ يُخاطِبُهم في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِاسْتِفْهامِ التَّقْرِيرِ، فَإذا أقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ احْتَجَّ بِها عَلَيْهِمْ عَلى أنَّهُ هو المُسْتَحِقُّ لِأنْ يُعْبَدَ وحْدَهُ، ووَبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهم بِهِ غَيْرَهُ، مَعَ اعْتِرافِهِمْ بِأنَّهُ هو الرَّبُّ وحْدَهُ؛ لِأنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِأنَّهُ هو الرَّبُّ وحْدَهُ لَزِمَهُ الِاعْتِرافُ بِأنَّهُ هو المُسْتَحَقُّ لِأنْ يُعْبَدَ وحْدَهُ.
وَمِن أمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ﴾ [يونس: ٣١] إلى قَوْلِهِ:
﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس: ٣١] . فَلَّما أقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهم بِهِ غَيْرَهُ، بِقَوْلِهِ:
﴿فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٣١] .
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى:
﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ ومَن فِيها إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: ٨٤، ٨٥]، فَلَمّا اعْتَرَفُوا وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهم بِقَوْلِهِ:
﴿قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٥]، ثُمَّ قالَ:
﴿قُلْ مَن رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: ٨٦ - ٨٧]، فَلَمّا أقَرُّوا وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهم بِقَوْلِهِ:
﴿قُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٧]، ثُمَّ قالَ:
﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهو يُجِيرُ ولا يُجارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ [المؤمنون: ٨٨، ٨٩]، فَلَمّا أقَرُّوا وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهم بِقَوْلِهِ:
﴿قُلْ فَأنّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٩] .
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى:
﴿قُلْ مَن رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾ [الرعد: ١٦]، فَلَمّا صَحَّ الِاعْتِرافُ وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهم بِقَوْلِهِ:
﴿قُلْ أفاتَّخَذْتُمْ مِن دُونِهِ أوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًّا﴾ [الرعد: ١٦] .
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]، فَلَمّا صَحَّ إقْرارُهم وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] .
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت: ٦١]، فَلَمّا صَحَّ اعْتِرافُهم وبَّخَهم مُنْكِرًا شِرْكَهم بِقَوْلِهِ:
﴿فَأنّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦١] وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأحْيا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت: ٦٣]، فَلَمّا صَحَّ إقْرارُهم وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ شِرْكَهم بِقَوْلِهِ:
﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٣]، وقَوْلُهُ:
﴿وَلَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: ٢٥]، فَلَمّا صَحَّ اعْتِرافُهم وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان: ٢٥]، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿آللَّهُ خَيْرٌ أمْ ما﴾ ﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وأنْزَلَ لَكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها﴾ [النمل: ٥٩ - ٦٠]، ولا شَكَّ أنَّ الجَوابَ الَّذِي لا جَوابَ لَهُمُ البَتَّةَ غَيْرُهُ: هو أنَّ القادِرَ عَلى خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما ذَكَرَ مَعَها، خَيْرٌ مِن جَمادٍ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ. فَلَمّا تَعَيَّنَ اعْتِرافُهم وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هم قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: ٦٠]، ثُمَّ قالَ تَعالى:
﴿أمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرارًا وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا وجَعَلَ لَها رَواسِيَ وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجِزًا﴾ [النمل: ٦١] ولا شَكَّ أنَّ الجَوابَ الَّذِي لا جَوابَ غَيْرُهُ كَما قَبْلَهُ، فَلَمّا تَعَيَّنَ اعْتِرافُهم وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: ٦١]، ثُمَّ قالَ جَلَّ وعَلا:
﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ ويَجْعَلُكم خُلَفاءَ الأرْضِ﴾ [النمل: ٦٢] ولا شَكَّ أنَّ الجَوابَ كَما قَبْلَهُ. فَلَمّا تَعَيَّنَ إقْرارُهم بِذَلِكَ وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: ٦٢]، ثُمَّ قالَ تَعالى:
﴿أمَّنْ يَهْدِيكم في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ ومَن يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [النمل: ٦٣]، ولا شَكَّ أنَّ الجَوابَ كَما قَبِلَهُ، فَلَمّا تَعَيَّنَ إقْرارُهم بِذَلِكَ وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالى اللَّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [النمل: ٦٣]، ثُمَّ قالَ جَلَّ وعَلا:
﴿أمَّنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ومَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ [النمل: ٦٤]، ولا شَكَّ أنَّ الجَوابَ كَما قَبْلَهُ، فَلَمّا تَعَيَّنَ الِاعْتِرافُ وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [النمل: ٦٤]، وقَوْلُهُ:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكم ثُمَّ رَزَقَكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكم هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَفْعَلُ مِن ذَلِكم مِن شَيْءٍ﴾ [الروم: ٤٠]، ولا شَكَّ أنَّ الجَوابَ الَّذِي لا جَوابَ لَهم غَيْرُهُ هو: لا، أيْ: لَيْسَ مِن شُرَكائِنا مَن يَقْدِرُ عَلى أنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ المَذْكُورِ مِنَ الخَلْقِ والرِّزْقِ والإماتَةِ والإحْياءِ، فَلَمّا تَعَيَّنَ اعْتِرافُهم وبَّخَهم مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٤٠] .
والآياتُ بِنَحْوِ هَذا كَثِيرَةٌ جَدًّا، ولِأجْلِ ذَلِكَ ذَكَرْنا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ أنَّ كُلَّ الأسْئِلَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهاماتُ تَقْرِيرٍ، يُرادُ مِنها أنَّهم إذا أقَرُّوا رَتَّبَ لَهُمُ التَّوْبِيخَ والإنْكارَ عَلى ذَلِكَ الإقْرارِ؛ لِأنَّ المُقِرَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ يَلْزَمُهُ الإقْرارُ بِالأُلُوهِيَّةِ ضَرُورَةً؛ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿أفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ [إبراهيم: ١٠]، وقَوْلِهِ:
﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِي رَبًّا﴾ [الأنعام: ١٦٤]، وإنَّ زَعَمَ بَعْضُ العُلَماءِ أنَّ هَذا اسْتِفْهامُ إنْكارٍ؛ لِأنَّ اسْتِقْراءَ القُرْآنِ دَلَّ عَلى أنَّ الِاسْتِفْهامَ المُتَعَلِّقَ بِالرُّبُوبِيَّةِ اسْتِفْهامُ تَقْرِيرٍ ولَيْسَ اسْتِفْهامَ إنْكارٍ، لِأنَّهم لا يُنْكِرُونَ الرُّبُوبِيَّةَ، كَما رَأيْتَ كَثْرَةَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ.
والكَلامُ عَلى أقْسامِ التَّوْحِيدِ سَتَجِدُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن هَذا الكِتابِ المُبارَكِ، بِحَسْبَ المُناسَباتِ في الآياتِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلى بَيانِها بِآياتٍ أُخَرَ.
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ جَعْلُهُ الطَّلاقَ بِيَدِ الرَّجُلِ، كَما قالَ تَعالى:
﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ الآيَةَ
[الطلاق: ١]، ونَحْوَها مِنَ الآياتِ؛ لِأنَّ النِّساءَ مَزارِعُ وحُقُولٌ، تُبْذَرُ فِيها النُّطَفُ كَما يُبْذَرُ الحَبُّ في الأرْضِ، كَما قالَ تَعالى:
﴿نِساؤُكم حَرْثٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] .
وَلا شَكَّ أنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هي أقْوَمُ الطُّرُقِ: أنَّ الزّارِعَ لا يُرْغَمُ عَلى الِازْدِراعِ في حَقْلٍ لا يَرْغَبُ الزِّراعَةَ فِيهِ لِأنَّهُ يَراهُ غَيْرَ صالِحٍ لَهُ، والدَّلِيلُ الحِسِّيُّ القاطِعُ عَلى ما جاءَ بِهِ القُرْآنُ مِن أنَّ الرَّجُلَ زارِعٌ، والمَرْأةَ مَزْرَعَةٌ، أنَّ آلَةَ الِازْدِراعِ مَعَ الرَّجُلِ، فَلَوْ أرادَتِ المَرْأةُ أنْ تُجامِعَ الرَّجُلَ وهو كارِهٌ لَها، لا رَغْبَةَ لَهُ فِيها لَمْ يَنْتَشِرْ، ولَمْ يَقُمْ ذَكَرُهُ إلَيْها فَلا تَقْدِرُ مِنهُ عَلى شَيْءٍ، بِخِلافِ الرَّجُلِ فَإنَّهُ قَدْ يُرْغِمُها وهي كارِهَةٌ فَتَحْمِلُ وتَلِدُ، كَما قالَ أبُو كَبِيرٍ الهُذَلِيِّ: ∗∗∗ مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وهُنَّ عَواقُدٌ حُبُكَ النِّطاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهَبَّلِ
فَدَلَّتِ الطَّبِيعَةُ والخِلْقَةُ عَلى أنَّهُ فاعِلٌ وأنَّها مَفْعُولٌ بِهِ، ولِذا أجْمَعَ العُقَلاءُ عَلى نِسْبَةِ الوَلَدِ لَهُ لا لَها.
وَتَسْوِيَةُ المَرْأةِ بِالرَّجُلِ في ذَلِكَ مُكابَرَةً في المَحْسُوسِ، كَما لا يَخْفى.
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ إباحَتُهُ تَعَدُّدَ الزَّوْجاتِ إلى أرْبَعٍ، وأنَّ الرَّجُلَ إذا خافَ عَدَمَ العَدْلِ بَيْنَهُنَّ، لَزِمَهُ الِاقْتِصارُ عَلى واحِدَةٍ، أوْ مِلْكِ يَمِينِهِ، كَما قالَ تَعالى:
﴿وَإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٣]، ولا شَكَّ أنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هي أقْوَمُ الطُّرُقِ وأعْدَلُها، هي إباحَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجاتِ لِأُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ يَعْرِفُها كُلُّ العُقَلاءِ.
مِنها: أنَّ المَرْأةَ الواحِدَةَ تَحِيضُ وتَمْرَضُ، وتَنْفَسُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العَوائِقِ المانِعَةِ مِن قِيامِها بِأخَصِّ لَوازِمِ الزَّوْجِيَّةِ، والرَّجُلُ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّسَبُّبِ في زِيادَةِ الأُمَّةِ، فَلَوْ حُبِسَ عَلَيْها في أحْوالِ أعْذارِها لَعُطِّلَتْ مَنافِعُهُ باطِلًا في غَيْرِ ذَنْبٍ.
وَمِنها: أنَّ اللَّهَ أجْرى العادَةَ بِأنَّ الرِّجالَ أقَلُّ عَدَدًا مِنَ النِّساءِ في أقْطارِ الدُّنْيا، وأكْثَرُ تَعَرُّضًا لِأسْبابِ المَوْتِ مِنهُنَّ في جَمِيعِ مَيادِينِ الحَياةِ، فَلَوْ قَصَرَ الرَّجُلُ عَلى واحِدَةٍ، لَبَقِيَ عَدَدٌ ضَخْمٌ مِنَ النِّساءِ مَحْرُومًا مِنَ الزَّواجِ، فَيَضْطَرُّونَ إلى رُكُوبِ الفاحِشَةِ فالعُدُولُ عَنْ هَدْيِ القُرْآنِ في هَذِهِ المَسْألَةِ مِن أعْظَمِ أسْبابِ ضَياعِ الأخْلاقِ، والِانْحِطاطِ إلى دَرَجَةِ البَهائِمِ في عَدَمِ الصِّيانَةِ، والمُحافَظَةِ عَلى الشَّرَفِ والمُرُوءَةِ والأخْلاقِ، فَسُبْحانَ الحَكِيمِ الخَبِيرِ،
﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ .
وَمِنها: أنَّ الإناثَ كُلَّهُنَّ مُسْتَعِدّاتٌ لِلزَّواجِ، وكَثِيرٌ مِنَ الرِّجالِ لا قُدْرَةَ لَهم عَلى القِيامِ بِلَوازِمِ الزَّواجِ لِفَقْرِهِمْ، فالمُسْتَعِدُّونَ لِلزَّواجِ مِنَ الرِّجالِ أقَلُّ مِنَ المُسْتَعِدّاتِ لَهُ مِنَ النِّساءِ؛ لِأنَّ المَرْأةَ لا عائِقَ لَها، والرَّجُلُ يَعُوقُهُ الفَقْرُ وعَدَمُ القُدْرَةِ عَلى لَوازِمَ النِّكاحِ، فَلَوْ قَصَرَ الواحِدُ عَلى الواحِدَةِ، لَضاعَ كَثِيرٌ مِنَ المُسْتَعِدّاتِ لِلزَّواجِ أيْضًا بِعَدَمِ وُجُودِ أزْواجٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَياعِ الفَضِيلَةِ وتَفَشِّي الرَّذِيلَةِ، والِانْحِطاطِ الخُلُقِيِّ، وضَياعِ القِيَمِ الإنْسانِيَّةِ، كَما هو واضِحٌ، فَإنْ خافَ الرَّجُلُ ألّا يَعْدِلَ بَيْنَهُنَّ وجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِصارُ عَلى واحِدَةٍ، أوْ مِلْكِ يَمِينِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ الآيَةَ
[النحل: ٩٠]، والمَيْلُ بِالتَّفْضِيلِ في الحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَهُنَّ لا يَجُوزُ، لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: ١٢٩]، أمّا المَيْلُ الطَّبِيعِيُّ بِمَحَبَّةِ بَعْضِهِنَّ أكْثَرَ مِن بَعْضٍ، فَهو غَيْرُ مُسْتَطاعٍ دَفْعُهُ لِلْبَشَرِ، لِأنَّهُ انْفِعالٌ وتَأثُّرٌ نَفْسانِيٌّ لا فِعْلٌ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ:
﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ﴾ الآيَةَ
[النساء: ١٢٩]، كَما أوْضَحْناهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، وما يَزْعُمُهُ بَعْضُ المَلاحِدَةِ مِن أعْداءِ دِينِ الإسْلامِ، مِن أنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجاتِ يُلْزِمُهُ الخِصامَ والشَّغَبَ الدّائِمَ المُفْضِي إلى نَكَدِ الحَياةِ، لِأنَّهُ كُلَّما أرْضى إحْدى الضَّرَّتَيْنِ سَخِطَتِ الأُخْرى، فَهو بَيْنُ سَخْطَتَيْنِ دائِمًا، وأنَّ هَذا لَيْسَ مِنَ الحِكْمَةِ، فَهو كَلامٌ ساقِطٌ، يَظْهَرُ سُقُوطُهُ لِكُلِّ عاقِلٍ؛ لِأنَّ الخِصامَ والمُشاغَبَةَ بَيْنَ أفْرادِ أهْلِ البَيْتِ لا انْفِكاكَ عَنْهُ ألْبَتَّةَ، فَيَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وأُمِّهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ أبِيهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ أوْلادِهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ زَوْجَتِهِ الواحِدَةِ. فَهو أمْرٌ عادِيٌّ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ شَأْنٍ، وهو في جَنْبِ المَصالِحِ العَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنا في تَعَدُّدِ الزَّوْجاتِ مِن صِيانَةِ النِّساءِ وتَيْسِيرِ التَّزْوِيجِ لِجَمِيعِهِنَّ، وكَثْرَةِ عَدَدِ الأُمَّةِ لِتَقُومَ بِعَدَدِها الكَثِيرِ في وجْهِ أعْداءِ الإسْلامِ كَلا شَيْءٍ؛ لِأنَّ المَصْلَحَةَ العُظْمى يُقَدَّمُ جَلْبُها عَلى دَفْعِ المَفْسَدَةِ الصُّغْرى.
فَلَوْ فَرَضْنا أنَّ المُشاغَبَةَ المَزْعُومَةَ في تَعَدُّدِ الزَّوْجاتِ مَفْسَدَةٌ، أوْ أنَّ إيلامَ قَلْبِ الزَّوْجَةِ الأوْلى بِالضَّرَّةِ مَفْسَدَةٌ، لَقُدِّمَتْ عَلَيْها تِلْكَ المَصالِحُ الرّاجِحَةُ الَّتِي ذَكَرْنا، كَما هو مَعْرُوفٌ في الأُصُولِ، قالَ في مَراقِي السُّعُودِ عاطِفًا عَلى ما تُلْفِي فِيهِ المَفْسَدَةَ المَرْجُوحَةَ في جَنْبِ المُصْلِحَةِ الرّاجِحَةِ:
أوْ رَجَّحَ الإصْلاحَ كالأسارى تُفْدى بِما يَنْفَعُ لِلنَّصارى
وانْظُرْ تَدَلِّي دَوالِي العِنَبِ ∗∗∗ في كُلِّ مَشْرِقِ وكُلِّ مَغْرِبٍ
فَفِداءُ الأُسارى مَصْلَحَةٌ راجِحَةٌ، ودَفْعُ فَدائِهِمُ النّافِعِ لِلْعَدُوِّ مَفْسَدَةٌ مَرْجُوحَةٌ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْها المَصْلَحَةُ الرّاجِحَةُ، أمّا إذا تَساوَتِ المَصْلَحَةُ والمُفْسَدَةُ، أوْ كانَتِ المَفْسَدَةُ أرْجَحَ كَفِداءِ الأُسارى بِسِلاحٍ يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ العَدُوُّ مِن قَتْلِ قَدْرِ الأُسارى أوْ أكْثَرَ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَإنَّ المَصْلَحَةَ تُلْغى لِكَوْنِها غَيْرَ راجِحَةٍ، كَما قالَ في المَراقِي:
اخْرُمْ مُناسِبًا بِمُفْسِدٍ لَزِمْ ∗∗∗ لِلْحُكْمِ وهو غَيْرُ مَرْجُوحٍ عُلِمْ
وَكَذَلِكَ العِنَبُ تُعْصَرُ مِنهُ الخَمْرَ وهي أُمُّ الخَبائِثِ، إلّا أنَّ مَصْلَحَةَ وُجُودِ العِنَبِ والزَّبِيبِ والِانْتِفاعِ بِهِما في أقْطارِ الدُّنْيا مَصْلَحَةٌ راجِحَةٌ عَلى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الخَمْرِ مِنها أُلْغِيَتْ لَها تِلْكَ المَفْسَدَةُ المَرْجُوحَةُ، واجْتِماعُ الرِّجالِ والنِّساءِ في البَلَدِ الواحِدِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ الزِّنى إلّا أنَّ التَّعاوُنَ بَيْنَ المُجْتَمَعِ مِن ذُكُورٍ وإناثٍ مَصْلَحَةٌ أرْجَحُ مِن تِلْكَ المَفْسَدَةِ، ولِذا لَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنَ العُلَماءِ إنَّهُ يَجِبُ عَزْلُ النِّساءِ في مَحَلٍّ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الرِّجالِ، وأنْ يُجْعَلَ عَلَيْهِنَّ حِصْنٌ قَوِيٌّ لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إلَيْهِنَّ مَعَهُ، وتُجْعَلُ المَفاتِيحُ بِيَدِ أمِينٍ مَعْرُوفٌ بِالتُّقى والدِّيانَةِ، كَما هو مُقَرَّرٌ في الأُصُولِ.
فالقُرْآنُ أباحَ تَعَدُّدَ الزَّوْجاتِ لِمَصْلَحَةِ المَرْأةِ في عَدَمِ حِرْمانِها مِنَ الزَّواجِ، ولِمَصْلَحَةِ الرَّجُلِ بِعَدَمِ تَعَطُّلِ مَنافِعِهِ في حالِ قِيامِ العُذْرِ بِالمَرْأةِ الواحِدَةِ، ولِمَصْلَحَةِ الأُمَّةِ لِيَكْثُرَ عَدَدُها فَيُمْكِنُها مُقاوَمَةُ عَدُوِّها لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا، فَهو تَشْرِيعُ حَكِيمٍ خَبِيرٍ لا يَطْعَنُ فِيهِ إلّا مَن أعْمى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِظُلُماتِ الكُفْرِ. وتَحْدِيدُ الزَّوْجاتِ بِأرْبَعٍ؛ تَحْدِيدٌ مِن حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وهو أمْرٌ وسَطٌ بَيْنَ القِلَّةِ المُفْضِيَةِ إلى تَعَطُّلِ بَعْضِ مَنافِعِ الرَّجُلِ، وبَيْنَ الكَثْرَةِ الَّتِي هي مَظِنَّةُ عَدَمِ القُدْرَةِ عَلى القِيامِ بِلَوازِمَ الزَّوْجِيَّةِ لِلْجَمِيعِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ: تَفْضِيلُهُ الذَّكَرَ عَلى الأُنْثى في المِيراثِ، كَما قالَ تَعالى:
﴿وَإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالًا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٧٦] .
وَقَدْ صَرَّحَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ يُبَيِّنُ لِخَلْقِهِ هَذا البَيانَ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى في المِيراثِ لِئَلّا يَضِلُّوا، فَمِن سَوّى بَيْنِهِما فِيهِ فَهو ضالٌّ قَطْعًا.
ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ أعْلَمُ بِالحِكَمِ والمَصالِحِ وبِكُلِّ شَيْءٍ مِن خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ:
﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٧٦]، وقالَ:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١] .
وَلا شَكَّ أنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي هي أقْوَمُ الطُّرُقِ وأعْدَلُها: تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى في المِيراثِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى. كَما أشارَ تَعالى إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ﴾؛ أيْ وهو الرِّجالُ
﴿عَلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٣٤]، أيْ وهو النِّساءُ، وقَوْلِهِ:
﴿وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وذَلِكَ لِأنَّ الذُّكُورَةَ في كَمالٍ خِلْقِيٍّ، وقُوَّةٍ طَبِيعِيَّةٍ، وشَرَفٍ وجَمالٍ، والأُنُوثَةُ نَقْصٌ خِلْقِيٌّ، وضَعْفٌ طَبِيعِيٌّ، كَما هو مَحْسُوسٌ مُشاهَدٌ لِجَمِيعِ العُقَلاءِ، لا يَكادُ يُنْكِرُهُ إلّا مُكابِرٌ في المَحْسُوسِ.
وَقَدْ أشارَ جَلَّ وعَلا إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
﴿أوَمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ وهو في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزخرف: ١٨]؛ لِأنَّ اللَّهَ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّهم نَسَبُوا لَهُ ما لا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الوَلَدِ، ومَعَ ذَلِكَ نَسَبُوا لَهُ أخَسَّ الوَلَدَيْنِ وأنْقَصَهُما وأضْعَفَهُما، ولِذَلِكَ يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ؛ أيِ: الزِّينَةِ مِن أنْواعِ الحُلِيِّ والحُلَلِ لِيَجْبُرَ نَقْصَهُ الخِلْقِيَّ الطَّبِيعِيَّ بِالتَّجْمِيلِ بِالحُلِيِّ والحُلَلِ وهو الأُنْثى. بِخِلافِ الرَّجُلِ، فَإنَّ كَمالَ ذُكُورَتِهِ وقُوَّتَها وجَمالَها يَكْفِيهِ عَلى الحُلِيِّ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
وَما الحُلِيُّ إلّا زِينَةً مِن نَقِيصَةٍ يُتَمِّمُ مِن حُسْنٍ إذا الحُسْنُ قَصَّرا
وَأمّا إذا كانَ الجَمالُ مُوَفَّرًا ∗∗∗ كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إلى أنْ يُزَوَّرا
وَقالَ تَعالى:
﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ [النجم: ٢١ - ٢٢]، وإنَّما كانَتْ هَذِهِ القِسْمَةُ ضِيزى - أيْ غَيْرُ عادِلَةٍ - لِأنَّ الأُنْثى أنْقَصُ مِنَ الذَّكَرِ خِلْقَةً وطَبِيعَةً، فَجَعَلُوا هَذا النَّصِيبَ النّاقِصَ لِلَّهِ جَلَّ وعَلا سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلْوًا كَبِيرًا ! وجَعَلُوا الكامِلَ لِأنْفُسِهِمْ كَما قالَ:
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ﴾ [النحل: ٦٢]، أيْ وهو البَناتُ. وقالَ:
﴿وَإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ إلى قَوْلِهِ:
﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: ٥٨، ٥٩]، وقالَ:
﴿وَإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا﴾ - أيْ وهو الأُنْثى -
﴿ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ [الزخرف: ١٧] .
وَكُلُّ هَذِهِ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأُنْثى ناقِصَةٌ بِمُقْتَضى الخِلْقَةِ والطَّبِيعَةِ، وأنَّ الذَّكَرَ أفْضَلُ وأكْمَلُ مِنها:
﴿أاصْطَفى البَناتِ عَلى البَنِينَ﴾ ﴿ما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات: ١٥٣ - ١٥٤]،
﴿أفَأصْفاكم رَبُّكم بِالبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إناثًا﴾ الآيَةَ
[الإسراء: ٤٠]، والآياتُ الدّالَّةُ عَلى تَفْضِيلِهِ عَلَيْها كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عامَّةِ العُقَلاءِ: أنَّ الأُنْثى مَتاعٌ لا بُدَّ لَهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِشُئُونِها ويُحافِظُ عَلَيْهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في التَّمَتُّعِ بِالزَّوْجَةِ: هَلْ هو قُوتٌ ؟ أوْ تَفَكُّهٌ ؟ وأجْرى عُلَماءُ المالِكِيَّةِ عَلى هَذا الخِلافِ حُكْمَ إلْزامِ الِابْنِ بِتَزْوِيجِ أبِيهِ الفَقِيرِ، قالُوا: فَعَلى أنَّ النِّكاحَ قُوتٌ فَعَلَيْهِ تَزْوِيجُهُ ؟ لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ القُوتِ الواجِبِ لَهُ عَلَيْهِ. وعَلى أنَّهُ تَفَكُّهٌ لا يَجِبُ عَلَيْهِ عَلى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، فانْظُرْ شِبْهَ النِّساءِ بِالطَّعامِ والفاكِهَةِ عِنْدَ العُلَماءِ، وقَدْ جاءَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّساءِ والصِّبْيانِ في الجِهادِ، لِأنَّهُما مِن جُمْلَةِ مالِ المُسْلِمِينَ الغانِمِينَ، بِخِلافِ الرِّجالِ فَإنَّهم يُقْتَلُونَ.
وَمِنَ الأدِلَّةِ عَلى أفْضَلِيَّةِ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى: أنَّ المَرْأةَ الأُولى خُلِقَتْ مِن ضِلْعِ الرَّجُلِ الأوَّلِ. فَأصْلُها جُزْءٌ مِنهُ. فَإذا عَرَفَتْ مِن هَذِهِ الأدِلَّةِ: أنَّ الأُنُوثَةَ نَقْصٌ خِلْقِيٌّ، وضَعْفٌ طَبِيعِيٌّ، فاعْلَمْ أنَّ العَقْلَ الصَّحِيحَ الَّذِي يُدْرِكُ الحِكَمَ والأسْرارَ، يَقْضِي بِأنَّ النّاقِصَ الضَّعِيفَ بِخِلْقَتِهِ وطَبِيعَتِهِ، يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ تَحْتَ نَظَرِ الكامِلِ في خِلْقَتِهِ، القَوِيِّ بِطَبِيعَتِهِ؛ لِيَجْلِبَ لَهُ ما لا يَقْدِرُ عَلى جَلْبِهِ مِنَ النَّفْعِ، ويَدْفَعَ عَنْهُ ما لا يَقْدِرُ عَلى دَفْعِهِ مِنَ الضُّرِّ، كَما قالَ تَعالى:
﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٣٤] .
وَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّهُ لَمّا كانَتِ الحِكْمَةُ البالِغَةُ، تَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الضَّعِيفُ النّاقِصُ مُقَوَّمًا عَلَيْهِ مِن قِبَلِ القَوِيِّ الكامِلِ، اقْتَضى ذَلِكَ أنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُلْزَمًا بِالإنْفاقِ عَلى نِسائِهِ، والقِيامِ بِجَمِيعِ لَوازِمِهِنَّ في الحَياةِ، كَما قالَ تَعالى:
﴿وَبِما أنْفَقُوا مِن أمْوالِهِمْ﴾ [النساء: ٣٤]، ومالُ المِيراثِ ما مَسَحا في تَحْصِيلِهِ عَرَقًا، ولا تَسَبَّبا فِيهِ البَتَّةَ، وإنَّما هو تَمْلِيكٌ مِنَ اللَّهِ مَلَّكَهُما إيّاهُ تَمْلِيكًا جَبْرِيًّا، فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الحَكِيمِ الخَبِيرِ أنْ يُؤْثِرَ الرَّجُلَ عَلى المَرْأةِ في المِيراثِ وإنْ أدْلَيا بِسَبَبٍ واحِدٍ؛ لِأنَّ الرَّجُلَ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ دائِمًا بِالإنْفاقِ عَلى نِسائِهِ، وبِذْلِ المُهُورِ لَهُنَّ، والبَذْلِ في نَوائِبِ الدَّهْرِ، والمَرْأةُ مُتَرَقِّبَةٌ لِلزِّيادَةِ بِدَفْعِ الرَّجُلِ لَها المَهْرَ، وإنْفاقِهِ عَلَيْها وقِيامِهِ بِشُئُونِها، وإيثارُ مُتَرَقِّبُ النَّقْصِ دائِمًا عَلى مُتَرَقِّبِ الزِّيادَةِ دائِمًا لِجَبْرِ بَعْضِ نَقْصِهِ المُتَرَقِّبِ، حِكْمَتُهُ ظاهِرَةٌ واضِحَةٌ، لا يُنْكِرُها إلّا مَن أعْمى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ بِالكُفْرِ والمَعاصِي، ولِذا قالَ تَعالى:
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١]، ولِأجْلِ هَذِهِ الحِكَمِ الَّتِي بَيِّنا بِها فَضْلَ نَوْعِ الذَّكَرِ عَلى نَوْعِ الأُنْثى في أصْلِ الخِلْقَةِ والطَّبِيعَةِ، جَعَلَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ الرَّجُلَ هو المَسْئُولَ عَنِ المَرْأةِ في جَمِيعِ أحْوالِها. وخَصَّهُ بِالرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ والخِلافَةِ دُونَها، ومَلَّكَهُ الطَّلاقَ دُونَها، وجَعَلَهَ الوَلِيَّ في النِّكاحِ دُونَها، وجَعَلَ انْتِسابَ الأوْلادِ إلَيْهِ لا إلَيْها، وجَعَلَ شَهادَتَهُ في الأمْوالِ بِشَهادَةِ امْرَأتَيْنِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وجَعَلَ شَهادَتَهُ تُقْبَلُ في الحُدُودِ والقَصاصِ دُونَها، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الفَوارِقِ الحِسِّيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ والشَّرْعِيَّةِ بَيْنَهُما.
ألا تَرى أنَّ الضَّعْفَ الخِلْقِيَّ والعَجْزَ عَنِ الإبانَةِ في الخِصامِ عَيْبٌ ناقِصٌ في الرِّجالِ، مَعَ أنَّهُ يُعَدُّ مِن جُمْلَةِ مَحاسِنِ النِّساءِ الَّتِي تَجْذِبُ إلَيْها القُلُوبَ، قالَ جَرِيرٌ:
إنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرَفِها حَوَرٌ ∗∗∗ قَتَلْنَنا ثُمَّ لَمَّ يُحْيِينَ قَتْلانا
يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حَتّى لا حَراكَ ∗∗∗ بِهِ وهُنَّ أضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ أرْكانًا
وَقالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ:
بِنَفْسِي وأهْلِي مَن إذا عَرَضُوا ∗∗∗ لَهُ بِبَعْضِ الأذى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ
فَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ البَرِيءِ ∗∗∗ ولَمْ تَزَلْ بِهِ سَكْتَةٌ حَتّى يُقالَ مُرِيبُ
فالأوَّلُ: تَشَبَّبَ بِهِنَّ بِضَعْفِ أرْكانِهِنَّ، والثّانِي: بِعَجْزِهِنَّ عَنِ الإبانَةِ في الخِصامِ؛ كَما قالَ تَعالى:
﴿وَهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزخرف: ١٨]، ولِهَذا التَّبايُنِ في الكَمالِ والقُوَّةِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّعْنَ عَلى مَن تَشَبَّهَ مِنهُما بِالآخَرِ. قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثْنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: ”
«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجالِ بِالنِّساءِ، والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بِالرِّجالِ“»، هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ في صَحِيحِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَهو مَلْعُونٌ في كِتابِ اللَّهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ الآيَةَ
[الحشر: ٧]، كَما ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَما تَقَدَّمَ.
فَلْتَعْلَمْنَ أيَّتُها النِّساءُ اللّاتِي تُحاوِلْنَ أنْ تَكُنَّ كالرِّجالِ في جَمِيعِ الشُّئُونِ أنَّكُنَّ مُتَرَجِّلاتٌ مُتَشَبِّهاتٌ بِالرِّجالِ، وأنَّكُنَّ مَلْعُوناتٌ في كِتابِ اللَّهِ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ، وكَذَلِكَ المُخَنَّثُونَ المُتَشَبِّهُونَ بِالنِّساءِ، فَهم أيْضًا مَلْعُونُونَ في كِتابِ اللَّهِ عَلى لِسانِهِ ﷺ، ولَقَدْ صَدَقَ مَن قالَ فِيهِمْ:
وَما عَجَبِي أنَّ النِّساءَ تَرَجَّلَتْ ∗∗∗ ولَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجالِ عُجابُ
واعْلَمْ وفَّقَنِي اللَّهُ وإيّاكَ لِمّا يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ: أنَّ هَذِهِ الفِكْرَةَ الكافِرَةَ، الخاطِئَةَ الخاسِئَةَ، المُخالِفَةَ لِلْحِسِّ والعَقْلَ، ولِلْوَحْيِ السَّماوِيِّ وتَشْرِيعِ الخالِقِ البارِئِ مِن تَسْوِيَةِ الأُنْثى بِالذِّكْرِ في جَمِيعِ الأحْكامِ والمَيادِينِ، فِيها مِنَ الفَسادِ والإخْلالِ بِنِظامِ المُجْتَمَعِ الإنْسانِيِّ ما لا يَخْفى عَلى أحَدٍ إلّا مَن أعْمى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ. وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا جَعَلَ الأُنْثى بِصِفاتِها الخاصَّةِ بِها صالِحَةٌ لِأنْواعٍ مِنَ المُشارَكَةِ في بِناءِ المُجْتَمَعِ الإنْسانِيِّ، صَلاحًا لا يُصْلِحُهُ لَها غَيْرُها، كالحَمْلِ والوَضْعِ، والإرْضاعِ وتَرْبِيَةِ الأوْلادِ، وخِدْمَةِ البَيْتِ، والقِيامِ عَلى شُئُونِهِ. مِن طَبْخٍ وعَجْنٍ وكَنْسٍ ونَحْوِ ذَلِكَ. وهَذِهِ الخِدْماتُ الَّتِي تَقُومُ بِها لِلْمُجْتَمَعِ الإنْسانِيِّ داخِلَ بَيْتِها في سَتْرٍ وصِيانَةٍ، وعَفافٍ ومُحافِظَةٍ عَلى الشَّرَفِ والفَضِيلَةِ والقِيَمِ الإنْسانِيَّةِ، لا تَقِلُّ عَنْ خِدْمَةِ الرَّجُلِ بِالِاكْتِسابِ، فَزَعَمَ أُولَئِكَ السَّفَلَةُ الجَهَلَةُ مِنَ الكُفّارِ وأتْباعِهِمْ: أنَّ المَرْأةَ لَها مِنَ الحُقُوقِ في الخِدْمَةِ خارِجَ بَيْتِها مِثْلُ ما لِلرَّجُلِ، مَعَ أنَّها في زَمَنِ حَمْلِها ورِضاعِها ونِفاسِها، لا تَقْدِرُ عَلى مُزاوَلَةِ أيِّ عَمَلٍ فِيهِ أيُّ مَشَقَّةٍ كَما هو مُشاهَدٌ، فَإذا خَرَجَتْ هي وزَوْجُها بَقِيَتْ خِدْماتُ البَيْتِ كُلُّها ضائِعَةً: مِن حِفْظِ الأوْلادِ الصِّغارِ، وإرْضاعِ مَن هو في زَمَنِ الرَّضاعُ مِنهم، وتَهْيِئَةِ الأكْلِ والشُّرْبِ لِلرَّجُلِ إذا جاءَ مِن عَمَلِهِ، فَلَوْ أجْرَوْا إنْسانًا يَقُومُ مَقامَها، لِتُعَطِّلَ ذَلِكَ الإنْسانَ في ذَلِكَ البَيْتِ التَّعَطُّلَ الَّذِي خَرَجَتِ المَرْأةُ فِرارًا مِنهُ؛ فَعادَتِ النَّتِيجَةُ في حافِرَتِها عَلى أنَّ خُرُوجَ المَرْأةِ وابْتِذالَها فِيهِ ضَياعُ المُرُوءَةِ والدِّينِ؛ لِأنَّ المَرْأةَ مَتاعٌ، هو خَيْرُ مَتاعٍ الدُّنْيا، وهو أشَدُّ أمْتِعَةِ الدُّنْيا تَعَرُّضًا لِلْخِيانَةِ.
لِأنَّ العَيْنَ الخائِنَةَ إذا نَظَرَتْ إلى شَيْءٍ مِن مَحاسِنِها فَقَدِ اسْتَغَلَّتْ بَعْضَ مَنافِعِ ذَلِكَ الجَمالِ خِيانَةً ومَكْرًا. فَتَعْرِيضُها لِأنْ تَكُونَ مائِدَةً لِلْخَوَنَةِ فِيهِ ما لا يَخْفى عَلى أدْنى عاقِلٍ، وكَذَلِكَ إذا لَمَسَ شَيْئًا مِن بَدَنِها بَدَنُ خائِنٍ سَرَتْ لَذَّةُ ذَلِكَ اللَّمْسِ في دَمِهِ ولَحْمِهِ بِطَبِيعَةِ الغَرِيزَةِ الإنْسانِيَّةِ، ولا سِيَّما إذا كانَ القَلْبُ فارِغًا مِن خَشْيَةِ اللَّهِ تَعالى، فاسْتَغَلَّ نِعْمَةَ ذَلِكَ البَدَنِ خِيانَةً وغَدْرًا، وتَحْرِيكُ الغَرائِزِ بِمِثْلِ ذَلِكَ النَّظَرِ واللَّمْسِ يَكُونُ غالِبًا سَبَبًا لِما هو شَرُّ مِنهُ. كَما هو مُشاهَدٌ بِكَثْرَةٍ في البِلادِ الَّتِي تَخَلَّتْ عَنْ تَعالِيمِ الإسْلامِ، وتَرَكَتِ الصِّيانَةَ. فَصارَتْ نِساؤُها يَخْرُجْنَ مُتَبَرِّجاتٍ عارِياتِ الأجْسامِ إلّا ما شاءَ اللَّهُ. لِأنَّ اللَّهَ نَزَعَ مِن رِجالِها صِفَةَ الرُّجُولَةِ والغِيرَةِ عَلى حَرِيمِهِمْ. ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مَن مَسْخِ الضَّمِيرِ والذَّوْقِ، ومِن كُلِّ سُوءٍ، ودَعْوى الجَهَلَةِ السَّفَلَةِ: أنَّ دَوامَ خُرُوجِ النِّساءِ بادِيَةَ الرُّءُوسِ والأعْناقِ والمَعاصِمِ، والأذْرُعِ والسُّوقِ، ونَحْوَ ذَلِكَ يُذْهِبُ إثارَةَ غَرائِزِ الرِّجالِ؛ لِأنَّ كَثْرَةَ الإمْساسِ تُذْهِبُ الإحْساسَ؛ كَلامٌ في غايَةِ السُّقُوطِ والخِسَّةِ؛ لِأنَّ مَعْناهُ: إشْباعُ الرَّغْبَةِ مِمّا لا يَجُوزُ، حَتّى يَزُولَ الأرَبُ مِنهُ بِكَثْرَةِ مُزاوَلَتِهِ، وهَذا كَما تَرى. ولِأنَّ الدَّوامَ لا يُذْهِبُ إثارَةَ الغَرِيزَةِ بِاتِّفاقِ العُقَلاءِ؛ لِأنَّ الرَّجُلَ يَمْكُثُ مَعَ امْرَأتِهِ سِنِينَ كَثِيرَةً حَتّى تَلِدَ أوْلادَهُما، ولا تَزالُ مُلامَسَتُهُ لَها، ورُؤْيَتُهُ لِبَعْضِ جِسْمِها تُثِيرُ غَرِيزَتَهُ. كَما هو مُشاهَدٌ لا يُنْكِرُهُ إلّا مُكابِرٌ:
لَقَدْ أسْمَعْتَ لَوْ نادَيْتَ حَيًّا ∗∗∗ ولَكِنْ لا حَياةَ لِمَن تُنادِي
وَقَدْ أمَرَ رَبُّ السَّمَواتِ والأرْضِ، خالِقُ هَذا الكَوْنِ ومُدَبِّرُ شُئُونِهِ، العالِمُ بِخَفايا أُمُورِهِ وبِكُلِّ ما كانَ وما سَيَكُونُ بِغَضِّ البَصَرِ عَمّا لا يَحِلُّ؛ قالَ تَعالى:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أبْصارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهم ذَلِكَ أزْكى لَهم إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾ ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِن أبْصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ . . . الآيَةَ
[النور: ٣٠، ٣١] .
وَنَهى المَرْأةَ أنْ تَضْرِبَ بِرِجْلِها لِتُسْمِعَ الرِّجالَ صَوْتَ خَلْخالِها في قَوْلِهِ:
﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ [النور: ٣١]، ونَهاهُنَّ عَنْ لِينِ الكَلامِ، لِئَلّا يَطْمَعَ أهْلُ الخَنى فِيهِنَّ، قالَ تَعالى:
﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [السجدة: ٣٣]، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَحْقِيقَ المَقامِ في مَسْألَةِ الحِجابِ في (سُورَةِ الأحْزابِ)، كَما قَدَّمْنا الوَعْدَ بِذَلِكَ في تَرْجَمَةِ هَذا الكِتابِ المُبارَكِ.
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ: مِلْكُ الرَّقِيقِ المُعَبَّرِ عَنْهُ في القُرْآنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ في آياتٍ كَثِيرَةٍ،
• كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٣]،
• وقَوْلِهِ:
﴿والَّذِينَ هم لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ﴾ ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهم فَإنَّهم غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون: ٥ - ٦] في ”سُورَةِ قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ، وسَألَ سائِلٌ“،
• وقَوْلِهِ:
﴿والجارِ ذِي القُرْبى والجارِ الجُنُبِ والصّاحِبِ بِالجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ وما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٣٦]،
• وقَوْلِهِ:
﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم كِتابَ اللَّهِ﴾ الآيَةَ
[النساء: ٢٤]،
• وقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا:
﴿والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ الآيَةَ
[النور: ٣٣]،
• وقَوْلِهِ:
﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِن بَعْدُ ولا أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِن أزْواجٍ ولَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ الآيَةَ
[الأحزاب: ٥٢] .
وَقَوْلُهُ:
﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ الآيَةَ
[الأحزاب: ٥٠]، وقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا:
﴿وَلا نِسائِهِنَّ ولا ما مَلَكَتْ أيْمانُهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٥]،
• وقَوْلِهِ:
﴿أوْ نِسائِهِنَّ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُنَّ﴾ [النور: ٣١]،
• وقَوْلِهِ:
﴿وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ﴾ [النساء: ٢٥]،
• وقَوْلِهِ:
﴿فَما الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [النحل: ٧١]،
• وقَوْلِهِ:
﴿هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ﴾ الآيَةَ
[الروم: ٢٨]إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
فالمُرادُ بِمِلْكِ اليَمِينِ في جَمِيعِ هَذِهِ الآياتِ ونَحْوِها: مِلْكُ الرَّقِيقِ بِالرِّقِّ، ومِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى مَلِكِ الرَّقِيقِ قَوْلُهُ:
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا﴾ الآيَةَ
[النحل: ٧٥]، وقَوْلُهُ:
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكٍ﴾ الآيَةَ
[البقرة: ٢٢١]، ونَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
وَسَبَبُ المِلْكِ بِالرِّقِّ: هو الكُفْرُ، ومُحارَبَةُ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَإذا أقْدَرَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ المُجاهِدِينَ الباذِلِينَ مُهَجَهم وأمْوالَهم، وجَمِيعَ قُواهم، وما أعْطاهُمُ اللَّهُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا عَلى الكُفّارِ، جَعَلَهم مِلْكًا لَهم بِالسَّبْيِ؛ إلّا إذا اخْتارَ الإمامُ المَنَّ أوِ الفِداءَ، لِما في ذَلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ عَلى المُسْلِمِينَ.
وَهَذا الحُكْمُ مِن أعْدَلِ الأحْكامِ وأوْضَحِها وأظْهَرِها حِكْمَةً، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ ويُوَحِّدُوهُ، ويَمْتَثِلُوا أوامَرَهُ ويَجْتَنِبُوا نَواهِيَهُ، كَما قالَ تَعالى:
﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦، ٥٧] . وأسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً.
كَما قالَ:
﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ﴾ [إبراهيم: ٣٤]، وفي الآيَةِ الأُخْرى في ”سُورَةِ النَّحْلِ“:
﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١٨]، وجَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ لِيَشْكُرُوهُ؛ كَما قالَ تَعالى:
﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨] فَتَمَرَّدَ الكُفّارُ عَلى رَبِّهِمْ وطَغَوْا وعَتَوْا، وأعْلَنُوا الحَرْبَ عَلى رُسُلِهِ لِئَلّا تَكُونَ كَلِمَتُهُ هي العُلْيا، واسْتَعْمَلُوا جَمِيعَ المَواهِبِ الَّتِي أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِها في مُحارَبَتِهِ، وارْتِكابِ ما يُسْخِطُهُ، ومُعاداتِهِ ومُعاداةِ أوْلِيائِهِ القائِمِينَ بِأمْرِهِ، وهَذا أكْبَرُ جَرِيمَةٍ يَتَصَوَّرُها الإنْسانُ.
فَعاقَبَهُمُ الحَكَمُ العَدْلُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ جَلَّ وعَلا عُقُوبَةً شَدِيدَةً تُناسِبُ جَرِيمَتَهم. فَسَلَبَهُمُ التَّصَرُّفَ، ووَضَعَهم مِن مَقامِ الإنْسانِيَّةِ إلى مَقامٍ أسْفَلَ مِنهُ كَمَقامِ الحَيَواناتِ، فَأجازَ بَيْعَهم وشِراءَهم، وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفاتِ المالِيَّةِ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَسْلُبْهم حُقُوقَ الإنْسانِيَّةِ سَلْبًا كُلِّيًّا. فَأوْجَبَ عَلى مالِكِيهِمُ الرِّفْقَ والإحْسانَ إلَيْهِمْ، وأنْ يُطْعِمُوهم مِمّا يُطْعِمُونَ، ويُكْسُوهم مِمّا يَلْبَسُونَ، ولا يُكَلِّفُوهم مِنَ العَمَلِ ما لا يُطِيقُونَ، وإنْ كَلَّفُوهم أعانُوهم؛ كَما هو مَعْرُوفٌ في السُّنَّةِ الوارِدَةِ عَنْهُ ﷺ مَعَ الإيصاءِ عَلَيْهِمْ في القُرْآنِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وبِذِي القُرْبى واليَتامى﴾ إلى قَوْلِهِ:
﴿وَما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٣٦] كَما تَقَدَّمَ.
وَتَشَوَّفَ الشّارِعُ تَشَوُّفًا شَدِيدًا لِلْحُرِّيَّةِ والإخْراجِ مِنَ الرِّقِّ، فَأكْثَرَ أسْبابَ ذَلِكَ، كَما أوْجَبَهُ في الكَفّاراتِ مِن قَتْلٍ خَطَأٍ وظِهارٍ ويَمِينٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وأوْجَبَ سَرايَةَ العِتْقِ، وأمَرَ بِالكِتابَةِ في قَوْلِهِ:
﴿فَكاتِبُوهم إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ٣٣]، ورَغَّبَ في الإعْتاقِ تَرْغِيبًا شَدِيدًا، ولَوْ فَرَضْنا - ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى - أنَّ حُكُومَةً مِن هَذِهِ الحُكُوماتِ الَّتِي تُنْكِرُ المِلْكَ بِالرِّقِّ، وتُشَنِّعُ في ذَلِكَ عَلى دِينِ الإسْلامِ قامَ عَلَيْها رَجُلٌ مِن رَعاياها كانَتْ تُغْدِقُ عَلَيْهِ النِّعَمَ، وتُسْدِي إلَيْهِ جَمِيعَ أنْواعِ الإحْسانِ، ودَبَّرَ عَلَيْها ثَوْرَةً شَدِيدَةً يُرِيدُ بِها إسْقاطَ حُكْمَها، وعَدَمَ نُفُوذِ كَلِمَتِها، والحَيْلُولَةَ بَيْنَها وبَيْنَ ما تُرِيدُهُ مِن تَنْفِيذِ أنْظِمَتِها، الَّتِي يَظْهَرُ لَها أنَّ بِهِما صَلاحَ المُجْتَمَعِ، ثُمَّ قَدَرَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ مُقاوَمَةٍ شَدِيدَةٍ فَإنَّها تَقْتُلُهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ القَتْلَ يَسْلُبُهُ جَمِيعَ تَصَرُّفاتِهِ وجَمِيعَ مَنافِعِهِ، فَهو أشَدُّ سَلْبًا لِتَصَرُّفاتِ الإنْسانِ ومَنافِعِهِ مِنَ الرِّقِّ بِمَراحِلَ، والكافِرُ قامَ بِبَذْلِ كُلِّ ما في وُسْعِهِ لِيَحُولَ دُونَ إقامَةِ نِظامِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِيَسِيرَ عَلَيْهِ خَلْقُهُ، فَيُنْشَرُ بِسَبَبِهِ في الأرْضِ الأمْنُ والطُّمَأْنِينَةُ، والرَّخاءُ والعَدالَةُ، والمُساواةُ في الحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، وتَنْتَظِمُ بِهِ الحَياةُ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ وأعْدَلِها وأسْماها:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكم لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠] فَعاقَبَهُ اللَّهُ هَذِهِ المُعاقَبَةَ بِمَنعِهِ التَّصَرُّفَ، ووَضْعُ دَرَجَتِهِ وجَرِيمَتِهِ تَجْعَلُهُ يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ بِذَلِكَ.
فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ الرَّقِيقُ مُسْلِمًا فَما وجْهُ مِلْكِهِ بِالرِّقِّ ؟ مَعَ أنَّ سَبَبَ الرِّقِّ الَّذِي هو الكُفْرُ ومُحارَبَةُ اللَّهِ ورُسُلِهِ قَدْ زالَ ؟
فالجَوابُ: أنَّ القاعِدَةَ المَعْرُوفَةَ عِنْدَ العُلَماءِ وكافَّةِ العُقَلاءِ: أنَّ الحَقَّ السّابِقَ لا يَرْفَعُهُ الحَقُّ اللّاحِقُ، والأحَقِّيَّةُ بِالأسْبَقِيَّةِ ظاهِرَةٌ لا خَفاءَ بِها، فالمُسْلِمُونَ عِنْدَما غَنِمُوا الكُفّارَ بِالسَّبْيِ ثَبَتَ لَهم حَقُّ المِلْكِيَّةِ بِتَشْرِيعِ خالِقِ الجَمِيعِ، وهو الحَكِيمُ الخَبِيرُ، فَإذا اسْتَقَرَّ هَذا الحَقُّ وثَبَتَ، ثُمَّ أسْلَمَ الرَّقِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ كانَ حَقُّهُ في الخُرُوجِ مِنَ الرِّقِّ بِالإسْلامِ مَسْبُوقًا بِحَقِّ المُجاهِدِ الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ المِلْكِيَّةُ قَبْلَ الإسْلامِ، ولَيْسَ مِنَ العَدْلِ والإنْصافِ رَفْعُ الحَقِّ السّابِقِ بِالحَقِّ المُتَأخِّرِ عَنْهُ، كَما هو مَعْلُومٌ عِنْدَ العُقَلاءِ، نَعَمْ، يَحْسُنُ بِالمالِكِ ويَجْمُلُ بِهِ أنْ يُعْتِقَهُ إذا أسْلَمَ، وقَدْ أمَرَ الشّارِعُ بِذَلِكَ ورَغَّبَ فِيهِ، وفَتَحَ لَهُ الأبْوابَ الكَثِيرَةَ كَما قَدَّمْنا، فَسُبْحانَ الحَكِيمِ الخَبِيرِ:
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنعام: ١١٥]، فَقَوْلُهُ صِدْقًا أيْ في الإخْبارِ، وقَوْلُهُ: وعَدْلًا؛ أيْ في الأحْكامِ. ولا شَكَّ أنَّ مِن ذَلِكَ العَدْلِ: المِلْكَ بِالرِّقِّ وغَيْرَهُ مِن أحْكامِ القُرْآنِ:
وَكَمْ مِن عائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ: القِصاصُ؛ فَإنَّ الإنْسانَ إذا غَضِبَ وهَمَّ بِأنْ يَقْتُلَ إنْسانًا آخَرَ فَتَذَكَّرَ أنَّهُ إنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ، خافَ العاقِبَةَ فَتَرَكَ القَتْلَ، فَحَيِيَ ذَلِكَ الَّذِي كانَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وحَيِيَ هو، لِأنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ فَيُقْتَلُ قِصاصًا، فَقَتْلُ القاتِلِ يَحْيا بِهِ ما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ كَثْرَةً كَما ذَكَرْنا، قالَ تَعالى
﴿وَلَكم في القِصاصِ حَياةٌ ياأُولِي الألْبابِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٩]، ولا شَكَّ أنَّ هَذا مِن أعْدَلِ الطُّرُقِ وأقْوَمِها، ولِذَلِكَ يُشاهِدُ في أقْطارِ الدُّنْيا قَدِيمًا وحَدِيثًا قِلَّةُ وُقُوعِ القَتْلِ في البِلادِ الَّتِي تَحْكُمُ بِكِتابِ اللَّهِ؛ لِأنَّ القِصاصَ رادِعٌ عَنْ جَرِيمَةِ القَتْلِ. كَما ذَكَرَهُ اللَّهُ في الآيَةِ المَذْكُورَةِ آنِفًا. وما يَزْعُمُهُ أعْداءُ الإسْلامِ مِن أنَّ القِصاصَ غَيْرُ مُطابِقٍ لِلْحِكْمَةِ؛ لِأنَّ فِيهِ إقْلالَ عَدَدِ المُجْتَمَعِ بِقَتْلِ إنْسانٍ ثانٍ بَعْدِ أنْ ماتَ الأوَّلُ، وأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يُعاقَبَ بِغَيْرِ القَتْلِ فَيُحْبَسُ، وقَدْ يُولَدُ لَهُ في الحَبْسِ فَيَزِيدُ المُجْتَمَعُ. كُلُّهُ كَلامٌ ساقِطٌ، عارٍ مِنَ الحِكْمَةِ؛ لِأنَّ الحَبْسَ لا يَرْدَعُ النّاسَ عَنِ القَتْلِ، فَإذا لَمْ تَكُنِ العُقُوبَةُ رادِعَةً فَإنَّ السُّفَهاءَ يَكْثُرُ مِنهُمُ القَتْلُ، فَيَتَضاعَفُ نَقْصُ المُجْتَمَعِ بِكَثْرَةِ القَتْلِ.
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ: قَطْعُ يَدِ السّارِقِ المَنصُوصُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾،
«وَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”لَوْ سَرَقَتْ فاطِمَةُ لَقَطَعْتُ يَدَها“» .
وَجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّ القَطْعَ مِنَ الكُوعِ، وأنَّها اليُمْنى. وكانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وأصْحابُهُ يَقْرَءُونَ ”فاقْطَعُوا أيْمانَهُما“ .
والجُمْهُورُ أنَّهُ إنْ سَرَقَ ثانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسْرى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَيَدُهُ اليُسْرى، ثُمَّ إنَّ سَرَقَ فَرِجْلُهُ اليُمْنى، ثُمَّ يُعَزَّرُ. وقِيلَ: يُقْتَلُ، كَما جاءَ في الحَدِيثِ:
«وَلا قَطْعَ إلّا في رُبْعِ دِينارٍ أوْ قِيمَتِهِ أوْ ثَلاثَةِ دَراهِمَ» كَما هو مَعْرُوفٌ في الأحادِيثِ.
وَلَيْسَ قَصْدُنا هُنا تَفْصِيلَ أحْكامِ السَّرِقَةِ وشُرُوطِ القَطْعِ، كالنِّصابِ والإخْراجِ مِن حِرْزٍ، ولَكِنَّ مُرادَنا أنْ نُبَيِّنَ أنَّ قَطْعَ يَدِ السّارِقِ مِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ. وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ اليَدَ الخَبِيثَةَ الخائِنَةَ، الَّتِي خَلَقَها اللَّهُ لِتَبْطِشَ وتَكْتَسِبَ في كُلِّ ما يُرْضِيهِ مِنَ امْتِثالِ أوامِرِهِ واجْتِنابِ نَهْيِهِ، والمُشارَكَةِ في بِناءِ المُجْتَمَعِ الإنْسانِيِّ، فَمَدَّتْ أصابِعَها الخائِنَةَ إلى مالِ الغَيْرِ لِتَأْخُذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، واسْتَعْمَلَتْ قُوَّةَ البَطْشِ المُودَعَةَ فِيها في الخِيانَةِ والغَدْرِ، وأخْذِ أمْوالِ النّاسِ عَلى هَذا الوَجْهِ القَبِيحِ، يَدٌ نَجِسَةٌ قَذِرَةٌ، ساعِيَةٌ في الإخْلالِ بِنِظامِ المُجْتَمَعِ، إذْ لا نِظامَ لَهُ بِغَيْرِ المالِ، فَعاقَبَها خالِقُها بِالقَطْعِ والإزالَةِ؛ كالعُضْوِ الفاسِدِ الَّذِي يَجُرُّ الدّاءَ لِسائِرِ البَدَنِ، فَإنَّهُ يُزالُ بِالكُلِّيَّةِ إبْقاءً عَلى البَدَنِ وتَطْهِيرًا لَهُ مِنَ المَرَضِ، ولِذَلِكَ فَإنَّ قَطْعَ اليَدِ يُطَهِّرُ السّارِقَ مِن دَنَسِ ذَنْبِ ارْتِكابِ مَعْصِيَةِ السَّرِقَةِ، مَعَ الرَّدْعِ البالِغِ بِالقِطَعِ عَنِ السَّرِقَةِ؛ قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: ”بابُ الحُدُودِ كَفّارَةٌ“، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أخْبَرَنا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أبِي إدْرِيسَ الخَوْلانِيِّ،
«عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: كُنّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ في مَجْلِسٍ، فَقالَ: ”بايِعُونِي عَلى أنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا“ وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّها ”فَمَن وفّى مِنكم فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ، ومَن أصابَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهو كَفّارَتُهُ، ومَن أصابَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، إنْ شاءَ غَفَرَ لَهُ، وإنْ شاءَ عَذَّبَهُ»“ . اه هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ في صَحِيحِهِ، وقَوْلُهُ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ”فَهو كَفّارَتُهُ“ نَصٌّ صَرِيحٌ في أنَّ الحُدُودَ تُطَهِّرُ المُرْتَكِبِينَ لَها مِنَ الذَّنْبِ.
والتَّحْقِيقُ في ذَلِكَ ما حَقَّقَهُ بَعْضُ العُلَماءِ: مِن أنَّ حُقُوقَ اللَّهِ يُطَهَّرُ مِنها بِإقامَةِ الحَدِّ، وحَقُّ المَخْلُوقِ يَبْقى، فارْتِكابُ جَرِيمَةِ السَّرِقَةِ مَثَلًا يُطَهَّرُ مِنهُ بِالحَدِّ، والمُؤاخَذَةُ بِالمالِ تَبْقى؛ لِأنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةٌ مُوجِبَةُ حُكْمَيْنِ: وهُما القَطْعُ والغُرْمُ. قالَ في مَراقِي السُّعُودِ:
وَذاكَ في الحُكْمِ الكَثِيرِ أُطْلِقُهُ كالقَطْعِ مَعَ غُرْمِ نِصابِ السَّرِقَةِ
مَعَ أنَّ جَماعَةً مِن أهْلِ العِلْمِ قالُوا: لا يَلْزَمُهُ الغُرْمُ مَعَ القَطْعِ؛ لِظاهِرِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: فَإنَّها نَصَّتْ عَلى القَطْعِ ولَمْ تَذْكُرْ غُرْمًا.
وَقالَ جَماعَةٌ: يُغَرَّمُ المَسْرُوقَ مُطْلَقًا، فاتَ أوْ لَمْ يَفُتْ، مُعْسِرًا كانَ أوْ مُوسِرًا، ويُتْبَعُ بِهِ دَيْنًا إنْ كانَ مُعْسِرًا.
وَقالَ جَماعَةٌ: يَرُدُّ المَسْرُوقُ إنْ كانَ قائِمًا. وإنْ لَمْ يَكُنْ قائِمًا رَدَّ قِيمَتَهُ إنْ كانَ مُوسِرًا، فَإنْ كانَ مُعْسِرًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، ولا يُتْبَعُ بِهِ دَيْنًا.
والأوَّلُ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ. والثّانِي مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ. والثّالِثُ مَذْهَبُ مالِكٍ. وقَطْعُ السّارِقِ كانَ مَعْرُوفًا في الجاهِلِيَّةِ فَأقَرَّهُ الإسْلامُ.
وَعَقَدَ ابْنُ الكَلْبِي بابًا لِمَن قُطِعَ في الجاهِلِيَّةِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِينَ سَرَقُوا غَزالَ الكَعْبَةِ فَقُطِعُوا في عَهْدِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وذَكَرَ مِمَّنْ قُطِعَ في السَّرِقَةِ عَوْفَ بْنَ عَبْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، ومَقِيسَ بْنَ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَهْمٍ وغَيْرِهِما، وأنَّ عَوْفًا السّابِقَ لِذَلِكَ، انْتَهى.
وَكانَ مِن هَدايا الكَعْبَةِ صُورَةُ غَزالَيْنِ مِن ذَهَبٍ، أهْدَتْهُما الفُرْسُ لِبَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ، كَما عَقَدَهُ البَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ في نَظْمِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ:
وَمِن خَباياهُ غَزالًا ذَهَبْ ∗∗∗ أهْدَتْهُما الفُرْسُ لِبَيْتِ العَرَبْ
وَقالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: وقَدْ قُطِعَ السّارِقُ في الجاهِلِيَّةِ، وأوَّلُ مَن حَكَمَ بِقَطْعِهِ في الجاهِلِيَّةِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، فَأمَرَ اللَّهُ بِقَطْعِهِ في الإسْلامِ، فَكانَ أوَّلُ سارِقٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الإسْلامِ مِنَ الرِّجالِ الخِيارَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مُنافٍ، ومِنَ النِّساءِ مُرَّةَ بِنْتَ سُفْيانَ بْنِ عَبْدِ الأسَدِ مَن بَنِي مَخْزُومٍ، وقَطَعَ أبُو بَكْرٍ يَدَ اليَمَنِيِّ الَّذِي سَرَقَ العَقْدَ. وقَطَعَ عُمَرُ يَدَ ابْنِ سَمُرَةَ أخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ اه.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ما ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن أنَّ المَخْزُومِيَّةَ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَطَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَها أوَّلًا هي مُرَّةُ بِنْتُ سُفْيانَ خِلافَ التَّحْقِيقِ، والتَّحْقِيقُ أنَّها فاطِمَةُ بِنْتُ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الأسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ، وهي بِنْتُ أخِي أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأسَدِ الصَّحابِيِّ الجَلِيلِ، الَّذِي كانَ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ، قُتِلَ أبُوها كافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقَطْعُ النَّبِيِّ ﷺ يَدَها وقَعَ في غَزْوَةِ الفَتْحِ، وأمّا سَرِقَةُ أُمِّ عَمْرِو بِنْتِ سُفْيانَ بْنِ عَبْدِ الأسَدِ ابْنَةِ عَمِّ المَذْكُورَةِ، وقَطْعُ النَّبِيِّ ﷺ يَدَها فَفي حَجَّةِ الوَداعِ، بَعْدَ قِصَّةِ الأوْلى بِأكْثَرَ مِن سَنَتَيْنِ.
فَإنْ قِيلَ: أخْرَجَ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما، وأصْحابُ السُّنَنِ وغَيْرُهم مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَطَعَ في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَراهِمَ»، وفي لَفْظِ بَعْضِهِمْ قِيمَتُهُ ثَلاثَةُ دَراهِمَ. وأخْرَجَ الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما، وأصْحابُ السُّنَنِ غَيْرَ ابْنِ ماجَهْ وغَيْرُهم مِن حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنَّ
«النَّبِيَّ ﷺ ”كانَ يَقْطَعُ يَدَ السّارِقِ في رُبْعِ دِينارِ فَصاعِدًا»“ والأحادِيثُ بِمِثْلِ هَذا كَثِيرَةٌ جِدًّا، مَعَ أنَّهُ عُرِفَ مِنَ الشَّرْعِ أنَّ اليَدَ فِيها نِصْفُ الدِّيَةِ، وِدِيَةُ الذَّهَبِ ألْفُ دِينارٍ. فَتَكُونُ دِيَةُ اليَدِ خَمْسَمِائَةِ دِينارٍ، فَكَيْفَ تُؤْخَذُ في مُقابَلَةِ رُبْعِ دِينارٍ ؟ وما وجْهُ العَدالَةِ والإنْصافِ في ذَلِكَ.
فالجَوابُ: أنَّ هَذا النَّوْعَ مِنِ اعْتِراضاتِ المُلْحِدِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، هو الَّذِي نَظَمَهُ المِعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ∗∗∗ ما بالُها قُطِعَتْ في رُبْعِ دِينارِ
وَلِلْعُلَماءِ عَنْهُ أجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ نَظْمًا ونَثْرًا؛ مِنها قَوْلُ القاضِي عَبْدُ الوَهّابِ مُجِيبًا لَهُ في بَحْرِهِ ورَوِيِّهِ:
عِزُّ الأمانَةِ أغْلاها وأرْخَصَها ∗∗∗ ذُلُّ الخِيانَةِ فافْهَمْ حِكْمَةَ البارِي
وَقالَ بَعْضُهم: لَمّا خانَتْ هانَتْ. ومِنَ الواضِحِ: أنَّ تِلْكَ اليَدَ الخَسِيسَةَ الخائِنَةَ لَمّا تَحَمَّلَتْ رَذِيلَةَ السَّرِقَةِ وإطْلاقَ اسْمِ السَّرِقَةِ عَلَيْها في شَيْءٍ حَقِيرٍ كَثَمَنِ المِجَنِّ والأُتْرُجَّةِ، كانَ مِنَ المُناسِبِ المَعْقُولِ أنْ تُؤْخَذَ في ذَلِكَ الشَّيْءِ القَلِيلِ، الَّذِي تَحَمَّلَتْ فِيهِ هَذِهِ الرَّذِيلَةَ الكُبْرى.
وَقالَ الفَخْرُ الرّازِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ثُمَّ إنّا أجَبْنا عَنْ هَذا الطَّعْنِ، بِأنَّ الشَّرْعَ إنَّما قَطَعَ يَدَهُ بِسَبَبِ أنَّهُ تَحَمَّلَ الدَّناءَةَ والخَساسَةَ في سَرِقَةِ ذَلِكَ القَدْرِ القَلِيلِ. فَلا يَبْعُدُ أنَّ يُعاقِبَهُ الشَّرْعُ بِسَبَبِ تِلْكَ الدَّناءَةِ هَذِهِ العُقُوبَةَ العَظِيمَةَ اه.
فانْظُرْ ما يَدْعُو إلَيْهِ القُرْآنُ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ، والتَّنَزُّهِ عَمّا لا يَلِيقُ، وقَطْعُ يَدِ السّارِقِ في رُبْعِ دِينارٍ فَصاعِدًا يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّشْرِيعَ السَّماوِيَّ يَضَعُ دَرَجَةَ الخائِنِ مِن خَمْسِمِائَةِ دَرَجَةٍ إلى رُبْعِ دَرَجَةٍ، فانْظُرْ هَذا الحَطَّ العَظِيمَ لِدَرَجَتِهِ بِسَبَبِ ارْتِكابِ الرَّذائِلِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النّاسِ قَطَعَ يَدِ السّارِقِ في السَّرِقَةِ خاصَّةً دُونَ غَيْرِها مِنَ الجِناياتِ عَلى الأمْوالِ، كالغَصْبِ، والِانْتِهابِ، ونَحْوِ ذَلِكَ.
قالَ المازِرِيُّ ومَن تَبِعَهُ: صانَ اللَّهُ الأمْوالَ بِإيجابِ قَطْعِ سارِقِها، وخَصَّ السَّرِقَةَ لِقِلَّةِ ما عَداها بِالنِّسْبَةِ إلَيْها، مِنَ الِانْتِهابِ والغَصْبِ، ولِسُهُولَةِ إقامَةِ البَيِّنَةِ عَلى ما عَدا السَّرِقَةَ بِخِلافِها، وشَدَّدَ العُقُوبَةَ فِيها لِيَكُونَ أبْلَغَ في الزَّجْرِ، ولَمْ يَجْعَلْ دِيَةَ الجِنايَةِ عَلى العُضْوِ المَقْطُوعِ مِنها بِقَدْرِ ما يَقْطَعُ فِيهِ حِمايَةً لِلْيَدِ، ثُمَّ لَمّا خانَتْ هانَتْ، وفي ذَلِكَ إثارَةٌ إلى الشُّبْهَةِ الَّتِي نُسِبَتْ إلى أبِي العَلاءِ المَعَرِّيِّ في قَوْلِهِ:
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ∗∗∗ ما بالُها قُطِعَتْ في رُبْعِ دِينارِ
فَأجابَهُ القاضِي عَبْدُ الوَهّابِ المالِكِيُّ بِقَوْلِهِ:
صِيانَةُ العُضْوِ أغْلاها وأرْخَصَها ∗∗∗ حِمايَةُ المالِ فافْهَمْ حِكْمَةَ البارِي
وَشَرْحُ ذَلِكَ: أنَّ الدِّيَةَ لَوْ كانَتْ رُبْعَ دِينارٍ لَكَثُرَتِ الجِناياتُ عَلى الأيْدِي، ولَوْ كانَ نِصابُ القَطْعِ خَمْسَمِائَةِ دِينارٍ لَكَثُرَتِ الجِناياتُ عَلى الأمْوالِ، فَظَهَرَتِ الحِكْمَةُ في الجانِبَيْنِ، وكانَ في ذَلِكَ صِيانَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَقَدْ عَسَرَ فَهْمُ المَعْنى المُقَدَّمِ ذِكْرُهُ في الفَرْقِ بَيْنَ السَّرِقَةِ وبَيْنَ النَّهْبِ ونَحْوِهِ عَلى بَعْضِ مُنْكِرِي القِياسِ، فَقالَ: القَطْعُ في السَّرِقَةِ دُونَ الغَصْبِ وغَيْرِهِ غَيْرُ مَعْقُولِ المَعْنى؛ فَإنَّ الغَصْبَ أكْثَرُ هَتْكًا لِلْحُرْمَةِ مِنَ السَّرِقَةِ، فَدَلَّ عَلى عَدَمِ اعْتِبارِ القِياسِ، لِأنَّهُ إذا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ في الأعْلى فَلا يُعْمَلُ بِهِ في المُساوِي.
وَجَوابُهُ: أنَّ الأدِلَّةَ عَلى العَمَلِ بِالقِياسِ أشْهَرُ مِن أنْ يُتَكَلَّفَ لِإيرادِها، وسَتَأْتِي الإشارَةُ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ في كِتابِ الأحْكامِ. اه بِواسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ في فَتْحِ البارِي.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وبَيْنَ الغَصْبِ ونَحْوِهِ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ المازِرِيُّ ظاهِرٌ، وهو أنَّ النَّهْبَ والغَصْبَ ونَحْوَهُما قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى السَّرِقَةِ، ولِأنَّ الأمْرَ الظّاهِرَ غالِبًا تُوجَدُ البَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِخِلافِ السَّرِقَةِ، فَإنَّ السّارِقَ إنَّما يَسْرِقُ خِفْيَةً بِحَيْثُ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أحَدٌ، فَيَعْسُرُ الإنْصافُ مِنهُ، فَغَلُظَتْ عَلَيْهِ الجِنايَةُ لِيَكُونَ أبْلَغَ في الزَّجْرِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ: رَجْمُ الزّانِي المُحْصَنِ ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى، وجَلْدُ الزّانِي البِكْرِ مِائَةَ جَلْدَةٍ ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى.
أما الرَّجْمُ: فَهو مَنصُوصٌ بِآيَةٍ مَنسُوخَةِ التِّلاوَةِ باقِيَةُ الحِكَمِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ”الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ“ .
وَقَدْ قَدَّمْنا ذَمَّ القُرْآنِ لِلْمُعْرِضِ عَمّا في التَّوْراةِ مِن حُكْمِ الرَّجْمِ، فَدَلَّ القُرْآنُ في آياتٍ مُحْكَمَةٍ كَقَوْلِهِ:
﴿يَقُولُونَ إنْ أُوتِيتُمْ هَذا فَخُذُوهُ﴾ الآيَةَ
[المائدة: ٤١]، وقَوْلِهِ:
﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ الآيَةَ
[آل عمران: ٢٣] عَلى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّجْمِ في شَرِيعَةِ نَبِيِّنا ﷺ لِذَمِّهِ في كِتابِنا لِلْمُعْرِضِ عَنْهُ كَما تَقَدَّمَ.
وَما ذَكَرْنا مِن أنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ ثابِتٌ بِالقُرْآنِ لا يُنافِي
«قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَجَمَ امْرَأةً يَوْمَ الجُمْعَةِ: ”رَجَمْتُها بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ»“؛ لِأنَّ السُّنَّةَ هي الَّتِي بَيَّنَتْ أنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ باقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلاوَتِها.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ المَشْهُورِ: ”
«فَكانَ مِمّا أُنْزِلُ إلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْناها وعَقَلْناها ووَعَيْناها، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجَمْنا بَعْدَهُ» . . .“ الحَدِيثَ.
والمُلْحِدُونَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّجْمَ قَتْلٌ وحْشِيٌّ لا يُناسِبُ الحِكْمَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ، ولا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مِثْلُهُ في الأنْظِمَةِ الَّتِي يُعامَلُ بِها الإنْسانُ، لِقُصُورِ إدْراكِهِمْ عَنْ فَهْمِ حِكَمِ اللَّهِ البالِغَةِ في تَشْرِيعِهِ.
والحاصِلُ: أنَّ الرَّجْمَ عُقُوبَةٌ سَماوِيَّةٌ مَعْقُولَةُ المَعْنى؛ لِأنَّ الزّانِيَ لَمّا أدْخَلَ فَرَّجَهُ فِي فَرْجِ امْرَأةٍ عَلى وجْهِ الخِيانَةِ والغَدْرِ، فَإنَّهُ ارْتَكَبَ أخَسَّ جَرِيمَةٍ عَرَفَها الإنْسانُ بِهَتْكِ الأعْراضِ، وتَقْذِيرِ الحُرُماتِ، والسَّعْيِ في ضَياعِ أنْسابِ المُجْتَمَعِ الإنْسانِيِّ، والمَرْأةُ الَّتِي تُطاوِعُهُ في ذَلِكَ مِثْلُهُ، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَهو نَجِسٌ قَذِرٌ لا يَصْلُحُ لِلْمُصاحَبَةِ، فَعاقَبَهُ خالِقُهُ الحَكِيمُ الخَبِيرُ بِالقَتْلِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ البالِغَ غايَةَ الخُبْثِ والخِسَّةِ، وشَرَّ أمْثالِهِ عَنِ المُجْتَمَعِ، ويُطَهِّرُهُ هو مِنَ التَّنْجِيسِ بِتِلْكَ القاذُورَةِ الَّتِي ارْتَكَبَ، وجَعَلَ قِتْلَتَهُ أفْظَعَ قِتْلَةٍ؛ لِأنَّ جَرِيمَتَهُ أفْظَعُ جَرِيمَةٍ، والجَزاءُ مِن جِنْسِ العَمَلِ.
وَقَدْ دَلَّ الشَّرْعُ المُطَهَّرُ عَلى أنَّ إدْخالَ الفَرْجِ في الفَرْجِ المَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا يُوجِبُ الغُسْلَ، والمَنعَ مِن دُخُولِ المَسْجِدِ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما حَتّى يَغْتَسِلَ بِالماءِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ يَتَطَلَّبُ طَهارَةً في الأصْلِ، وطَهارَتُهُ المَعْنَوِيَّةُ إنْ كانَ حَرامًا قَتْلُ صاحِبِهِ المُحْصَنِ، لِأنَّهُ إنْ رُجِمَ كَفَّرَ ذَلِكَ عَنْهُ ذَنْبَ الزِّنى، ويَبْقى عَلَيْهِ حَقُّ الآدَمِيِّ؛ كالزَّوْجِ إنْ زَنى بِمُتَزَوِّجَةٍ، وحَقُّ الأوْلِياءِ في إلْحاقِ العارِ بِهِمْ كَما أشَرْنا لَهُ سابِقًا.
وَشِدَّةُ قُبْحِ الزِّنى أمْرٌ مَرْكُوزٌ في الطَّبائِعِ، وقَدْ قالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وهي كافِرَةٌ: ما أقْبَحَ ذَلِكَ الفِعْلَ حَلالًا ! فَكَيْفَ بِهِ وهو حَرامٌ. وغَلَّظَ جَلَّ وعَلا عُقُوبَةَ المُحْصَنِ بِالرَّجْمِ تَغْلِيظًا أشَدَّ مِن تَغْلِيظِ عُقُوبَةِ البِكْرِ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ؛ لِأنَّ المُحْصَنَ قَدْ ذاقَ عُسَيْلَةَ النِّساءِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ، فَلَمّا كانَ الدّاعِي إلى الزِّنى أعْظَمَ، كانَ الرّادِعُ عَنْهُ أعْظَمَ وهو الرَّجْمُ.
وَأمّا جَلْدُ الزّانِي البِكْرِ ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى مِائَةَ جَلْدَةٍ فَهَذا مَنصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ الآيَةَ
[النور: ٢]؛ لِأنَّ هَذِهِ العُقُوبَةَ تَرْدَعُهُ وأمْثالَهُ عَنِ الزِّنى، وتُطَهِّرُهُ مِن ذَنْبِ الزِّنى كَما تَقَدَّمَ. وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَفْصِيلُ ما يَلْزَمُ الزُّناةَ مِن ذُكُورٍ وإناثٍ، وعَبِيدٍ وأحْرارٍ ”في سُورَةِ النُّورِ“ .
وَتَشْرِيعُ الحَكِيمِ الخَبِيرِ جَلَّ وعَلا مُشْتَمِلٌ عَلى جَمِيعِ الحِكَمِ مِن دَرْءِ المَفاسِدِ وجَلْبِ المَصالِحِ، والجَرْيِ عَلى مَكارِمِ الأخْلاقِ، ومَحاسِنِ العاداتِ، ولا شَكَّ أنَّ مِن أقْوَمِ الطُّرُقِ مُعاقَبَةُ فَظِيعِ الجِنايَةِ بِعَظِيمِ العِقابِ جَزاءً وِفاقًا.
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ: هَدْيُهُ إلى أنَّ التَّقَدُّمَ لا يُنافِي التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ، فَما خَيَّلَهُ أعْداءُ الدِّينِ لِضِعافِ العُقُولِ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلى الإسْلامِ: مِن أنَّ التَّقَدُّمَ لا يُمْكِنُ إلّا بِالِانْسِلاخِ مِن دِينِ الإسْلامِ، باطِلٌ لا أساسَ لَهُ، والقُرْآنُ الكَرِيمُ يَدْعُو إلى التَّقَدُّمِ في جَمِيعِ المَيادِينِ الَّتِي لَها أهَمِّيَّةٌ في دُنْيا أوْ دِينٍ، ولَكِنَّ ذَلِكَ التَّقَدُّمَ في حُدُودِ الدِّينِ، والتَّحَلِّي بِآدابِهِ الكَرِيمَةِ، وتَعالِيمِهِ السَّماوِيَّةِ؛ قالَ تَعالى:
﴿وَأعِدُّوا لَهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ﴾ الآيَةَ
[الأنفال: ٦٠]، وقالَ:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلًا ياجِبالُ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ وألَنّا لَهُ الحَدِيدَ﴾ ﴿أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وقَدِّرْ في السَّرْدِ واعْمَلُوا صالِحًا﴾ الآيَةَ
[سبإ: ١٠، ١١] . فَقَوْلُهُ:
﴿أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وقَدِّرْ في السَّرْدِ﴾ يَدُلُّ عَلى الِاسْتِعْدادِ لِمُكافَحَةِ العَدُوِّ، وقَوْلِهِ:
﴿واعْمَلُوا صالِحًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الِاسْتِعْدادَ لِمُكافَحَةِ العَدُوِّ في حُدُودِ الدِّينِ الحَنِيفِ، وداوُدُ مِن أنْبِياءِ ”سُورَةِ الأنْعامِ“ المَذْكُورِينَ فِيها في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ﴾ الآيَةَ
[الأنعام: ٨٤]، وقَدْ قالَ تَعالى مُخاطِبًا لِنَبِيِّنا ﷺ وعَلَيْهِمْ بَعْدَ أنْ ذَكَرَهم:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] .
وَقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ
«عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ سَألَ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما مِن أيْنَ أخَذْتَ السَّجْدَةَ ”في ص“ فَقالَ: أوَما تَقْرَأُ: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ﴾ - إلى قَوْلِهِ تَعالى -
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٨٤ - ٩٠]، فَسَجَدَها داوُدُ، فَسَجَدَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنا مُخاطَبُونَ بِما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ مِمّا أُمِرَ بِهِ داوُدُ، فَعَلَيْنا أنْ نَسْتَعِدَّ لِكِفاحِ العَدُوِّ مَعَ التَّمَسُّكِ بِدِينِنا، وانْظُرْ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿وَأعِدُّوا لَهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ﴾، فَهو أمْرٌ جازِمٌ بِإعْدادِ كُلِّ ما في الِاسْتِطاعَةِ مِن قُوَّةٍ ولَوْ بَلَغَتِ القُوَّةُ مِنَ التَّطَوُّرِ ما بَلَغَتْ، فَهو أمْرٌ جازِمٌ بِمُسايَرَةِ التَّطَوُّرِ في الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وعَدَمِ الجُمُودِ عَلى الحالاتِ الأُوَلِ إذا طَرَأ تَطَوُّرٌ جَدِيدٌ، ولَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ.
وَمِن أوْضَحِ الأدِلَّةِ في ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهم فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكم ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾ الآيَةَ
[النساء: ١٠٢]؛ فَصَلاةُ الخَوْفِ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ تَدُلُّ عَلى لُزُومِ الجَمْعِ بَيْنَ مُكافَحَةِ العَدُوِّ، وبَيْنَ القِيامِ بِما شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وعَلا مِن دِينِهِ، فَأمْرُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ بِإقامَةِ الصَّلاةِ في وقْتِ التِحامِ الكِفاحِ المُسَلَّحِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ دَلالَةً في غايَةِ الوُضُوحِ، وقَدْ قالَ تَعالى:
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥]، فَأمْرُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا عِنْدَ التِحامِ القِتالِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا دَلالَةً واضِحَةً، فالكُفّارُ خَيَّلُوا لِضِعافِ العُقُولِ أنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ والتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ، والسِّماتِ الحَسَنَةِ والأخْلاقِ الكَرِيمَةِ، تَبايَنُ مُقابَلَةٍ كَتَبايُنِ النَّقِيضَيْنِ كالعَدَمِ والوُجُودِ، والنَّفْيِ والإثْباتِ، أوِ الضِّدَّيْنِ كالسَّوادِ والبَياضِ، والحَرَكَةِ والسُّكُونِ، أوِ المُتَضائِفَيْنِ كالأُبُوَّةِ والبُنُوَّةِ، والفَوْقِ والتَّحْتِ، أوِ العَدَمِ والمَلَكَةِ كالبَصَرِ والعَمى.
فَإنَّ الوُجُودَ والعَدَمَ لا يَجْتَمِعانِ في شَيْءٍ واحِدٍ في وقْتٍ واحِدٍ مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ، وكَذَلِكَ الحَرَكَةُ والسُّكُونُ مَثَلًا، وكَذَلِكَ الأُبُوَّةُ والبُنُوَّةُ، فَكُلُّ ذاتٍ ثَبَتَتْ لَها الأُبُوَّةُ لَذاتٍ اسْتَحالَتْ عَلَيْها النُّبُوَّةُ لَها، بِحَيْثُ يَكُونُ شَخْصٌ أبًا وابْنًا لِشَخْصٍ واحِدٍ، كاسْتِحالَةِ اجْتِماعِ السَّوادِ والبَياضِ في نُقْطَةٍ بَسِيطَةٍ، أوِ الحَرَكَةِ والسُّكُونِ في جُرْمٍ، وكَذَلِكَ البَصَرُ والعَمى لا يَجْتَمِعانِ.
فَخَيَّلُوا لَهم أنَّ التَّقَدُّمَ والتَّمَسُّكَ بِالدِّينِ مُتَبايِنانِ تَبايُنَ مُقابَلَةٍ، بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ اجْتِماعُهُما، فَكانَ مِن نَتائِجِ ذَلِكَ انْحِلالُهم مِنَ الدِّينِ رَغْبَةً في التَّقَدُّمِ، فَخَسِرُوا الدُّنْيا والآخِرَةَ ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ والتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ بِالنَّظَرِ إلى العَقْلِ وحْدَهُ، وقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ نُصُوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ إنَّما هي تَبايُنُ المُخالَفَةِ، وضابِطُ المُتَبايِنَيْنِ تَبايُنَ المُخالَفَةِ أنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنهُما في حَدِّ ذاتِها تُبايِنُ حَقِيقَةَ الآخَرِ، ولَكِنَّهُما يُمْكِنُ اجْتِماعُهُما عَقْلًا في ذاتٍ أُخْرى؛ كالبَياضِ والبُرُودَةِ، والكَلامِ والقُعُودِ، والسَّوادِ والحَلاوَةِ.
فَحَقِيقَةُ البَياضِ في حَدِّ ذاتِها تُبايِنُ حَقِيقَةَ البُرُودَةِ، ولَكِنَّ البَياضَ والبُرُودَةَ يُمْكِنُ اجْتِماعُها في ذاتٍ واحِدَةٍ كالثَّلْجِ، وكَذَلِكَ الكَلامُ والقُعُودُ فَإنَّ حَقِيقَةَ الكَلامِ تُبايِنُ حَقِيقَةَ القُعُودِ، مَعَ إمْكانِ أنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الواحِدُ قاعِدًا مُتَكَلِّمًا في وقْتٍ واحِدٍ. وهَكَذا فالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ والتَّقَدُّمِ بِالنَّظَرِ إلى حُكْمِ العَقْلِ مِن هَذا القَبِيلِ، فَكَما أنَّ الجِرْمَ الأبْيَضَ يَجُوزُ عَقْلًا أنْ يَكُونَ بارِدًا كالثَّلْجِ، والإنْسانَ القاعِدَ يَجُوزُ عَقْلًا أنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا، فَكَذَلِكَ المُتَمَسُّكُ بِالدِّينِ يَجُوزُ عَقْلًا أنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا، إذْ لا مانِعَ في حُكْمِ العَقْلِ مِن كَوْنِ المُحافِظِ عَلى امْتِثالِ أوامِرِ اللَّهِ واجْتِنابِ نَواهِيهِ، مُشْتَغِلًا في جَمِيعِ المَيادِينِ التَّقَدُّمِيَّةِ كَما لا يَخْفى، وكَما عَرَفَهُ التّارِيخُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ ومَن تَبِعَهم بِإحْسانٍ.
أمّا بِالنَّظَرِ إلى نُصُوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ
• كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ﴾ الآيَةَ
[الحج: ٤٠] • وقَوْلِهِ:
﴿وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧]،
• وقَوْلِهِ:
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنا المُرْسَلِينَ﴾ إنَّهم
﴿لَهُمُ المَنصُورُونَ﴾ ﴿وَإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٣] • وقَوْلِهِ:
﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: ٢١] • وقَوْلِهِ:
﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ الآيَةَ
[غافر: ٥١]،
• وقَوْلِهِ:
﴿قاتِلُوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكم ويُخْزِهِمْ ويَنْصُرْكم عَلَيْهِمْ ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٤]،
ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ وما في مَعْناها مِنَ الأحادِيثِ.
فَإنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ والتَّقَدُّمِ، كالنِّسْبَةِ بَيْنَ المَلْزُومِ ولازِمِهِ؛ لِأنَّ التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ مَلْزُومٌ لِلتَّقَدُّمِ، بِمَعْنى أنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّقَدُّمُ، كَما صَرَّحَتْ بِهِ الآياتُ المَذْكُورَةُ، ومَعْلُومٌ أنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ المَلْزُومِ ولازِمِهِ لا تَعْدُو أحَدَ أمْرَيْنِ: إمّا أنْ تَكُونَ المُساواةَ أوِ الخُصُوصَ المُطْلَقَ؛ لِأنَّ المَلْزُومَ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ أعَمَّ مَن لازِمِهِ، وقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُساوِيًا لَهُ أوْ أخَصَّ مِنهُ، ولا يَتَعَدّى ذَلِكَ، ومِثالُ ذَلِكَ: الإنْسانُ مَثَلًا، فَإنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْبَشَرِيَّةِ الحَيَوانِيَّةِ، بِمَعْنى أنَّ الإنْسانَ يَلْزَمُ عَلى كَوْنِهِ إنْسانًا أنْ يَكُونَ بَشَرًا وأنْ يَكُونَ حَيَوانًا، وأحَدُ هَذَيْنِ اللّازِمَيْنِ مُساوٍ لَهُ في الماصَدَقِ وهو البَشَرُ. والثّانِي أعَمُّ مِنهُ ما صِدْقًا وهو الحَيَوانُ، فالإنْسانُ أخَصُّ مِنهُ خُصُوصًا مُطْلَقًا كَما هو مَعْرُوفٌ.
فانْظُرْ كَيْفَ خَيَّلُوا لَهم أنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ المَلْزُومِ ولازِمِهِ كالتَّنافِي الَّذِي بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ والضِّدَّيْنِ، وأطاعُوهم في ذَلِكَ لِسَذاجَتِهِمْ وجَهْلِهِمْ وعَمى بَصائِرِهِمْ، فَهم ما تَقَوَّلُوا عَلى الدِّينِ الإسْلامِيِّ ورَمَوْهُ بِما هو مِنهُ بَرِيءٌ إلّا لِيُنَفِّرُوا مِنهُ ضِعافَ العُقُولِ مِمَّنْ يَنْتَمِي لِلْإسْلامِ لِيُمْكِنَهُمُ الِاسْتِيلاءُ عَلَيْهِمْ، لِأنَّهم لَوْ عَرَفُوا الدِّينَ حَقًّا واتَّبَعُوهُ لَفَعَلُوا بِهِمْ ما فَعَلَ أسْلافُهم بِأسْلافِهِمْ، فالدِّينُ هو هو، وصِلَتُهُ بِاللَّهِ هي هي، ولَكِنَّ المُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ في جُلِّ أقْطارِ الدُّنْيا تَنَكَّرُوا لَهُ، ونَظَرُوا إلَيْهِ بِعَيْنِ المَقْتِ والِازْدِراءِ، فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ أرِقّاءَ لِلْكَفَرَةِ الفَجَرَةِ، ولَوْ راجَعُوا دِينَهم لَرَجَعَ لَهم عِزُّهم ومَجْدُهم، وقادُوا جَمِيعَ أهْلِ الأرْضِ، وهَذا مِمّا لا شَكَّ فِيهِ:
﴿ذَلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهم ولَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكم بِبَعْضٍ﴾ [محمد: ٤] .
* * *وَمِن هَدْيِ القُرْآنِ لِلَّتِي هي أقْوَمُ بَيانُهُ أنَّهُ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعًا غَيْرَ التَّشْرِيعِ الَّذِي جاءَ بِهِ سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ، فاتِّباعُهُ لِذَلِكَ التَّشْرِيعِ المُخالِفِ كُفْرٌ بَواحٌ، مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ الإسْلامِيَّةِ، ولَمّا قالَ الكُفّارُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: الشّاةُ تُصْبِحُ مَيِّتَةً مَن قَتَلَها ؟ فَقالَ لَهم: ”اللَّهُ قَتَلَها“ فَقالُوا لَهُ: ما ذَبَحْتُمْ بِأيْدِيهِمْ حَلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ الكَرِيمَةِ تَقُولُونَ إنَّهُ حَرامٌ ! فَأنْتُمْ إذَنْ أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ ؟ أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكم وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١] وحَذْفُ الفاءِ مِن قَوْلِهِ:
﴿إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى قَسَمٍ مَحْذُوفٍ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ في الخُلاصَةِ:
واحْذِفْ لَدى اجْتِماعِ شَرْطٍ وقَسَمٍ جَوابَ ما أخَّرْتَ فَهو مُلْتَزَمْ
إذْ لَوْ كانَتِ الجُمْلَةُ جَوابًا لِلشَّرْطِ لاقْتَرَنَتْ بِالفاءِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ في الخُلاصَةِ أيْضًا:
واقْرِنْ بِفا حَتْمًا جَوابًا لَوْ جَعَلْ ∗∗∗ شَرْطًا لَأنَّ أوْ غَيْرَها لَمْ يَنْجَعِلْ
فَهُوَ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وعَلا أقْسَمَ بِهِ عَلى أنَّ مَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطانَ في تَحْلِيلِ المَيْتَةِ أنَّهُ مُشْرِكٌ، وهَذا الشِّرْكُ مُخْرِجٌ عَنِ المِلَّةِ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ، وسَيُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ يَوْمَ القِيامَةِ بِقَوْلِهِ:
﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يابَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: ٦٠] لِأنَّ طاعَتَهُ في تَشْرِيعِهِ المُخالِفِ لِلْوَحْيِ هي عِبادَتُهُ، وقالَ تَعالى:
﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلّا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ [النساء: ١١٧]، أيْ ما يَعْبُدُونَ إلّا شَيْطانًا، وذَلِكَ بِاتِّباعِهِمْ تَشْرِيعَهُ. وقالَ:
﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ﴾ الآيَةَ
[الأنعام: ١٣٧]، فَسَمّاهم شُرَكاءَ لِأنَّهم أطاعُوهم في مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعالى، وقالَ عَنْ خَلِيلِهِ:
﴿ياأبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ﴾ الآيَةَ
[مريم: ٤٤]، أيْ بِطاعَتِهِ في الكُفْرِ والمَعاصِي، ولَمّا سَألَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا﴾ الآيَةَ
[التوبة: ٣١]، بَيَّنَ لَهُ أنَّ مَعْنى ذَلِكَ أنَّهم أطاعُوهم في تَحْرِيمِ ما أحَلَّ اللَّهُ وتَحْلِيلِ ما حَرَّمَ، والآياتُ بِمِثْلِ هَذا كَثِيرَةٌ.
والعَجَبُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ غَيْرَ تَشْرِيعِ اللَّهِ ثُمَّ يَدَّعِي الإسْلامَ؛ كَما قالَ تَعالى:
﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُضِلَّهم ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ٦٠]، وقالَ:
﴿وَمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤]، وقالَ:
﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ أبْتَغِي حَكَمًا وهو الَّذِي أنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ [الأنعام: ١١٤] .
(١)
(١) اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله