الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا﴾ .
بَيَّنَ جَلَّ وعَلا في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا، ونَهاهُ عَنِ الإسْرافِ في القَتْلِ، ووَعَدَهُ بِأنَّهُ مَنصُورٌ.
والنَّهْيُ عَنِ الإسْرافِ في القَتْلِ هَنا شامِلٌ ثَلاثَ صُوَرٍ:
الأُولى: أنْ يَقْتُلَ اثْنَيْنِ أوْ أكْثَرَ بِواحِدٍ، كَما كانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُهُ في الجاهِلِيَّةِ، كَقَوْلِ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمّا قَتَلَ بُجَيْرَ بْنَ الحارِثِ بْنِ عَبّادٍ في حَرْبِ البَسُوسِ المَشْهُورَةِ: بُؤْ بِشَسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ؛ فَغَضِبَ الحارِثُ بْنُ عَبّادٍ، وقالَ قَصِيدَتَهُ المَشْهُورَةَ:
؎قَرِّبا مَرْبَطَ النَّعامَةِ مِنِّي لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عَنْ حِيالِ
؎قَرِّبا مَرْبَطَ النَّعامَةِ مِنِّي ∗∗∗ إنَّ بَيْعَ الكِرامِ بِالشَّسْعِ غالِي
، إلَخْ
وَقالَ مُهَلْهِلٌ أيْضًا:
؎كُلُّ قَتِيلٍ في كُلَيْبٍ غَرَّهُ ∗∗∗ حَتّى يَنالَ القَتْلَ آلُ مُرَّهْ
وَمَعْلُومٌ أنَّ قَتْلَ جَماعَةٍ بِواحِدٍ لَمْ يَشْتَرِكُوا في قَتْلِهِ: إسْرافٌ في القَتْلِ داخِلٌ في النَّهْيِ المَذْكُورِ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
(p-٨٨)الثّانِيَةُ أنْ يَقْتُلَ بِالقَتِيلِ واحِدًا فَقَطْ ولَكِنَّهُ غَيْرُ القاتِلِ؛ لِأنَّ قَتْلَ البَرِيءِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ إسْرافٌ في القَتْلِ، مَنهِيٌّ عَنْهُ في الآيَةِ أيْضًا.
الثّالِثَةُ: أنْ يَقْتُلَ نَفْسَ القاتِلِ ويُمَثِّلَ بِهِ، فَإنَّ زِيادَةَ المُثْلَةِ إسْرافٌ في القَتْلِ أيْضًا.
وَهَذا هو التَّحْقِيقُ في مَعْنى الآيَةِ الكَرِيمَةِ، فَما ذَكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، ومالَ إلَيْهِ الرّازِيُّ في تَفْسِيرِهِ بَعْضَ المَيْلِ، مِن أنَّ مَعْنى الآيَةِ: فَلا يُسْرِفُ الظّالِمُ الجانِي في القَتْلِ؛ تَخْوِيفًا لَهُ مِنَ السُّلْطانِ، والنَّصْرِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِوَلِيِّ المَقْتُولِ، لا يَخْفى ضَعْفُهُ، وأنَّهُ لا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: ﴿إنَّهُ كانَ مَنصُورًا﴾ [الإسراء: ٣٣] .
وَهَذا السُّلْطانُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِوَلِيِّ المَقْتُولِ لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنا بَيانًا مُفَصَّلًا، ولَكِنَّهُ أشارَ في مَوْضِعَيْنِ إلى أنَّ هَذا السُّلْطانَ هو ما جَعَلَهُ اللَّهُ مِنَ السُّلْطَةِ لِوَلِيِّ المَقْتُولِ عَلى القاتِلِ، مِن تَمْكِينِهِ مِن قَتْلِهِ إنْ أحَبَّ، ولا يُنافِي ذَلِكَ أنَّهُ إنْ شاءَ عَفا عَلى الدِّيَةِ أوْ مَجّانًا.
الأوَّلُ: قَوْلُهُ هُنا: ﴿فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ﴾ [الإسراء: ٣٣] بَعْدَ ذِكْرِ السُّلْطانِ المَذْكُورِ؛ لِأنَّ النَّهْيَ عَنِ الإسْرافِ في القَتْلِ مُقْتَرِنًا بِذِكْرِ السُّلْطانِ المَذْكُورِ يَدُلُّ عَلى أنَّ السُّلْطانَ المَذْكُورَ هو ذَلِكَ القَتْلُ المَنهِيُّ عَنِ الإسْرافِ فِيهِ.
المَوْضِعُ الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ - إلى قَوْلِهِ - ﴿وَلَكم في القِصاصِ حَياةٌ ياأُولِي الألْبابِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٧٨ - ١٧٩]، فَهو يَدُلُّ عَلى أنَّ السُّلْطانَ المَذْكُورَ هو ما تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ القِصاصِ هَذِهِ، وخَيْرُ ما يُبَيَّنُ بِهِ القُرْآنُ القُرْآنُ.
* * *
مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ
المَسْألَةُ الأُولى: يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ: مَظْلُومًا أنَّ مَن قَتَلَ غَيْرَ مَظْلُومٍ لَيْسَ لِوَلِيِّهِ سُلْطانٌ عَلى قاتِلِهِ، وهو كَذَلِكَ؛ لِأنَّ مَن قُتِلَ بِحَقٍّ فَدَمَهُ حَلالٌ، ولا سُلْطانَ لِوَلِيِّهِ في قَتْلِهِ، كَما قَدَّمْنا بِذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ المُتَّفِقِ عَلَيْهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَحُلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلّا بِإحْدى ثَلاثٍ: الثَّيِّبِ الزّانِي، والنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، والتّارِكِ لِدِينِهِ المُفارِقِ لِلْجَماعَةِ» كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ في سُورَةِ ”المائِدَةِ“ .
وَبَيَّنا هَذا المَفْهُومَ في قَوْلِهِ: مَظْلُومًا يَظْهَرُ بِهِ بَيانُ المَفْهُومِ في قَوْلِهِ أيْضًا (p-٨٩)﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الإسراء: ٣٣] .
واعْلَمْ أنَّهُ قَدْ ورَدَ في بَعْضِ الأدِلَّةِ أسْبابٌ أُخَرُ لِإباحَةِ قَتْلِ المُسْلِمِ غَيْرَ الثَّلاثِ المَذْكُورَةِ، عَلى اخْتِلافٍ في ذَلِكَ بَيْنَ العُلَماءِ. مِن ذَلِكَ: المُحارِبُونَ إذا لَمَّ يَقْتُلُوا أحَدًا. عِنْدَ مَن يَقُولُ بِأنَّ الإمامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأُمُورِ الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا﴾ الآيَةَ [المائدة: ٣٣]، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ ”المائِدَةِ“ .
وَمِن ذَلِكَ: قَتْلُ الفاعِلِ والمَفْعُولِ بِهِ في فاحِشَةِ اللِّواطِ، وقَدْ قَدَّمَنا الأقْوالَ في ذَلِكَ وأدِلَّتَها بِإيضاحٍ في سُورَةِ ”هُودٍ“ .
وَأمّا قَتْلُ السّاحِرِ فَلا يَبْعُدُ دُخُولُهُ في قَتْلِ الكافِرِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: «التّارِكِ لِدِينِهِ المُفارِقِ لِلْجَماعَةِ» لِدَلالَةِ القُرْآنِ عَلى كُفْرِ السّاحِرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٠٢]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٠٢]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ﴾ [البقرة: ١٠٢] .
وَأمّا قَتْلُ مانِعِ الزَّكاةِ فَإنَّهُ إنْ أنْكَرَ وُجُوبَها فَهو كافِرٌ مُرْتَدٌّ داخِلٌ في «التّارِكِ لِدِينِهِ المُفارِقِ لِلْجَماعَةِ»، وأمّا إنْ مَنَعَها وهو مُقِرٌّ بِوُجُوبِها فالَّذِي يَجُوزُ فِيهِ: القِتالُ لا القَتْلُ، وبَيْنَ القِتالِ والقَتْلِ فَرْقٌ واضِحٌ مَعْرُوفٌ.
وَأمّا ما ذَكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِن أنَّ مَن أتى بَهِيمَةً يُقْتَلُ هو وتُقْتَلُ البَهِيمَةُ مَعَهُ لِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن وقَعَ عَلى بَهِيمَةٍ فاقْتُلُوهُ واقْتُلُوها مَعَهُ» . قالَ الهَيْثَمِيُّ في ”مَجْمَعِ الزَّوائِدِ“: رَواهُ أبُو يَعْلى، وفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، وحَدِيثُهُ حَسَنٌ، وبَقِيَّةُ رِجالِهِ ثِقاتٌ، ورَواهُ ابْنُ ماجَهْ مِن طَرِيقِ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّهُ لا يُقْتَلُ؛ لِأنَّ حَصْرَ ما يُباحُ بِهِ دَمُ المُسْلِمِ في الثَّلاثِ المَذْكُورَةِ في حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ المُتَّفِقِ عَلَيْهِ أوْلى بِالتَّقْدِيمِ مِن هَذا الحَدِيثِ، مَعَ التَّشْدِيدِ العَظِيمِ في الكِتابِ والسَّنَةِ في قَتْلِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَسائِلِ المَذْكُورَةِ في الفُرُوعِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هَذا الحَصْرُ في الثَّلاثِ المَذْكُورَةِ في حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ (p-٩٠)الثّابِتِ في الصَّحِيحِ لا يَنْبَغِي أنْ يُزادَ عَلَيْهِ، إلّا ما ثَبَتَ بِوَحْيٍ ثُبُوتًا لا مَطْعَنَ فِيهِ، لِقُوَّتِهِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَدْ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْتُولَ خَطَأً لا يَدْخُلُ في هَذا الحُكْمِ؛
• كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ ولَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥]،
• وقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٨٦]، لِما ثَبَتَ في صَحِيحٍ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَرَأها، قالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتَ» .
• وقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً﴾ [النساء: ٩٢] ثُمَّ بَيَّنَ ما يَلْزَمُ القاتِلَ خَطَأً
• بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ الآيَةَ [النساء: ٩٢]،
وقَدْ بَيَّنَ ﷺ الدِّيَةَ قَدْرًا وجِنْسًا كَما هو مَعْلُومٌ في كُتُبِ الحَدِيثِ والفِقْهِ كَما سَيَأْتِي إيضاحُهُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُفْهَمُ مِن إطْلاقِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا﴾ [الإسراء: ٣٣] أنَّ حُكْمَ الآيَةِ يَسْتَوِي فِيهِ القَتْلُ بِمُحَدَّدٍ كالسِّلاحِ، وبِغَيْرِ مُحَدَّدٍ كَرَضْخِ الرَّأْسِ بِحَجَرٍ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الجَمِيعَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ القَتْلِ ظُلْمًا فَيَجِبُ القِصاصُ.
وَهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ، مِنهم مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ.
وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ مُسْلِمٍ“: هو مَذْهَبُ جَماهِيرِ العُلَماءِ.
وَخالَفَ في هَذِهِ المَسْألَةِ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى فَقالَ: لا يَجِبُ القِصاصُ إلّا في القَتْلِ بِالمُحَدَّدِ خاصَّةً، سَواءٌ كانَ مِن حَدِيدٍ، أوْ حَجَرٍ، أوْ خَشَبٍ، أوْ فِيما كانَ مَعْرُوفًا بِقَتْلِ النّاسِ كالمَنجَنِيقِ، والإلْقاءِ في النّارِ.
واحْتَجَّ الجُمْهُورُ عَلى أنَّ القاتِلَ عَمْدًا بِغَيْرِ المُحَدَّدِ يُقْتَصُّ مِنهُ بِأدِلَّةٍ:
الأوَّلُ ما ذَكَرْنا مِن إطْلاقِ النُّصُوصِ في ذَلِكَ. الثّانِي: حَدِيثُ أنَسِ بْنِ مالِكٍ المَشْهُورُ الَّذِي أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ، وباقِي الجَماعَةِ: «أنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جارِيَةً عَلى أوَضاحٍ لَها، فَرَضَخَ رَأْسَها بِالحِجارَةِ، فاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، رَضَّ رَأْسَهُ بِهِما» .
وَهَذا الحَدِيثُ المُتَّفِقُ عَلَيْهِ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ في مَحَلِّ النِّزاعِ، تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ عَلى الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، ولا سِيَّما عَلى قَوْلِهِ: بِاسْتِواءِ دَمِ المُسْلِمِ والكافِرِ المَعْصُومِ الدَّمُ كالذِّمِّيِّ.
(p-٩١)الثّالِثُ: ما أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ وغَيْرُهُما، عَنْ حَمَلِ بْنِ مالِكٍ مِنَ القِصاصِ في القَتْلِ بِالمِسْطَحِ. قالَ النَّسائِيُّ: أخْبَرَنا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدٍ، قالَ: حَدَّثَنا حَجّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قالَ أخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينارٍ: أنَّهُ سَمِعَ طاوُسًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّهُ نَشَدَ قَضاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ، فَقامَ حَمَلُ بْنُ مالِكٍ فَقالَ: كُنْتُ بَيْنَ حُجْرَتِي امْرَأتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْها وجَنِينَها، فَقَضى النَّبِيُّ ﷺ في جَنِينِها بِغُرَّةٍ»، وأنْ تُقْتَلَ بِها. وقالَ أبُو داوُدَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ المِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنا أبُو عاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينارٍ: أنَّهُ سَمِعَ طاوُسًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عُمَرَ: أنَّهُ سَألَ في قَضِيَّةِ النَّبِيِّ ﷺ في ذَلِكَ فَقامَ حَمَلُ بْنُ مالِكِ بْنِ النّابِغَةِ فَقالَ: «كُنْتُ بَيْنَ امْرَأتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْها وجَنِينَها، فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في جَنِينِها بِغُرَّةٍ»، وأنْ تُقْتَلَ. قالَ أبُو داوُدَ: قالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: المِسْطَحُ هو الصَّوْلَجُ. قالَ أبُو داوُدَ: وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: المِسْطَحُ عُودٌ مِن أعْوادِ الخِباءِ. وقالَ ابْنُ ماجَهْ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ، ثَنا أبُو عاصِمٍ، أخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ دِينارٍ: أنَّهُ سَمِعَ طاوُسًا، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ نَشَدَ النّاسَ قَضاءَ النَّبِيِّ ﷺ في ذَلِكَ (يَعْنِي في الجَنِينِ) فَقامَ حَمَلُ بْنُ مالِكِ بْنِ النّابِغَةَ فَقالَ: «كُنْتُ بَيْنَ امْرَأتَيْنِ لِي، فَضَرَبَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِمِسْطَحٍ فَقَتَلَتْها وقَتَلَتْ جَنِينَها، فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ، وأنْ تُقْتَلَ بِها» . انْتَهى مِنَ السُّنَنِ الثَّلاثِ بِألْفاظِها.
وَلا يَخْفى أنَّ هَذا الإسْنادَ صَحِيحٌ، فَرِوايَةُ أبِي داوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ المِصِّيصِيِّ وهو ابْنُ مَسْعُودِ بْنِ يُوسُفَ النَّيْسابُورِيُّ، ويُقالُ لَهُ: المِصِّيصِيُّ أبُو جَعْفَرٍ العَجَمِيُّ نَزِيلُ طَرْسُوسَ والمِصِّيصَةِ، وهو ثِقَةٌ عارِفٌ. ورِوايَةُ ابْنِ ماجَهْ عَنْ أحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الدّارِمِيِّ، وهو ابْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرِ الدّارِمِيُّ أبُو جَعْفَرٍ، وهو ثِقَةٌ حافِظٌ، وكِلاهُما (أعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ مَسْعُودٍ المَذْكُورَ عِنْدَ أبِي داوُدَ، وأحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ المَذْكُورَ عِنْدَ ابْنِ ماجَهْ) رَوى هَذا الحَدِيثَ عَنْ أبِي عاصِمٍ وهو الضَّحّاكُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ الضَّحّاكِ بْنِ مُسْلِمٍ الشَّيْبانِيُّ، وهو أبُو عاصِمٍ النَّبِيلُ، وهو ثِقَةٌ ثَبْتٌ. والضَّحّاكُ رَواهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وهو عَبْدُ المَلِكِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ، وهو ثِقَةٌ فَقِيهٌ فاضِلٌ، وكانَ يُدَلِّسُ ويُرْسِلُ، إلّا أنَّ هَذا الحَدِيثَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ والإخْبارِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ وهو ثِقَةٌ ثَبْتٌ، عَنْ طاوُسٍ وهو ثِقَةٌ فَقِيهٌ فاضِلٌ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ حَمْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
(p-٩٢)وَأمّا رِوايَةُ النَّسائِيِّ فَهي عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدٍ، وهو ابْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ المِصِّيصِيُّ ثِقَةٌ حافِظٌ، عَنْ حَجّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وهو ابْنُ مُحَمَّدٍ المِصِّيصِيُّ الأعْوَرُ أبُو مُحَمَّدٍ التِّرْمِذِيُّ الأصْلِ نُزِيلُ بَغْدادَ ثُمَّ المِصِّيصَةِ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، لَكِنَّهُ اخْتَلَطَ في آخِرِ عُمْرِهِ لَمّا قَدِمَ بَغْدادَ قَبْلَ مَوْتِهِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، إلى آخَرَ السَّنَدِ المَذْكُورِ عِنْدَ أبِي داوُدَ وابْنِ ماجَهْ. وهَذا الحَدِيثُ لَمْ يَخْلِطْ فِيهِ حَجّاجٌ المَذْكُورُ في رِوايَتِهِ لَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ؛ بِدَلِيلِ رِوايَةِ أبِي عاصِمٍ لَهُ عِنْدَ أبِي داوُدَ وابْنِ ماجَهْ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَرِوايَةِ حَجّاجٍ المَذْكُورِ عِنْدَ النَّسائِيِّ، وأبُو عاصِمٍ ثِقَ ثَبْتٌ.
رَواهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّزّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وجَزَمَ بِصِحَّةِ هَذا الإسْنادِ ابْنُ حَجَرٍ في الإصابَةِ في تَرْجَمَةِ حَمَلٍ المَذْكُورِ. وقالَ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“ في هَذا الحَدِيثِ: وهَذا إسْنادٌ صَحِيحٌ، وفِيما ذَكَرَ أبُو عِيسى التِّرْمِذِيُّ في كِتابِ ”العِلَلِ“ قالَ: سَألْتُ مُحَمَّدًا (يَعْنِي البُخارِيَّ) عَنْ هَذا الحَدِيثِ فَقالَ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَواهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنُ جُرَيْجٍ حافِظٌ اه.
فَهَذا الحَدِيثُ نَصٌّ قَوِيٌّ في القِصاصِ في القَتْلِ بِغَيْرِ المُحَدَّدِ؛ لِأنَّ المِسْطَحُ عَمُودٌ. قالَ الجَوْهَرِيُّ في صِحاحِهِ: والمِسْطَحُ أيْضًا عَمُودُ الخِباءِ. قالَ الشّاعِرُ وهو مالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ:
؎تَعَرَّضُ ضَيْطارُو خُزاعَةَ دُونَنا وما خَيْرُ ضَيْطارٍ يَقْلِبُ مِسْطَحا
يَقُولُ: تَعَرَّضَ لَنا هَؤُلاءِ القَوْمُ لِيُقاتِلُونا ولَيْسُوا بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهم لا سِلاحَ مَعَهم سِوى المِسْطَحِ والضَّيْطارُ، هو الرَّجُلُ الضَّخْمُ الَّذِي لا غِناءَ عِنْدَهُ.
الرّابِعُ: ظَواهِرُ آياتٍ مِن كِتابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلى القِصاصِ في القَتْلِ بِغَيْرِ المُحَدَّدِ؛
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٩٤]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾ الآيَةَ [الحج: ٦٠]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾ ﴿إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ﴾ الآيَةَ [الشورى: ٤١ - ٤٢] .
وَفِي المُوَطَّأِ ما نَصُّهُ: وحَدَّثَنِي يَحْيى عَنْ مالِكٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ مَوْلى عائِشَةَ بِنْتِ قُدامَةَ: أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ أقادَ ولِيَّ رَجُلٍ مِن رَجُلٍ قَتَلَهُ بِعَصًا. فَقَتَلَهُ ولَيُّهُ (p-٩٣)بِعَصًا.
قالَ مالِكٌ: والأمْرُ المُجْتَمَعُ عَلَيْهِ الَّذِي لا اخْتِلافَ فِيهِ عِنْدَنا: أنَّ الرَّجُلَ إذا ضَرَبَ الرَّجُلَ بِعَصًا أوْ رَماهُ بِحَجَرٍ، أوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا فَماتَ مِن ذَلِكَ؛ فَإنَّ هَذا هو العَمْدُ وفِيهِ القِصاصُ.
قالَ مالِكٌ: فَقَتْلُ العَمْدِ عِنْدَنا أنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ فَيَضْرِبُهُ حَتّى تَفِيضَ نَفْسُهُ اه مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ هَذا القَوْلَ بِالقِصاصِ في القَتْلِ بِالمُثْقَلِ هو الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ العُلَماءِ، مِنهُمُ الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ، والنَّخَعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، وابْنُ سِيرِينَ، وحَمّادٌ، وعَمْرُو بْنُ دِينارٍ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وإسْحاقُ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنَ قُدامَةَ في المُغْنِي.
وَخالَفَ في ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وابْنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وطاوُسٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقالُوا: لا قِصاصَ في القَتْلِ بِالمُثْقَلِ، واحْتَجَّ لَهم بِأدِلَّةٍ:
مِنها أنَّ القِصاصَ يُشْتَرَطُ لَهُ العَمْدُ، والعَمْدُ مِن أفْعالِ القُلُوبِ، ولا يُعْلَمُ إلّا بِالقَرائِنِ الجازِمَةِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ، فَإنْ كانَ القَتْلُ بِآلَةِ القَتْلِ كالمُحَدَّدِ، عُلِمَ أنَّهُ عامِدُ قَتْلِهِ، وإنْ كانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُعْلَمْ عُمَدُهُ لِلْقَتْلِ؛ لِاحْتِمالِ قَصْدِهِ أنْ يَشُجَّهُ أوْ يُؤْلِمَهُ مِن غَيْرِ قَصْدِ قَتْلِهِ فَيُئَوَّلُ إلى شِبْهِ العَمْدِ.
وَمِنها ما رَواهُ الشَّيْخانِ وغَيْرُهُما مِن حَدِيثٍ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «قَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في جَنِينِ امْرَأةٍ مَن بَنِي لَحْيانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةِ عَبْدٍ أوْ أمَةٍ. ثُمَّ إنَّ المَرْأةَ الَّتِي قُضِيَ عَلَيْها بِالغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأنَّ مِيراثَها لِبَنِيها وزَوْجِها، وأنَّ العَقْلَ عَلى عَصَبَتِها» .
وَفِي رِوايَةٍ: «اقْتَتَلَتِ امْرَأتانِ مِن هُذَيْلٍ؛ فَرَمَتْ إحْداهُما الأُخْرى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْها وما في بَطْنِها؛ فاخْتَصَمُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَضى أنَّ دِيَةَ جَنِينِها غُرَّةُ عَبْدٍ أوْ ولِيدَةٍ، وقَضى بِدِيَةِ المَرْأةِ عَلى عاقِلَتِها» .
قالُوا: فَهَذا حَدِيثٌ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، يَدُلُّ عَلى عَدَمِ القِصاصِ في القَتْلِ بِغَيْرِ المُحَدَّدِ؛ لِأنَّ رِواياتِ هَذا الحَدِيثِ تَدُلُّ عَلى القَتْلِ بِغَيْرِ مُحَدَّدٍ؛ لِأنَّ في بَعْضِها أنَّها قَتَلَتْها بِعَمُودٍ، وفي بَعْضِها أنَّها قَتَلَتْها بِحَجَرٍ.
وَمِنها ما رُوِيَ عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وعَلِيٍّ، وأبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم مَرْفُوعًا: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا قَوْدَ إلّا بِحَدِيدَةٍ» . وفي بَعْضِ رِواياتِهِ: ”كُلُّ شَيْءٍ (p-٩٤)خَطَأٌ إلّا السَّيْفَ، ولِكُلِّ خَطَأٍ أرْشٌ“ .
وَقَدْ حاوَلَ بَعْضُ مَن نَصَرَ هَذا القَوْلَ مِنَ الحَنَفِيَّةِ رَدَّ حُجَجِ مُخالِفِيهِمْ، فَزَعَمَ أنَّ رَضَّ النَّبِيِّ ﷺ رَأْسَ اليَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ إنَّما وقَعَ بِمُجَرَّدِ دَعْوى الجارِيَةِ الَّتِي قَتَلَها. وأنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَ مَعْرُوفًا بِالإفْسادِ في الأرْضِ؛ ولِذَلِكَ فَعَلَ بِهِ ﷺ ما فَعَلَ.
وَرَدُّ رِوايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ المُتَقَدِّمَةِ بِأنَّها مُخالَفَةٌ لِلرِّواياتِ الثّابِتَةِ في صَحِيحِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ وغَيْرِهِما: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَضى بِالدِّيَةِ عَلى عاقِلَةِ المَرْأةِ لا بِالقِصاصِ» .
قالَ البَيْهَقِيُّ في (السُّنَنِ الكُبْرى) بَعْدَ أنْ ذَكَرَ صِحَّةَ إسْنادِ الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِالقِصاصِ مِنَ المَرْأةِ الَّتِي قَتَلَتِ الأُخْرى بِمِسْطَحٍ كَما تَقَدَّمَ ما نَصُّهُ: إلّا أنَّ في لَفْظِ الحَدِيثِ زِيادَةً لَمْ أرَها في شَيْءٍ مِن طُرُقِ هَذا الحَدِيثِ، وهي قَتْلُ المَرْأةِ بِالمَرْأةِ، وفي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْصُولًا، وحَدِيثِ ابْنِ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ مُرْسَلًا، وحَدِيثِ جابِرٍ وأبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا ثابِتًا أنَّهُ قَضى بِدِيَتِها عَلى العاقِلَةِ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ البَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ.
وَذَكَرَ البَيْهَقِيُّ أيْضًا: أنَّ عَمْرَو بْنَ دِينارٍ رُوجِعَ في هَذا الحَدِيثِ بِأنَّ ابْنَ طاوُسٍ رَواهُ عَنْ أبِيهِ عَلى خِلافِ رِوايَةِ عَمْرٍو، فَقالَ لِلَّذِي راجِعْهُ: شَكَّكْتَنِي.
وَأُجِيبَ مِن قِبَلِ الجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الِاحْتِجاجاتِ: بِأنَّ رَضَّهُ رَأْسَ اليَهُودِيِّ قِصاصٌ؛ فَفي رِوايَةٍ ثابِتَةٍ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما أنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَقْتُلْهُ حَتّى اعْتَرَفَ بِأنَّهُ قَتَلَ الجارِيَةَ؛ فَهو قَتْلُ قِصاصٍ بِاعْتِرافِ القاتِلِ، وهو نَصٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، صَرِيحٌ في مَحَلِّ النِّزاعِ، ولا سِيَّما عِنْدَ مَن يَقُولُ بِاسْتِواءِ دَمِ المُسْلِمِ والكافِرِ كالذِّمِّيِّ؛ كَأبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأجابُوا عَنْ كَوْنِ العَمْدِ مِن أفْعالِ القُلُوبِ، وأنَّهُ لا يُعْلَمُ كَوْنُهُ عامِدًا إلّا إذا ضَرَبَ بِالآلَةِ المَعْهُودَةِ لِلْقَتْلِ بِأنَّ المُثْقَلَ كالعَمُودِ والصَّخْرَةِ الكَبِيرَةِ مِن آلاتِ القَتْلِ كالسَّيْفِ؛ لِأنَّ المَشْدُوخَ رَأْسُهُ بِعَمُودٍ أوْ صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ يَمُوتُ مِن ذَلِكَ حالًا عادَةً كَما يَمُوتُ المَضْرُوبُ بِالسَّيْفِ، وذَلِكَ يَكْفِي مِنَ القَرِينَةِ عَلى قَصْدِ القَتْلِ.
وَأجابُوا عَمّا ثَبَتَ مِن قَضاءِ النَّبِيِّ ﷺ عَلى عاقِلَةِ المَرْأةِ القاتِلَةِ بِعَمُودٍ أوْ حَجَرٍ بِالدِّيَةِ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ مُعارَضٌ بِالرِّوايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي قَدَّمْناها عِنْدَ أبِي داوُدَ، والنَّسائِيِّ، وابْنِ (p-٩٥)ماجَهْ مِن حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مالِكٍ وهو كَصاحِبِ القِصَّةِ. لِأنَّ القاتِلَةَ والمَقْتُولَةَ زَوْجَتاهُ مِن كَوْنِهِ ﷺ قَضى فِيها بِالقِصاصِ لا بِالدِّيَةِ.
الثّانِي: ما ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ، قالَ: وهَذا مَحْمُولٌ عَلى حَجَرٍ صَغِيرٍ وعَمُودٍ صَغِيرٍ لا يُقْصَدُ بِهِ القَتْلُ غالِبًا، فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلى العاقِلَةِ، ولا يَجُبْ فِيهِ قِصاصٌ ولا دِيَةٌ عَلى الجانِي، وهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ والجَماهِيرِ اه كَلامُ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا الجَوابُ غَيْرُ وجِيهٍ عِنْدِي؛ لِأنَّ في بَعْضِ الرِّواياتِ الثّابِتَةِ في الصَّحِيحِ: أنَّها قُتِلَتْ بِعَمُودِ فُسْطاطٍ، وحِمْلُهُ عَلى الصَّغِيرِ الَّذِي لا يَقْتُلُ غالِبًا بَعِيدٌ.
الثّالِثُ: هو ما ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ مِن أنَّ مِثْلَ هَذِهِ المَرْأةِ لا تَقْصِدُ غالِبًا قَتْلَ الأُخْرى، قالَ ما نَصُّهُ:
وَأجابَ مَن قالَ بِهِ - يَعْنِي القِصاصَ في القَتْلِ بِالمُثْقَلِ - بِأنَّ عَمُودَ الفُسْطاطِ يَخْتَلِفُ بِالكِبَرِ والصِّغَرِ، بِحَيْثُ يَقْتُلُ بَعْضُهُ غالِبًا ولا يَقْتُلُ بَعْضُهُ غالِبًا، وطَرْدُ المُماثِلَةِ في القِصاصِ إنَّما يُشْرَعُ فِيما إذا وقَعَتِ الجِنايَةُ بِما يَقْتُلُ غالِبًا.
وَفِي هَذا الجَوابِ نَظَرٌ، فَإنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ إنَّما لَمْ يَجِبْ فِيهِ القَوْدُ لِأنَّها لَمْ يَقْصِدْ مِثْلُها وشَرْطُ القَوْدِ العَمْدُ، وهَذا إنَّما هو شِبْهُ العَمْدِ، فَلا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَتْلِ بِالمُثْقَلِ ولا عَكْسِهِ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: والدَّلِيلُ القاطِعُ عَلى أنَّ قَتْلَ هَذِهِ المَرْأةِ لِضَرَّتِها خَطَأٌ في القَتْلِ شِبْهُ عَمْدٍ؛ لِقَصْدِ الضَّرْبِ دُونَ القَتْلِ بِما لا يَقْتُلُ غالِبًا، تَصْرِيحُ الرِّواياتِ المُتَّفَقِ عَلَيْها بِأنَّهُ ﷺ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلى العاقِلَةِ، والعاقِلَةُ لا تَحْمِلُ العَمْدَ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ.
وَأجابُوا عَنْ حَدِيثِ: «لا قَوْدَ إلّا بِحَدِيدَةٍ» بِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.
قالَ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“ بَعْدَ أنْ ساقَ طُرُقَهُ عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ، وأبِي بَكْرَةَ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ما نَصُّهُ:
وَهَذا الحَدِيثُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إسْنادٌ فَعَلِيُّ بْنُ هِلالٍ الطَّحّانُ مَتْرُوكٌ، وسُلَيْمانُ بْنُ أرْقَمَ ضَعِيفٌ، ومُبارَكُ بْنُ فَضالَةَ لا يُحْتَجُّ بِهِ، وجابِرُ بْنُ يَزِيدَ الجُعْفِيُّ مَطْعُونٌ فِيهِ اه.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ ”في فَتْحِ البارِي في بابِ إذا قُتِلَ بِحَجَرٍ أوْ عَصا“ ما نَصُّهُ:
(p-٩٦)وَخالَفَ الكُوفِيُّونَ فاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ «لا قَوْدَ إلّا بِالسَّيْفِ» وهو حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أخْرَجَهُ البَزّارُ، وابْنُ عَدِيٍّ مِن حَدِيثِ أبِي بَكْرَةَ، وذَكَرَ البَزّارُ الِاخْتِلافَ فِيهِ مَعَ ضَعْفِ إسْنادِهِ: وقالَ ابْنُ عَدِيٍّ: طُرُقُهُ كُلُّها ضَعِيفَةٌ، وعَلى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإنَّهُ عَلى خِلافِ قاعِدَتِهِمْ في: أنَّ السُّنَّةَ لا تَنْسَخُ الكِتابَ ولا تُخَصِّصُهُ.
واحْتَجُّوا أيْضًا بِالنَّهْيِ عَنِ المُثْلَةِ، وهو صَحِيحٌ ولَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ عَلى غَيْرِ المُثْلَةِ في القِصاصِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ. انْتَهى الغَرَضُ مِن كَلامِ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ.
وَقالَ العَلّامَةُ الشَّوْكانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في ”نَيْلِ الأوْطارِ“ ما نَصُّهُ:
وَذَهَبَتِ العِتْرَةُ والكُوفِيُّونَ، ومِنهم أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ إلى أنَّ الِاقْتِصاصَ لا يَكُونُ إلّا بِالسَّيْفِ، واسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ عِنْدَ ابْنِ ماجَهْ، والبَزّارِ، والطَّحاوِيِّ، والطَّبَرانِيِّ، والبَيْهَقِيِّ، بِألْفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنها «لا قَوْدَ إلّا بِالسَّيْفِ» . وأخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ أيْضًا، والبَزّارُ، والبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي بَكْرَةَ، وأخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ. وأخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيُّ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ، وأخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، والطَّبَرانِيُّ مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنِ الحَسَنِ مُرْسَلًا.
وَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّها لا تَخْلُو واحِدَةٌ مِنها مِن ضَعِيفٍ أوْ مَتْرُوكٍ، حَتّى قالَ أبُو حاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وقالَ عَبْدُ الحَقِّ وابْنُ الجَوْزِيِّ: طُرُقُهُ كُلُّها ضَعِيفَةٌ. وقالَ البَيْهَقِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ إسْنادٌ. انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ الشَّوْكانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
وَلا شَكَّ في ضَعْفِ هَذا الحَدِيثِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ بِالحَدِيثِ. وقَدْ حاوَلَ الشَّيْخُ ابْنُ التُّرْكُمانِيِّ تَقْوِيَتَهُ في ”حاشِيَتِهِ عَلى سُنَنِ البَيْهَقِيِّ“ بِدَعْوى تَقْوِيَةِ جابِرِ بْنِ يَزِيدَ الجُعْفِيِّ، ومُبارَكِ بْنِ فَضالَةَ، مَعَ أنَّ جابِرًا ضَعِيفٌ رافِضِيٌّ، ومُبارَكٌ يُدَلِّسُ تَدْلِيسَ التَّسْوِيَةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ عِنْدِي: هو القِصاصُ مُطْلَقًا في القَتْلِ عَمْدًا بِمُثْقَلٍ كانَ أوْ بِمُحَدَّدٍ، لِما ذَكَرْنا مِنَ الأدِلَّةِ، ولِقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿وَلَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٧٩]؛ لِأنَّ القاتِلَ بِعَمُودٍ أوْ صَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ إذا عَلِمَ أنَّهُ لا يُقْتَصُّ مِنهُ جَرَّأهُ ذَلِكَ عَلى القَتْلِ، فَتَنْتَفِي بِذَلِكَ الحِكْمَةُ المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ الآيَةَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: جُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّ السُّلْطانَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ لِوَلِيِّ المَقْتُولِ ظُلْمًا يَسْتَلْزِمُ الخِيارَ بَيْنَ ثَلاثَةِ أشْياءَ: وهي القِصاصُ، والعَفْوُ عَلى الدِّيَةِ جَبْرًا عَلى (p-٩٧)الجانِي، والعَفْوُ مَجّانًا في غَيْرِ مُقابِلٍ، وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ.
قالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ: وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وابْنُ سِيرِينَ وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ، وعَزاهُ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ إلى الجُمْهُورِ.
وَخالَفَ في ذَلِكَ مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقالُوا: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إلّا القِصاصُ، أوِ العَفْوُ مَجّانًا، فَلَوْ عَفا عَلى الدِّيَةِ، وقالَ الجانِي: لا أرْضى إلّا القَتْلَ، أوِ العَفْوَ مَجّانًا، ولا أرْضى الدِّيَةَ، فَلَيْسَ لِوَلِيِّ المَقْتُولِ إلْزامُهُ الدِّيَةَ جَبْرًا.
واعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ قالُوا: إنَّ الخِيارَ لِلْوَلِيِّ بَيْنَ القِصاصِ والدِّيَةِ اخْتَلَفُوا في عَيْنِ ما يُوجِبُهُ القَتْلُ عَمْدًا إلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ القَوْدُ فَقَطْ؛ وعَلَيْهِ فالدِّيَةُ بَدَلٌ مِنهُ. والثّانِي: أنَّهُ أحَدُ شَيْئَيْنِ: هُما القِصاصُ والدِّيَةُ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذا الخِلافِ فِيما لَوْ عَفا عَنِ الجانِي عَفْوًا مُطْلَقًا، لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِإرادَةِ الدِّيَةِ ولا العَفْوِ عَنْها. فَعَلى أنَّ الواجِبَ عَيْنًا القِصاصُ فَإنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ بِالعَفْوِ المُطْلَقِ، وعَلى أنَّ الواجِبَ أحَدُ الأمْرَيْنِ فَإنَّ الدِّيَةَ تَلْزَمُ مَعَ العَفْوِ المُطْلَقِ. أمّا لَوْ عَفا عَلى الدِّيَةِ فَهي لازِمَةٌ، ولَوْ لَمْ يَرْضَ الجانِي عِنْدَ أهْلِ هَذا القَوْلِ، والخِلافُ المَذْكُورُ رِوايَتانِ عَنِ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ رَحِمَهُما اللَّهُ.
واحْتَجَّ مَن قالَ: بِأنَّ الخِيارَ بَيْنَ القِصاصِ والدِّيَةِ لِوَلِيِّ المَقْتُولِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهو بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إمّا أنْ يُفْدى، وإمّا أنْ يَقْتُلَ» أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ، والإمامُ أحْمَدُ، وأصْحابُ السُّنَنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ: «إمّا أنْ يَقْتُلَ وإمّا أنْ يَعْفُوَ» . ومَعْنى ”يُفْدى“ في بَعْضِ الرِّواياتِ، ”وَيُودى“ في بَعْضِها: يَأْخُذُ الفِداءَ بِمَعْنى الدِّيَةِ. وقَوْلُهُ ”يَقْتُلُ“ بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ: أيْ يَقْتُلُ قاتِلَ ولَيِّهِ.
قالُوا: فَهَذا الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ نَصٌّ في مَحَلِّ النِّزاعِ، مُصَرِّحٌ بِأنْ ولِيَّ المَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ القِصاصِ وأخْذِ الدِّيَةِ، وأنَّ لَهُ إجْبارَ الجانِي عَلى أيِّ الأمْرَيْنِ شاءَ، وهَذا الدَّلِيلُ قَوِيٌّ دَلالَةً ومَتْنًا كَما تَرى.
واحْتَجُّوا أيْضًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ١٧٨]، قالُوا: إنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَلا رَتَّبَ الِاتِّباعَ بِالدِّيَةِ بِالفاءِ عَلى العَفْوِ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ﴾ الآيَةَ، وذَلِكَ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّهُ بِمُجَرَّدِ العَفْوِ تَلْزَمُ الدِّيَةُ، وهو دَلِيلٌ قُرْآنِيٌّ قَوِيٌّ أيْضًا.
(p-٩٨)واحْتَجَّ بَعْضُ العُلَماءِ لِلْمُخالِفِينَ في هَذا؛ كَمالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُما اللَّهُ بِأدِلَّةٍ، مِنها ما قالَهُ الطَّحاوِيُّ: وهو أنَّ الحُجَّةَ لَهم حَدِيثُ أنَسٍ في قِصَّةِ الرَّبِيعِ عَمَّتِهِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كِتابُ اللَّهِ القِصاصُ»، فَإنَّهُ حَكَمَ بِالقِصاصِ ولَمْ يُخَيِّرْ، ولَوْ كانَ الخِيارُ لِلْوَلِيِّ لِأعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ؛ إذْ لا يَجُوزُ لِلْحاكِمِ أنْ يَتَحَكَّمَ لِمَن ثَبَتَ لَهُ أحَدُ شَيْئَيْنِ بِأحَدِهِما مِن قَبْلِ أنْ يُعْلِمَهُ بِأنَّ الحَقَّ لَهُ في أحَدِهِما، فَلَمّا حَكَمَ بِالقِصاصِ وجَبَ أنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ»، أيْ ولِيُّ المَقْتُولِ مُخَيَّرٌ بِشَرْطِ أنْ يَرْضى الجانِي أنْ يُغَرَّمَ الدِّيَةَ اه.
وَتَعَقَّبَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ احْتِجاجَ الطَّحاوِيِّ هَذا بِما نَصُّهُ: وتَعَقَّبَ بِأنَّ قَوْلَهُ ﷺ: «كِتابُ اللَّهِ القِصاصُ» إنَّما وقَعَ عِنْدَ طَلَبِ أوْلِياءِ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ في العَمْدِ القَوْدَ، فاعْلَمْ أنَّ الكِتابَ اللَّهِ نَزَلَ عَلى أنَّ المَجْنِيَّ إذا طَلَبَ القَوْدَ أُجِيبَ إلَيْهِ؛ ولَيْسَ فِيما ادَّعاهُ مِن تَأْخِيرِ البَيانِ.
الثّانِي: ما ذَكَرَهُ الطَّحاوِيُّ أيْضًا: مِن أنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّ الوَلِيَّ لَوْ قالَ لِلْقاتِلِ: رَضِيتُ أنْ تُعْطِيَنِي كَذا عَلى ألّا أقْتُلَكَ. أنَّ القاتِلَ لا يُجْبَرُ عَلى ذَلِكَ، ولا يُؤْخَذُ مِنهُ كَرْهًا، وإنْ كانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَحْقِنَ دَمَ نَفْسِهِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ ﷺ في الحَدِيثِ المَذْكُورِ ”«فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» . .“ الحَدِيثُ جارٍ مَجْرى الغالِبِ فَلا مَفْهُومَ مُخالَفَةٍ لَهُ، وقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ: أنَّ النَّصَّ إذا جَرى عَلى الغالِبِ لا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ مُخالَفَةٍ لَهُ، لِاحْتِمالِ قَصْدِ نَفْسِ الأغْلَبِيَّةِ دُونَ قَصْدِ إخْراجِ المَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ المَنطُوقِ. ولِذا لَمْ يَعْتَبِرْ جُمْهُورُ العُلَماءِ مَفْهُومَ المُخالَفَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي في حُجُورِكُمْ﴾ الآيَةَ [النساء: ٢٣]؛ لِجَرْيِهِ عَلى الغالِبِ، وقَدْ ذَكَرْنا هَذِهِ المَسْألَةَ في هَذا الكِتابِ المُبارَكِ مِرارًا.
وَإيضاحُ ذَلِكَ في الحَدِيثِ أنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» أنَّ الجانِيَ لَوِ امْتَنَعَ مِن قَبُولِ الدِّيَةِ وقَدَّمَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ مُمْتَنِعًا مِن إعْطاءِ الدِّيَةِ، أنَّهُ يُجْبَرُ عَلى إعْطائِها؛ لِأنَّ هَذا أحَدُ النَّظَرَيْنِ اللَّذَيْنِ خَيَّرَ الشّارِعُ ولِيَّ المَقْتُولِ بَيْنَهُما، والغالِبُ أنَّ الإنْسانَ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ عَلى مالِهِ فَيَفْتَدِي بِمالِهِ مِنَ القَتْلِ. وجَرَيانُ الحَدِيثِ عَلى هَذا الأمْرِ الغالِبِ يَمْنَعُ مِنَ اعْتِبارِ مَفْهُومِ مُخالَفَتِهِ كَما ذَكَرَهُ أهْلُ الأُصُولِ، وعَقَدَهُ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ بِقَوْلِهِ في مَوانِعِ اعْتِبارِ دَلِيلِ الخِطابِ، أعْنِي مَفْهُومَ المُخالَفَةِ:(p-٩٩)
؎أوْ جَهْلُ الحُكْمِ أوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ أوْ جَرى عَلى الَّذِي غَلَبَ
وَمَحَلُّ الشّاهِدِ قَوْلُهُ: ”أوْ جَرى عَلى الَّذِي غَلَبَ“ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِها.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحانُهُ بِالدَّلِيلِ في هَذِهِ المَسْألَةِ: أنْ ولِيَّ المَقْتُولِ هو المُخَيَّرُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، فَلَوْ أرادَ الدِّيَةَ وامْتَنَعَ الجانِي فَلَهُ إجْبارُهُ عَلى دَفْعِها؛ لِدَلالَةِ الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلى ذَلِكَ، ودَلالَةِ الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، ولِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ الآيَةَ [النساء: ٢٩]، ويَقُولُ: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكم إلى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] .
وَمِنَ الأمْرِ الواضِحِ أنَّهُ إذا أرادَ إهْلاكَ نَفْسِهِ صَوْنًا لِمالِهِ لِلْوارِثِ: أنَّ الشّارِعَ يَمْنَعُهُ مِن هَذا التَّصَرُّفِ الزّائِغِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوابِ، ويُجْبِرُهُ عَلى صَوْنِ دَمِهِ بِمالِهِ.
وَما احْتَجَّ بِهِ الطَّحاوِيُّ مِنَ الإجْماعِ عَلى أنَّهُ لَوْ قالَ لَهُ: أعْطِنِي كَذا عَلى ألّا أقْتُلَكَ لا يُجْبَرُ عَلى ذَلِكَ، يُجابُ عَنْهُ بِأنَّهُ لَوْ قالَ: أعْطِنِي الدِّيَةَ المُقَرَّرَةَ في قَتْلِ العَمْدِ فَإنَّهُ يُجْبَرُ عَلى ذَلِكَ؛ لِنَصِّ الحَدِيثِ والآيَةِ المَذْكُورَيْنِ.
وَلَوْ قالَ لَهُ: أعْطِنِي كَذا غَيْرَ الدِّيَةِ لَمْ يُجْبَرْ، لِأنَّهُ طَلَبٌ غَيْرُ الشَّيْءِ الَّذِي أوْجَبَهُ الشّارِعُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: جُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّ القَتْلَ لَهُ ثَلاثُ حالاتٍ:
الأُولى: العَمْدُ، وهو الَّذِي فِيهِ السُّلْطانُ المَذْكُورُ في الآيَةِ كَما قَدَّمْنا.
والثّانِيَةُ: شِبْهُ العَمْدِ. والثّالِثَةُ: الخَطَأُ.
وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ: أبُو حَنِيفَةَ، وأحْمَدُ، والشّافِعِيُّ. ونَقَلَهُ في المُغْنِي عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ وحَمّادٍ، وأهْلِ العِراقِ والثَّوْرِيِّ، وغَيْرِهِمْ.
وَخالَفَ الجُمْهُورَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقالَ: القَتْلُ لَهُ حالَتانِ فَقَطْ. الأُولى: العَمْدُ، والثّانِيَةُ الخَطَأُ. وما يُسَمِّيهِ غَيْرُهُ شِبْهُ العَمْدِ جَعَلَهُ مِنَ العَمْدِ. واسْتَدَلَّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ في كِتابِهِ العَزِيزِ واسِطَةً بَيْنَ العَمْدِ والخَطَأِ، بَلْ (p-١٠٠)ظاهِرُ القُرْآنِ أنَّهُ لا واسِطَةَ بَيْنَهُما، كَقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ الآيَةَ [النساء: ٩٢]، ثُمَّ قالَ في العَمْدِ: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ﴾ الآيَةَ [النساء: ٩٣]، فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ الخَطَأِ والعَمْدِ واسِطَةً، وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ ولَكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٥]، فَلَمْ يَجْعَلْ فِيها بَيْنَ الخَطَأِ والعَمْدِ واسِطَةً وإنْ كانَتْ في غَيْرِ القَتْلِ.
واحْتَجَّ الجُمْهُورُ عَلى أنَّ هُناكَ واسِطَةً بَيْنَ الخَطَأِ المَحْضِ، والعَمْدِ المَحْضِ، تُسَمّى خَطَأ شِبْهِ عَمْدٍ بِأمْرَيْنِ:
الأوَّلُ أنَّ هَذا هو عَيْنُ الواقِعِ في نَفْسِ الأمْرِ؛ لِأنَّ مَن ضَرَبَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أوْ حَجَرٍ صَغِيرٍ لا يَحْصُلُ بِهِ القَتْلُ غالِبًا، وهو قاصِدٌ لِلضَّرْبِ مُعْتَقِدًا أنَّ المَضْرُوبَ لا يَقْتُلُهُ ذَلِكَ الضَّرْبُ، فَفِعْلُهُ هَذا شِبْهُ العَمْدِ مِن جِهَةِ قَصْدِهِ أصْلَ الضَّرْبِ وهو خَطَأٌ في القَتْلِ، لِأنَّهُ ما كانَ يَقْصِدُ القَتْلَ، بَلْ وقَعَ القَتْلُ مِن غَيْرِ قَصْدِهِ إيّاهُ.
والثّانِي: حَدِيثٌ دَلَّ عَلى ذَلِكَ، وهو ما رَواهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ ومُسَدَّدٌ - المَعْنى - قالا: حَدَّثَنا حَمّادٌ، عَنْ خالِدٍ، عَنِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ مُسَدَّدٌ: «خَطَبَ يَوْمَ الفَتْحِ بِمَكَّةَ، فَكَبَّرَ ثَلاثًا ثُمَّ قالَ: " لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ، صَدَقَ وعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزابَ وحْدَهُ (إلى ها هُنا حَفِظْتُهُ عَنْ مُسَدَّدٍ، ثُمَّ اتَّفَقا): ألا إنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ تُذْكَرُ وتُدْعى مِن دَمٍ أوْ مالٍ تَحْتَ قَدَمَيَّ، إلّا ما كانَ مِن سِقايَةِ الحاجِّ أوْ سَدانَةِ البَيْتِ - ثُمَّ قالَ - ألا إنَّ دِيَةِ الخَطَأِ شِبْهَ العَمْدِ ما كانَ بِالسَّوْطِ والعَصا مِائَةً مِنَ الإبِلِ، مِنها أرْبَعُونَ في بُطُونِها أوْلادُها»، وحَدِيثُ مُسَدَّدٍ أتَمُّ.
حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ، ثَنا وُهَيْبٌ، عَنْ خالِدٍ بِهَذا الإسْنادِ نَحْوَ مَعْناهُ.
حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، ثَنا عَبْدُ الوارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَعْناهُ قالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الفَتْحِ - أوْ فَتْحِ مَكَّةَ - عَلى دَرَجَةِ البَيْتِ أوِ الكَعْبَةِ» .
قالَ أبُو داوُدَ: كَذا رَواهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ أيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
(p-١٠١)وَرَواهُ أيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ، عَنِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، ومِثْلُ حَدِيثِ خالِدٍ رَواهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ السَّدُوسِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ اه مَحَلُّ الغَرَضِ مِن سُنَنِ أبِي داوُدَ.
وَأخْرَجَ النَّسائِيُّ نَحْوَهُ، وذَكَرَ الِاخْتِلافَ عَلى أيُّوبَ في حَدِيثِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ فِيهِ، وذَكَرَ الِاخْتِلافَ عَلى خالِدٍ الحَذّاءِ فِيهِ وأطالَ الكَلامَ في ذَلِكَ، وقَدْ تَرَكْنا لَفْظَ كَلامِهِ لِطُولِهِ.
وَقالَ ابْنُ ماجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ومُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قالا: حَدَّثْنا شُعْبَةُ، عَنْ أيُّوبَ: سَمِعْتُ القاسِمَ بْنَ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «قَتِيلُ الخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ والعَصا مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ: أرْبَعُونَ مِنها خِلْفَةٌ في بُطُونِها أوْلادُها» .
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، ثَنا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ خالِدٍ الحَذّاءِ، عَنِ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ.
حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، ثَنا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُدْعانَ، سَمِعَهُ مِنَ القاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وهو عَلى دَرَجِ الكَعْبَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ، فَقالَ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزابَ وحْدَهُ، ألا إنَّ قَتِيلَ الخَطَأِ قَتِيلُ السَّوْطِ والعَصا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ: مِنها أرْبَعُونَ خِلْفَةً في بُطُونِها أوْلادُها»“ . اه.
وَساقَ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ طُرُقَ هَذا الحَدِيثِ، وقالَ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ الرِّوايَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي في إسْنادِها عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعانَ: أخْبَرَنا أبُو عَبْدِ اللَّهِ الحافِظُ قالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْماعِيلَ السُّكَّرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ المُزَنِيَّ يَوْمًا، وسَألَهُ سائِلٌ مِنَ العِراقِيِّينَ عَنْ شِبْهِ العَمْدِ، فَقالَ السّائِلُ: إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى وصَفَ القَتْلَ في كِتابِهِ صِفَتَيْنِ: عَمْدًا وخَطَأً، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ عَلى ثَلاثَةِ أصْنافٍ ؟ ولِمَ قُلْتُمْ شِبْهَ العَمْدِ ؟
فاحْتَجَّ المُزَنِيُّ بِهَذا الحَدِيثِ فَقالَ لَهُ مُناظِرُهُ: أتَحْتَجُّ بِعَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعانَ ؟ فَسَكَتَ المُزَنِيُّ فَقُلْتُ لِمُناظِرِهِ: قَدْ رَوى هَذا الخَبَرَ غَيْرُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ. فَقالَ: ومَن رَواهُ غَيْرُ عَلِيٍّ ؟ قُلْتُ: رَواهُ أيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ وخالِدٌ الحَذّاءُ. قالَ لِي: فَمَن عُقْبَةُ بْنُ أوْسٍ ؟ فَقُلْتُ: عُقْبَةُ بْنُ أوْسٍ رَجُلٌ مِن أهْلِ البَصْرَةِ، وقَدْ رَواهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ مَعَ جَلالَتِهِ. فَقالَ (p-١٠٢)لِلْمُزَنِيِّ: أنْتَ تُناظِرُ أوْ هَذا ؟ فَقالَ: إذا جاءَ الحَدِيثُ فَهو يُناظِرُ. لِأنَّهُ أعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنِّي، ثُمَّ أتَكَلَّمُ أنا، اه. ثُمَّ شَرَعَ البَيْهَقِيُّ يَسُوقُ طُرُقَ الحَدِيثِ المَذْكُورِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى مَعْرِفَةٍ بِالأسانِيدِ أنَّ الحَدِيثَ ثابِتٌ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ، وأنَّ الرِّوايَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وهْمٌ، وآفَتُها مِن عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعانَ، لِأنَّهُ ضَعِيفٌ.
والمَعْرُوفُ في عُلُومِ الحَدِيثِ: أنَّ الحَدِيثَ إذا جاءَ صَحِيحًا مَن وجْهٍ لا يُعَلُّ بِإتْيانِهِ مِن وجْهٍ آخَرَ غَيْرِ صَحِيحٍ، والقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَها البَيْهَقِيُّ في مُناظَرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ لِلْعِراقِيِّ الَّذِي ناظَرَ المُزَنِيَّ تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ الِاحْتِجاجِ بِالحَدِيثِ المَذْكُورِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: إذا عَرَفْتَ الِاخْتِلافَ بَيْنَ العُلَماءِ في حالاتِ القَتْلِ: هَلْ هي ثَلاثٌ، أوِ اثْنَتانِ ؟ وعَرَفْتَ حُجَجَ الفَرِيقَيْنِ فاعْلَمْ أنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ مِن أنَّها ثَلاثُ حالاتٍ: عَمْدٌ مَحْضٌ، وخَطَأٌ مَحْضٌ، وشِبْهُ عَمْدٍ، لِدَلالَةِ الحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنا عَلى ذَلِكَ، ولِأنَّهُ ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ مِن عُلَماءِ المُسْلِمِينَ. والحَدِيثُ إنَّما أثْبَتَ شَيْئًا سَكَتَ عَنْهُ القُرْآنُ، فَغايَةُ ما في البابِ زِيادَةُ أمْرٍ سَكَتَ عَنْهُ القُرْآنُ بِالسُّنَّةِ، وذَلِكَ لا إشْكالَ فِيهِ عَلى الجارِي عَلى أُصُولِ الأئِمَّةِ إلّا أبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأنَّ المُقَرَّرَ في أُصُولِهِ أنَّ الزِّيادَةَ عَلى النَّصِّ نَسْخٌ، وأنَّ المُتَواتِرَ لا يُنْسَخُ بِالآحادِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ في سُورَةِ ”الأنْعامِ“ . ولَكِنَّ الإمامَ أبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وافَقَ الجُمْهُورَ في هَذِهِ المَسْألَةِ، خِلافًا لِمالِكٍ كَما تَقَدَّمَ.
فَإذا تَقَرَّرَ ما ذَكَرْنا مِن أنَّ حالاتِ القَتْلِ ثَلاثٌ، فاعْلَمْ أنَّ العَمْدَ المَحْضَ فِيهِ القِصاصُ. وقَدْ قَدَّمْنا حُكْمَ العَفْوِ فِيهِ. والخَطَأُ شِبْهُ العَمْدِ. والخَطَأُ المَحْضُ فِيهِما الدِّيَةُ عَلى العاقِلَةِ.
* * *
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في أسْنانِ الدِّيَةِ فِيهِما، وسَنُبَيِّنُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى مَقادِيرَ الدِّيَةِ في العَمْدِ المَحْضِ إذا وقَعَ العَفْوُ عَلى الدِّيَةِ، وفي شِبْهِ العَمْدِ، وفي الخَطَأِ المَحْضِ.
اعْلَمْ أنَّ الجُمْهُورَ عَلى أنَّ الدِّيَةَ في العَمْدِ المَحْضِ وشِبْهِ العَمْدِ سَواءٌ، واخْتَلَفُوا في أسْنانِها فِيهِما، فَذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّها تَكُونُ أرْباعًا: خَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ حِقَّةً، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ جَذَعَةً.
(p-١٠٣)وَهَذا هو مَذْهَبُ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ، والرِّوايَةُ المَشْهُورَةُ عَنْ أحْمَدَ، وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، ورَبِيعَةَ، وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، ويُرْوى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدامَةَ في المُغْنِي.
وَذَهَبَتْ جَماعَةٌ أُخْرى إلى أنَّها ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأرْبَعُونَ في بُطُونِها أوْلادُها.
وَهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، ومُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وزَيْدٍ، وأبِي مُوسى، والمُغِيرَةِ. ورَواهُ جَماعَةٌ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحانَهُ. لِما تَقَدَّمَ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ عِنْدَ أبِي داوُدَ، والنَّسائِيِّ، وابْنِ ماجَهْ: مِن أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «مِنها أرْبَعُونَ خِلْفَةً في بُطُونِها أوْلادُها»، وبَعْضُ طُرُقِهِ صَحِيحٌ كَما تَقَدَّمَ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ في بَيانِ السِّتِّينَ الَّتِي لَمَّ يَتَعَرَّضُ لَها هَذا الحَدِيثُ: (بابُ صِفَةِ السِّتِّينَ الَّتِي مَعَ الأرْبَعِينَ) ثُمَّ ساقَ أسانِيدَهُ عَنْ عُمَرَ، وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، والمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، وعَلِيٍّ في إحْدى رِوايَتَيْهِ عَنْهُ أنَّها ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في المُغْنِي مُسْتَدِلًّا لِهَذا القَوْلِ: ودَلِيلُهُ هو ما رَواهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَن قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إلى أوْلِياءِ المَقْتُولِ، فَإنَّ شاءُوا قَتَلُوهُ، وإنَّ شاءُوا أخَذُوا الدِّيَةَ وهي ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأرْبَعُونَ خِلْفَةً، وما صُولِحُوا فَهو لَهم»، وذَلِكَ لِتَشْدِيدِ القَتْلِ. رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وقالَ: هو حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. اه مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ، ثُمَّ ساقَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ الَّذِي قَدَّمْنا.
ثُمَّ قالَ مُسْتَدِلًّا لِلْقَوْلِ الأوَّلِ: ووَجْهُ الأوَّلِ ما رَوى الزُّهْرِيُّ عَنِ السّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قالَ: «كانَتِ الدِّيَةُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أرْباعًا: خَمْسًا وعِشْرِينَ جَذَعَةً، وخَمْسًا وعِشْرِينَ حِقَّةً، وخَمْسًا وعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وخَمْسًا وعِشْرِينَ بِنْتَ مَخاضٍ» وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ اه مِنهُ.
وَفِي المُوَطَّأِ عَنْ مالِكٍ: أنَّ ابْنَ شِهابٍ كانَ يَقُولُ في دِيَةِ العَمْدِ إذا قُبِلَتْ: خَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ حِقَّةً، وخَمْسٌ (p-١٠٤)وَعِشْرُونَ جَذَعَةً. وقَدْ قَدَّمْنا: أنَّ دِيَةَ العَمْدِ، وِديَةَ شِبْهِ العَمْدِ سَواءٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ.
وَفِي دِيَةِ شِبْهِ العَمْدِ لِلْعُلَماءِ أقْوالٌ غَيْرُ ما ذَكَرْنا، مِنها ما رَواهُ البَيْهَقِيُّ، وأبُو داوُدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: في شِبْهِ العَمْدِ أثْلاثٌ: ثَلاثٌ وثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثٌ وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأرْبَعٌ وثَلاثُونَ ثَنْيَةً إلى بازِلِ عامِها، وكُلُّها خِلْفَةٌ.
وَمِنها ما رَواهُ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أيْضًا: أنَّها أرْباعٌ: رُبْعٌ بَناتُ لَبُونٍ، ورُبْعٌ حِقاقٌ ورُبْعٌ جِذاعٌ " ورُبْعٌ ثَنْيَةٌ إلى بازِلِ عامِها، هَذا حاصِلُ أقْوالِ أهْلِ العِلْمِ في دِيَةِ العَمْدِ وشِبْهِ العَمْدِ.
وَأوْلى الأقْوالِ وأرْجَحُها: ما دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وهو ما قَدَّمْنا مِن كَوْنِها ثَلاثَةً حِقَّةً، وثَلاثِينَ جَذَعَةً، وأرْبَعِينَ خِلْفَةً في بُطُونِها أوْلادُها.
وَقَدْ قالَ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في السُّنَنِ الكُبْرى بَعْدَ أنْ ساقَ الأقْوالَ المَذْكُورَةَ ما نَصُّهُ: قَدِ اخْتَلَفُوا هَذا الِاخْتِلافَ، وقَوْلُ مَن يُوافِقُ سُنَّةَ النَّبِيِّ ﷺ المَذْكُورَةَ في البابِ قَبْلَهُ أوْلى بِالِاتِّباعِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أنَّ الدِّيَةَ في العَمْدِ المَحْضِ إذا عَفا أوْلِياءُ المَقْتُولِ: إنَّما هي في مالِ الجانِي، ولا تَحْمِلُها العاقِلَةُ إجْماعًا، وأظْهَرُ القَوْلَيْنِ: أنَّها حالَةٌ غَيْرُ مُنَجَّمَةٍ في سِنِينَ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ، وقِيلَ: بِتَنْجِيمِها.
وَعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ العَمْدَ لَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ مُقَرَّرَةٌ أصْلًا، بَلِ الواجِبُ فِيهِ ما اتَّفَقَ عَلَيْهِ الجانِي وأوْلِياءُ المَقْتُولِ، قَلِيلًا كانَ أوْ كَثِيرًا، وهو حالٌ عِنْدَهُ.
أمّا الدِّيَةُ في شِبْهِ العَمْدِ فَهي مُنَجَّمَةٌ في ثَلاثِ سِنِينَ، يُدْفَعُ ثُلُثُها في آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلاثِ، ويُعْتَبَرُ ابْتِداءُ السَّنَةَ مِن حِينِ وُجُوبِ الدِّيَةِ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: ابْتِداؤُها مِن حِينِ حَكَمَ الحاكِمُ بِالدِّيَةِ، وهي عَلى العاقِلَةِ لِما قَدَّمْناهُ في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِن كَوْنِها عَلى العاقِلَةِ، وهو مَذْهَبُ الأئِمَّةِ الثَّلاثَةِ: أبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وبِهِ قالَ الشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ، والثَّوْرِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهم، كَما نَقَلَهُ عَنْهم صاحِبُ المُغْنِي وهَذا القَوْلُ هو الحَقُّ.
(p-١٠٥)وَذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ الدِّيَةَ في شِبْهِ العَمْدِ في مالِ الجانِي لا عَلى العاقِلَةِ؛ لِقَصْدِهِ الضَّرْبَ وإنْ لَمْ يَقْصِدِ القَتْلَ. وبِهَذا قالَ ابْنُ سِيرِينَ، والزُّهْرِيُّ، والحارِثُ العُكْلِيُّ، وابْنُ شُبْرُمَةَ، وقَتادَةُ، وأبُو ثَوْرٍ، واخْتارَهُ أبُو بَكْرٍ عَبْدُ العَزِيزِ، اه مِن ”المُغْنِي“ لِابْنِ قُدامَةَ. وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الصَّوابَ خِلافُهُ، لِدَلالَةِ الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلى ذَلِكَ.
أمّا مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلا يَقُولُ بِشِبْهِ العَمْدِ أصْلًا، فَهو عِنْدَهُ عَمْدٌ مَحْضٌ كَما تَقَدَّمَ.
وَأمّا الدِّيَةُ في الخَطَأِ المَحْضِ فَهو أخْماسٌ في قَوْلِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ.
واتَّفَقَ أكْثَرُهم عَلى السِّنِّ والصِّنْفِ في أرْبَعٍ مِنها، واخْتَلَفُوا في الخامِسِ، أمّا الأرْبَعُ الَّتِي هي مَحَلُّ اتِّفاقِ الأكْثَرِ فَهي عِشْرُونَ جَذَعَةً، وعِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ. وأمّا الخامِسُ الَّذِي هو مَحَلُّ الخِلافِ فَبَعْضُ أهْلِ العِلْمِ يَقُولُ: هو عِشْرُونَ ابْنَ مَخاضٍ ذَكَرًا، وهو مَذْهَبُ أحْمَدَ، وأبِي حَنِيفَةَ، وبِهِ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، والنَّخَعِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، واسْتَدَلَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الوارِدِ بِذَلِكَ.
قالَ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا عَبْدُ الواحِدِ، ثَنا الحَجّاجُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مالِكٍ الطّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي دِيَةِ الخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ جَذَعَةً، وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ ابْنَ مَخاضٍ ذَكَرًا»، وهو قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ. انْتَهى مِنهُ بِلَفْظِهِ.
وَقالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ زَكَرِيّا بْنِ أبِي زائِدَةَ، عَنْ حَجّاجٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مالِكٍ الطّائِيِّ قالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: «قَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دِيَةَ الخَطَأِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخاضٍ، وعِشْرِينَ ابْنَ مَخاضٍ ذُكُورًا، وعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرِينَ جَذَعَةً، وعِشْرِينَ حِقَّةً» .
وَقالَ ابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ عاصِمٍ، ثَنا الصَّبّاحُ بْنُ مُحارِبٍ، ثَنا حَجّاجُ بْنُ أرْطاةَ، ثَنا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ خِشْفِ بْنِ مالِكٍ الطّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (p-١٠٦)مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي دِيَةِ الخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ جَذَعَةً، وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ بَنِي مَخاضٍ ذُكُورًا» ونَحْوُ هَذا أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَأخْرَجَ الدّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ، إلّا أنْ فِيهِ: وعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ بَدَلَ بَنِي مَخاضٍ.
وَقالَ الحافِظُ في ”بُلُوغِ المَرامِ“: إنَّ إسْنادَهُ أقْوى مِن إسْنادِ الأرْبَعَةِ. قالَ: وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ مِن وجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وهو أصَحُّ مِنَ المَرْفُوعِ.
وَأمّا القَوْلُ الثّانِي في هَذا الخامِسِ المُخْتَلَفِ فِيهِ، فَهو أنَّهُ عِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا، مَعَ عِشْرِينَ جَذَعَةً، وعِشْرِينَ حَقَّةً، وعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرِينَ بِنْتَ مَخاضٍ. وهَذا هو مَذْهَبُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ، وبِهِ قالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، والزُّهْرِيُّ، واللَّيْثُ، ورَبِيعَةُ. كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“، وقالَ: هَكَذا رَواهُ سَعِيدٌ في سُنَنِهِ عَنِ النَّخَعِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقالَ الخَطّابِيُّ: رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ”وَدى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ»“ ولَيْسَ في أسْنانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخاضٍ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرى: وأخْبَرَنا أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الرَّفّاءُ البَغْدادِيُّ، أنْبَأ أبُو عَمْرٍو عُثْمانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، ثَنا إسْماعِيلُ بْنُ إسْحاقَ القاضِي، ثَنا إسْماعِيلُ بْنُ أبِي أُوَيْسٍ وعِيسى بْنُ مِينا، قالا: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي الزِّنادِ، أنَّ أباهُ قالَ: كانَ مَن أدْرَكْتُ مِن فُقَهائِنا الَّذِي يُنْتَهى إلى قَوْلِهِمْ؛ ومِنهم سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وأبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وخارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، في مَشْيَخَةٍ جُلَّةٍ سِواهم مِن نُظَرائِهِمْ، ورُبَّما اخْتَلَفُوا في الشَّيْءِ فَأخَذْنا بِقَوْلِ أكْثَرِهِمْ وأفْضَلِهِمْ رَأْيًا، وكانُوا يَقُولُونَ: العَقْلُ في الخَطَأِ خَمْسَةُ أخْماسٍ: فَخُمْسٌ جِذاعٌ، وخُمْسٌ حِقاقٌ، وخُمْسٌ بَناتُ لَبُونٍ، وخُمْسٌ بَناتُ مَخاضٍ، وخُمْسٌ بَنُو لَبُونٍ ذُكُورٍ، والسِّنُّ في كُلِّ جُرْحٍ قَلَّ أوْ كَثُرَ خَمْسَةُ أخْماسٍ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ. انْتَهى كَلامُ البَيْهَقِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: جَعَلَ بَعْضُهم أقْرَبَ القَوْلَيْنِ دَلِيلًا قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ الصِّنْفَ الخامِسَ مِن أبْناءِ المَخاضِ الذُّكُورِ لا مِن أبْناءِ اللَّبُونِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (p-١٠٧)مَسْعُودٍ المَرْفُوعِ المُصَرِّحِ بِقَضاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ. قالَ: والحَدِيثُ المَذْكُورُ وإنْ كانَ فِيهِ ما فِيهِ أوْلى مِنَ الأخْذِ بِغَيْرِهِ مِنَ الرَّأْيِ.
وَسَنَدُ أبِي داوُدَ والنَّسائِيُّ رِجالُهُ كُلُّهم صالِحُونَ لِلِاحْتِجاجِ، إلّا الحَجّاجَ بْنَ أرْطاةَ فَإنَّ فِيهِ كَلامًا كَثِيرًا واخْتِلافًا بَيْنَ العُلَماءِ؛ فَمِنهم مَن يُوَثِّقُهُ، ومِنهم مَن يُضَعِّفُهُ، وقَدْ قَدَّمْنا في هَذا الكِتابِ المُبارَكِ تَضْعِيفُ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ لَهُ.
وَقالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ كَثِيرُ الخَطَأِ والتَّدْلِيسِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: حَجّاجٌ المَذْكُورُ مِن رِجالِ مُسْلِمٍ، وأعَلَّ أبُو داوُدَ والبَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُما الحَدِيثَ بِالوَقْفِ عَلى ابْنِ مَسْعُودٍ، قالُوا: رَفْعُهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ خَطَأٌ، وقَدْ أشَرْنا إلى ذَلِكَ قَرِيبًا.
أمّا وجْهُ صَلاحِيَّةِ بَقِيَّةِ رِجالِ السُّنَنِ، فالطَّبَقَةُ الأُولى مِن سَنَدِهِ عِنْدَ أبِي داوُدَ مُسَدَّدٌ وهو ثِقَةٌ حافِظٌ، وعِنْدَ النَّسائِيِّ سَعِيدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الكِنْدِيُّ الكُوفِيُّ وهو صَدُوقٌ.
والطَّبَقَةُ الثّانِيَةُ عِنْدَ أبِي داوُدَ عَبْدِ الواحِدِ وهو ابْنُ زِيادٍ العَبْدِيُّ مَوْلاهُمُ البَصْرِيُّ ثِقَةٌ، في حَدِيثِهِ عَنِ الأعْمَشِ وحْدَهُ مَقالٌ. وعِنْدَ النَّسائِيِّ يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا بْنِ أبِي زائِدَةَ، وهو ثِقَةٌ مُتْقِنٌ.
والطَّبَقَةُ الثّالِثَةُ عِنْدَهُما حَجّاجُ بْنُ أرْطاةَ المَذْكُورُ.
والطَّبَقَةُ الرّابِعَةُ عِنْدَهُما زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ وهو ثِقَةٌ.
والطَّبَقَةُ الخامِسَةُ عِنْدَهُما خَشْفُ بْنُ مالِكٍ الطّائِيُّ، وثَّقَهُ النَّسائِيُّ.
والطَّبَقَةُ السّادِسَةُ عِنْدَهُما عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
والطَّبَقَةُ الأُولى عِنْدَ ابْنِ ماجَهْ عَبْدُ السَّلامِ بْنُ عاصِمٍ الجُعْفِيُّ الهِسِنْجانِيُّ الرّازِيُّ، وهو مَقْبُولٌ.
والطَّبَقَةُ الثّانِيَةُ عِنْدَهُ الصَّبّاحُ بْنُ مُحارِبٍ التَّيْمِيُّ الكُوفِيُّ نَزِيلُ الرَّيِّ وهو صَدُوقٌ، رُبَّما خالَفَ.
والطَّبَقَةُ الثّالِثَةُ عِنْدَهُ حَجّاجُ بْنُ أرْطاةَ إلى آخِرِ السَّنَدِ المَذْكُورِ.
والحاصِلُ: أنَّ الحَدِيثَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ مِن جِهَتَيْنِ: الأوْلى مِن قِبَلِ حَجّاجِ بْنِ (p-١٠٨)أرْطاةَ، وقَدْ ضَعَّفَهُ الأكْثَرُ، ووَثَّقَهُ بَعْضُهم، وهو مِن رِجالِ مُسْلِمٍ، والثّانِيَةُ إعْلالُهُ بِالوَقْفِ، وما احْتَجَّ بِهِ الخَطّابِيُّ مِن «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ”وَدى الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ مِن إبِلِ الصَّدَقَةِ»“ ولَيْسَ في أسْنانِ الصَّدَقَةِ ابْنُ مَخاضٍ يُقالُ فِيهِ: إنَّ الَّذِي قُتِلَ في خَيْبَرَ قُتِلَ عَمْدًا، وكَلامُنا في الخَطَأِ. وحُجَّةُ مَن قالَ يَجْعَلُ أبْناءَ اللَّبُونِ بَدَلَ أبْناءِ المَخاضِ رِوايَةَ الدّارَقُطْنِيِّ المَرْفُوعَةَ الَّتِي قالَ ابْنُ حَجَرٍ: إنَّ سَنَدَها أصَحُّ مِن رِوايَةِ أبْناءِ المَخاضِ، وكَثْرَةِ مَن قالَ بِذَلِكَ مِنَ العُلَماءِ.
وَفِي دِيَةِ الخَطَأِ لِلْعُلَماءِ أقْوالٌ أُخَرُ غَيْرُ ما ذَكَرْنا، واسْتَدَلُّوا لَها بِأحادِيثَ أُخْرى انْظُرْها في ”سُنَنِ النَّسائِيِّ، وأبِي داوُدَ، والبَيْهَقِيِّ“ وغَيْرِهِمْ.
واعْلَمْ أنَّ الدِّيَةَ عَلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفُ دِينارٍ، وعَلى أهْلِ الوَرِقِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ.
وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: عَشَرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ، وعَلى أهْلِ البَقَرِ مِائَتا بَقَرَةٍ، وعَلى أهْلِ الشّاءِ ألْفا شاةٍ، وعَلى أهْلِ الحُلَلِ مِائَتا حُلَّةٍ.
قالَ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمانَ، ثَنا حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قالَ: «كانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَمانِمِائَةِ دِينارٍ، أوْ ثَمانِيَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، ودِيَةُ أهْلِ الكِتابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِن دِيَةِ المُسْلِمِينَ.
قالَ: فَكانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، حَتّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى فَقامَ خَطِيبًا فَقالَ: ألا إنَّ الإبِلَ قَدْ غَلَتْ، قالَ: فَفَرَضَها عَلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفَ دِينارٍ، وعَلى أهْلِ الوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، وعَلى أهْلِ البَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وعَلى أهْلِ الشّاءِ ألْفَيْ شاةٍ، وعَلى أهْلِ الحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وتَرَكَ دِيَةَ أهْلِ الكِتابِ لَمْ يَرْفَعْها فِيما رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ» .
حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ، حَدَّثَنا حَمّادٌ، أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ، عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «قَضى في الدِّيَةِ عَلى أهْلِ الإبِلِ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وعَلى أهْلِ البَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وعَلى أهْلِ الشّاءِ ألْفَيْ شاةٍ، وعَلى أهْلِ الحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وعَلى أهْلِ القَمْحِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ مُحَمَّدٌ» .
قالَ أبُو داوُدَ: قَرَأْتُ عَلى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الطّالَقانِيِّ قالَ: ثِنا أبُو تُمَيْلَةَ، ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ قالَ: ذَكَرَ عَطاءٌ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: فَرَضَ (p-١٠٩)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . . فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ مُوسى، وقالَ: وعَلى أهْلِ الطَّعامِ شَيْئًا لَمْ أحْفَظْهُ. وقالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا أحْمَدُ بْنُ سُلَيْمانَ قالَ: حَدَّثْنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ، قالَ: أنْبَأنا مُحَمَّدُ بْنُ راشِدٍ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ مُوسى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مِن قُتِلَ خَطَأً فَدَيْتُهُ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ: ثَلاثُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وثَلاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وثَلاثُونَ حَقَّةً، وعَشَرَةٌ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ» .
قالَ: وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَوِّمُها عَلى أهْلِ القُرى أرْبَعَمِائَةِ دِينارٍ، أوْ عَدْلَها مِنَ الوَرِقِ، ويُقَوِّمُها عَلى أهْلِ الإبِلِ إذا غَلَتْ رَفَعَ قِيمَتَها، وإذا هانَتْ نَقَصَ مِن قِيمَتِها عَلى نَحْوِ الزَّمانِ ما كانَ. فَبَلَغَ قِيمَتُها عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما بَيْنَ الأرْبَعِمِائَةِ دِينارٍ، إلى ثَمانِمِائَةِ دِينارٍ أوْ عَدْلِها مِنَ الوَرَقِ.
قالَ: «وَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ مَن كانَ عَقْلُهُ في البَقَرِ: عَلى أهْلِ البَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، ومَن كانَ عَقْلُهُ في الشّاءِ: ألْفَيْ شاةٍ، وقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ”أنَّ العَقْلَ مِيراثٌ بَيْنَ ورَثَةِ القَتِيلِ عَلى فَرائِضِهِمْ، فَما فَضَلَ فَلِلْعَصَبَةِ» «وَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ“ أنْ يَعْقِلَ عَلى المَرْأةِ عَصَبَتُها مَن كانُوا، ولا يَرِثُونَ مِنهُ إلّا ما فَضَلَ عَنْ ورَثَتِها، وإنْ قُتِلَتْ فَعَقْلُها بَيْنَ ورَثَتِها وهم يَقْتُلُونَ قاتِلَها» . وقالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنّى، عَنْ مُعاذِ بْنِ هانِئٍ قالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ (ح)، وأخْبَرَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ هانِئٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: «قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا وذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿إلّا أنْ أغْناهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾» [التوبة: ٧٤] في أخْذِهِمُ الدِّيَةَ واللَّفْظُ لِأبِي داوُدَ: أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ:
أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ”قَضى بِاثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا“ - يَعْنِي في الدِّيَةِ - انْتَهى كَلامُ النَّسائِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقالَ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ أيْضًا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ الأنْبارِيُّ، ثَنا زَيْدُ بْنُ الحُبابِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَجُلًا مِن بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا»، قالَ أبُو داوُدَ: رَواهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبّاسٍ.
وَقالَ ابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا العَبّاسُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سِنانٍ، ثَنا (p-١١٠)مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”جَعَلَ الدِّيَةَ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا»“ قالَ: وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَما نَقَمُوا إلّا أنْ أغْناهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٧٤] قالَ: بِأخْذِهِمُ الدِّيَةَ.
وَفِي المُوَطَّأِ عَنْ مالِكٍ: أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلى أهْلِ القُرى فَجَعَلَها عَلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفَ دِينارٍ، وعَلى أهْلِ الوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ، قالَ مالِكٌ: فَأهْلُ الذَّهَبِ أهْلُ الشّامِ وأهْلُ مِصْرَ، وأهْلُ الوَرِقِ أهْلُ العِراقِ.
وَعَنْ مالِكٍ في المُوَطَّأِ أيْضًا: أنَّهُ سَمِعَ أنَّ الدِّيَةَ تَقْطَعُ في ثَلاثِ سِنِينَ أوْ أرْبَعِ سِنِينَ، قالَ مالِكٌ: والثَّلاثُ أحَبُّ ما سَمِعْتُ إلى في ذَلِكَ.
قالَ مالِكٌ: الأمْرُ المُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنا أنَّهُ لا يُقْبَلُ مِن أهْلِ القُرى في الدِّيَةِ الإبِلُ، ولا مِن أهْلِ العَمُودِ الذَّهَبُ ولا الوَرِقُ، ولا مِن أهْلِ الذَّهَبِ الوَرِقُ، ولا مِن أهْلِ الوَرِقِ الذَّهَبُ.
* * *
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ المَسْألَةِ.
الأوَّلُ: جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّ الدِّيَةَ في الخَطَأِ وشِبْهِ العَمْدِ مُؤَجَّلَةٌ في ثَلاثِ سِنِينَ، يَدْفَعُ ثُلْثَها في كُلِّ واحِدٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلاثِ.
قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: ولا خِلافَ بَيْنِهِمْ في أنَّها مُؤَجَّلَةٌ في ثَلاثِ سِنِينَ؛ فَإنَّ عُمَرَ وعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما جَعَلا دِيَةَ الخَطَأِ عَلى العاقِلَةِ في ثَلاثِ سِنِينَ، ولا نَعْرِفُ لَهُما في الصَّحابَةِ مُخالِفًا، فاتَّبَعَهم عَلى ذَلِكَ أهْلُ العِلْمِ اه.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ومِثْلُ هَذا يُسَمّى إجْماعًا سُكُوتِيًّا، وهو حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ عِنْدَ جَماعَةٍ مِن أهْلِ الأُصُولِ، وأشارَ إلى ذَلِكَ صاحِبُ ”مَراقِي السُّعُودِ“ مَعَ بَيانِ شَرْطِ الِاحْتِجاجِ بِهِ عِنْدَ مَن يَقُولُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
؎وَجَعْلُ مَن سَكَتَ مِثْلَ مَن أقَرْ فِيهِ خِلافٌ بَيْنِهِمْ قَدِ اشْتُهِرْ
؎فالِاحْتِجاجُ بِالسُّكُوتِي نَمّا ∗∗∗ تَفْرِيعَهُ عَلَيْهِ مَن تَقَدَّما
؎وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ والضِّدِّ حَرِي ∗∗∗ مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ
وَتَأْجِيلُها في ثَلاثِ سِنِينَ هو قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ.
* * *
الفَرْعُ الثّانِي: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في نَفْسِ الجانِي؛ هَلْ يَلْزَمُهُ قِسْطٌ مِن دِيَةِ الخَطَأِ كَواحِدٍ مِنَ العاقِلَةِ، أوْ لا.
(p-١١١)فَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، ومَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ: أنَّ الجانِيَ يَلْزَمُهُ قِسْطٌ مِنَ الدِّيَةِ كَواحِدٍ مِنَ العاقِلَةِ.
وَذَهَبَ الإمامُ أحْمَدُ، والشّافِعِيُّ: إلى أنَّهُ لا يَلْزَمُهُ مِنَ الدِّيَةِ شَيْءٌ، لِظاهِرِ حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ المُتَقَدِّمِ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ ”قَضى بِالدِّيَةِ عَلى عاقِلَةِ المَرْأةِ»“ وظاهِرُهُ قَضاؤُهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ، وحُجَّةُ القَوْلِ الآخَرِ: أنْ أصْلَ الجِنايَةِ عَلَيْهِ وهم مُعِينُونَ لَهُ، فَيَتَحَمَّلُ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ ما يَتَحَمَّلُ رَجُلٌ مِن عاقِلَتِهِ.
* * *
الفَرْعُ الثّالِثُ: اخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَعْيِينِ العاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ عَنِ الجانِي دِيَةَ الخَطَأِ.
فَمَذْهَبُ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ العاقِلَةَ هم أهْلُ دِيوانِ القاتِلِ إنْ كانَ القاتِلُ مِن أهْلِ دِيوانٍ، وأهْلُ الدِّيوانِ أهْلُ الرّاياتِ، وهُمُ الجَيْشُ الَّذِينَ كَتَبَتْ أسْماؤُهم في الدِّيوانِ لِمُناصَرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِن عَطاياهم في ثَلاثِ سِنِينَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ دِيوانٍ فَعاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ، وتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ في ثَلاثِ سِنِينَ، فَإنْ لَمْ تَتَّسِعِ القَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أقْرَبُ القَبائِلِ نَسَبًا عَلى تَرْتِيبِ العَصِباتِ.
وَمَذْهَبُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: البُداءَةُ بِأهْلِ الدِّيوانِ أيْضًا، فَتُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِن عَطاياهم في ثَلاثِ سِنِينَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ عَطاؤُهم قائِمًا فَعاقِلَتُهُ عَصَبَتُهُ الأقْرَبَ فالأقْرَبَ، ولا يَحْمِلُ النِّساءَ ولا الصِّبْيانَ شَيْئًا مِنَ العَقْلِ.
وَلَيْسَ لِأمْوالِ العاقِلَةِ حَدٌّ إذا بَلَغَتْهُ عَقَلُوا، ولا لِما يُؤْخَذُ مِنهم حَدٌّ، ولا يُكَلَّفُ أغْنِياؤُهُمُ الأداءَ عَنْ فُقَرائِهِمْ.
وَمِن لَمْ تَكُنْ لَهُ عَصَبَةً فَعَقْلُهُ في بَيْتِ مالِ المُسْلِمِينَ.
والمَوالِي بِمَنزِلَةِ العَصَبَةِ مِنَ القَرابَةِ، ويَدْخُلُ في القَرابَةِ الِابْنُ والأبُ.
قالَ سَحْنُونٌ: إنْ كانَتِ العاقِلَةُ ألْفًا فَهم قَلِيلٌ، يُضَمُّ إلَيْهِمْ أقْرَبُ القَبائِلِ إلَيْهِمْ.
وَمَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّهُ لا يُؤْخَذُ مِن واحِدٍ مِن أفْرادِ العَصَبَةِ مِنَ الدِّيَةِ أكْثَرُ مِن دِرْهَمٍ وثُلُثٍ في كُلِّ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ الثَّلاثِ، فالمَجْمُوعُ أرْبَعَةُ دَراهِمَ.
وَمَذْهَبُ أحْمَدَ والشّافِعِيُّ: أنَّ أهْلَ الدِّيوانِ لا مَدْخَلَ لَهم في العَقْلِ إلّا إذا كانُوا عَصَبَةً، ومَذْهَبُهُما رَحِمَهُما اللَّهُ: أنَّ العاقِلَةَ هي العَصَبَةُ، إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا: هَلْ يَدْخُلُ في ذَلِكَ الأبْناءُ والآباءُ ؟ فَعَنْ أحْمَدَ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ: أنَّهم داخِلُونَ في العَصَبَةِ؛ لِأنَّهم أقْرَبُ العَصَبَةِ، وعَنْ أحْمَدَ رِوايَةٌ أُخْرى والشّافِعِيُّ: أنَّهم لا يَدْخُلُونَ في العاقِلَةِ؛ لِظاهِرِ حَدِيثِ (p-١١٢)أبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ المُتَقَدِّمُ: «أنَّ مِيراثَ المَرْأةِ لِوَلَدِها، والدِّيَةَ عَلى عاقِلَتِها»، وظاهِرُهُ عَدَمُ دُخُولِ أوْلادِها، فَقِيسَ الآباءُ عَلى الأوْلادِ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِيما يَحْمِلُهُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم.
فَقالَ أحْمَدُ: يَحْمِلُونَ عَلى قَدْرِ ما يُطِيقُونَ. هَذا لا يَتَقَدَّرُ شَرْعًا، وإنَّما يَرْجِعُ فِيهِ إلى اجْتِهادِ الحاكِمِ، فَيَفْرِضُ عَلى كُلِّ واحِدٍ قَدْرًا يَسْهُلُ ولا يُؤْذِي، وهَذا مَذْهَبُ مالِكٍ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ لا يَثْبُتُ إلّا بِتَوْقِيفٍ، ولا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ والتَّحَكُّمِ، ولا نَصَّ في هَذِهِ المَسْألَةِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيها إلى اجْتِهادِ الحاكِمِ كَمَقادِيرِ النَّفَقاتِ.
وَعَنْ أحْمَدَ رِوايَةٌ أُخْرى: أنَّهُ يَفْرِضُ عَلى المُوسِرِ نِصْفَ مِثْقالٍ؛ لِأنَّهُ أقَلُّ مالٍ يَتَقَدَّرُ في الزَّكاةِ فَكانَ مُعَبَّرًا بِها، ويَجِبُ عَلى المُتَوَسِّطِ رُبُعُ مِثْقالٍ؛ لِأنَّ ما دُونَ ذَلِكَ تافِهٌ لِكَوْنِ اليَدِ لا تُقْطَعُ فِيهِ، وقَدْ قالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: لا تُقْطَعُ اليَدُ في الشَّيْءِ التّافِهِ، وما دُونَ رُبُعِ دِينارٍ لا تُقْطَعُ فِيهِ. وهَذا اخْتِيارُ أبِي بَكْرٍ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ.
وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: أكْثَرُ ما يُحْمَلُ عَلى الواحِدِ أرْبَعَةُ دَراهِمَ، ولَيْسَ لِأقَلِّهِ حَدٌّ. اه كَلامُ صاحِبِ ”المُغْنِي“ .
* * *
الفَرْعُ الرّابِعُ: لا تَحْمِلُ العاقِلَةُ شَيْئًا مِنَ الكَفّارَةِ المَنصُوصُ عَلَيْها في قَوْلِهِ: ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢]، بَلْ هي في مالِ الجانِي إجْماعًا، وشَذَّ مَن قالَ: هي في بَيْتِ المالِ.
والكَفّارَةُ في قَتْلِ الخَطَأِ واجِبَةٌ إجْماعًا بِنَصِّ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الصَّرِيحَةِ في ذَلِكَ.
واخْتَلَفُوا في العَمْدِ، واخْتِلافُهم فِيهِ مَشْهُورٌ، وأجْرى القَوْلَيْنِ عَلى القِياسِ عِنْدِي قَوْلُ مَن قالَ: لا كَفّارَةَ في العَمْدِ؛ لِأنَّ العُمَدَ في القَتْلِ أعْظَمُ مِن أنْ يُكَفِّرَهُ العِتْقُ، لِقَوْلِهِ تَعالى في القاتِلِ عَمْدًا: ﴿فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٩٣]، فَهَذا الأمْرُ أعْلى وأفْخَمُ مِن أنْ يُكَّفَرَ بِعِتْقِ رَقَبَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
والدِّيَةُ لا تَحْمِلُها العاقِلَةُ إنْ كانَ القَتْلُ خَطَّأً ثابِتًا بِإقْرارِ الجانِي ولَمْ يُصَدِّقُوهُ، بَلْ إنَّما تَحْمِلُها إنْ ثَبَتَ القَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، كَما ذَهَبَ إلى هَذا عامَّةُ أهْلِ العِلْمِ، مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ، والشَّعْبِيُّ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، والحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، وسُلَيْمانُ بْنُ مُوسى، والثَّوْرِيُّ، (p-١١٣)والأوْزاعِيُّ، وإسْحاقُ. وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، ومالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ وغَيْرُهم. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
الفَرْعُ الخامِسُ: جُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّ دِيَةَ المَرْأةِ الحُرَّةِ المُسْلِمَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ الحُرِّ المُسْلِمِ عَلى ما بَيَّنّا.
قالَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ عَبْدِ البَرِّ: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّ دِيَةَ المَرْأةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ، وحَكى غَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ والأصَمِّ، أنَّهُما قالا: دِيَتُها كَدِيَةِ الرَّجُلِ. وهَذا قَوْلٌ شاذٌّ، مُخالِفٌ لِإجْماعِ الصَّحابَةِ، كَما قالَهُ صاحِبُ المُغْنِي.
وَجِراحُ المَرْأةِ تُساوِي جِراحَ الرَّجُلِ إلى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ فَعَلى النِّصْفِ. قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: ورُوِيَ هَذا عَنْ عُمَرَ، وابْنِ عُمَرَ، وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، والأعْرَجُ، ورَبِيعَةُ، ومالِكٌ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: وهو قَوْلُ فُقَهاءِ المَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وجُمْهُورِ أهْلِ المَدِينَةِ، وحُكِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ في القَدِيمِ.
وَقالَ الحَسَنُ: يَسْتَوِيانِ إلى النِّصْفِ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّها عَلى النِّصْفِ فِيما قَلَّ أوْ كَثُرَ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وبِهِ قالَ الثَّوْرِيُّ، واللَّيْثُ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وابْنُ شُبْرُمَةَ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ. وأبُو ثَوْرٍ، والشّافِعِيُّ في ظاهِرِ مَذْهَبِهِ، واخْتارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ؛ لِأنَّهُما شَخْصانِ تَخْتَلِفُ دِيَةُ نَفْسِهِما فاخْتَلَفَ أرْشُ جِراحِهُما. اه وهَذا القَوْلُ أقِيسُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: كَلامُ ابْنِ قُدامَةَ والخِرَقِيِّ صَرِيحٌ في أنَّ ما بَلَغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ يَسْتَوِيانِ فِيهِ، وأنَّ تَفْضِيلَهُ عَلَيْها بِنِصْفِ الدِّيَةِ إنَّما هو فِيما زادَ عَلى الثُّلُثِ، فَمُقْتَضى كَلامِهِما أنَّ دِيَةَ جائِفَةِ المَرْأةِ ومَأْمُومَتِها كَدِيَةِ جائِفَةِ الرَّجُلِ ومَأْمُومَتِهِ؛ لِأنَّ في كُلٍّ مِنَ الجائِفَةِ والمَأْمُومَةِ ثُلُثَ الدِّيَةِ، وأنَّ عَقْلَها لا يَكُونُ عَلى النِّصْفِ مِن عَقْلِهِ إلّا فِيما زادَ عَلى الثُّلُثِ، كَدِيَةِ أرْبَعَةِ أصابِعَ مِنَ اليَدِ، فَإنَّ فِيها أرْبَعِينَ مِنَ الإبِلِ، إذْ في كُلِّ إصْبَعٍ عَشْرٌ، والأرْبَعُونَ أكْثَرُ مِن ثُلْثِ المِائَةِ. وكَلامُ مالِكٍ في المُوَطَّأِ وغَيْرِهِ صَرِيحٌ في أنَّ ما بَلَغَ الثُّلُثُ كالجائِفَةِ والمَأْمُومَةِ تَكُونُ دِيَةُ المَرْأةِ فِيهِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ، وأنَّ مَحَلَّ اسْتِوائِها (p-١١٤)إنَّما هو فِيما دُونَ الثُّلْثِ خاصَّةً كالمُوَضَّحَةِ والمُنَقِّلَةِ، والإصْبَعِ والإصْبَعَيْنِ والثَّلاثَةِ، وهُما قَوْلانِ مَعْرُوفانِ لِأهْلِ العِلْمِ، وأصَحَّهُما هو ما ذَكَرْناهُ عَنْ مالِكٍ، ورَجَّحَهُ ابْنُ قُدامَةَ في آخِرِ كَلامِهِ بِالحَدِيثِ الآتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا القَوْلُ مُشْكِلٌ جِدًّا لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ المَرْأةَ إنَّ قَطَعَتْ مِن يَدِها ثَلاثَةَ أصابِعَ كانَتْ دِيَتُها ثَلاثِينَ مِنَ الإبِلِ كَأصابِعِ الرَّجُلِ، لِأنَّها دُونَ الثُّلْثِ، وإنْ قَطَعَتْ مِن يَدِها أرْبَعَةَ أصابِعَ كانَتْ دِيَتُها عِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ، لِأنَّها زادَتْ عَلى الثُّلُثِ فَصارَتْ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ، وكَوْنُ دِيَةِ الأصابِعِ الثَّلاثَةِ ثَلاثِينَ مِنَ الإبِلِ، وِدِيَةِ الأصابِعِ الأرْبَعَةِ عِشْرِينَ في غايَةِ الإشْكالِ كَما تَرى.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذا رَبِيعَةُ بْنُ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلى سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، فَأجابَهُ بِأنَّ هَذا هو السُّنَّةُ، فَفي مُوَطَّأِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّهُ قالَ: سَألْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ كَمْ في إصْبَعِ المَرْأةِ ؟ قالَ: عَشْرٌ مِنَ الإبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ في إصْبَعَيْنِ ؟ قالَ: عِشْرُونَ مِنَ الإبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ في ثَلاثٍ ؟ فَقالَ: ثَلاثُونَ مِنَ الإبِلِ. فَقُلْتُ: كَمْ في أرْبَعٍ ؟ قالَ: عِشْرُونَ مِنَ الإبِلِ. فَقُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جُرْحُها، واشْتَدَّتْ مُصِيبَتُها نَقَصَ عَقْلُها ؟ فَقالَ سَعِيدٌ: أعِراقِيٌّ أنْتَ ؟ فَقُلْتُ. بَلْ عالِمٌ مُتَثَبِّتٌ، أوْ جاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ. فَقالَ سَعِيدٌ: هي السُّنَّةُ يابْنَ أخِي.
وَظاهِرُ كَلامِ سَعِيدٍ هَذا: أنَّ هَذا مِن سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ . ولَوْ قُلْنا: إنَّ هَذا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ فَإنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لِأنَّ سَعِيدًا لَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ النَّبِيِّ ﷺ، ومَراسِيلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَدْ قَدَّمَنا الكَلامَ عَلَيْها مُسْتَوْفًى في سُورَةِ ”الأنْعامِ“ مَعَ أنَّ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ قالَ: إنَّ مُرادَهُ بِالسُّنَّةِ هُنا سُنَّةُ أهْلِ المَدِينَةِ.
وَقالَ النَّسائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا عِيسى بْنُ يُونُسَ قالَ: حَدَّثَنا حَمْزَةُ، عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ عَيّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «عَقْلُ المَرْأةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِن دِيَتِها» اه وهَذا يُعَضِّدُ قَوْلَ سَعِيدٍ: إنَّ هَذا هو السُّنَّةُ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: إسْنادُ النَّسائِيِّ هَذا ضَعِيفٌ فِيما يَظْهَرُ مِن جِهَتَيْنِ.
إحْداهُما: أنَّ إسْماعِيلَ بْنَ عَيّاشٍ رَواهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ورِوايَةُ إسْماعِيلَ المَذْكُورِ عَنْ غَيْرِ الشّامِيِّينَ ضَعِيفَةٌ كَما قَدَّمْنا إيضاحَهُ، وابْنُ جُرَيْجٍ لَيْسَ بِشامِيٍّ، بَلْ هو حِجازِيٌّ مَكِّيٌّ.
(p-١١٥)الثّانِيَةُ: أنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ عَنْعَنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وابْنُ جُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُدَلِّسٌ، وعَنْعَنَةُ المُدَلِّسُ لا يُحْتَجُّ بِها ما لَمْ يَثْبُتِ السَّماعُ مِن طَرِيقٍ أُخْرى كَما تَقَرَّرَ في عُلُومِ الحَدِيثِ، ويُؤَيِّدُ هَذا الإعْلالَ ما قالَهُ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِن أنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْماعِيلَ - يَعْنِي البُخارِيَّ - قالَ: إنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ“ في تَرْجَمَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ المَذْكُورِ.
وَبِما ذَكَرْنا تَعْلَمُ أنَّ تَصْحِيحَ ابْنِ خُزَيْمَةَ لِهَذا الحَدِيثِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وإنْ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”بُلُوغِ المَرامِ“ وسَكَتَ عَلَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. وهَذا مَعَ ما تَقَدَّمَ مِن كَوْنِ ما تَضَمَّنَهُ هَذا الحَدِيثُ يَلْزَمُهُ أنْ يَكُونَ في ثَلاثَةِ أصابِعَ مِن أصابِعِ المَرْأةِ ثَلاثُونَ، وفي أرْبَعَةِ أصابِعَ عِشْرُونَ، وهَذا مُخالِفٌ لِما عَهِدَ مِن حِكْمَةِ هَذا الشَّرْعِ الكَرِيمِ كَما تَرى، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يُقالَ: إنْ جَعَلَ المَرْأةَ عَلى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِيما بَلَغَ الثّالِثَ فَصاعِدًا أنَّهُ في الزّائِدِ فَقَطْ، فَيَكُونُ في أرْبَعَةِ أصابِعَ مِن أصابِعِها خَمْسٌ وثَلاثُونَ، فَيَكُونُ النَّقْصُ في العَشْرَةِ الرّابِعَةُ فَقَطْ، وهَذا مَعْقُولٌ وظاهِرٌ، والحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ لَهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَمِنَ الأدِلَّةِ عَلى أنَّ دِيَةَ المَرْأةِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ: ما رَواهُ البَيْهَقِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرى مِن وجْهَيْنِ عَنْ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنَمٍ، عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ قالَ: قالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «دِيَةُ المَرْأةِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ»، ثُمَّ قالَ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ورُوِيَ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبادَةَ بْنِ نُسَيٍّ وفِيهِ ضَعْفٌ، ومَعْلُومٌ أنَّ عُبادَةَ بْنَ نُسَيٍّ ثِقَةٌ فاضِلٌ، فالضَّعْفُ الَّذِي يَعْنِيهِ البَيْهَقِيُّ مِن غَيْرِهِ، وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ أيْضًا عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «دِيَةُ المَرْأةِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ في الكُلِّ» . وهو مِن رِوايَةِ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْهُ وفِيهِ انْقِطاعٌ، وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ مِن طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْهُ، وأخْرَجَهُ أيْضًا مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْهُ وعَنْ عُمَرَ، قالَهُ الشَّوْكانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
* * *
الفَرْعُ السّادِسُ: اعْلَمْ أنَّ أصَحَّ الأقْوالِ وأظْهَرُها دَلِيلًا: أنَّ دِيَةَ الكافِرِ الذِّمِّيِّ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المُسْلِمِ، كَما قَدَّمْنا عَنْ أبِي داوُدَ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «أنَّ دِيَةَ أهْلِ الكِتابِ كانَتْ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المُسْلِمِينَ»، وأنَّ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْها فِيما رَفَعَ عِنْدَ تَقْوِيمِهِ الدِّيَةَ لَمّا غَلَتِ الإبِلُ.
وَقالَ أبُو داوُدَ أيْضًا في سُنَنِهِ: حَدَّثْنا يَزِيدُ بْنُ خالِدِ بْنِ مَوْهَبٍ الرَّمْلِيُّ، ثَنا عِيسى بْنُ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «دِيَةُ المُعاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ» . قالَ أبُو داوُدَ: ورَواهُ أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، (p-١١٦)وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الحارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مِثْلَهُ اه.
وَقالَ النَّسائِيُّ في سُنَنِهِ: أخْبَرَنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ راشِدٍ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ مُوسى. . - وذَكَرَ كَلِمَةً مَعْناها - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَقْلُ أهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِينَ وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى» أخْبَرَنا أحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قالَ: أنْبَأنا ابْنُ وهْبٍ، قالَ: أخْبَرَنِي أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «عَقْلُ الكافِرِ نِصْفُ عَقْلِ المُؤْمِنِ» .
وَقالَ ابْنُ ماجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ في سُنَنِهِ: حَدَّثْنا هِشامُ بْنُ عَمّارٍ، ثَنا حاتِمُ بْنُ إسْماعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَيّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «قَضى أنَّ عَقْلَ أهْلِ الكِتابَيْنِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِينَ، وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى» . وأخْرَجَ نَحْوَهُ الإمامُ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ.
قالَ الشَّوْكانِيُّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“: وحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذا حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ ابْنُ الجارُودِ. وبِهَذا تَعْلَمُ أنَّ هَذا القَوْلَ أوْلى مِن قَوْلِ مَن قالَ: دِيَةُ أهْلِ الذِّمَّةِ كَدِيَةِ المُسْلِمِينَ؛ كَأبِي حَنِيفَةَ ومَن وافَقَهُ. ومَن قالَ: إنَّها قَدْرُ ثُلْثِ دِيَةِ المُسْلِمِ. كالشّافِعِيِّ ومَن وافَقَهُ. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
واعْلَمْ أنَّ الرِّواياتِ الَّتِي جاءَتْ بِأنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ والمُعاهِدِ كَدِيَةِ المُسْلِمِ ضَعِيفَةٌ لا يُحْتَجُّ بِها، وقَدْ بَيَّنَ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ضَعْفَها في ”السُّنَنِ الكُبْرى“، وقَدْ حاوَلَ ابْنُ التُّرْكُمانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في حاشِيَتِهِ عَلى سُنَنِ البَيْهَقِيِّ أنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الرِّواياتِ صالِحَةً لِلِاحْتِجاجِ، وهي لَيْسَ فِيها شَيْءٌ صَحِيحٌ.
أمّا الِاسْتِدْلالُ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ [النساء: ٩٢]، فَيُقالُ فِيهِ: هَذِهِ دَلالَةُ اقْتِرانٍ، وهي غَيْرُ مُعْتَبِرَةٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وغايَةُ ما في البابِ: أنَّ الآيَةَ لَمْ تُبَيِّنْ قَدْرَ دِيَةِ المُسْلِمِ ولا الكافِرِ، والسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أنَّ دِيَةَ الكافِرِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المُسْلِمِ، وهَذا لا إشْكالَ فِيهِ.
أمّا اسْتِواؤُهُما في قَدْرِ الكَفّارَةِ فَلا دَلِيلَ فِيهِ عَلى الدِّيَةِ، لِأنَّها مَسْألَةٌ أُخْرى.
والأدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنا دَلالَتَها أنَّها عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المُسْلِمِ أقْوى، ويُؤَيِّدُها: أنَّ في الكِتابِ الَّذِي كَتَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ» فَمَفْهُومُ (p-١١٧)قَوْلِهِ ”المُؤْمِنَةِ“ أنَّ النَّفْسَ الكافِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، عَلى أنَّ المُخالِفَ في هَذِهِ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، والمُقَرَّرُ في أُصُولِهِ: أنَّهُ لا يُعْتَبَرُ دَلِيلُ الخِطابِ أعْنِي مَفْهُومَ المُخالَفَةِ كَما هو مَعْلُومٌ عَنْهُ. ولا يَقُولُ بِحَمْلِ المُطْلَقِ عَلى المُقَيِّدِ، فَيَسْتَدِلُّ بِإطْلاقِ النَّفْسِ عَنْ قَيْدِ الإيمانِ في الأدِلَّةِ الأُخْرى عَلى شُمُولِها لِلْكافِرِ، والقَوْلِ بِالفَرْقِ بَيْنَ الكافِرِ المَقْتُولِ عَمْدًا فَتَكُونُ دِيَتُهُ كَدِيَةِ المُسْلِمِ، وبَيْنَ المَقْتُولِ خَطَأً فَتَكُونُ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المُسْلِمِ، لا نَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا مِن كِتابٍ ولا سَنَةٍ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَأمّا دِيَةُ المَجُوسِيِّ: فَأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّها ثُلْثُ خُمْسِ دِيَةِ المُسْلِمِ؛ فَهي ثَمانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ونِساؤُهم عَلى النِّصْفِ مِن ذَلِكَ.
وَهَذا قَوْلُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ؛ مِنهم عُمَرُ وعُثْمانُ، وابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، والحَسَنُ، وإسْحاقُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، أنَّهُ قالَ: دِيَتُهُ نِصْفُ دِيَةِ المُسْلِمِ كَدِيَةِ الكِتابِيِّ.
وَقالَ النَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ المُسْلِمِ، وهَذا هو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
والِاسْتِدْلالُ عَلى أنَّ دِيَةَ المَجُوسِيِّ كَدِيَةِ الكِتابِيِّ بِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ» لا يَتَّجِهُ، لِأنّا لَوْ فَرَضْنا صَلاحِيَةَ الحَدِيثِ لِلِاحْتِجاجِ، فالمُرادُ بِهِ أخْذُ الجِزْيَةَ مِنهم فَقَطْ، بِدَلِيلِ أنَّ نِساءَهم لا تَحِلُّ، وذَبائِحُهم لا تُؤْكَلُ اه.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: إنَّ قَوْلَ مَن ذَكَرْنا مِنَ الصَّحابَةِ: إنَّ دِيَةَ المَجُوسِيِّ ثُلُثُ خُمْسِ دِيَةِ المُسْلِمِ، لَمْ يُخالِفْهم فِيهِ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ فَصارَ إجْماعًا سُكُوتِيًّا. وقَدْ قَدَّمْنا قَوْلَ مَن قالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: دِيَةُ المُرْتَدِّ إنْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتابَةِ كَدِيَةِ المَجُوسِيِّ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ. وأمّا الحَرُبِيُّونَ فَلا دِيَةَ لَهم مُطْلَقًا. والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومࣰا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِیِّهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا فَلَا یُسۡرِف فِّی ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق