الباحث القرآني

(p-٤١٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهم رِزْقًا مِّنَ السَّماواتِ والأرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ﴾، ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ الكُفّارَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهم رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ بِإنْزالِ المَطَرِ، ولا مِنَ الأرْضِ بِإنْباتِ النَّباتِ. وأكَّدَ عَجْزَ مَعْبُوداتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ، أيْ: لا يَمْلِكُونَ أنْ يَرْزُقُوا، والِاسْتِطاعَةُ مَنفِيَّةٌ عَنْهم أصْلًا؛ لِأنَّهم جَمادٌ لَيْسَ فِيهِ قابِلِيَّةُ اسْتِطاعَةِ شَيْءٍ. وَيُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يُعْبَدَ إلّا مَن يَرْزُقُ الخَلْقَ؛ لِأنَّ أكْلَهم رِزْقَهُ، وعِبادَتَهم غَيْرَهُ كُفْرٌ ظاهِرٌ لِكُلِّ عاقِلٍ. وهَذا المَعْنى المَفْهُومُ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بَيَّنَهُ - جَلَّ وعَلا - في مَواضِعَ أُخَرَ، • كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكم رِزْقًا فابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ واشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: ١٧]، • وقَوْلِهِ: ﴿أمَّنْ هَذا الَّذِي يَرْزُقُكم إنْ أمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا في عُتُوٍّ ونُفُورٍ﴾ [الملك: ٢١]، • وقَوْلِهِ: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ﴿ما أُرِيدُ مِنهم مِن رِزْقٍ وما أُرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ هو الرَّزّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٦ - ٥٨]، • وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ • وقَوْلِهِ: ﴿وَأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْألُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ لِلتَّقْوى﴾ [طه: ١٣٢]، • وقَوْلِهِ: ﴿هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ الآيَةَ [فاطر: ٣]، • وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ الآيَةَ [يونس: ٣١]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. * * * تَنْبِيهٌ. فِي قَوْلِهِ: شَيْئًا [النحل: ٧٣]، في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ثَلاثَةُ أوْجَهٍ مِنَ الإعْرابِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: رِزْقًا، مَصْدَرٌ، وأنَّ:، شَيْئًا، مَفْعُولٌ بِهِ لِهَذا المَصْدَرِ؛ أيْ: ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ أنْ يَرْزُقَهم شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ. ونَظِيرُ هَذا الإعْرابِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا﴾ الآيَةَ [البلد: ١٤ - ١٥]، فَقَوْلُهُ: يَتِيمًا مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هو إطْعامٌ، أيْ: أنْ يُطْعِمَ يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ. ونَظِيرُهُ مِن كَلامِ العَرَبِ قَوْلُ المَرّارِ بْنِ مُنْقِذٍ التَّمِيمِيِّ: ؎بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُءُوسَ قَوْمٍ أزَلْنا هامَهُنَّ عَنِ المَقِيلِ فَقَوْلُهُ: ”رُءُوسَ قَوْمٍ“ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ المُنْكَرِ الَّذِي هو قَوْلُهُ ”بِضَرْبٍ“، وإلى هَذا أشارَ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ: (p-٤١٨) ؎بِفِعْلِهِ المَصْدَرَ الحَقِ في العَمَلِ ∗∗∗ مُضافًا أوْ مُجَرَّدًا أوْ مَعَ ال الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: شَيْئًا، بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ رِزْقًا، بِناءً عَلى أنَّ المُرادَ بِالرِّزْقِ هو ما يَرْزُقُهُ اللَّهُ عِبادَهُ؛ لا المَعْنى المَصْدَرِيُّ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: شَيْئًا ما نابَ عَنِ المُطْلَقِ مِن قَوْلِهِ: يَمْلِكُ، أيْ: لا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ المُلْكِ، بِمَعْنى لا يَمْلِكُ مُلْكًا قَلِيلًا أنْ يَرْزُقَهم. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ . نَهى اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ خَلَقَهُ أنْ يَضْرِبُوا لَهُ الأمْثالَ، أيْ: يَجْعَلُوا لَهُ أشْباهًا ونُظَراءَ مِن خَلْقِهِ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ! . وَبَيَّنَ هَذا المَعْنى في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ الآيَةَ [الشورى: ١١]، وقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب