الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ لَمْ يُبَيِّنْ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مُتَعَلِّقَ الإذْنِ في قَوْلِهِ: ﴿لا يُؤْذَنُ﴾ [النحل: ٨٤]، ولَكِنَّهُ بَيَّنَ في (المُرْسَلاتِ) أنَّ مُتَعَلِّقَ الإذْنِ الِاعْتِذارُ، أيْ: لا يُؤْذَنُ لَهم في الِاعْتِذارِ، لِأنَّهم لَيْسَ لَهم عُذْرٌ يَصِحُّ قَبُولُهُ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿هَذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ ﴿وَلا يُؤْذَنُ لَهم فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥ - ٣٦] . (p-٤٢٢)فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ اعْتِذارِهِمُ المَذْكُورِ هُنا، وبَيْنَ ما جاءَ في القُرْآنِ مِنِ اعْتِذارِهِمْ ؟؛ • كَقَوْلِهِ تَعالى عَنْهم: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ [النحل: ٢٨]، • وقَوْلِهِ: ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا﴾ [غافر: ٧٤]، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. فالجَوابُ مِن أوْجُهٍ: مِنها: أنَّهم يَعْتَذِرُونَ حَتّى إذا قِيلَ لَهم: ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨]، انْقَطَعَ نُطْقُهم ولَمْ يَبْقَ إلّا الزَّفِيرُ والشَّهِيقُ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَوَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهم لا يَنْطِقُونَ﴾ [النمل: ٨٥] . وَمِنها: أنَّ نَفْيَ اعْتِذارِهِمْ يُرادُ بِهِ اعْتِذارٌ فِيهِ فائِدَةٌ. أمّا الِاعْتِذارُ الَّذِي لا فائِدَةَ فِيهِ فَهو كالعَدَمِ، يَصْدُقُ عَلَيْهِ في لُغَةِ العَرَبِ: أنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، ولِذا صَرَّحَ تَعالى بِأنَّ المُنافِقِينَ بُكْمٌ في قَوْلِهِ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ [البقرة: ١٧١]، مَعَ قَوْلِهِ عَنْهم: ﴿وَإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: ٤]، أيْ: لِفَصاحَتِهِمْ وحَلاوَةِ ألْسِنَتِهِمْ. وقالَ عَنْهم أيْضًا: ﴿فَإذا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكم بِألْسِنَةٍ حِدادٍ﴾ [الأحزاب: ١٩]، فَهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ - جَلَّ وعَلا - مِن فَصاحَتِهِمْ وحِدَّةِ ألْسِنَتِهِمْ، مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأنَّهم بُكُمٌ يَدُلُّ عَلى أنَّ الكَلامَ الَّذِي لا فائِدَةَ فِيهِ كَلا شَيْءٍ، كَما هو واضِحٌ. وقالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أبِي وهْبٍ المَخْزُومِيُّ: وَإنَّ كَلامَ المَرْءِ في غَيْرِ كُنْهِهِ لَكالنَّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيها نِصالُها. وَقَدْ بَيَّنّا هَذا في كِتابِنا (دَفْعِ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ) في مَواضِعَ مِنهُ. والتَّرْتِيبُ بـِ ”ثُمَّ“ [النحل: ٨٤] في قَوْلِهِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النحل: ٨٤]، عَلى قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ [النحل: ٨٤]، لِأجْلِ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ ابْتِلاءَهم بِالمَنعِ مِنَ الِاعْتِذارِ المُشْعِرِ بِالإقْناطِ الكُلِّيِّ أشَدُّ مِنِ ابْتِلائِهِمْ بِشَهادَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ. * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا هم يَسْتَعْتِبُونَ﴾، اعْلَمْ أوْلًا: أنَّ اسْتَعْتَبَ تُسْتَعْمَلُ في اللُّغَةِ بِمَعْنى طَلَبِ العُتْبى؛ أيْ: الرُّجُوعِ إلى ما يُرْضِي العاتِبِ ويَسُرُّهُ. وتُسْتَعْمَلُ أيْضًا في اللُّغَةِ بِمَعْنى أعْتَبَ: إذا أعْطى العُتْبى، أيْ: رَجَعَ إلى ما يُحِبُّ العاتِبُ ويَرْضى، فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ: ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ [النحل: ٨٤]، وجْهَيْنِ مِنَ التَّفْسِيرِ مُتَقارِبِي المَعْنى. (p-٤٢٣)قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ، أيْ: لا تُطْلَبُ مِنهُمُ العُتْبى، بِمَعْنى لا يُكَلَّفُونَ أنْ يُرْضُوا رَبَّهم؛ لِأنَّ الآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدارِ تَكْلِيفٍ، فَلا يُرَدُّونَ إلى الدُّنْيا لِيَتُوبُوا. وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ، أيْ: يُعْتَبُونَ، بِمَعْنى يُزالُ عَنْهُمُ العَتَبُ، ويُعْطَوْنَ العُتْبى وهي الرِّضا؛ لِأنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الكافِرِينَ. وهَذا المَعْنى كَقَوْلِهِ تَعالى في قِراءَةِ الجُمْهُورِ: ﴿وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ﴾ [فصلت: ٢٤]، أيْ: وإنْ يَطْلُبُوا العُتْبى - وهي الرِّضا عَنْهم لِشِدَّةِ جَزَعِهِمْ - فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ؛ بِصِيغَةِ اسْمِ المَفْعُولِ، أيْ: المُعْطَيْنَ العُتْبى وهي الرِّضا عَنْهم؛ لِأنَّ العَرَبَ تَقُولُ: أعْتِبَهُ إذا رَجَعَ إلى ما يُرْضِيهِ ويَسُرُّهُ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ: ؎أمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَن يَجْزَعُ أيْ: لا يُرْجِعُ الدَّهْرُ إلى مَسَرَّةٍ مَن جَزَعَ، ورِضاهُ. وقَوْلُ النّابِغَةِ: ؎فَإنْ كُنْتَ مَظْلُومًا فَعَبْدٌ ظَلَمْتَهُ ∗∗∗ وإنْ كُنْتَ ذا عُتْبى فَمِثْلُكَ يَعْتِبُ وَأمّا قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أبِي خازِمٍ: ؎غَضِبَتْ تَمِيمٌ أنْ تُقَتَّلَ عامِرٌ ∗∗∗ يَوْمَ النِّسارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ يَعْنِي: أعْتَبْناهم بِالسَّيْفِ، أيْ: أرْضَيْناهم بِالقَتْلِ؛ فَهو مِن قَبِيلِ التَّهَكُّمِ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبْ: ؎وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَها بَخِيلٍ ∗∗∗ تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعُ لِأنَّ القَتْلَ لَيْسَ بِإرْضاءٍ، والضَّرْبَ الوَجِيعَ لَيْسَ بِتَحِيَّةٍ. وَأمّا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: ﴿وَإنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾ [فصلت: ٢٤]، بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ ﴿فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ﴾ [فصلت: ٢٤]، بِصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ، فالمَعْنى: أنَّهم لَوْ طُلِبَتْ مِنهُمُ العُتْبى ورُدُّوا إلى الدُّنْيا لِيَعْمَلُوا بِطاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رُسُلِهِ، ”فَما هم مِنَ المُعْتَبِينَ“ أيِ: الرّاجِعِينَ إلى ما يُرْضِي رَبَّهم، بَلْ يَرْجِعُونَ إلى كُفْرِهِمُ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ أوْلًا. وهَذِهِ القِراءَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب